الأدب العربي المعاصر بين التواصل والانقطاع - الندوة2 - الجلسة3
ندوات /
أدبية /
1991-12-08
الندوة الثانية الفكر العربي المعاصر
بين التواصل والانقطاع
الجلسة الثالثة
الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد ، الواقع فيه 8 كانون الأول 1991
المحاضرون : الأستاذ حافظ الجمالي ، الأستاذ علي عقلة عرسان ، الدكتور جورج كتورة
إدارة الندوة : الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
إدارة الندوة :
أيّها الأخوة الأعزاء
نتابع جلساتنا لهذا اليوم المخصصة لموضوع الفكر العربي المعاصر بين التواصل والإنقطاع، في هذه الجلسة الصباحية... وسيتبع ذلك جلسة ثانية، الجلسة الرابعة والأخيرة، حول موضوع الفلسفة العربية المعاصرة بين التواصل والإنقطاع... وضلك أن أقمنا البارحة الجلستين الصباحية والمسائية المخصصتين لمناقشة موضوع الأدب العربي المعاصر بين التواصل والإنقطاع. المحاضرون في هذه الجلسة، وهم معروفون لدينا جميعاً: الأستاذ حافظ الجمالي، وهو كاتب وناقد وعميد كلية التربية في جامعة دمشق سابقاً ووزير التربية سابقاً أيضاً في الجمهورية العربية السورية ورئيس اتحاد الكتّاب العرب في دمشق سابقاً... وله مؤلفات عديدة في التأليف وفي الترجمة...
الأستاذ علي عقلة عرسان، الروائي والقصاص والمسرحي والشاعر والأديب والناقد وهو رئيس اتحاد الكتّاب العرب في القطر العربي السوري، وله مؤلفات عديدة في المسرح والرواية والشعر... الزميل الدكتور جورج كتورة وهو مدير كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، الفرع الخامس صيدا، وأستاذ الفلسفة فيها أيضاً. وفي الوسط الفكري والفلسفي معروف من خلال مؤلفاته وترجماته في الفكر وعموماً وفي الفكر الفلسفي بوجه خاص...
موضوع الندوة اليوم، الفكر العربي المعاصر بين التواصل والإنقطاع، موضوع لا شك شائك وصعب وعام. وهذه العمومية في الموضوع إنما هي مقصودة إذ أننا نريد أن نترك مجالاً واسعاً للباحث وللمحاضر بأن يتناول موضوعه من الزاوية التي يراها مناسباً. فكرنا العربي المعاصر في هذا الظرف الذي نعيش فيه، هل هناك من اتصال بينه وبين الفكر العربي في الماضي، أم إنقطاع، قبل ذلك هل يمكننا أن نقول بأن هناك فكراً عربياً واضح المعالم والتوجهات والمفاهيم أم لا؟ ما مدى علاقة هذا الفكر أولاً بالماضي العربي وثانياً بالعالم المعاصر الذي يعيش فيه الآن... وهل هناك من تأثير في هذا الفكر العربي؟...
هذه هي بعض التساؤلات السريعة ولا شك في أن النقاش سوف نحاول أن نتعمق أو أن نتطرق إلى هذه الجوانب وإلى جوانب أخرى... فمحدثنا في هذه الجلسة في هذا الموضوع الأستاذ حافظ الجمالي والموضوع المطروح للبحث والنقاش يهمه شخصياً وله باع طويلة فيه وله كتابات عديدة سابقة أيضاً فلنستمع إليه...
الأستاذ حافظ الجمالي :
شكراً للسيدات والسادة الذين تفضلوا بالحضور، وشكراً للمركز الثقافي وللدكتور مصطفى دندشلي الذي روح هذا المركز، على الدعوة التي وجهوها لنا لمناقشة موضوع من هذا النوع وعلى هذا المستوى. وهو موضوع هام جداً في رأيي، علماً بأن الأهميّة، عندما تذكر في وطننا تأخذ معنى نسبياً، هذا الشيء هام جداً. وهذا الشيء هام قليلاً، أحياناً في الواقع يستوي الهام قليلاً والهام جداً ويصبح التافه هو الهام والهام هو التافه...
ولكن لنعد إلى معاني الكلمات كما هي، وقد ألقيت نظرة عامة على ما يسمى بالثقافة العربية التي نسميها حديثة وأحببت أن ألاحظ علاقتها بالتراث. ووجدت أن من الممكن، في طبيعة الحال، في مثل هذا الموضوع، أن يعرّف الإنسان التراث، ما هو؟... ثم أن يُثني بتعريف الحداثة، كما أراها أنا. وبدون شك يمكن أن يقال كذلك كما يراها الغربيون. ولكن المنظور مختلف جداً، بين شعبين: شعب داخل في أعماق الحداثة وهو مبدعها ومبتكرها وشعب يعيش متطفلاً عليها، عالة عليها أيضاً، وبالتالي لا يصنع شيئاً فيها غير أن يقلدها بقدر ما يستطيع. وبما أن النَفَس قصير والحيل قليلة والوسائل ضئيلة، إذن، لن يكون هذا الفكر إلاّ هامشياً بالنسبة إلى الحداثة. سأحاول أن أقولها...
والآن ما هو التراث؟... بالفعل، يبدو لي أن هنالك نوعاً من الكلام. الفكرة الثابتة التي تستولي على عقول تقريباً مفكرينا جميعاً هي: التراث والحداثة، ماذا نفعل بالتراث؟... التراث، التراث والحداثة، إلخ... ما هو التراث بالنسبة إلينا، ما هي قيمته؟... أو ما هي قيمتنا بدون التراث؟... هنالك أسئلة كبيرة جداً وكثيرة ويبدو أنها تحتل مركز الصدارة في كل الأبحاث التي تتناول الحداثة. وبما أننا لسنا وحيدين في العالم، فقد تساءلت شخصياً: هل طرح الموضوع، مثلاً، التراث والحداثة عند اليابانيين؟... هل طرح مثل هذا الموضوع في الهند؟... في الصين؟... وفي بلاد أخرى؟... ربما أن المعلومات التي تتسرب إلينا من هذه البلدان ضئيلة فلم أستطع طبعاً أن أعثر على مؤلف أو مرجع معين يبين لي أن هذا الموضوع بالفعل قد طرح في اليابان مثلاً.
وأيضاً، بدون أدنى شك فإنني أجزم بأن هذا الموضوع لم يطرح أيضاً في الصين، لأن الانتقال من الكنفوشية مثلاً، إلى ما أسميه الشيوعية، انتقال عميق جداً وكبير جداً، لا يدع مجالاً للقول، بأن هنالك شيئاً أو مشكلة أسمها مشكلة التراث. وبالتالي يكاد يبدو لي بأن مشكلة التراث والحداثة، مشكلة عربية بالدرجة الأولى. هذا إن لم أجد بين المستمعين من هو أوسع علماً مني ليبين لي أن الموضوع طرح على أمم كثيرة. وأنا أعرف أنه طرح في أوروبا من دون شك، ومثلت يومئذ التراث الكنيسة، في شكلها السابق، على كون هذه الكنيسة قد تبنت الحداثة من جديد، بالرغم من أنها وقفت أمام هذه الحداثة في البداية.
