د. دندشلي - مقابلة مع السيد قاسم البزي (2) - حول جمعية المقاصد
مقابلات /
تربوية /
1984-07-17
مقابلة مع
الأستاذ قاسم البزي
التاريخ: 17 تموز 1984 – صيدا
الموضوع: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا
من خلال التجربة الذاتية
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
***
س: أستاذ قاسم )البزّي(، في المقابلة الأولى، أعطيتنا صورة عامة شاملة من خلال تجربتك الشخصية، عن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وكلية المقاصد في مدينة صيدا. والآن، في هذه المقابلة الثانية، نوّد لو استطعنا أن ندخل نوعاً ما في التفصيلات، بمعنى أن تحدثننا عن أبرز المعالم التربوية والثقافية من خلال تجربتك الذاتية في جمعية المقاصد، أعني بذلك مثلاً: ما تركت في نفسك مرحلة الأستاذ قبولي الذوق، كمدير لثانوية المقاصد، أو الأستاذ رشيد سنو إلى آخره؟
ج: في الواقع، المدة التي قضيتها في صيدا يعني من سنة 1936 إلى سنة 1943، هي مدة ذكرياتها لا تزال عالقة في نفسي ومؤثرة فيها في الوقت ذاته.
وإذا كان هناك لدى قاسم بزي شيء من فضائل، فهذه مردُّها، بمعنى: تغذيتها وتنميتها، راجع إلى المقاصد من خلال فترات ومواقف ومناسبات مرَّت في المقاصد ولدى تلاميذ المقاصد وأساتذة المقاصد وأعضاء جمعية المقاصد بصيدا، يعني شملت جميع الصيداويين، ومنهم العائلة المقاصدية الكبيرة، من الجمعية، إلى المدرسين، إلى الطلاب، إلى العاملين في المقاصد، هؤلاء أسميهم العائلة المقاصدية.
والواقع، فقد كان لدور أو لشخصية المدير الأستاذ قبولي الذوق في صيدا وفي مقاصد صيدا، مميِّزات خاصة أعطت المقاصد في صيدا زخماً تبَهَرَ في أيام قبول الذوق كل الناس، من لبنان وإلى الأقطار العربية. وهذا الانبهار، إذا أحببنا تسميته الذوق فإن مرجعه ومرده ليس لقبولي الذوق وحده، قبولي الذوق جاء وهو إنسان صاحب شخصية قوية، وطنية أصيلة في نفسه، جاء ورأى الجوَّ ممهداً له، من رشيد سنو الذي كان كل عمره يقف على درج المقاصد ويقول: نحن قوم، إذا ما غضبنا غضبة مضريَّة، هتكنا حجاب الشمس فأمطرت دماً.
هذا تقديم لعهد قبولي الذوق، والذي قدم لعهد رشيد سنو، هو عهد محمود الشماع، الإنسان الصيداوي الكبير الذي بدأ بالمقاصد الهزيلة حتى أصبحـت بهـذا المستوى. قبولي الذوق جاء ونمَّى المقاصد، لأنه وجد التربة في صيدا، صالحة، وهو طرابلسي والوطنية الطرابلسية والاندفاع الطرابلسي، فاجتمع مع الوطنية والاندفاع الصيداوي، وكوَّن هذا التمازج الذي فعل الاندفاع المقاصدي الكبير.
وفي الواقع، هذا شيء موجود في المقاصد، فخطى خطوات رائعة جداً، وخصوصاً كان هناك مَن يشجعون الرياضة والكشفية بقيادة الأستاذ عبد المجيد لطفي. وكان يبذل لها ويضحي في سبيلها. وكانت المهرجان الكشفية والرياضية التي كانت تُقام سنوياً في ملعب المقاصد في صيدا، تكلف جهداً كبيراً ومالاً كثيراً وكان يصرف عليها مجلس المقاصد بسخاء.
فإذاً، عندما جاء الفرنسيون سنة 1939 كي يحتلوا المقاصد، وقف المقاصديون تلك الوقفة الرائعة: منهم الطالب الشامي ومنهم الفلسطيني ومنهم الأروادي ومنهم المهاجر في أفريقيا، كلهم كانت روحهم الوطنية، نفوسهم رائعة ومندفعة نحو القيم العليا والمُثُل الوطنية ونحو الخلاص من الاستعمار ومن كل رموزه، ومن أشكاله.
