بعث واحد أم أبعاث؟؟الأماني الواقع والوقائع-جلال / عقاب يحيى
دراسات /
سياسية /
2011-02-03
بعث واحد.. أم أبعاث؟؟..
الأماني.. الواقع والوقائع..
جلال / عقاب يحيى - كاتب وباحث عربي يقيم في الجزائر
مدخل للتوضيح:
كثير من البعثيين (الحقيقيين) الذين آمنوا بالبعث : حركة، مبادئاً، وطريقاً لوحدة الأمة وتقدمها ونهوضها لا يهضمون ما آل إليه البعث من مصائر، خاصة في البلدان التي حكم فيها، وحتى توابعه من تنظيمات ملحقة، وتراهم يترحّمون عليه وعلى (نضالهم) فيه، وأمانيهم الضائعة، وأحلام الأمة التي تبخّرت مع تبخّر ذلك المشروع الذي بدا وكأنه الأمل والمخرج.
كثيرون من هؤلاء (يتامى) تركوا التنظيم (كل أشكال التنظيم القائمة) بأوقات، وظروف، وأسباب مختلفة، وبعضهم أرشفته وهمّشته التنظيمات الحاكمة، ناهيك عن الغربة فيه، أو وجودهم على حوّافه..لذلك عديدهم يبكي على الأطلال، ويحنق على ما حصل، يعيد ويستعيد (الزمن الأول)، أو " مرحلة العذرية" التي كان فيها حركة تبشيرية لم تلوّثه أو تمتحنه الوقائع ومجريات الأحداث، ومراحل الحكم، والانقسامات، والشرذمات، ناهيك عن الفوات والتجويف والتفريغ، وجيوش الانتهازية والفساد والنفاق والتسلق والعربشة، والركوب والتمسّح وغيرها عديد، وما فرّخ من استبداد ومستبدين بنكهة خاصة كأنها باتت ماركة مسجلة تتجاوز غيرها بكثير من السمات.
ولأن الغوص في الأسباب العميقة مُتعب، ومُكلف يستسهل العديد رمّي ما جرى على الآخر، والآخر يمكن أن يكون مؤامرة خارجية أو داخلية(وربما الاثنتين)، بينما تروج كلمات الخطف والاختطاف، وفضّ العذرية التي تستوقف من يستمع إليها وتدعو للتأمل والبحث في الحقائق والمسارات : الفكر والبرنامج والوعي والتركيب، والظروف، ودور النخب والقيادات، وطبيعة العقل العربي واختلاطاته، والمسؤولية الخاصة لأبنائه (وهي مسؤولية متعددة الأوجه). في حين أن الحقيقة تستلزم الشجاعة والتبصّر. الشجاعة في نقد الذات(الخاصة والعامة) بدءاً ومنطلقاً، والإحاطة بمجمل الظروف الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية التي رافقت النشأة والتأسيس والوصول للحكم، وبالأصل : مستوى الوعي السائد، ودور النخب وتركيبتها، وجوهر الأفكار التي طُرحت ومدى قابليتها للحياة، وكل ذلك في إطار مسار حركة التحرر العربية وما صار لها وفيها، وضمن المشروع النهضوي بروافده وعناوينه، وأيضاً: منظومة الأفكار التي سيطرت في عموم البلدان التي انتهجت ما يعرف بالخيار الثوري، والتي كان الاتحاد السوفياتي سيّدها ومدشّنها والفاعل الرئيس فيها.
كثير يمنّي النفس بالعودة إلى ذلك(الزمن الجميل) ولو بشطب التاريخ والوقائع، فيدبّ الحنين، ويقرع الضمير الضمير فتخرج دعوات متقطعة تحمل الكثير من اللوات والأمنيات ثم سرعان ما يبطحها، أو يطويها الزمن لتعاود الظهور بين الفينة والأخرى عبر بعض الدعوات، والكتابات، والحوارات الظرفية، العامة عن وجوب "وحدة البعث"، وضرورة تلاقي البعثيين (الشرفاء ـ الأوادم ـ المخلصين..) الذين يهمهم أمره ومستقبله، ووضع الأمة وحالها.
