د. دندشلي - مقابلة مع الأستاذ أحمد المجذوب (1)
مقابلات /
إجتماعية /
1989-07-17
مقابلة مع
الأستاذ أحمد المجذوب
بتاريخ 17 تموز 1989
كانت بداية معرفتي بالدكتور نزيه البزري، كمعرفة كل أهالي صيدا به، وللأسباب التالية :
أ. عدد أطباء صيدا في الأربعينات لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة.
ب. كل الناس تعرف الأطباء آنذاك وتحتاجهم طبياَ
ج. المجتمع الصيداوي آنذاك يعتبر الطبيب في أعى درجات سلم الرتب علمياَ واجتماعياً.. وقيمة واحتراماً...
د. تميَّز الدكتور نزيه البزري بصورته الجميلة وإنسانيته الطبيعيَّة في معاملة المرضى.. وانتمائه إلى حزب قومي عربي صاعـد (حزب النداء القومي) بزعامـة كاظـم وتقي الدين الصلح.
ه. إن عائلة صيداوية (آل البزري) معروفة بممارسة العمل السياسي والاجتماعي منذ عشرات السنين .
فلكل هذه الأسباب، كان الدكتور نزيه البزري معروفاً جداً من الجميع... وبالتالي فأبواب العمل السياسي والشهرة مشرًعة له وسريعة المنال. ولم يكن لي علاقة أو معرفة شخصية به حتى انتخابات عام 1951.
عندما ترشح عن المقعـد السنـي في قائمة الرئيس عادل عسيران ضـد قائمـة أحمد الأسعد – رياض الصلح، كنت في الخامسة والعشرين من عمري... وكنت مع جيل الشباب الذي التف حوله... فكانت بدايات معرفتي الشخصية به.
كانت خريطة صيدا السياسية المحلية كما يلي :
أ. عائلات معينة معروفة ولها نفوذ عائلي وتأثير صيداوي تقليدياً.
ب. معروف سعد شاب مناضل وطني بدأ يتكوَّن له تأثير هام يخشاه ويتحاشاه الجميع.
ج. بعض تجمعات الشباب والأحزاب بدأت تظهر ببطء وخجل .
وجميع هذه القوى ومن مختلف الطبقات الاجتماعية، كانت تلتف وتؤيد سياسياً المرحوم رياض الصلح كقائد ومناضل وطني عربي ضد النفوذ التركي، ثم الفرنسي، وعلى الساحتين اللبنانية والعربية.. وقد ترأس حكومة الاستقلال الأولى.. ونظراً لاهتماماته وتطلعاته الواسعة، فقد أَسْلَس مقدرات وأوضاع صيدا الداخلية إلى أركانه السياسيين المحليين.. فاستغلوا النفوذ، وزرعوا النقمة في صفوف الطبقات الشعبية وجيل الشباب الصاعد.
وكنت أنا من هؤلاء الشباب، رغم أن عائلتي تقليدياً كانـت من أركـان ومؤيـدي آل الصلح، وهي عائلة سياسية مثقفة ومعروفة لبنانياً.. وقـد أسس المرحومـان كاظـم وتقي الدين الصلح أيام شبابهما "حزب النداء القومي".. وكان شفيق لطفي ومعروف سعد والدكتور نزيه البزري ونخبة من الشباب المثقفين من أعضاء وأركان الحزب في صيدا.
وصلت انتخابات عام 1951 وكان يحرك جيلنا ما يلي:
أ. نقمة عارمة اجتاحت جيلنا ضد كل سلطة سياسية أو اجتماعية تقليدية، بعد ضياع فلسطين.
ب. التسلط العائلي والقوى السياسية التقليدية، على كل المؤسسات الصيداوية وتقاسمها... وكنتَ لا تستطيع أن تؤسِّس نادياً أو أيِّ تجمع إلا بعد معرفتهم وبموافقتهم.
ج. إستغلال السلطة السياسية والاجتماعية المحلية...
وفي هذه الانتخابات ترشح الدكتور نزيه البزري... وكان ترشيحه كشاب صيداوي، ابن السادس والثلاثين من العمر، ضد قائمة رياض الصلح أعتبر جرأة ومغامرة وخروجاً على حزبه "حزب النداء القومي"...