قبولي الذوق في الواقع إنسان أعطى المقاصد من شخصيَّته ومن وطنيَّته. ولكن هو لم يخلق هذه الأشياء أو هذا الجو الوطني من عدم. وأنا حين قابلته مرة في طرابلس، وبعد ما يزيد على عشرين سنة من تركه المقاصد، كان ذكياً لدرجة أنه عرفني رأساً وقال: بزي، قاسم، أليس كذلك؟ قلت له: نعم... فهو إنسان وطني كبير.
س: لقد كان مديراً للمقاصد، من أيِّ سنة حتى أيِّ سنة، على ما تذكر؟
ج: على ما أذكر أن قبولي الذوق أمضى في المقاصد سنتين، ورشيد سنو أظن سنة واحدة أو سنتين أو شيء من هذا القبيل.
س: ما انطباعك إدارياً؟
ج: أكثر ما كان يُلفتني ولا أزال حتـى الآن أحمـل لـه أطيـب الذكريـات، هـو الأستاذ داود الديماسي، وهو المسؤول عن الإدارة في مقاصد صيدا. إنها كانت إدارة على مستوى من الخلق ورحابة الصدر، من النادر جداً أنك تلاقي مدارس اليوم، يكون عندهم مثل هذه الإدارة. مثلاً: أنا أذكر أن أهلنا كانوا يحددون لنا مصروفاً معيناً في الأسبوع. وأحدنا لم يكن يتجاوز التلميذ مصروفه في الأسبوع بين 5 أو 10 قروش. يأتي عند الأستاذ المحاسب داود الديماسي رحمة الله عليه، ليأخذ ”خرجيَّته”، والذي كان يأخذ 10 قروش في تلك الأيام، كان ”بيته بالقلعة”، أهله جماعة أغنياء، بيصرف كثيراً وهكذا.
وكان هناك دكان بالمدرسة، نحن التلاميذ نتديَّن من الدكان كل يوم قرش، بقرشين، يأتي آخر الجمعة، العشرة قروش طارت. نريد أن نذهـب بنزهـة، نكـذب علـى الأستاذ داود الديماسي، نقول له: بدنا نشتري منشفة، أو ”كولينوس” أو كذا، نجمع له ما ننوي شراءه، فيصل كلهم تقريباً إلى 20 أو 25 قرشاً. هو يعرف أن هذه أشياء (زغيرة). يروح يسأل صاحب الدكان: كم تريد من فلان، ما عاد تُدينهم، بس، كل واحد لا تدينه من السبت إلى السبت أكثر شيء بخمسة قروش، فيبقى له خمسة قروش، عندما يذهب للنزهة.
هذه الأشياء البسيطة، نوع من الرعاية البريئة، نوع من المحبة، وهو يعرف أحياناً أن هذا المصروف لا يكفي، يعطيك خمسة قروش زيادة. مثلاً: والدي أو والده للكولونيل عبد المجيد شهاب الله يرحمه، الكولونيل البطل الذي قُتل في المعارك، كان يأتي ويقول له: أعطيه ربع ليرة كل جمعة، فيقول له الأستاذ داود الديماسي: لا، نحن ما منعطيه ربع ليرة، كتير، نحن نقدِّم فواكه، نقدم أكلاً متنوعاً، نقدم لُعباً، نقدم كل شيء. لا ليس هو بحاجة إلى أشياء أخرى، نحن نعطي فقط عشرة قروش. ويأتي، من ناحية ثانية، يعطيك الربع ليرة، وأكثر منها بالأسبوع، لماذا؟ بدافع عطف ومحبة.
جاء الأستاذ مصطفى عبد النبي (أبو حسيب) الناظر الداخلي، وهذا إنسان خلوق أيضاً، ومحب جداً، وهو يدور على التلاميذ في الليل ليرى في الشتاء مَن بردان، مَن مكشف يغطيه. وفي الصيف، مَن هو نائم بدون شيء، ينصحه ويقول له: يا إبني، الله يرضى عليك، حتى ما تنضر، لا تتغطى، إنما هذا الغطاء ضعه على بطنك حتى لا تأخذ برد. الأستاذ شريف البزري، أحدنا عندما يخطئ بالملعب أو بالمدرسة أو مع معلم أو في يوم لم يكتب وظيفة، يعامله معاملة الأب الحنون العطوف، ترى وتحسّ أنه يعطف عليك، وكأنك ما فقدت عطف والدتك ووالدك بالضيعة. هذه أشياء بالواقع، بالمقاصد، تمتاز فيها عن كل المدارس التي كانت موجودة.
إذاً، مختصر القول الذي أريد أن أقوله إن الأساتذة والقيمين والمشرفين على الإدارة والتعليم في المقاصد"، كانوا بالإضافة إلى كفاءتهم العلمية، كان عندهم كفاءة خلقية، إنسانية، اجتماعية، نحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن تعود المقاصد إلى أمجادها وتعود للمقاصد رونقها ومجدها.
