أين نحن الآن من ناصرية عبدالناصر: على صعيد الفكر وعلى صعيد الممارسة - السيد محمد حسن الأمين
مقالات و تحقيقات /
فكرية /
1989-07-22
مداخلة السيد محمد حسن الأمين
مقتطفات
أين نحن الآن من ناصرية عبدالناصر:
على صعيد الفكر وعلى صعيد الممارسة
بتاريخ 22 تموز 1989
في دوحة المقاصد
* * *
استهل مداخلته بتقديم ملاحظة منهجية تتعلق بطبيعة تفكيرنا العربي بصورة عامة، في مواقفنا من الرجال ومن القضايا ومن الأحداث. نكاد نحن نختلف حول رجل ما أو حول قضية ما أن يقف كل واحد منا موقف النقيض من الآخر... فمثلاً عبدالناصر يمكن أن يتحوّل في خطاب بعضنا إلى نصف إله ويمكن أن يتحوّل في اعتقاد الآخر إلى شيطان كافر.
هذا النوع من التفكير لا أشك أنه يشكّل أحد أسباب تخلّفنا الحضاري والسياسي أيضاً وهو البعيد والغريب جداً عن الأُسس الفكرية والحضارية التي ننتمي إليها.
عبدالناصر لكي نقيّمه ولكي نعطيه حقه كبطل تاريخي، لا أعتقد أن ذلك يتم من خلال إضفاء صفات ليست له ولا يتم من خلال إعطائه صفة النُبوّة أو العصمة أو عدم الخطأ، إنه ظلم لعبدالناصر أن نتكلم عنه بهذه الصيغة، كما أنه من الظلم الفاحش أن نسقط عبدالناصر من هذه المرحلة التاريخية التي اكتسبت، أقول، اكتسبت في أكثر ملامحها وساحة أوسع من ملامحها ببصمات عبدالناصر..
عبدالناصر كما نراه عبقرية سياسية وهي عبقرية أسمّيها قطرية وأعني بكلمة قطرية أن عبدالناصر لم يكن صاحب نظرية بينما كانت تتّسم سياسته وثورته وحتى ذكاؤه وقدراته الجماهيرية المعروفة، كانت تتّسم بالتجريبية والانتقاء. عبدالناصر كان أيضاً قلقاً وحائراً ولا يجوز على الإطلاق ونحن نقيّم القائد أن نتصوّر أنّ القائد يملك وهو يباشر مهماته السياسية والتاريخية، يملك تصوّراً مسبقاً لما سيكون وعما سيحدث وعما كان... كان عبدالناصر يمثّل مرحلة الخروج من الاستعمار المباشر ولكنه كان يصطدم بأنّ هذا الاستعمار ما يزال قائماً ومستمراً.. وعبدالناصر إذا أردنا أيضاً أن نضعه في سياق المرحلة التاريخية التي بدأت ولكنها لم تنته بعد، فلا يمكننا أن نعزله عن الإشكالية التي واجهت فكرنا السياسي والثقافي في مرحلة الانهيار التي مثّلها سقوط الدولة العثمانية، هذه المرحلة هي من المراحل الخطيرة التي تُصاب بها الأُمم عندما تنتهي من دورة حضارية وتبدأ الإعداد لدورة حضارية منفصلة أو متّصلة، يصبح طابع هذه المرحلة الشك والقلق والخلاف حول المبادئ وعبدالناصر هذا المناضل العربي المصري، هذا الضمير الحيّ الذي انطلق من مصر وأدرك بعفويته الرائعة المشكلة التي يعانيها العرب. عبدالناصر نفسه هو مزيج من ثقافتيْن ومن رؤيتيْن للحياة وللإنسان والكون وللقضية السياسية، عبدالناصر هو مثقّف انطلق في ثقافته وفي رؤيته لقضايا القومية والسياسية من كونه أو من مصادر مع الأسف كانت هي مصادر الاستعمار نفسها وكلنا الآن الذين نعيش في هذه الفترة لا نستطيع أن ندّعي بأنه رؤيتنا للكون والإنسان والثقافة والعلم والسياسة هي رؤية ذاتية نحن تشكّلت عناصر ثقافتنا عناصر رؤيتنا لمشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية، تشكّلت على قاعدة ثقافة غربية سبقتنا فعلاً وتفوّقت علينا، ومنها المسألة القومية.