وأقول أن التراث الذي هو مشكلة، يُفهم بشكل غامض. ما هو التراث، تراثنا؟... أعتقد شخصياً بأن التراث يعني بالدرجة الأولى: القِيَم الدينية، فلتكن مسيحية ولكنها تحمل مفاهيم تطوّريّة، المفاهيم الكبرى، المماثل لمفاهيم الإسلام. وبالتالي لا خوف إطلاقاً على التراث إذا كنّا مسلمين أو كنّا مسيحيين. هناك تراث تعددي، لاهوتي، من نوع يؤمن بالآخرة وباليوم الآخر، وبالحساب... هذا موجود قطعاً، ولكن على كل حال القِيَم الدينية، المعترفة بالألوهية، هذا نوع من التراث موجود قطعاً، بالمعنى الذي نطلقه على التراث. لكن بالتأكيد ليس المعنى، ليست القِيَم الدينية هي كل معاني التراث. المعاني الأخرى، فيما يبدو لي، هي مجموعة القِيَم التي نؤمن بها ونعمل بها ومستوحاة من الدين بالدرجة الأولى. وأيضاً ما خلفه الأجداد من علوم وآداب وأخلاق وأعراف وتقاليد وحتى من صناعات مثلاً وفنون جميلة، إلى آخر ما هنالك...
إذن، الكلمة تحديدها الآن، إذا أصبح واضحاً في ذهني، وعرضته عليكم فأنا أشكر كثيراً سلفاً ذاك الذي يستطيع أن يوسّع لي أو يضيق لي هذا المفهوم الذي أطلقته على التراث.
السؤال الثاني الذي أطرحه الآن، أما وأن الموضوع، التراث، قد عُرّف، فيبقى: هل لدينا تراث فعلاً؟... وأقول: بدون أدنى شك !.. لدينا تراث لا يبدأ مع الإسلام وإنما يبدأ مع الجاهلية... وعندما أنظر مثلاً إلى اللغة العربية التي كانت تتتكلّم ويُتكلم بها في أثناء العصر الجاهلي، ثم انتقلت مع الإسلام إلى العرب المسلمين... أيضاً هذه اللغة، بدون شك قطعة من التراث، لكنها تمتد إلى ما قبل الإسلام. ولكن الإسلام تبناها وخصوصاً عندما نزل القرآن وأصبح سندها الأساسي. هذا النوع من التراث قد اغتنى، وابتداء من سنة 140 هـ أصبح يسجل يعني الأحاديث والتاريخ والوقائع، أي أن التراث أصبح يسجل في كتب، كما يقول السيرافي. من قبل كان ذلك شفهياً، لكن منذ ذلك التاريخ، منذ العام 140هـ، أصبح التراث يكتب... وظل يغنى وكما تعلمون أن العباسيين عملوا للإرتقاء بالثقافة ويضرب بالمأمون المثل على أنه من أبرز العاملين في دفع الثقافة إلى الأمام، في دفع الفكر إلى الأمام. وليس عبثاً أن الفلاسفة ظهروا في ذلك العهد، وأن المعتزلة أيضاً أنهم ظهروا في ذلك العهد. وأن مجموعة كبيرة من المذاهب الدينية، أو الأصح كل المذاهب، كانت في القرن السادس الهجري قد تمّت، وكانت المعارك بينها أشد بكثير مما هي الآن... الآن من الصعب أن نقول هنالك صراع بين مذهب حنفي ومذهب شافعي... ولكن لو رجعتم إلى التاريخ لوجدتم أنه كان بين الشافعية والأحناف، حتى حروب... وحتى أنه قد خربت كثير من القرى والدساكر... وأضمحل ما فيها من الناس، يعني خربت خراباً حقيقياً. هذا بين الشافعية والأحناف. أما بين الدين الإسلامي كمجموعة، كسنة وشيعة، فقد قامت حروب كبيرة، أو على الأقل صراعات كبيرة، إلاّ أنها تبدو الآن ساكنة وأصبح كل منّا يتحمل الآخر، بغير معاناة جدّية، ولو أن ذلك يبدو شرخاً في الإسلام، لكنه أيضاً شرخ تماثل في الظهور في كل الأجيال السابقة. وأظن أن اليهود الذين لا أعرف عنهم شيئاً، واضح جداً ولا بدّ أنهم أيضاً منقسمون إلى مذاهب شتّى كما هو شأن كل العقائد، زمنية أو كانت دينية.
هذا النوع من التراث اغتنى، في أيام العباسيين ولأمر ما وفي يوم من الأيام، بدأ يضمحل، من يؤرخ لهذا الإضمحلال!... طبعاً أصبحت المودة الدارجة، أو أصبحت "الدرجة" كما نقول الآن في سوريا، هي أن نقول كل ما يقوله المستشرقون فهو أميل إلى الموضوعية وأفضل صحة واستناداً على مثل هذه الموضوعية أقول إن المستشرقين الأوروبيين يؤرخون لهذا الانعطاف في المدّ الثقافي في القرن الخامس الهجري. وفي عام 1956 عقد مؤتمر مهم جداً ولكنه لم يتكرر ضم مجموعة من المستشرقين في "بوردو" في فرنسا في حزيران... ودام حوالي اسبوع... ونشرت أبحاثه في كتاب في جزأين بعنوان le classidime calturel et le decline de l’isliam، وكان موضوعه هو البحث في التخلف ومن المستشرقين الذين قرأت مواضيعهم: مستشرق أسمه Hartmer هارتنر، الذي كتب يقول: "إن هذا النشاط العلمي بلغ أوجه في العام 1000م، أي في العام الذي تم فيه نشر كتاب من أروع كتب تاريخ العلم، ألفه ألبيردي، الذي كان عمره يومئذ 27 عاماً. ولكن علينا أيضاً، إذا نحن تركنا ألبيردي جانباً، أنه نشير إلى عبقريات من أكبر ما وجد من نوعها في التاريخ، كابن سينا، وابن الهيثم، وعمر الخيام، وأمثالهم ممن عاشوا في المغرب (...) لكن هذا لا يعني أن النشاط العلمي توقف نهائياً، ذلك أن جابر بن الأفلح (مات عام 1150) كتب كتاباً حول علم الحصينة (الفلك) إن لم يكن في مستوى من سبقه، فإنه تميّز، مع ذلك، بتحرره من تراث علم الفلك. ووجدت بعده أسماء لامعة أخرى، مثل نور الدين البتروجي من أشبيلية. غير أنها تعلن على ضخامتها، أن الإنحطاط من الماضي قد بدأ".