***
بعد غزو واحتلال العراق، وما صار للحزب هناك، والبلد، وأمام واقع البعث الحاكم في سورية، ووجود العديد من التنظيمات، والشرذمات والتواجدات البعثية، أو التي تنحدر منه.. خرجت بعض الأصوات المنادية بوجوب "لقاء البعثيين ـ كل البعثيين: الشرفاء ـ المعنيين" بهدف: بحث السبيل لـ"توحيد البعث"، أو "إنقاذه"، أو تطهيره مما لحق به، أو أُلحق به من عار وشنار وموبقات، و..أمور كثيرة تفقأ العيون، وقد كتب الأستاذ جان عبد الله مقالاً بعنوان: "هل يطوي البعثيون خلافاتهم القديمة.. لمصلحة الأمة" نُشر في "سورية الحرة" (8/12/ 2009) يتضمن هذه الفكرة، على العموم، مثلما يتضمن العديد من المغالطات والتفسيرات الغريبة التي لا تستقيم مع الوقائع والحقائق، ناهيك عن الدعوة، الأُمْنية التي ختم بها مقاله بسؤال كبير: (هل سبنجح البعثيون القدامى بإصلاح ما أفسده الانقلابيون لإعادة البعث إلى مثالية بدايته)، والذي شكّل (المقال) محفّزا لتوضيح بعض الآراء والحقائق.
إن محفّزات الأفكار المرشوشة في المقال تدفع لبحث معمّق، ودراسات مستفيضة. ولأني أرجئ ذلك إلى فرصة أخرى، سأحاول الإيجاز، والوقوف عند أهم النقاط.
1 ـ كل دعوة للحوار مرحّب بها.
الأكيد أن قضايا كثيرة: خلافية، وملتبسة، وتطورية. حزبية ووطنية وقومية. فكرية وسياسية وتاريخية بحاجة إلى المزيد والمزيد من الحوار بين المعنيين، والمهتمين بها، وأخصّ هنا البعثيين على اختلاف تموقعهم، ووضعهم، وأعمارهم، وتجاربهم.. مثلما تخصّ الاتجاهات القومية بشتى مشاربها، وكافة المعنيين بقضايا الأمة والوطن.
الحوار ضروري، ونحن نفتقر إليه داخل التشكيل الواحد(أيّاً كان حجمه وشكله)، بل وحتى داخل الذات الشخصية. لكن وكي يصبح واقعياً، ومجدياً، ومنتجاً لا بدّ من جهة ما تملك قدرة المبادرة، وقدرة وضع أرضية عامة للحوار، وتحديد الأهداف بدقة كي لا تكون دعوات الحوار مجرد فشات خلق، وتنفيس احتقان اليأس، وقرع الضمير، أو تحقيق ذات مأزومة. والأهم : النتائج الواقعية لما يمكن أن تسفر عنه، والتي هي حصيلة موضوعية تتجاوز الرغبات والأمنيات والتحسّرات، وقرع الضمير.
2 ـ لا يشكّ المرء بصدق ونبل أصحاب الدعوات المتقطعة لوحدة، أو لقاء البعثيين، بما في ذلك استنكار الانقسامات والقطيعة والعداوات وحروب الكلام والاتهام والتصنيف التي لم تنتج سوى الهشيم والتهشيم. لكن الواقع شيء آخر، فدون هذه الدعوات عقود وخنادق وفجوات وتطورات واختلافات ورؤى وانقسامات واتهامات وتكورات، ومصالح، وبنى.. وكثير كثير مما يمكن ذكره من فعل السنوات وطمي الزمن. ناهيك عن التباينات الفكرية والسياسية وحتى الأديولوجية والتي ستعبّر عن نفسها بجلاء في أية لقاءات جدّية. وناهيك أيضاً عن حالة التشرذم، والتشتت، والبعثرة وما كوّنته وأنتجته، والخلاف البيّن حول أمور تأسيسية تخص الفكر والخط السياسي وحتى الممارسات السابقة.
وبالأساس من ذلك : مدى فهم جذور أزمة البعث(تأسيساً)، وعموم الخط القومي، ومدى القدرة على نقد الذات: مدخلاً (الذات الذاتية، والذات الحزبية)، ووعي مفاعلات وآثار تلك الأزمة(البنيوية) فيه، عبر ظروف الوصول إلى الحكم وما صار له وفيه، وموقع الفرد، والعسكر، والاختلاطات، والتطورات فيما حدث' قبل الارتكاز والتعكيز على مشاجب التآمر والخطف والاختطاف.