س: لو دخلنا في شيء من التفصيل كذلك، وطرحنا عليك سؤالاً عن الأستاذ الذي ترك في نفسك انطباعاً جيداً، أو أكثر من أستاذ؟!
ج: ليس هناك بالواقع أستاذ واحد ترك في نفسي انطباعاً جيداً، أنا كنت في المقاصد، أنا وأحمد سويد، ومنح البزري وكنا نسميه مُنَح. فيأتي إلينا الأستاذ الشيخ مصطفى لطفي ويقول: يا إبني، هذا ما اسمه مُنح، بضم الميم. هو اسمه مِنَح جمع مِنحة. فأنـا، هذا الأستاذ الطيب الخلوق والمؤمن الأستاذ مصطفى لطفي له في قلبي منزلة كبيرة وسامية وترك أجمل الأثر في نفسي، يليه مباشرة الدكتور علي شلق. ثمَّ الأستاذ قبولي الذوق الإداري القدير، والأب الحنون في نفس الوقت. لم يكن فقط مدير مدرسة، كان أباً للتلاميذ، وأيضاً أقول، وليسمح لي أساتذة المقاصد في ذلك الزمان، أن أقول إنه كان أباً أيضاً للمعلمين، يوجههم، يرشدهم، ينمّي فيهم روح الوطنية، روح العروبة، وروح الخير، الروح الإسلامية التي كان هو يؤمن بها. وأخيراً لا آخراً، الأستاذ رشيد سنو.
س: ما المادة التي كان يدرِّسها الأستاذ رشيد سنو؟
ج: رشيد سنو كان يدرِّس ”أدب عربي”، بعد رشيد سنو، جاء الدكتور علي شلق. وطبعاً، أنا أذكر بكل حصرة المرحوم الشيخ عمر الحلاق، هذا الإنسان الطيب الذي كنا ننتظر درسه بفارغ صبرٍ، لأنه كان قد مهَّد مبادئ التعاليم الدينية السَّمحة، وكان مرحاً، رحب الصدر. ولكنه أيضاً كان سريع الغضب. إذا غَضِب، يهتزُّ ويرفع صوته، وسرعان ما تراه يعود للضحك العريض الذي يدخل الفرح لقلبك.
وما كنا نكتفي بدرس الشيخ عمر الحلاق في المقاصد، كنا نروح نقصده في غرفته التي كان يسكن فيها بالجامع، بجامع الكيجيا، قرب حمام الشيخ. كان يضع علبة تنك وأحياناً علبة سنيورة خشب، يضع فيها ملبس، يصير يُطعمنا كل واحد جبَّة، اقصد كل واحد حبَّة، حبَّة... نجلس ثلاث أو أربع دقائق، ثمَّ يقول لنا. إذهبوا إلى المدرسة، كنت ترى فيه الروح الطيبة.
هؤلاء جماعة طيبون جداً. لا أنسى الأستاذ خليل متى، هذا الإنسان الطيِّب المخلص في عمله، المكبّ على عمله، المحب لتلاميذه. فقد كان كلَّ درسٍ يأتي ويعطينا إياه. وكان يدرِّسنا لغة فرنسية، كلَّ درس يعطينا إياه، يشرحه ويفسره يأتي في المرة الثانية و”يسِّمع” لنا كلنا، فيأخذ فكرة عنا، وبعد ذلك دَرْس المحفوظات.
ما أريد أن أقوله هو أنه قد كان هناك فئة من الناس بصيدا، بمقاصد صيدا، بالواقع، يحتار الإنسان عندما يفضل واحداً منهم، يخطئ. لماذا؟.. لأنهم كلهم كانوا جيدين، إنما نحن الآن نشعر، عندما أصبحنا كباراً، نشعر بعطفٍ كبير نحو هؤلاء الناس وبمحبتهم.
س: غيرت مدارس وانتقلت إلى مدرسة أخرى؟
ج: أنا أتيت من الفرير إلى المقاصد وجدت أن هناك فرقاً كبيراً من ناحية المعشر والمعاملة والتربية. وبعد ذلك، كانت الانطلاقة الوطنية في المقاصد، كانت عمومية وشاملة.