إذن المستشرقون، مجمعون تقريباً على مثل هذا الرأي. وبالفعل يتابعهم في هذا الرأي "بلاشير": "لم حال العالم الإسلامي، في بداية القرن العاشر الميلادي، والرابع الهجري، إلاّ لتذكرنا، من بعض الوجوه مجال النصرانية [...] وفي الحين الذي كان فيه النظام الإقطاعي آخذاً في الاستقرار نهائياً، في كل مكان من أوروبا، كانت الخلافة في بغداد، تشير هي أيضاً إلى تفكك تام ونهائي". ويعود بلاشير بعد ذلك إلى الكلام في الموضوع نفسه، عندما يقول: " بين التضاد المدهش، والكثير الحدوث في التاريخ، مع ذلك، أنه في اللحظة التي كان فيها سلطان العباسيين آخذاً في الزوال، وحين كانت القرمطية تحرّض طبقات الشعب الدنيا على الثورة. كانت الفعالية الفكرية والفنية، ما تزال متألقة جداً في الشرق".
يقول في الصفحة الأولى عن الكتاب: عاش المتنبي في القرن الرابع الهجري، يعني عندما بدأ الإنحطاط العربي ولكن هذا الإنحطاط، رغم بدئه، لم يكن سبباً لتوقف النشاط العلمي العنيف ويمكن أن نعد هذا مفارقة، ولكنها مفارقة كثيرة الحدوث في التاريخ. ولم يكن هذا أمراً خاصاً بالعرب وبالمسلمين بل تجاوزهم وكثيراً ما كانت حضارة ما تبثّ ما لديها وتتابع نشاطها حتى بعد انقضاء عنفها وقوتها السياسية مثال ذلك اليونان وروما. لقد أختلت روما واليونان، وأصبحت اليونان بلداً لاحقاً وكان من المفروض مع هذا النوع من الأفول للنجم اليوناني أن يتبدد ما هو فكر فلسفي يوناني. ولكن ما حصل بالفعل هو أن الرومانيين استعمروا اليونانيين أرضاً ولكن اليونانيين استعمروا الرومانيين عقلاً... وربما تكرر هذا أيضاً في تاريخنا نحن، وعلى الرغم من أن نجمنا أفل يوماً ما فإن التفكير العربي ظل سائداً في البلاد التي لم نحكمها. وأصبحوا يترجمون عنّا، كما ترجمنا نحن عن الأغارقة وكما سيترجمون هم عن التراث العربي بكتبه المختلفة، ولا سيما مثلاً، عن الذين عاشوا في المغرب، ولكن ابن سينا لم يكن غريباً عنهم.
أما أنا فأعتقد بأن التراث بدأ يضمحل في عهد المعتصم، عندما وجد المعتصم أن من الضروري أن ينشئ جيشاً قوامه الترك وذلك لكثرة ما كان يحدث من خلافات من القادة العرب. ووجد أن الأتراك مطيعون جداً وبالتالي لا يخشى منهم على ملكه كما لو كان التنازع قائماً بين العرب، فجاء بالأتراك. ومنذ ذلك الحين، أخذ هؤلاء يعبثون بمصالح الدولة العباسية وانتهوا إلى انقراض كما تعرفون، وأصبح الدولة العربية إسماً بلا مسمى. وفقد العرب وجودهم السياسي ولأول مرة في ما أظن، ذهب المستعْمِر في المستعمَر أو الفاتح بالمفتوح، وكأن الأمور قد انعكست فبدلاً من أن نكون نحن السادة، صار الموالي هم السادة. ولكن على مدة طويلة جداً، بدأت من المعتصم ولم أدر إذا كانت قد انتهت الآن أم لا... ولكن على كل حال ظاهرة غريبة جداً وشخصياً أميل في ما أسميه أيديولوجية الخاصة، أي الاعتقاد بأن البقاء العربي مرهون بأن تكون لك دولة عربية، وأن هؤلاء الذين نسميهم عرباً يجب أن تكون لهم السيادة على أنفسهم. أي أن يكون الحكام منهم وفيهم.
المهم، إن صح كلام المستشرقين أم صح كلامي، فالنتائج بنيت في المستقبل بأن هذا الهبوط في التراث، في الإغناء الثقافي، كان واضحاً جداً فإن لم يكن في القرن الثالث فليكن في القرن الرابع، أو ما بعده... وأكيد أنه بعد القرن الخامس الهجري أصبح الإنحطاط واضحاً جداً جداً. وعندما جاء العثمانيون وعاشوا بيننا... وأنا لا أذكر أن عالماً عثمانياً بصورة ما قد نبغ... ربما يكون قد نبغ بعض الأدباء، بعض الشعراء... ربما كانت كتبنا تعم الموضوع نوعاً ما، ولكن لا أذكر أن نابغة ما قد وجدت في العالم العربي والإسلامي من بين الأتراك، أما الآن فالبرغم من كل المثبطات والأسباب الداعية للإنحطاط الثقافي، فإني أجد مقدمات تلوح بالحداثة. وألاحظ بسرور كبير عندما أقرأ أبحاثاً يكتبها كتّابنا في كثير من المجلات العربية أو غير العربية، أرى أنهم تملكوا بالفعل طرائق البحث، على الأقل في العلوم الإنسانية. وأما العلوم الأخرى، فسيأتي حديثها في مكان آخر وسوف نرى أن طلائع التفكير العلمي بادية، ليس الآن ولكن من مدة غير طويلة وإنما تمضي إلى الأمام بخطى وئيدة جداً، نحن في المكارم لا نزال نتقدم بخطى بطيئة. ولكننا في الإنحطاط تقدمنا دائماً بسرعة عجيبة، لا أدري لما هذا التباين...
المهم الآن، بعد الذي قلناه، أن ننتقل إلى الحداثة. الحداثة بالفعل هي الموضوع الأول. ما علاقة هذا التراث بالحداثة، أو ما علاقة الفكر العربي القائم الآن، بمعنى التراث إذا شئتم، العلمي والأدبي، ما علاقة هذا بالحداثة، وعندي مباشرة أن الحداثة تنقسم إلى قسمين: فإما هي حداثة جزئية كحركة "المودرنسم" modernêsme مثلاً الإسبانية، التي كانت مظاهرها الكبرى، بين شعراء كتبوا باللغة الإسبانية لكن في أميركا اللاتينية، وأثرت هذه الحركة الحداثية، إذا ضمت هذه النسبة، أثرت في أكثر من جيل وكانت تسمي نفسها الحداثة وتعني بذلك أنها تريد أن تكون ثورة على طريق الكلام وعلى مضمون الكلام. طبعاً تبددت هذه الحركة ولم يكن لها إلاّ صدى تاريخي. أي أنه علمنا أنه كان هناك حركة حداثة في إسبانيا وفي أميركا اللاتينية.