3 ـ وبعجالة، فتطورات الأوضاع العربية والعالمية: على قاعدة موقع ومسؤولية الحركات القومية، كشفت خللاً بنيويا في المفاهيم الرئيسة (التي يعتبرها البعض قدسية، وأبدية لا يأتيها الباطل)، ناهيك عن أن الموقعات الواقعية ومفرزاتها الكثيرة (مفاهيم الأمة وطبيعة تكوينها ومفردات ذلك التكوين ـ القومية والأقليات القومية ـ الدولة القطرية وما دونها ـ الأديان والطوائف وغيرها...) تملي على جميع المعنيين بالخط القومي مراجعات حقيقية وليست ترقيعية أو تبريرية.. على طريق إحياء المشروع النهضوي، الحداثي، الواقعي الذي يضع في الأساس منه قضية المواطنة والحريات الديمقراطية، وتساوي الجميع أمام القانون..كغاية ووسيلة.
لقد أكّدت التجارب العديدة لفصائل ما تعارف عليه بـ"حركة التحرر العربية" وجود فجوات كبيرة في بناها المعرفية والتكوينية، ناهيك عن الممارسة، ذات علاقة بأمهات القضايا التي طرحتها. كما أن سنوات الفوات والهزيمة والفشل، ونخر وتسوّس المشروع القومي النهضوي ألقت بكمّ كبير من المعطيات لا يمكن شطبها أو القفز فوقها، بما يرتب مسؤوليات إضافية على أولئك الذين ما زالوا يمسكون جمر الإيمان بالخط القومي لإعادة صياغته وفقاً لهذه المعطيات جميعاً، وليس عبر المكابرة والتبرير، وإلقاء التهم والمسؤولية على الغير (الآخر).
***
بالعودة إلى بعض النقاط التي وردت في مقال الأستاذ جان عبد الله، وبعد المقدمات الجميلة، الحالمة عن توصيف مرحلة التأسيس والتبشير، ومواصفات تلك القلة المؤمنة، ومثاليتها(بالمعنى الشعبي للكلمة)، وقبل اتهامه الخطير لخلفيات الوصول إلى السلطة(وهو ما سأتوقف عنده)، نسي الأستاذ، أو تجاهل بعض الحقائق المفصلية التي أجد من الضرورة التذكير بها، اختصاراً:
1 ـ الأكيد أن مراحل التبشير في عموم الأديان والأحزاب تمتاز بصفات خاصة من شدّة الإيمان، والإخلاص، والالتزام، والتوحّد، والغيرية، والتضحية والتضامن الأخوي بين أبناء التنظيم الواحد، والاختيار الطوعي، ومن العمومية والاندفاع العاطفي والوجداني.. وغيره كثير.. لكن هذه الصورة يستحيل أن تستمر طويلاً (حتى قبل الوصول إلى الحكم)، لأن التطورات تفعل فعلها وتطلب تجسيداً لها في التفاعل والاختلاف والتباين، ولأن الأفكار ستصطرع وهي تنزل إلى الواقع تجريباً وامتحاناً، خاصة إذا ما كانت أفكاراً تجريبية وخلائطية، وجديدة. ( لن أتوقف هنا عند البنية الطبقية المتفاوتة، وطبيعة الوعي، والبشر، والبرجوازية الصغيرة، خاصة أجنحتها المثقفة، ومشاكل النخب، وتكوين العقل العربي، وموقع الأنا، والديمقراطية، والحياة الداخلية.. إلخ ) فإن تلك اللوحة الحميمية عن تلك العصبة المؤمنة(القليلة ـ الورعة ـ التقيّة ـ النقيّة) ستدخلها الكثير من التلاوين والاختلاطات بما يفرض عليها التغيير والتلاؤم مع سنّة الحياة والممارسة، هذا عدا عن فعل السلطة الشهير، وما يُحدثه من انقلابات وتغيّرات تطال الأغلبية حين ينزلون من علياء الشعارات إلى واقع الحكم، وحين تزوغ أبصار وبصيرة الكثيرين، وتفتح العيون على المكاسب والامتيازات، وحين يتحدى الواقع المقولات العامة والشعارات العريضة ويطالبها التكيّف والتعقل والانسجام.