وأعتقد أن ترشح الدكتور نزيه البزري لم يكن عفوياً، بل كانت سيرته الشخصية كمثقف معروف، له خدمات اجتماعية وإنسانية في محيطه، ساعده لدخول السياسة من الباب غير العائلي، انسجاماً مع التيارات الجديدة الصاعدة التي تمثلت في "حزب النداء القومي". وكان محظوظاً، إذ جاء ترشيحه في الوقت والظروف العامة الملائمة جداَ.. وذلك للأسباب التالية:
أ. الدكتور نزيه البزري ابن عائلة معروفة من حيث ممارسة العمل السياسي، وفي بلدنا "هذا الإرث عامل مهم ويورَّث". فعائلات لبنان وأولادهم حكام لبنان.
ب. إنتماء الدكتور نزيه إلى حزب النداء القومي.
ج. التطبيب المجاني أو شبه المجاني والواسع.. وتلبية طلبات المرضى ليلاً ونهاراً... وهذا أسلوب ورصيد كل الأطباء السياسيين في لبنان.
د. الاستفادة من مختلف العوامل التي كانت تحرك جيلنا، جيـل الشبـاب، وتثيـر غضبه آنذاك.
وقد بقيَ معروف سعد في انتخابات 1951 ملتفاً حول رياض الصلح... وقام باتصالات واسعة مع مريديه من الشباب والأوساط الشعبية محاولاَ إقناعهم بما يلي:
أ. لا يجوز أن نحاسب تاريخ ونضال رياض الصلح على ممارسات بعض أنصاره المحليين.
ب. لا يجوز إسقاط رياض الصلح من صيدا، لأنه وجه لبنان العربي البارز آنذاك.
ج. ذكاء رياض الصلح وإحاطته بأخطائه الصيداوية ، يستطيع أن يحتوي ويقوِّم كل الأخطاء.
د. إن مَن هم وراء الدكتور نزيه البزري لهم خلفيات ومآرب تهدف إلى إسقاط ما يمثل رياض الصلح صيداوياً ولبنانياً وعربياً... وهي شخصيات سياسية بالتالي لا يهمها أهداف الجماهير وطموحاتها وشعاراتها.
ه. إن الدكتور نزيه البزري لن يخرج عن كونه ابن عائلة وتربية وعقلية سياسية تقليدية معينة، ولن يمثل طموحات الشباب الصاعد ولا أهداف الجماهير الشعبية.... ولن يهدم أبراج عائلته أو يتنكر لطبقته.
***
أما المراحل الأساسية التي مر بها الدكتور نزيه البزري فهي كما يلي:
نزيه الطبيب: وكان طبيباً ناجحاً جداً... وقد حدَّ من هذا النجاح، السياسة الانتخابية والمحليات وطريقة الدكتور نزيه البزي أحياناً بمعاملة أخصامه المحليين. وأعتقد أن رصيده وخدماته الأساسية للصيداويين هي في الطب.
نزيه النائب.. والوزير: حياته السياسية كنائب ووزير ترجمت تماماً، توقعات وآراء معروف سعد عنه قبل انتخابات عام 1951: زعامة تقليدية.. وحاجة إليها واستمتاع بها... لا شعارات ترفع ولا مواقف تتخذ... ولا مشاريع اجتماعية أو صحية تلاحَق أو تخطَّط أو تنفذ... مثلاَ:
أ. بنى المرحوم رياض الصلح المستشفى الحكومي في عين الحلوة وتوفي قبل أن يُفتتح.. وجاء الدكتور نزيه البزري في الخمسينات نائباً ثم وزيراً للصحة والاقتصاد عدة مرات ولم يفتح المستشفى. وكانت تُحوَّل ميزانية المستشفى من صيدا إلى مناطق أخرى... حتى جاءت نيابة المرحوم معروف سعد، فأول مشروع نفذه بملاحقته تجهيز وفتح المستشفى، وذلك في احتفال خاص في عهد الرئيس فؤاد شهاب .
ب. جاء الدكتور نزيه البزري نائباَ ووزيراَ للصحة في السبعينات ولم يطور المستشفى ولم يلاحق إصلاحه وترميمه بعد الاجتياح الإسرائيلي وحتى الآن.