س: لو أردنا أن نقيم مقارنة بين نظام التدريس، النظام الإداري في المدرستَيْن؟
ج: ما في شك، بمقارنة بين الإدارة في المقاصد، والإدارة في مدرسة أخرى، فإن حياة الإنسان في القسم الداخلي، أي المنهاج القاسي، فهؤلاء رهبان، وأولئك معلمون. التلميذ في هذه الحالة يراها قاسية مهما كان، إلا أنه هنا، في المقاصد، يمكن أن يلاقي نوعاً من العاطفة أكثر: لا يستطيع الإنسان أن يميِّز في حالات كهذه إلا بمقدار ما يلقى من عطف ومحبة. وكنا أولاداً صغاراً وهم يتكلمون فرنسي ونحن لا نفهم عليهم. هنا في المقاصد، نتكلم عربي ونفهم ما نريد. وكان النظام التعليمي في الفرير (في صور)، أغلب المواد بالفرنسي، حتى بالمقاصد، كنا ندرس التاريخ باللغة الفرنسية، كان الأستاذ، بالإضافة إلى كونه معلماً رياضة، كان يعلمنا التاريخ باللغة الفرنسية، تاريخ البلاد العربية باللغة الفرنسية والشيخ محمد سليم جلال الدين، كان يعلمنا رياضيات في المقاصد، باللغة الفرنسة.
أما موضوع الثقافة والمثقفين في صيدا، فهو موضوع، إذا ذكره الإنسان في هذه الأيام، هو واقع مُحزن، مؤسف. وصيدا اليوم، تَكاد تكون خالية، خاوية، من أي مكتبة عامة يلجأ إليها المتعلم أو المثقَّف أو الطالب، لتكون له، بمعنى، نادياً أو مرجعاً يقضي فيه أوقات فراغه للكسب وليتزود منها بعرفة أكثر علماً.
وصيدا اليوم ليس فيها نادٍ ثقافي، وصيدا اليوم ليس فيها جمعية ثقافية بالمعنى الصحيح، وصيدا اليوم ليس فيها بيت واحد يأمه المثقفون ليتداولوا فيه في شؤون الأدب أو في شؤون الفكر والسياسة أو في أي شيء آخر... بينما أنه في الزمان القديم، وليعلم الصيداويون المعاصرون، أن صيدا باب السراي، كانت مجمع أدباء، ومجمع شعراء، وملتقى فحوّل من الأدباء والشعراء من جبل عامل ومن فلسطين ومن العراق ومن سوريا ومن الأردن، كانوا كلهم يأتون إلى صيدا، لأنهم كانوا يسمعون أن في صيدا نَفَساً وطنياً جيداً. وأن صيدا عاصمة الجنوب، وأن من الجنوب جبل عامل، وأن من جبل عامـل السـيد محسـن الأميـن وعبـد الحسيـن شـرف الديـن، والحـر العاملـــي والشيخ عبد الحسين الصادق، وآل فضل الله، وغيرهم من كبار الشعراء والأدب والعطاء العلمي والفكري.
كانوا يقصدون صيدا، لأن صيدا كانت مقـراً للعرفـان ولصاحب ”العرفان” الشيخ أحمد عارف الزين. والشيخ أحمد عارف الزين، بالواقع، مطبعته كانت ملتقى ومنتدى للأدب والفكر والثقافة والتدارس والمباراة. وكانت ”العرفان” هي المنارة التي تنقل إلى العالم كل العالم العربي، شرقه وغربه، فكر الجنوبي، شعر الجنوبي، نثر الجنوبي، نقد الجنوبي، تحليل الجنوبي.
فكانت الناس تأتي لتقصد الشيخ أحمد عارف الزين في ”مطبعة العرفان” لتطبع عنده، إما ديوان شعر أو لتنشر في العرفان قصيدة أو كلمة. والمعروف أن الشعراء كل عمرهم مفلسون والأدباء كذلك، يعني ما عندهم مورد كافٍ يأمِّن لهم الحياة. فكانوا يأتون ويبثون همومهم وآلامهم وشكاوى مصائبهم إلى الشيخ أحمد عارف الزين في مجلة ”العرفان” في صيدا. كنتَ ترى بمطبعة العرفان بصيدا، من هؤلاء أذكر أحمد صافي النجفي، وقد سكن في صيدا، قصيدته في صيدا، وفي غرفته بصيدا، والبقّ يأكله والصراصير تمشي عليه، هذه القصيدة مشهورة ومعروفة.
س: أريد ديوانه، له ديوان مطبوع، أتذكر شيئاً من ديوانه؟
ج: لا، لكن أعرف أنه كان كلما مشي فيها، تهتز الغرفة، ويفزع منها أن تقع فيه، وكلما برقت الدنيا، تبرق عنده، وعندما يمشي أي شيء على السطح، ينزل عنده تراب يصفها وصفاً جيداً جداً. وهذا موجودة في ديوانه.