ويكفي التذكير بأن البعث، وقبل الاندماج مع العربي الاشتراكي، كانت همومه الداخلية تتكاثف، بما فيها إشكالات القيادة، وبعض المواقف الشخصية والعامة من الانقلابات العسكرية التي تعاقبت، حتى إذا ما حدث الاندماج(أو التجميع بالأصح) بين الحزبين، وبرزت التباينات بين الأساتذة الثلاث (وهي ليست من منشأ ذاتي وحسب) توضّحت فيه بدايات خطوط سياسية وفكرية مختلفة، ناهيك عن أن التوحيد منحه بعداً فلاحياً لم يكن فيه، وفرض عليه التكيّف مع الواقع الجديد، وعلى التعاطي المباشر، والحثيث مع العسكر والانقلابات العسكرية، والبعثيين العسكر.. بصيغ وأشكال كثيرة.
2 ـ لم يكن العسكر حالة طارئة على البعث، أو خنجراً تآمرياً.. صحيح أنه رسمياً كان يرفض إيجاد تنظيم بعثي في الجيش، لكن علاقته بالعسكر البعثيين كانت وطيدة، وقد شكلوا رأس حربة له في الصراع السياسي الدائر، وثقلاً مهماً استخدمه في جميع معاركه الداخلية ضد الحكم القائم.
وهنا، يبدو أن الأستاذ جان عبد الله حذف قصداً مفصلاً هاما من تاريخ الحزب والبلد، والأمة : الوحدة مع مصر، بدءاً من تذكيره بأن شكل الوحدة، وطريقة قيامها قد فرضها العسكر أساساً(المجلس العسكري الذي كان البعثيون فيه قوة مؤثرة)، ونسي أيضاً تداعيات الوحدة وآثارها على البعث ليس في سورية وحسب، وإنما في عموم تنظيماته القائمة.
لقد كانت موافقة القيادة (بتلك الطريقة السريعة) على حلّ الحزب في سورية(استجابة لشرط عبد الناصر) محطة مفصلية في تطوراته ومساراته اللاحقة، أسست للكثير من الوقائع والانشقاقات.
يعرف الأستاذ بدءاً أن الانشقاقات الكبيرة حصلت في تلك الفترة (الريماوي ـ الراوي)، كما يعرف أن خلخلة عميقة حدثت فيه لم يخرج منها سالماً، بما في ذلك موقع وهيبة واحترام القيادة ومسؤوليتها في الذي جرى، ونظرتها إلى موقع ودور الحزب، وإلى كمّ الخلافات التي حدثت بين الأساتذة الثلاث وتداعياتها في عموم الحزب، ناهيك عن فرفطة التنظيم في سورية وتهشّمه، ثم توزّعه بين عديد التجمعات والتنظيمات، وانفراط عقد ذلك التوحيد مع العربي الاشتراكي، والتحاق أعداد مهمة منه بتنظيم الاتحاد القومي، ثم بتشكيل التنظيمات الناصرية(الوحدويون الاشتراكيون ـ الاتحاد الاشتراكي العربي) وانقسامه في سورية إلى ما يعرف بـ"التنظيم القطري"، و" التنظيم القومي"، وحالة الفوضى والضياع والحنق، وتجميع الأخطاء وغيرها كثير من الظواهر السلبية الناتجة عن تلك التجربة، وما تركته من آثار في الفترة اللاحقة..
3 ـ نصل إلى بيت القصيد فيما كتبه الأستاذ جان عبد الله، الذي يقول : (( وفي شباط وآذار 1963 استولى عسكريون من المتعاطفين مع فكر البعث على السلطة في سورية والعراق، فاستغرب غالبية البعثيين هذه المفاجأة لأن حزبهم لم يكن مهيئاً للحكم لا شكلاً ولا موضوعاً...)).
ويكمل في فقرة اتهامية هي الأخطر، والتي يؤسس عليها كل التداعيات اللاحقة، فيقول: (( إن الذين خططوا ومهدوا لاستلام البعث السلطة كانوا يعرفون أن في حكمه يكمن سر موته، وربما قالوا لنتركه يسعى إلى (حتفه بظلفه) لأنهم أرادوا أن يتخلصوا من مثاليته التي رافقت نشوءه فمهدوا له الطريق وزيّنوه...)).