ج. في كل حياته العامة كنائب ووزير ورئيس بلدية ومعارض وموالي، لم يلعب الدور القيادي الطبيعي في شؤون وطموحات وقضايا المواطن والوطن... فكانت كلها يعالجها بالتجاهل والتهرُّب... فقط كان يهتم، عندما يترشح في شهر الانتخابات وتحت شعار: (بناء على طلب وإلحاح الأصدقاء والعائلة وجمهوره) .
د. في الخمسينات، كان كل شعب صيدا ضد المشاريع المشبوهة من حلف بغداد إلى مشروع أيزنهاور، كل شعب صيدا مع الناصرية وعبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة.. كل شعب صيدا معارض لعهد شمعون وللتجديد له، كل شعب صيدا يطالب بفتح المستشفى الحكومي الذي بناه رياض الصلح.. أما الدكتور نزيه البزري فلا رأي له ولا موقف ولا تصريح، مع العلم أنه كان في الخمسينات أي في عهد شمعون رئيساً للبلدية ونائباً ووزيراً معاً.
نزيه رئيس البلدية:
عندما توفي المرحوم رياض الصلح عام 1951.. إستفرد بالسلطة المحلية أنصاره المحليين وأصبح معروف سعد المناضل الوطني العربي الأول في صيدا... فاختار التعاون مع الدكتور نزيه البزري في أول انتخابات بلدية في صيدا منذ العام 1936.
فاز المجلس البلدي الذي كان على رأسه الدكتور نزيه البزري ومعروف سعد.. وكان إلى حد ما يمثل الحركة الشعبية والقوى الوطنية وجيل الشباب آنذاك... ولم يدم التعاون طويلاً بين عقلية معروف الديناميكية المتحركة الطموحة للتغيير أسلوباً ونهجاً... وبين العقلية التقليدية التي تعتبر النجاح هو في الاستكانة والتهرب من المواقف والحلول.. فأستقال رفاق معروف من المجلس البلدي في الأشهر الأولى من عمره.
لذلك استأنف المجلـس البلـدي برئاسـة الدكتور نزيه البزري وخـلال أعـوام 1952 – 1959 سيرة وقواعد وعقلية المجلس البلدي السابق 1936 – 1952 كما يلي:
أ. لا نشاطات اجتماعية أو ثقافية (كمكتبة عامة.. ندوات.. مؤتمرات... مهرجانات..)
ب. لا مشاريع تخطط أو تنفذ ( مجارير..شق طرق فرعية.. تزفيت.. ترصيف..)
ج. بقاء الفوضى ورموزها، وازدادوا عدداً الذين يقبضون الراتب آخر الشهر بدون عمل.
د. تعيين الأنصار وعلى طريقة قبض الرواتب آخر الشهر، لم يكن آنذاك مجلس خدمة أو ما شابه.
ه. لا يجتمع المجلس البلدي غالباً، بل يوقع الأعضاء على القرارات التي يتخذها الرئيس وينفذها.
نزيه المرشح في الانتخابات:
إن العوامل المؤثرة في الانتخابات في لبنان تختلف من منطقة إلى أخرى... وفي صيدا، عوامل مميزة تختلف عن كل المناطق اللبنانية بما يلي:
أ. إنحسار تأثير الهيمنة العائلية.
ب. نسبة تأثير المال ضعيفة جداَ على الناخب الصيداوي ، وخاصة في الأوساط الشعبية التي كانت تؤيد معروف سعد بأغلبية ساحته .
ج. تأثير المصلحة العربية وقضاياها المطروحة آنذاك على الناخب الصيداوي.
د. تأثير القضية الاجتماعية وطموحات الطبقة الشعبية للعدالة الاجتماعية.
ه. تأثير ماضي المرشح وطروحاته وشعاراته.
لذلك كانت الانتخابات الأولى بين نزيه البزري ومعروف سعد عام 1957 وفي فترة المد القومي الاجتماعي الناصري، أبرز انتخابات في تاريخ صيدا و لبنان... لعب فيها البرنامج الانتخابي والموقف القومي والاجتماعي من القضايا المطروحة وماضي وممارسات المرشح دوراً أساسياً فاعلاًَ وحاسماً بدليل:
أ. فصل عهد شمعون صيدا كدائرة انتخابية مستقلة ووحيدة في لبنان، خدمـة للدكتور نزيه البزري ولإبعاد تأثير ما تُمثل صيدا عن الجنوب.