ولكن الحداثة الأخرى التي أصفها بأنها كلية، هي الحداثة الحقيقية التي تمتد جذورها إلى أبعد بكثير من الحداثة الفرعية هذه. وأعتقد بأنها تبدأ مع القرن الرابع عشر الميلادي... وإذا عدنا إلى الموسوعة emarlisme، نلاحظ أن الحداثة بدأت في القرن الرابع عشر. عندما أخذت بعض المبتكرات الصغيرة، مثلاً كطاحونة الهواء أو كوجود أدوات أخرى للزراعة، تحسن المردود الزراعي، ثم جاء دور طبعاً الإصلاح الديني، ثم جاء ديكارت، بسكال، جاليلي... وأغني العلم باكتشافاتهم وسنوا تقاليد كان من حسن حظ الإنسانية أنها تتابعت وأنشأت العلوم التي نعتبر أنها هي الحداثة الآن، بما يواكبها طبعاً ثقافة إنسانية كالفلسفة وكالآداب...
هذه الحركة أقول أنها كلية لأسباب عدة أولاً بدأت حتى تقريباً الوقت الذي تمّ فيه العهد، عهد الإستردادا، يعني عندما حاول الإسبانيون طرد العرب من بلادهم. وسقوط غرناطة عام 1492، الغريب فعلاً، أنه قبل استرداد غرناطة ذهب كيستوف كولومبس ليبحث عن طريق إلى الهند من الغرب... وعلى الرغم من أنه لم يفكر إطلاقاً بأن يعثر على شيء آخر غير الهند، ليختصر الطريق، وجد نفسه أمام إكتشافات أخرى، لم يستهدفها. وهذا يذكرني بكلام جميل جداً للغزالي الذي يقول: إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتطلعوا إليها... يعني الذي يريد مثلاً أعلى معيناً، أثناء طريقه إلى هذا المثل الأعلى، يكتشف إكتشافات جانبية ليست في خاطره ولكنها تمرّ بالطريق... فيكتشفها بالصدفة أو رغماً عنه... ولكن هو عازم على الإكتشاف أصلاً، هو يريد شيئاً، يريد هدفاً... مثال ذلك [أنظر النص حول إكتشاف البرتغال وغيرهم ص 6].
إذن، حركة الإكتشافات الجغرافية الكبرى، هذه واحدة، حركة التجارة (أنظر ص 6) 1 ) حركة إكتشاف جغرافي 2 ) حركة نموّ علمي 3 ) حركة إصلاح ديني 4 ) حركة تجارية عالمية ـ أصبحت ألول عالمية بشكل واسع ـ مركزها أوروبا ـ
إذن، من هنا أقول أن الحداثة الكلية هي حركة جامعة، لها جوانب شتّى ومنها أيضاً هذه الحركات التي عددتها، وانضاف إليها بالضرورة، مع الإكتشافات العلمية، أدب جديد وفلسفة جديدة، ويعني كل ما يمكن أن يسمه الإنسان بمختلف إمكاناته، تفتح كاملاً منذ عهد النهضة حتى الآن. منذ مدة قليلة بدأت أترجم كتاباً فلسفياً بعنوان "السلطات الجديدة" "توكلر"، وهو كاتب أميركي... الصادر 1990... فإذ وجدت أنه ترجم إلى عشر لغات منها الكورية... وهو يقول: أنه يوجد في العالم ثلاثة أدوار: الدور الأول وهو الزراعي ويهمل ما قبله والدور الثاني يسميه الدور المصنعي héricale cuisinière والدور الثالث هو الدور الإعلامي أو المعلوماتي الذي نحن فيه فطالما كان الناس في الطور الزراعي، أي أنهم في حالة جمود والثقافة في حالة جمود جملة، إلاّ في منطقة عربية وكانت ناشطة بالدرجة الأولى في مجال العلوم الإنسانية، ولو أنهم لم يقصروا، على ما أعلم في ناحية العلوم، لكن وسائلهم لم تكن كافية لمكتشفات جدّية. قرأت كتاب الذي أصدره الرأليسكو العربي، يعني الأونيسكو العربي، عن الرازي، يقول فيه، كان لا يمكن للرازي أن يتخطى المستوى الذي وصل إليه، بسبب أن علوم الفيزياء والكيمياء، لم تكن نامية بحيث تساعده إكتشافات أكبر.
الخلاصة، كيف أعرّف الحداثة التي بدأت بكل هذه الحركة: أنا أعرفها أولاً بتغيّر كبير، أما جانبي فيكون أره محدوداً، وإما بحركة كلية شاملة وعندئذ يكون التغيير تغييراً كلياً. ثانياً أعرفها بأنه تغيّر لمصلحة الإنسان... يعني يخفف عند الإعياء ويسهل عليه الحياة ويرفع من مستوى معيشته، أحياناً يرفه قيمه ايضاً. ثالثاً يشد الإنسان إلى المستقبل، بدلاً من شده إلى الماضي. يعني كنّا نضع مثلنا الأعلى في الماضي، وثقوا أكثر الآن في البلاد العربية، أضع مثلها الأعلى في الماضي... إذن: تغيّر كبير يعمل من أجل الإنسان ويرقى جملة ويشق طريقاً إلى المستقبل، ويركز أنظار الناس عليه ولكنه أيضاً يحاط بجوّ من التفاؤل... يعني لا يوجد حداثة إلاّ ومعها تفاؤل، يستمع معه الإنسان منذ عهد كوبرناك حتى الآن بأن المستقبل سيكون أفضل من الماضي، بالرغم من أننا سنصاب بنكسات من هذا النوع أو الآخر، ولكنه هناك ثقة بأن الإنسان قادر على أن يفعل شيئاً أعظم مما فعله في الماضي.
الآن ما هو موقف ثقافتنا، نحن، العربية من هذه الحداثة؟!... أما شعوري أنا فإن الفجوة عميقة جداً، ومن الصعب تجاوزها كأجزاء. يعني أن الأمة العربية قادرة ربما على تجاوز محنتها التي هو فيها الآن.. أي على تجاوز بعدها عن الحداثة، إذا هي لمّت الصفوف وجمّعت الإمكانات... أما بدون ذلك، فعندي أنه لا مجال إطلاقاً من انطلاق العرب في عالم الحداثة.
ما هي العراقيل؟... العراقيل أن العالم، اليوناني سابقاً، قد مات وبقيت حضارته مكثفة ومجمدة في كتب استطعنا أن نترجمها. أما الآن فينشر في كل عام، مثلاً في فرنسا ما يعادل 64000 كتاباً، ولقد صدر كتاب صغير من 600 صفحة يذكر فيه جميع عناوين الكتب التي صدرت. وفي أميركا، فإنه يصدر أكثر من 70000 كتاباً في العام. إذن، هذا الفيض الهائل والمدعوم بإنفاق عظيم جداً على الثقافة: مثلاً أميركا تنفق ما يعادل 2.9% من الدخل القومي أي ما يبلغ 163.389 مليار دولار سنوياً. [ينفق على البحث العلمي والتنمية (أنظر الأرقام تفصيلاً في النص ص 9].