والشيخ أحمد عارف الزين كان يحمل من هذه الأعباء الشيء الكثير. كان بيته مفتوحاً للجميع، يأتي واحد يريد وهو يحمل ديوان شعر، أن يطبع هذا الديوان.كم يكلف طباعته مثلاً 150 أو 200 ليرة، يبقى ضيفاً على الشيخ أحمد عارف الزين عشرة أو 15 يوماً ويأكل بـ. 150ليرة.... فكان يوجد ناس محبين للأدب، يشجعونه، فكان الشيخ أحمد عارف الزين بالواقع عَلَماً من أعلام الأدب والشعر.
س: طيِّب، الاتجاه العام، قلت: هو اتجاه جنوبي، ولكن الاتجاه الجنوبي، يطغي عليه، أيُّ لون من ألوان الأدب أو السياسة، السياسة الوطنية العامة؟
ج: بالواقع، الأدب الجنوبي، أدب متنوع كثيراً جداً، وإذا رجعت إلى العرفان اليوم، ترى أيَّ نوع من الأدب، هو الأدب السياسي، هو الأدب الوطني، هو الأدب الغزل، هو الأدب المناظرة، هو أدب الهجاء، هو أدب محاربة الاستعمار، هو أدب الفقه، يعني الأدب، بكل فروعه وتشعبانه وفروعه: شعر، أدب، نثر، نقد، كان هناك في مجلة ”العرفان” أبواب كثيرة متنوعة وجيدة.
س: كما نعلم أن ”العرفان”، خصوصاً في فترة نشؤها وتكوينها وفيما بعد، كانت تلعب دوراً وطنياً إسلامياً عروبياً....
ج: وهذا هو المطلوب الذي كان آنذاك، لأنه حين نريد أن نُنمّي الشعور الوطني في الشباب المثقف، يجب أن يقرأ لشاعر وطني ومثقف وأديب، له وزنه، يعني مَن كان ينشر في ”العرفان” هم من أئمة الأدب. أعطي مثلاً على ذلك: بيت شفيق لطفي، كان في كثير من الأحيان يُزار من قِبَل هؤلاء الناس، الأدباء والسياسيين، لأنه كان رجلاً ذكياً جداً وفهيماً ورجلاً بيته مفتوح، بالواقع. وكان هناك رجل من آل عسيران، الشيخ منير عسيران، كان يستضيف هذه الفئة من الناس، من العلماء والشعراء والأدباء. يعني كان في صيدا ميل للأدب والشعر والفكر السياسي. اليوم هذا مفقود...
س: من الملاحظ أن الشعراء والأدباء في صيدا، كانوا مقيمين فيها، وهم غير صيداويين، فسؤالي: ألم يكن هناك نوعٌ من التأثير من قبل هؤلاء الأدباء في المجتمع الصيداوي؟
ج: على حسب معرفتي وظني، أنا لم ألاحظ أبداً أن صيدا كان قد أثر فيها الأدب والشعر. لست أدري لهذا سبباً، إنما أظن وأعتقد أن صيدا باعتبارها المدينة الوحيدة في الجنوب وملتقى الجنوبيين ومركز الدولة ومركز المستشار الفرنسي في تلك الأيام، كانت بلداً ينصرف للتجارة من جهة، وللزراعة والحمضيات من جهة ثانية. المهم عند الناس أن يربحوا من التجارة وأن يصدِّروا حمضياتهم من جهة، ومن جهة ثانية، الجيل القديم في صيدا، نشأ وترعرع وتربّى ودرس العربية على الأتراك. فكانت العربية في مفهومه (هذا الجبل الصيداوي القديم) وفي فكرة وعمله، عربية هزيله، بينما بجبل عامل وببلاد بشارة، المدارس كانت منتشرة في أصغر القرى، مدارس الدين ومدارس الفقه، ومدارس الأصول، ومدارس النحو، ومدارس الصرف. لذلك توجه صيدا، كان توجه تجاري أكثر مما هو توجّه علمي واستمر ذلك حتى اليوم.
س: إذاً، أنت نفسك تجيب عن سؤالك ألاستغرابي، حول عدم وجود في صيدا نشاط ثقافي أدبي؟
ج: أنا أسأل، أنا أجيب عن هذا السؤال: هذا الفراغ، ألا يجب أن يُستدرك، ألا يمكن لتاجر أن يكون تاجراً وفي الوقت نفسه متجهاً نحو الثقافة والعلم والأدب والشعر؟!... هذا هو السؤال الكبير....