ب. كان الدكتور نزيه البزري يحوز على أغلبية ساحقة في صيدا في الانتخابات البلدية والنيابية حوالي 75 %.
ج. في انتخابات 1957 ترشح معروف سعد لأول مرة وفاز بأغلبيه حوالي 4400 صوت ونال الدكتور نزيه البزري حوالي 3900 صوت، رغم ممارسات السلطة لصالحه ورغم كونه نائباً ووزيراً سابقاً ورئيساً للبلدية.
د. المرحوم معروف سعد آنذاك، موظف محدود الدخل ولا تستطيع إمكانياته أن تصرف على أي معركة انتخابية.. وقد موَّل شعب صيدا وخاصة المقيمين في الخليج مصاريف المعركة.
ه. بحكم مواقع وطبيعة الدكتور نزيه البزري، لم يستكشف المتغيرات الصيداوية ومواصفات الصيداوي التي يتميز بها.. وخاض معركة 1957 بعقلية تقليدية في زمن كانت تجتاح فيه صيدا والأمة العربية زلزال عبد الناصر وما يمثل.
و. ألحت على الدكتور نزيه البزري أوساطه وقاعدته، طالبة منه إعلان موقف يعبر عن صيدا... ولكن موقفه العملي بقي محاولاً: عدم إغضاب السلطة الرسمية والحكم.. عدم إغضاب الناصرية والصيداويين... وعدم إعلان أي موقف...
الانتخابات في لبنان :
كان لبنان البلد العربي المميز الذي تجرى فيه انتخابات في مختلف مؤسساته التشريعية والتنفيذية والنقابية، وبصورة دائمة ومنتظمة، وبين عدة مرشحين. ورغم هذه الحرية في لبنان، فإنها تفتقر إلى مقومات هامة لكي تجعل المواطن حراَ بالفعل في الاختيار للأسباب التالية:
أ. عدم وجود حياة حزبية حقيقية، فاعلة ومنظمة.
ب. النظام الاقتصادي الحر الفوضوي في لبنان.
ج. عدم وجود التأمين الصحي والاجتماعي وحق العمل والمدرسة والجامعة للمواطن.
د. طيبة المواطن أو أنانيته أو تخلفه في بعض المناطق.
ه. تقسيم الدوائر الانتخابية العشوائي.
لكل هذه الأسباب، كان المال والعائلة والسلطة عوامل أساسية في تقرير الزعامة والانتخابات والفوز بها. لذلك فقد حكم لبنان العائلات وأولادهم وبيوت المال وأصدقاؤهم... ويختلف هذا التأثير من منطقة إلى أخرى... وكان لشعب صيدا عوامل مميزة من كل المناطق اللبنانية.
الدكتور نزيه الإنسان: بالإضافة إلى نجاح الدكتور نزيه البزري كطبيب، كان قد كسب ثقة المجتمع الصيداوي طبياَ فقد تميز بما يلي:
أ. لم يستغل زعامته ونفوذه مادياَ ولم يجمع ثروة منها، رغم أنه كان رئيساً للبلدية ونائباً ووزيراً.. وهذه ميزة لا يتمتع بها معظم السياسيين في لبنان.
ب. لم يجمع ثروة من الطب وغلب عليه في معاطاة الطب الجانب الإنساني.
ج. لم يحاول أن يؤدي أو يُلحق الضرر المادي أو الوظيفي أو الأدبي بأخصامه المحليين.
د. كان يحرد من أخصامه المحليين ويقاطعهم اجتماعياً أو شخصياً أحياناً.
موقف الدكتور نزيه البزري الوطني المميز في حياته السياسية: عند الاجتياح الإسرائيلي واحتلال صيدا، فقد أصر الدكتور نزيه كنائب وممثل صيدا الشرعي على عدم التعاطي مع الاحتلال رغم محاولاته، وأصر على عدم استقبال أي ممثل عنه.