2.3% إلى 2.9%، من الدخول القومية، من أجل التنمية ومن أجل البحث العلمي والثقافة، إذن، كثرة الإنتاج لها قيمة، ورهيبة، كثرة الكتب وكمياتها التي تصدر، تملك ما يرد إلينا منها، صعوبة أن نشتري نحن هذه الكتب، صعوبة أن نحصل عليها... كل هذه أسباب يحول بينها وبين أن ندخل بالفعل في التيار (الحركة) الذي نسميه التيار الحداثة... والتالي، أتساءل إذا ظللنا كما نحن، من الصعب جداً أن ندخل في التيار الحداثة، فنحن بعيدون جداً عنه... فلا بدّ من الوحدة العربية حتى نصل، حتى يمكن أن نصل، هذا شرط... ولكن الآن يمكن أن نصل أم لا؟... هذا يمكن أن يكون بحسب نوع الوحدة بيننا، بحسب الشروط الأخرى التي نعيش فيها...
لكن لا يكفي هذا، لنقل أيضاً، وهذه أيضاً كلمات قليلة نقولها في الموضوع على كل حال، صدقة ما فيه ـ نقول إن هناك معوّقات أخرى، ما عدا بعض دول العرب مثلاً الكويت من جهة، والتي هي الآن لا تعد أكثر من 400000 نسمة، منهم بهوية ومنهم بدون هويّة، الأمارات العربية، هذه وتلك نربح بحدود 12000 دولار متوسط الدخل الفردي، ولكن طبعاً ليس من جهدهم، وإنما من دخل البترول لا أكثر ولا أقل، نعمة من الله، هدية... إلاّ أن إسبانبا وهي أفقر بلاد السوق الأوروبية المشتركة، تربح بالنسبة لها، أكثر من 1000 دولار في السنة، وما عدا دول البترول، نقول السعودية إلى مستوى 6000 دولار... يعني نصف إسبانيا، من مستوى أفقر البلاد الأوروبية.. ما عداها، سوريا، مصر.. طبعاً هذه بلاد متخلفة، ولكن أنه لا يمكننا الحصول على معلومات دقيقة عنها، وأنا أعتقد بأن سورية ومصر لا تبلغان كمتوسط الدخل الفردي، مصر 500 دولار، وسوريا 1000 دولار، وأعتقد أن الكمية أقل.. فيما عدا ذلك، تونس تصل إلى 1000 دولار، والمغرب 800 دولار، إنما يبدو لي أن الدول العربية كلها، مقصرة مالياً وكموارد عند الدخول أيضاً في رحاب الحداثة.
يضاف إلى ذلك ما أسميه أنا بالنجاح في النشاط العلمي: أنطوان زحلان، رجل هام، باحث جيداً جداً، أكتب مقالاً في مجلة المستقبل ثم جمع مع مقالات متشابهة في كتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية بيروت تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي. هذا الرجل يبين كيف أننا ... العرب جميعاً من أولهم إلى آخرهم أنتجوا في عام 1983، 2466 بحثاً، في حين أن اليهود قدموا 4600 بحثاً... ما هي الأبحاث: يُقاس النشاط العلمي برأي هؤلاء، ليس هو الأول من نوعه، قبله اتبعت هذا، الطريقة، ماذا ينشر من الأبحاث في المجلات المعترف بها عالمياً، والتي لها مستشارون، فلا تنشر إلاّ ما هو بحث جدي فقط...
إسرائيل 4 ملايين والعرب في حدود 200 مليون، هذا يبدو بدون شك مع ضعف الموارد أو بسبب ضعف الموارد عاملاً من عوامل التخلف عن الحداثة.
هل معنى هذا بأننا غير قادرين، على أن نبلغ الحداثة؟... يمكن أن نبلغ الحداثة إذا اتحدنا، والبرهان على ذلك أن أموالنا، بالرغم من ضئالتها لكننا أفضل من الهند، وتقريباً بقدر الصين، ونحن نعرف أن الهند على فقرها والصين على فقرها، تستوليان معاً على كل أسرار العلم الحالية. لا يمكنها أن تستثمر كل موارد العلم، ولكنها تملكه. هل هي في عصر الحداثة!!... أما نحن فخارج الحداثة وما ظللنا وما بقينا متأخرين، قليلي الموارد، ضعيفي الوحدة، فلا مجال إلاّ أن نكون نحن غرباء عن الحداثة. صحيح أن هناك بوادر، ولكن هذه البوادر محلية، جزئية، على قوتها، لا تبشر إلاّ بشارة صغرى. لكي تنتج عملاً ما يجب أن نتحد. بدون ذلك لا يمكن القول، بأنه يمكننا أن ندخل باب الحداثة وهكذا يقول بعضهم إن الوحدة حتمية، لا بمعنى أنها ستنفذ، رغماً عن أي شيء، لا!.. ستنفذ إلى عرف العرب إن شرط نموهم وشرط دخولهم على الحداثة. وإلاّ فهم خارج التاريخ، لا بالنسبة للحداثة الجديدة ولكن حتى بالنسبة للتراث.
التراث العربي أراه أيضاً مقطوعاً عن الأجيال العربية، والذين يطلعون عليه لا يطلعون إلاّ على القليل القليل... وعندنا لغة، وحدها، عبارة عن جوهرة مكنونة جداً، لا أكثر ولا أعلى من قيمتها وصفائها، ومع ذلك أكثر الناس، وحتى الكتّاب وحتى أنا، تختل أو نخجل الكتابة فيها...
إدارة الجلسة: شكراً أستاذ حافظ لهذا العرض القيم والهام ولهذه المعلومات الغزيرة والتي تدل على سعة إطلاع الأستاذ حافظ... الكلمة الآن إلى الصديق الأستاذ علي عقلة عرسان يحدثنا كذلك عن الفكر العربي المعاصر بين التواصل والإنقطاع...
الأستاذ علي عقلة عرسان:
شكراً جزيلاً لكم، وشكراً جزيلاً لصيدا التي تعيدني إلى ذكريات بلدي صيدا... بين يدي هذا الموضوع أحب أن أشير إلى النقاط التالية: أولاً، إن دوائر الإتصال والإنقطاع الفكري خاصة والثقافي عامة، اتسعت الآن اتساعاً كبيراً وهي اتساع مستمر بالنسبة للعربي، لأنها إتصال مع التراث والموروث في الحضارات العربية القديمة، الألف الخامس قبل الميلاد، وفي ما يستجد منها، أتصال بموروث وتراث الجاهلية ثم الإسلام، إتصال مع الثقافة الأوروبية بمركزيتها، الإتجاه الغربي منها، والإتجاه الذي كان يسمى شرقياً إشتراكياً... وإتصال بالثقافة والتقدم التقني في أميركا عن طريق وسائل الإتصال، وإتصال بأميركا اللاتينية وبالشرق الذي انفتحنا عليه: اليابان أو الصين. ولذلك فإن عملية الإتصال وما تستدعيه من عملية إتصال وإنقطاع، عملية واسعة جداً، يكاد المرأ يتخطفه برق وهو يحاول أن يجمع بين القطع والوصل.