ويُكمل على هذا المنوال بعد التركيز على غزو الانتهازيين، ومعاقبة المعلمين الذين برزوا فيه، ليقول : (( إن أي مراقب حصيف أو دارس لهذه الحقبة من تاريخ أمتنا يجد أن في هذا الأمر زحلقة وتوريطاً لإجهاض هذا الحزب وإنهائه. نعم أقولها وكثيرون من أبناء شعبنا دون خجل أو مواربة أن البعث اليوم ليس حزب البعث القديم....)).
الفقرات المذكورة، أو زبدة المقال تتضمن ليس اتهامات خطيرة وحسب، بل مغالطات فاضحة تنمّ على أن الكاتب إما أنه لم يكن داخل الحزب(أو على هامشه)، أو أنه ينطلق من خلفية مسبقة(معزة ولو طارت) لتأكيد حكم قطعي يعيش عليه ويفسر ما جرى على هدي عتمته، ولذلك سأحاول، مختصراً، توضيح بعض الالتباسات، كما أعرفها، ويعرفها جميع البعثيين.
آ ـ كما ذكرت فعسكر البعث لم يهبطوا عليه من السماء، كانوا جزءا فاعلاً فيه، حتى وإن لم يكونوا منظمين رسمياً. لكن الأهم من كل ذلك أن ما حدث في العراق(8 شباط) لم يكن عملاً عسكرياً وحسب، كان فعلاً شاركت فيه تنظيمات الحزب المدنية والعسكرية بقرار من القيادة القومية (أعلى سلطة في الحزب)، وبعد مرحلة طويلة من التضحيات والمجابهات لحكم عبد الكريم قاسم، ووسط فرحة غامرة شملت جلّ البعثيين بذلك العمل الذي اعتبر ثورة البعث، وليس انقلابا عسكريا مجرداً.. خلافاً لما يقول الأستاذ (استغراب غالبية البعثيين)!!. ويتشابه الأمر، ولو بحدود أخرى، مع ما جرى في سورية حين كان يعتبر الحزب إنهاء الانفصال مهمة ترقى إلى مصاف المهام القومية المصيرية. ولا أعتقد أنه كان بنيّة تنظيم البعث في العراق، ولا في سورية التآمر على حزبهم، و(زحلقته) إلى حتفه، هم الذين أقدموا على ذلك العمل المحفوف بكل المخاطر، فهذا ظلم كبير وتجنٍ على التاريخ والوقائع.
لقد تولى الرفاق العراقيون الإشراف على التنظيم في سورية، وفق قرار القيادة القومية، وكان التحضير لانقلاب عسكري ينهي حكم الانفصال غاية تلقى قبول القيادة وجميع البعثيين المنظّمين، مثلما كان الثامن من آذار تتويجاً وليس مفاجأة، وقد بسطت القيادة شرعيتها على العمل ونسبته لها، وغطته، ثم مارست الحكم بطريقتها، وتحالفت مع العسكر طويلاً، وضربت بهم خصوما خارج الحزب ثم داخله، وقادت بنفسها مباحثات الوحدة مع عبد الناصر، مثلما قادت مرحلة الخلاف وما أعقبها من حروب بينية قاسية.
ب ـ نعم كان التنظيم في سورية ضعيفاً، وهزيلاً دون مستوى تحمل مسؤولية الحكم، لكن الإشكالية لا تختصر هنا فقط، فهي تأسيسية وسابقة على ذلك. الإشكالية تكمن في فكر الحزب العمومي، وافتقاره إلى البرنامج والنظرية الواضحة. ويجدر بالذكر هنا العودة إلى "محاضر الجلسات" بين البعث وعبد الناصر لمعرفة الحرج الكبير الذي واجهه القائد المؤسس (الأستاذ ميشيل عفلق) في الإجابة على رؤية الحزب الواقعية لإنجاز الوحدة العربية وتلعثمه، وبما يعكس بلبلة الحزب الفكرية ـ العملية في واحدة من أهم شعاراته.