المسألة القومية كان لابد لعبدالناصر أن يتّخذها كإطار لحركة التحرّر لأنّ عبدالناصر بدأ تقريباً من نقطة الصفر، بدأ من أُمة تريد أن تتحرّر من الاستعمار وتكون عملية التحرّر شاملة... هل بدأ عبدالناصر من نظرية متكاملة تشكّل مرشداً لحركة التحرّر العربية.
لا شك أنّ عبدالناصر وضع الإطار في هذا المجال ولكن هذه النظرية لم تكتمل... نستطيع أن نقول ونحن نتساءل ماذا بقي من عبدالناصر؟ أنّ كل المنطلقات التي طرحها عبدالناصر، مازالت باقية حتى الآن، وكل المهمّات التي اضطلع بها عبدالناصر ما زالت قائمة حتى الآن. ولكن بوسعنا أن نقول إنّ نظرية عربية كاملة لم تولد بعد وأنّ التحدّي الذي يواجه الناصرية هو في صياغة هذه النظرية ليس الصياغة النظرية البعيدة عن معانات الواقع، الصياغة التي تتّصل بالواقع وتعانيه تمام المعانات، ولا يسعني وأنا أقدّم هذه الملاحظات ألاّ ؟
كلمة الأستاذ
معــن بشـور
أيها السيدات
أيها السادة،
ليس أجدر من صيدا، وأحقّ منها مِن أن تحتضن هذه الندوة الفكرية السياسية التي نظّمها مشكوراً المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا تحت عنوان "أين نحن من ناصرية عبدالناصر". فهذا الثّغر العربي الرابض على شرق المتوسط، دِرع المقاومة العربية للمشروع الصهيوني وبوابتها إلى فلسطين، بقي أمين لناصرية عبد الناصر حاملاً لوائها باذلاً في سبيل مبادئها الشهيد تلو الشهيد من أبنائها وقادتها وفي مقدّمها القائد الناصري الشهيد معروف سعد...
وإذا كان منظّمو الندوة وعلى رأسها الصديق والأخ المفكّر والباحـث الوحدوي البارز د. مصطفى دندشلي قد طرحوا علينا هذا السؤال الذي يحمل في طيّاته المرارة كما يحمل حرارة البحث العلمي عن الحقيقة، فإننا نرى لزاماً علينا أن نسجّل بعض الملاحظات على السؤال نفسه... "أين نحن من ناصرية عبدالناصر فكراً وممارسة؟ "...
الملاحظة الأولى: ما هو المقصود بنحن هنا، أهو نحن العرب في واقعهم المتردّي، وفي تمزّقهم المؤلم، وفي تفتّتهم المريع، أم هو نحن في فصائل حركة التحرّر العربي وقد بات قادتها ومناضلوها عموماً أسيري قيديْن إما قيد السجن والمنفى والاضطهاد على يد الأنظمة، أو قيد التبعية والالتحاق بركب هذه الأنظمة والتي لا يمكن على أحد أن يخفي مسؤوليتها عن حال التردّي الراهن، أم المقصود بهذه "النحن" جموع المواطنين العرب الذين ما زالوا يحلمون مثلنا بالوحدة وقد اقتربت مع جمال عبدالناصر إلى حدود الواقع، وبالحرية وقد داعبهم نسيمها مع المعارك الوطنية والقومية الكبرى التي خاضوها في الخمسينات الستينات، وبالتقدم الاقتصادي والاجتماعي وقد لامسوها مع بوادر التنمية المستقلة والخطط الخمسية التي أطلقتها ثورة يوليو وحقّقت بها إيجابيات متعدّدة...
الملاحظة الثانية: إنّ الحديث عن الفكر والممارسة في حرية عبدالناصر هو حديث عن وَحدة لا تتجزأ، وعن رباط لا ينفصم، فالفكر مع عبدالناصر اغتنى وتطوّر وتبلْوَر بفعل الممارسة، تماماً مثلما كانت هذه الممارسة تسترشد بالمنطلقات الفكرية والمبدئية التي قامت على أساسها ثورة يوليو وتحرّكت بوَحْيِها وخاضت كل معاركها على قاعدتها...
لقد وقف عبدالناصر في كلماته الأولى في كتابه الأول "فلسفة الثورة" أمام كلمة فلسفة ليقول إنها ضخمة وكبيرة... أُحسّ وأنا أقف حيالها إني أعلم عالم واسع ليس له حدود، وأشعر في نفسي برهبة خفية تمنعني من الخوض في بحر ليس له قاع...