سوف أركز هنا على مقطع من هذا، وتقيداً بالموضوع المطروح، الثقافة العربية المعاصرة... ولكن لا أجد أن هناك إمكاناً لحصر الحديث في هذه الزاوية بالذات أو في هذا المقطع بالذات دون التواصل في هذه التقدمة مع الفكر العربي الحديث. منذ حملة نابليون بونابرت على مصر 1798، والأمة العربية التي كانت شبه ممزقة الصف داخلياً، ممزقة الولاء فعلياً بين حكام الولايات والباب العالي، منذ ذلك الوقت تقريباً وهي موزعة في إجتهادها لمواجهة تحديات القوة والتقدم والتفوق العلمي، على الخصوص، في منحيين رئيسين، تتفرع عنهما سبل كثيرة، متخذة لذلك حججاً وأسباباً في اتباعها، وابتداعها، ولكنها لا تكاد تخرج في منابعها ومصبّاتها عن منابع ذينك المنحيين الرئيسين في حركة تطوق واضحة، لإستعادة المكانة بأصالة وممارسة الأصالة بحضور عصري... ولم يغب عن أي سلك من السالكين، في تلك السبل، تنازع ناشئ عن ما يحمله كل من الإنقطاع والتواصل مع الذات والآخر، مع الماضي والحاضر، مع الأصالة والمعاصرة، الغياب والحضور، من مؤثرات وموثبات ومعطيات. والمنحيان اللذان أرى إليهما مع شيء من المجاوزة والتجريد هما منحى يرى ضرورة الأخذ بالجديد الذي تحمله القوة الأوروبية الغازية المتفوّقة بكل ما يمثله ذلد الجديد ويتطلبه تحقيقه من تجرد وتحرر [حتى ربع الشريط رقم 6...]
إدارة الندوة:... شكراً أستاذ علي لهذه القيمة والعميقة والكلمة الآن للدكتور كتورة..
د. جورج كتورة :
تطرح فكرة التواصل والإنقطاع إشكالية واضحة في فهمنا لكل الموضوعات القابلة للدراسة بشكل أكاديمي أو بشكل اجتماعي هادف، أعني بذلك توظيف الفكر أياً كان بفرض الإستفادة منه في إحداث تغيير ما. وفكرة التواصل والإنقطاع تظل مطروحة في كل مرة نجد أنفسنا فيها أمام الحائط المسدود، أي في كل مرة نسأل أنفسنا فيها أين نحن؟!... ما هو موقفنا من العالم الذي نحيا وسطه، أو أين موقفنا من عالم عاش فيه أباء وأجداد لنا. وبالتالي، فإننا لا نطرح على أنفسنا إلاّ أسئلة مأساوية الطابع. ففي طرحنا لها من الأساس، إعتقاد بوجود استمرارية نعلم يقيناً أننا لا نعيشها، أو إنقطاعاً لسنا نعرف كيف نتجاوزه. وقبل أن أسأل نفسي عن تصوّر للإجابة عن موقع الفكر العربي المعاصر بين تواصل وإنقطاع، أريد أن أطرح سؤالاً بديلاً، فهل يُطرح مثل هذا الموضوع على الفكر غير العربي؟... الأوروبي أو الصيني على سبيل المثال، علماً أنّ دراساتنا جميعاً قد حدثتنا عن مراحل وعن عصور متعاقبة متتالية، كل الأدب فيها ينتقل من مرحلة إلى أخرى انتقالاً هيّناً، من نهضة إلى عصر كلاسيكي إلى عصر التنوير فإلى العصور الحديثة. وما يُقال في الأدب قيل مثله في الفلسفة، فكانت مثالية في الفكر أعقبتها واقعيّة هي بمثابة ردّة فعل على الأولى.وبالإنتقال إلى الغرب من عصر وسيط تأثر بالعقلانية الرشديّة، شاء ذلك أم أبى، ثم إلى شك منهجي، كان فاتحة تفكّر فلسفي أنتج ما نعلم فيما بعد من هزّات في الفكر كان لها تأثيرها الذي أوجد أنظمة ليست فلسفية وحسب بل أنظمة سياسية واقتصادية. لقد أوجد أنماطَ حياة جديدة صار سؤال معها عن التواصل والإنقطاع أمراً لا بدّ من تجاوزه فحلّ نظام مكان نظام واستمرت الحياة وظلّ الفكر إطاراً يرعاها ويمدها بسبل جديدة وبرعاية جديدة متجددة. لا يعني ذلك أن الحديث قد انعدم عن تواصل وانقطاع وإن اتخذ أشكالاً مختلفة. فالحديث عن قطيعة في العلم أو في المعرفة ظلّ هاجس العلماء والفلاسفة على السواء وهو ما زال إلى اليوم شغلاً شاغلاً، من باشلار وأنشتاين إلى كانط وهيجل وفوكو. ومع ذلك فإن للتساؤل عن معنى التواصل والإنقطاع في فكرنا العربي المعاصر نكهة أخرى وأعتذر سلفاً عن استخدامي لكلمة بنكهة فأنا لا أقصد التخفيف من حدّة المعركة المطروحة. ولكن الفكر الذي يبحث في أزمته لا بدّ له أن يتجاوزها. وإلاّ كان مجرد وصاف لأشكال لا يعي من مراحل تعينها إلاّ ظهورها بهذا الشكل أو ذلك.
وقبل أن أحاول البخث في هذه الأزمة في فكر عصر النهضة، لا بدّ أن أستعيد بعض العبر من الماضي. وسأحاول قلب الإجابة رأساً على عقب إنطلاقاً من مقولة إن الفكر هو البناء الفوضي الذي يترتب عن أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية، إلخ... من هذا المنطلق أرى أن العودة إلى تكون الخلافة في الإسلام قد تساعدنا على تلمس بعض النقاط باعتبار أن هذه الخلافة قد سارت جزءاً من التاريخ الذي توقف عنده الجميع وأعني بهم الصحابة وأهل الحل والعقد والمؤرخون الخاصة والعامة، أي كل الناس، كل من منطلقه ومن موقعه. وإذا كانت خلافة الرسول قد طرحت منذ وفاته أزمة سياسية أمكن على الدوام تجاوزها أحياناً بالقبول بالأمر الواقع وأحياناً بانتظار تحقق شروط أفضل وأحياناً أخرى بالمعارضة السياسية والعسكرية والفكرية. فإني أتساءل مسبقاً أين كان التواصل والإنقطاع. في الحدث ما هو موقع الخلافة الأموية من ذلك، وما هو موقع الخوارج. أريد التوقف عند هذه الفرصة الأخيرة التي دعت إلى التواصل مع النصّ لقولها بعدم قبول التحكيم، إذ لا حكم للبشر في أمر يكون الرجوع فيه إلى النصّ. وقد عبّرت عن ذلك في مواقفها العلنية وتصرفاتها وسلوكها وفي مواقفها السياسية المعلنة والمستورة. وقد عكس فكر الخوارج أو حاول أن يعكس هذا التواصل مع النصّ، ومع ذلك فهل كان فكر الخوارج إنقطاعاً وخروجاً أم إتصالاً وتواصلاً إني أترك الإجابة مع قناعتي بأن لا سبيل للإجابة إلاّ بأحد شكلين. بالنسبة للخوارج كان فكرهم تواصلاً إذ اعتبروا أنهم باحتكامهم إلى النصّ وهو القرآن الكريم وعدم القبول إلاّ به حكماً إنما كانوا يريدون التواصل مع ما كان ثابتاً. بالنسبة للغير شكل الخوارج إنقطاعاً تجب مقاتلتهم ونعلم بعد ذلك من التاريخ ما كان. وبرغم البراءة الساذجة التي توحي بها إجابتي أريد أن أقدم معلماً آخر يرتبط بالحقبة عينها وبالحدث إياه. التحكيم. التحكيم تحمل الخوراج نتائجه علماً أن جند معاوية وبإشارة منه هم الذين رفعوا المصاحف داعين إلى تحكيم النصّ أي الإرتباط بالثابت وعدم قبول الإنقطاع.