هنا، وبغض النظر عن التلفيقات المصرية الكاريكاتورية، فقد كان الحزب يعاني خللاً مريعا في الرؤية الواقعية والبرنامج العملي، والخط السياسي الذي يتجاوز المقولات العامة والشعارات إلى الواقع، وبما يعني أنه فعلاً غير مؤهل للحكم، وهذا يتناقض مع ألف باء أي حزب يضع السلطة هدفاً ووسيلة لتحقيق برنامجه.. بما كان يفسح في المجال(منطقياً) للاستعاضة عن ذلك باستخدام القوة والعنف والتآمر والتصفيات ضد الآخر، وبتدخل الجيش القوي في الحياة الحزبية والسياسية (دونما حاجة لمؤامرة..)، وإن كانت هذه الحالة ليست فريدة في دنيا الانقلابات الأقلوية التي تكيّفت مع الواقع وقدرت على التطور والتطوير وفق مقتضيات الحاجة، ومستلزمات الحكم.
ج ـ سقوط سلطة البعث في العراق كشفت حجم التناقض فيه، ومستوى الاختلاف الفكري والسياسي، مثلما كشفت عن وجود اتجاهات وخطوط فكرية وسياسية متعددة، مع التذكير بقصة" بعض المنطلقات النظرية" وموقعها في الصراع بين تلك الخطوط، والموقف من عمليات التطوير، ومسؤولية القيادة في الذي جرى في العراق، وفي مجمل التطورات الميدانية.
ودون العودة إلى تصنيفات اليمين واليسار وأثرها في الصراع والانقسام، فإن وصول الحزب إلى الحكم وهو شبه خالي الوفاض من الرؤية والبرنامج.. كان يعني دخوله ميادين الصراع من أوسع أبوابه. وطالما أن حياته الداخلية لم تستطع استيعاب محاور ودوائر تطوره المتعدد، وطالما أن هناك من يقف بالمرصاد لعمليات التطوير الواجبة.. فإن الطبيعي أن يلجأ كل طرف إلى القوى التي يملكها لاستخدامها ضد الآخر، وإبعاده، وتصفيته، خصوصاً وأن الديمقراطية غائبة ومغيّبة، والشعب بعيد عمّا يجري.
د ـ في هذا المجال فإن توصيف الغدر ليس في مكانه إذا ما نظرنا إلى طبيعة تلك التحالفات الهشّة التي قامت بين الناصريين والبعثيين والمستقلين العسكريين في سورية، والتي تعكس مستوى الوعي : وعي التحالف والمشترك، ووعي المرحلة وقواها، وموقع الآخر وحجمه، بما في ذلك التباين الحاد في النظرة إلى الوحدة السابقة وأسباب إخفاقها، وفي العلاقة مع عبد الناصر ونظامه(وحدة فورية أم اتحادية.. وجميع الملابسات المتعددة من شتى الأطراف المعنية)، ونيّة كل طرف إبعاد وتصفية الآخر (وربما بشكل مسبق) للانفراد بالحكم.
***
الأستاذ ينهي مقاله بسؤال: ((ختاماً هل سينجح البعثيون القدامى بإصلاح ما أفسده الانقلابيون لإعادة البعث إلى مثالية بدايته..)).
ورغم النوايا الطيّبة في مثل هذه الدعوة المشبعة بالأماني، فإنها وإن كانت تدعو إلى مقال مستقل لتوضيح المعنى، فلا أدري ما يقصد الأستاذ بالبعثيون القدامى.. هل أولئك الذين حضروا مؤتمر التأسيس عام 1947، أم من كانوا فيه قبل الانقلابات؟؟.
ورغم الاحترام الذي نكنه لتلك الكوكبة الأولى، وما قام به بعضهم من دور، وتضحيات عديدهم، إلا أن الأستاذ جان، وكما تجاهل واقع وجود أزيد من نصف قرن على تجارب البعث وانقساماته، وتصيراته، فإنه يلغي فعل الزمن فيمن تبقى من أولئك البعثيين القدامى والذي يتجاوز العمر الزمني لهم الثمانين عاماً (على أقل تقدير، ومع الأمنية بمديد العمر لهم)، دونما حاجة لتفنيد ما تحمله مثل هذه الدعوة من أفكار رومنسية.. وما هو أكثر.