الفكرة الأساسية التي استحوذت على عقل جمال عبدالناصر الشاب الثائر، كما على عقل كل مواطن عربي لخّصها القائد الراحل بكلمتين هامّتين: كيف يكون حكم شعب مصر بأيدي أبنائه، وفي أن تكون له بنفسه الكلمة العُليا في مصيره...
ولا يضرّ عبدالناصر أبداً أنه طرح هذا السؤال بنفسه، لأنه بإخلاصه لوطنه، وبحبه للحقيقة، وبتجرّده في طلبها بدأ يضع يده على الطريق الصحيح، وبدأ يكتشف يوماً بعد يوم، وبالممارسة النضالية الحيّة مداميك الفكر العربي الثوري الجديد، ويلتقي بالتالي مع كل من حمل لواء هذا الفكر في كل أرجاء الوطن العربي...
على ضوء هاتين الملاحظتين أبدأ مداخلتي، بالتوقف أمام أمريْن:
الأمر الأول: هو عناصر المشروع الحضاري العربي الجديد الستة التي وصل إليها مشروع الاستشراف الضخم لمستقبل الأمة العربية خلال العقود الثلاثة القادمة الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية خلال الثمانينات وشارك فيه العشرات من أبرز المفكّرين والباحثين العرب...
فما هي عناصر هذا المشروع الحضاري العربي الجديد؟ إنها باختصار:
1- الوحدة العربية في مواجهة التجزئة بكل صورها القطرية والإقليمية والطائفية والقبلية.
2- الديمقراطية في مواجهة الاستبداد بكل صوره ومستوياته.
3- التنمية المستقلة في مواجهة التخلّف أو النمو المشوّه والتابع.
4- العدالة الاجتماعية في مواجهة الظلم والاستغلال بكل صوره ومستوياته.
5- الاستقلال الوطني والقطري في مواجهة الهيمنة الأجنبية الإقليمية والدولية.
6- التجدّد الحضاري في مواجهة التجمّد التراثي والنسخ الثقافي من الخارج...
ودعا المشروع نفسه إلى قيام (حركة قومية جديدة) تتبنّى هذا المشروع الحضاري الجديد...
إنّ نظرة سريعة إلى هذه العناصر الستة التي وصل إليها المشروع الاستشرافي العلمي، بعد أن استعرض حملة المشاهد أو السيناريوهات التي يمكن أن يتطور الواقع العربي باتّجاهها، تظهر بوضوح أنها ليست في جوهرها سوى تفصيل وتعميق للمشروع القومي العربي التقدمي التحرّري الذي حمل لواءه جمال عبدالناصر وعموم فصائل وأحزاب الحركة العربية الثورية في الأربعينات والخمسينات والستينات...
فالحرية، بما هي حرية للوطن والمواطن تلخّص عنصري الديمقراطية والاستقلال في المشروع الحضاري الجديد.
والاشتراكية، بما هي إقامة نظام الكفاية والعدل، تجسّد عنصري العدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة...
والوحدة القائمة على أساس الانتماء القومي العربي المرتبط جوهرياً برسالة الإسلام، والمنفتح على جوهر سائر الرسالات السماوية هي نفسها الوحدة العربية والتجدد الحضاري الذين يدعو إليهما المشروع الجديد...
أما أداة تحقيق هذا المشروع، فهي الحركة القومية الجديدة التي لا تختلف كثيراً في عناصرها الأساسية عن فكرة الحركة العربية الواحدة التي طرحها جمال عبدالناصر عام 1963 وبقيَ يسعى لتحقيقها حتى رحيله المبكر عام 1970...
أما الأمر الثاني الذي أودّ الوقوف عنده معكم، فهو مجموعة أقوال متفرقة للرئيس الراحل جمال عبدالناصر، يجري توزيعها هذه الأيام في بيروت وعدد من المناطق اللبنانية بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين لثورة 23 يوليو...
يقول جمال عبدالناصر:
لا نستطيع تصوّر إقامة الأوطان على أساس الأديان، فتصبح هناك أوطان لا يعيش فيها غير المسلمين، وأوطان لا يعيش فيها غير المسلمين...
ويقول أيضاً:
إن إسرائيل لم تفرّق بين المسلم والمسيحي حينما احتلت الأرض في فلسطين، لكنها طردت المسلمين كما المسيحيين ...