سأنتقل بسرعة إلى حقبة أخرى متجاوزاً كل الصراع الأموي والشيعي اللاحق مع ما أوجد من فكر سار في أكثر من اتجاه تاركاً أمر تصوره متواصلاً مع ما سبقه أو منقطعاً عنه لاختار نماذج أخرى.
عندما وضع مصنفوا الفرق كتبهم من الشهر ستاني إلى البغدادي والأشعري كان الهم الطاغي إظهار الفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة وكلنا يعلم عددها.
هذا ما توحي به مقدمات المؤلفات التي وضعها بعض مؤرخي الفرق ومنهم من ذكرنا. إلاّ أن مطالعة أكثر عمقاً سرعان ما ستوحي لنا بالفكرة التي نطرحها للمعالجة. التواصل والإنقطاع. فأيا كان خيار أصحاب الفرق ألا يعني تأريخهم للفرق المتعددة والبحث عن الفرقة الناجية بحثاً عن الفرقة التي تواصلت بفكرها مع النصّ ومع التراث ومع الأحوال السائدة أو مع التصوّر الاجتماعي والديني والسياسي الأنجع والأحمد، ثم مهما كانت النتيجة التي توصل إليها مؤرخو الفرق وما أظن تأريخهم إلاّ تأريخاً للفكر في تلك الحقبة فهل كانت نتائجهم تعني إلغاء الفكر الآخر. بعبارات أخرى هل يلغي المؤرخ المتعاطف مع الأشاعرة فكر أهل الإعتزال لفترات طويلة الفكر المتواصل مع عصره والمحاول بما ملك من قدرة على التفسير والتأويل الاحتفاظ بقدرته على التعاطي مع النصّ والتواصل مع الماضي والتكيف مع الحاضر.
أما البحث في الفكر العربي المعاصر وبعد هذا التقديم البعيد عن الموضوع فهو يعني الفكر الذي ظهر في ما نطلق على عصر النهضة. والتسمية بحد ذاتها قد توحي بالإنقطاع رغم أنها تحاول التخلص بلباقة مما يسمى بعصر الإنحطاط وبالتالي من الإنقطاع الذي شهده هذا العصر إذ شكل بنظر الدارسين معظمهم إن لم يكن جميعهم ابتعاداً عن استمرارية الفكر بتمثلاته المتعددة من أدب وفن وفلسفة. وهكذا نجد أنفسنا شئنا أم أبينا أمام إنقطاع مركب. إنقطاع تسبب به الإنحطاط وإنقطاع تريده النهضة ابتعاداً عن الإنحطاط. وإرادة تواصل مع ما كان فيما قبل ذلك انسياقاً مع إرادة الفكر الذي يريد تجاوز الأزمة التي يجد نفسه فيها. مع علمي الأكيد أن الموضوع المطروح لا يتناول هذا الجانب أو هو لا يتناوله وحده.
يعود البحث في فكر عصر النهضة إلى البحث في الطرق الواجب اعتمادها للخروج من الإنحطاط الذي اشتد الوعي به في هذا العصر لا بسبب ضعف السلطة العثمانية وحسب، بل بسبب المقارنة الواضحة التي قام بها هذا الفكر عبر إعلامه على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم مع الغرب إذ تبين له مدى اتساع الهوّة بين الأحوال التي يعيشها والأحوال التي تجددت في الغرب وما رافقها من رقي ومن عمران طاول مجالات متعددة... فكان هذا الانبهار سبباً سرعان ما تفاعل ليوصل إلى البحث في أنجع السبل الكفيلة باللحاق بالضرب المتقدم. إن البحث الذي أراده هذا الفكر هو البحث في أسباب تخلف الشرق وتقدم الغرب وتالياً البحث في أنجع السبل المؤدية للخلاص من التخلف. لقد كان ذلك العنوان الخارجي أو الداخلي للعديد من مؤلفات هذا العصر.
إن لم يبدأ التاريخ لعصر النهضة مع الفترة التي ترافقت مع صعود نجم محمد علي باشا بالتحديد، فإنه بإمكاننا القول إن هذه الفترة قد ساعدت على إبراز هذه الأفكار بل ساهمت بإنضاجها. مع هذه المرحلة برز عاملان إثنان يرتبطان بها أو يتحددان بها. ظهور مدى ضعف السلطنة العثمانية التي تعرضت في فترات سابقة لأكثر من هزّة ـ في البلقان مثلاً ـ وهذا ما يعني مجدداً اهتزاز مقام السلطة التي كانت تعتبر بنظر عدد كبير من المفكرين بل والناس العاديين رمز الدولة الإسلامية واستمراريتها. أما العامل الآخر فهو بروز التدخل الأجنبي بأشكال مختلفة، احتلال مباشر لأكثر من رقعة في مشرق العالم العربي الإسلامي أو في المغرب أو في أماكن أخرى. والإحتلال هذا إن لم يكن مباشراً أي عسكرياً (مصر ـ نابليون) فقد كان احتلالاً غير مباشر في أجزاء متعددة فرض معاهدات تجارية وقنصلية ومنها ما فرض على الدولة العثمانية بالذات، وتعهد بالحماية للأقليات (كما في لبنان). وحيث لم يتخذ الإحتلال هذا الشكل أو ذلك فقد وجد الغرب طريقاً مختلفاً عن طريق التبشير مثلاً. صحيح أننا لسنا هنا لتقييم هذه الأحداث بسلبها وإيجابها. ولكن الأكيد فيها أنها قد أثرت سلباً وإيجاباً. وإذا ما توقفنا عند ما يهمنا هنا ليس أكثر فبإمكاننا القول أن ثمة وعياً مغايراً قد ظهر. ثمة علاقة جديدة قد برزت وهي العلاقة مع الغير ـ مع الأجنبي الأمر الذي فرض تقييم هذه العلاقة بشكل من الأشكال والراجح كما نعلم أن ثمة عدداً كبيراً من المفكرين قد مال إلى تقيمها بشكل إيجابي بل إيجابي جداً. أي أنه قد ذهب إلى حد التماهي مع الغير تاركاً كل خصوصية تتمتع بها بحيث لا يرى صورته المستقبلية إلاّ بهذا التغير ذاهباً إلى حد المناداة بالإنفصال عن جسم الدولة أو الأمة والمجموعة التي ينتمي إليها أو إلى تقطيع أوصال هذه الدولة ليجد لأفكاره تربة تنمو من ضمنها. صحيح أن هذه الأفكار لم تتولد من مجرد الإنبهار مما حمله الغرب وما أعلنه من قِيَم وحريات وما عاينه من تقدم ورقي فالثابت أيضاً أن ثمة عدداً من المفكرين ـ مفكري عصر النهضة قد درس في الغرب ـ ومنذ صعود نجم محمد علي باشا ـ في فرنسا وبريطانيا ـ وقبل ذلك وبعده في إيطاليا ـ ولم يخفِ هؤلاء إعجابهم وانبهارهم بالغرب. بل أن دعوتهم لمحاكاة الغرب كانت واضحة وهي لا تخف على أحد.