ويقول كذلك:
إن ثبات الجبهات الداخلية والوحدة الوطنية، هي عامل أساسي من أجل استرداد الأرض.
وكأنه في أقواله الثلاثة هذا، وفي الأدبيات الناصرية الكثير منها، لا يحذّر مما كان يخطط للبنان من مشروع وطن قومي مسيحي كشفت عنه مراسلات بن غوربون وموشيه شاريت فقط، ولا يتنبّأ بخطر قيام الدويلات الطائفية والكانتونات المذهبية على أرضه فحسب، بل كأنه أيضاً يحاول تحصين المجتمع العربي بأسره بوجه الحروب الأهلية والمشاريع الطائفية والتي لم يعد لبنان وحده مسرحاً لها. فما نشهده في السودان من حرب أهلية، وما نسمعه في مصر من محاولات إشعال الفتنة الطائفية، وما نقرأ عنه هذه الأيام في الصومال من اضطرابات تأخذ طابعاً دينياً هو تأكيد لصحة مخاوف جمال عبدالناصر ودليل على أن مشروع الحرب الأهلية في الوطن العربي هو واحد من ركائز الاستراتيجية الصهيونية الاستعمارية في المنطقة.
وإذا انتقلنا إلى موضوع فلسطين، نرى جمال عبدالناصر يقول منذ أكثر من عشرين عاماً...
شعب فلسطين يناضل ويستبسل ويموت في الضفة الغربية وغزة ويتعرض للاضطهاد، ومع ذلك لم يستسلم لإسرائيل...
ويقول وكأنه معنا في هذه الأيام:
أصبح لشعب فلسطين اليوم وزن سياسي كبير، لأنه أراد لنفسه الحياة حينما أراد له الاستعمار، وأرادت له إسرائيل الموت...
بل يقول:
لقد أعطانا شعب فلسطين في هذه الأيام المثل الكبير للمقاومة وروح المقاومة والتصميم على المقاومة...
ولم يكتفِ من حُب شعار "المقاومة وُجدت لتبقى" بهذا القول بل ورفع شعاراً أصبح بعد عشرين عاماً شعاراً للانتفاضة الفلسطينية المجيدة نفسها حين قال: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الوجود الصهيوني على الأرض العربية".
إنّ هذه الأقوال بقدر ما تعكس عن ثقة مطلقة بمقومة الشعب الفلسطيني، فإنها تحمل أيضاً رؤية مستقبلية لنضال الشعب الفلسطيني نفسه الذي يخوض اليوم واحدة من أشرف معاركه من أجل الاستقلال والحرية.
وحول الصراعات والخلافات العربية المستمرة، والمتفاقمة يوماً بعد يوم يقول جمال عبدالناصر:
"إنّ كل المعارك الفرعية والجانبية في العالم العربي يجب أن تتوقّف، وإلاّ ضاع أمرنا من يدنا واستنفذنا جهدنا بأيدينا بدل أن ندّخره ضد عدونا".
ويقول أيضاً وكأنه يعيش محنتنا المتجدّدة في لبنان:
"أيّ محنة أشق وأصعب من أن نرى السلاح العربي ينطلق إلى غير هدفه" مذكّراً الجميع في كل زمان ومكان: "أنّ هناك معركة واحدة، هي معركة الأمة العربية ضد العنصرية الصهيونية المؤيّدة من قوى الاستعمار..."
وفي معرض تشديده على دور الشعب في الثورة والتغيير لا ينسى عبدالناصر أن يؤكّد على "أن قيمة الثورة الحقيقية بمدى شعبيتها، وبمدى ما توفره لهذه الجماهير من قدرة على فرض إرادتها". بل ويقول في مجال آخر، وكأنه يخشى على القيادات الوطنية الذبول والموت: "إنّ القيادات الوطنية حين تخلع جذورها من التربة الشعبية تحكم على نفسها بالذبول والموت".
ألم تكن خشية عبدالناصر في محلّها إذن...
لقد استطردن قليلاً في سرد هذه الأقوال الناصرية، كما في عرض عناصر المشروع الحضاري العربي الجديد كما حدّده علماء المستقبل العربي، لنؤكد أن عبدالناصر في فكره، كما في وعيه السياسي، ما زال بيننا يشكّل الإطار التاريخي كل الأزمة التاريخية التي تعيشها أمتنا، تماماً كما هو باقٍ بيننا في وضع يده على أولويات النضال العربي المعاصر...
هذا على صعيد الفكر والخطاب السياسي، أما على صعيد التقييم الواقعي لمرحلة ما بعد عبدالناصر مصرياً وعربياً فلابد أن نتوقف أمام الظواهر التالية:
1)- لقد جرى في معرض الارتداد على نهج عبدالناصر وخطّه في مصر حملة تجنِّ وتهويل واسعة، حاولت أن تصوّر أن حجم المصاعب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها مصر طيلة المرحلة الناصرية، إنما كان سببها سياسية عبدالناصر وخططه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، وفي السياسات الداخلية والعربية والدولية؟!..
والآن وبعد عشرين سنة تقريباً على رحيل جمال عبدالناصر، أليس من حقنا أن نسأل مع المواطن المصري:
*هل كان الارتداد عن سياسة عبدالناصر ونهجه أكثر نفعاً وجدوى على جميع المستويات مما كان عليه الأمر في عهد عبدالناصر...
*هل ساد مع الرخاء والرفاه في ظل سياسة الانفتاح أم حرم هذا المواطن لقمة العيش الممهورة بالكرامة التي كان يحصل عليها مع عبدالناصر...
*هل تولى القطاع الخاص، المحلّي والعربي والأجنبي، مهمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أم دمّر القطاع العام الذي بنى المصانع، وحفظ ثروة الشعب والوطن وأجهضت نتائج الخطط الخمسية التي بدأت تعطي نتائج ملموسة لولا حرب 1967 ونتائجها المأساوية.
*هل أعطى الانفتاح على الغرب وشركاته الاستهلاكية الملونة مع الخير العميم الذي ترجوه، أم أنه دمّر مقومات التنمية المستقلة وأثقل خزينة مصر بالديون الخارجية...
*هل تضاءلت الفروق في مستويات المعيشة بين المصريين أم تنازعت القطط السمان وقد ازدادت سمنة، بينما ازدادت الأفواه الجائعة جوعاً وعدداً على حدّ سواء...
*هل انهارت فعلاً دولة المخابرات ومراكز القُوى، كما كان يقول السادات، واختفى "زوار الفجر"، أم أن مصر باتت ترزح نير قانون العيب وقانون الطوارئ وقانون الأحزاب وقانون الانتخابات وغيرها من القوانين والإجراءات التي تناضل القُوى الوطنية والديمقراطية في مصر لإلغائها أو تعديل بعضها بما يحفظ حرية المواطن وكرامته...
2)- لقد جرى تحميل عبدالناصر طويلاً مسؤولية تردّي العلاقات العربية ـ العربية، واتُّهم دائماً بتهمة التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية الأخرى، واعتُبرت دعوته للوحدة العربية محاولة لإقامة تسلّط مصري على باقي الأقطار العربية، حتى إذا ما رحل القائد الكبير تنفّس العديد من الحكام العرب الصعداء، وازدهرت الدعوات الإقليمية والطائفية والجهويّة أيما ازدهار، وظنّ الكثيرون ممن يتربّعون على مقاليد السلطة في أقطار الوطن وكياناته أنهم باتوا بمأمن من مخاطر الثورة والوحدة والتغيير وعدم الاستقرار...
فماذا كان الأمر بعد عبدالناصر؟!
لا مجال هنا للتفصيل، فالواقع العربي الراهن ناطق بما هو عليه من خلافات بين الدول وصلت أحياناً إلى حد الحروب، والكيانات القطرية والإقليمية تئن تحت وطأة العجز الفادح عن مواجهة كل أشكال التحدّيات التي تواجهها سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي، وهي لهذا تتداعى إلى التجمّع في تكتّلات إقليمية أو سياسية تحاول عبرها أن تؤجّل مواجهة الاستحقاقات الخطيرة التي تنتظرها، والأنظمة التي ظنّت أنّ شبح الثورة والتغيير قد زال عنها مع رحيل عبدالناصر تواجه اليوم حركات وتحرّكات شديدة العنف حيناً، وشديدة التعصّب والتزمّت حيناً آخراً، بل وخارجة عن كل رادع أو ضابط أو وازن... ومنعته من كل عقاب أو ناظم ينظّم اندفاعها واتّجاهها لما فيه المصلحة القومية العُليا كما كان الأمر مع قيادة بوزن عبدالناصر وتأثيرها ومرجعيتها...