إلاّ أنه يجب علينا لا من باب إيجاد التبرير بل من أجل وعي المسألة وعياً تاريخاً صحيحاً ـ يجب علينا أن نضع هذا الفكر المنقطع إن صح القول في إطاره التاريخي الصحيح. من هذا المنطلق يجب أن نربط الفكر بالأوضاع السياسية السائدة ولحظاً من مقولة أشرت إليها آنفاً.
فالواقع الاجتماعي السائد الذي كانت تعيشه الدولة العثمانية قد أحل لهذا الفكر فكرة الإنفصال عن الواقع. إن شعور المواطن بعدم إنتمائه إلى دولة قوية تحفظ وجوده وتؤمن كافة حقوقه وترعى كافة واجباته لا بد وأن ينعكس سلباً على الفكر وأن يدفعه إلى تحقيق ذاته خارج محيطه أو إلى الإغتراب مع في ذلك من صدمة وابتعاد. إن المواطن الذي يبحث عن مستقبله ولا يرى أن حاضره كفيل بتأمين هذا المستقبل سيسعى حتماً للهروب إلى الأمام والإندفاع إلى التقليد حيث يعتقد أن بإمكانه تأمين ضالته وكفالة غده. وأظن أن الدولة العثمانية بما أصابها من فقدان القوة والتماسك والهيبة قد هيأت المجال فعلاً وإن برغم إرادتها للإبتعاد عنها والتوجه إلى المجال الذي أوحى بالقوة السياسية والتقنية والعلمية، إلخ... ومن هنا أفهم الإبتعاد عن الواقع والهروب إلى الأمام وقبول الغرب إن كان هذا هو الإنقطاع الذي نبحث عنه باعتباره محاولة لتخطي الواقع. والفهم لا يعني التبرير أو القبول بل محاولة لتفهم الواقع الذي فرز وهو يفرز دائماً إيجابه وسلبه. إن امتياز الغير لا يظهر إلاّ بالمقارنة مع ضعف الذات. وحين تقوى الذات ستطغى حتماً على كل ما عداها.
هنا لا بدّ من العودة مرة أخرى إلى الوراء. إن الأخذ عن فكر آخر غير الفكر السائد حادثة لها تاريخها حتى في الفكر العربي بالذات. والاستطراد وإن طال قليلاً فلن يكون مملاً. فمرة أخرى نعود إلى بواكير الفكر الفلسفي في الإسلام في محاولة تتبع بسيطة. فقد أخذ أهل الإعتزال ومن ثم الفلاسفة المسلمون أصولاً فلسفية ترجمت من فكر آخر. أو لنقل لقد استعمل هؤلاء فلسفة الغير وأضافوها إلى فكرهم باعتبارها جزءاً منه أو هم قد اعتبروا أنفسهم فعلاً أصحاب هذا الفكر الجديد بغض النظر عن أصله ومصدره. ما حدث كان تكييفاً ذكياً لفكر أثبت قدرته وقوته ومنفعته وسط فكر ناشئ باحث عن طرق علمية جديدة وعن منهجية جديدة عن نظرة جديدة للحياة بأشكالها وتمظهراتها المختلفة. وقد أنتج هذا التزاوج وعلى مدى قرون فكراً جديداً ظلّ هو الفكر السائد ولم يصطدم مع محيطه ليواجه بالقبول أو بالرفض إلاّ في الفترات الحرجة، أعني بذلك الفترات السياسية الحرجة. وأفهم ذلك بالمعنى الواسع للكلمة، أي حين يواجه الوضع السياسي الاجتماعي وضعاً حرجاً يدفع بالبناء الفوقي الفكر بأشكاله لإعادة نظر قسرية تكون على حساب الفكر لتستمر السياسة. ولو أعدنا النظر في كل ما سبق لتبين لنا أن الإعتزال قد انتهى، أو قد أحس بقرب نهايته حين بدأ التحول في الحكم العباسي بالذات. والفلسفة عبر العديد من ممثليها لم تهاجم إلاّ حين اضطربت السياسة اضطرابها الأشد. وحين صب الغزالي جام غضبه عليها كان الصليبيون قد احتلوا قسماً كبيراً من السواحل على المتوسط. وقد تكون هجمة الغزالي على الفلسفة مشابهة إلى حد ما لاتهامنا الفكر ـ أي فكر بالإنقطاع أي لاتهامنا له بعدم مواكبة المرحلة التاريخية التي يعيشها.
ولعل هذا هو البعد الذي يجب أن يبحث الفكر في إطاره. أعني بذلك البعد التاريخي أن دراسة الفكر أي فكر بعلاقة محدّدة بنصّ معيّن لن تبرز إلاّ الإنقطاع. فلا فكر يكمل النصّ فكيف إذا كان النصّ إلهياً. ما ينطبق على الإسلام ينطبق على المسيحية. وحين اعتبرت المسيحية نفسها نصاً في القرون الوسطى وإن كل فكر ظهر وعدته انقطاعاً حرمت صاحبه ولاحقته وأعدمته حتى رجل العلم لم يسلم من قدسية النصّ. أشير إلى غاليلي.
وهكذا حين يغيب البعد الثالث التاريخ أو الوضع التاريخي عن الفكر لا يعود ثمة حديث إلاّ عن تواصل أو إنقطاع ولا حلّ آخر. هذا في حين إن دراسة الفكر دراسة مجردة لذاته وحسب كما يقول الفلاسفة لن تكون إلاّ دراسة لماهية هذا الفكر. وإذ طبقنا ذلك على الفكر العربي المعاصر وهو فكر كان نتاج الثقافة الإسلامية فلن نجد إلاّ جواباً واحداً. فماهية الفكر إن تماهت مع الإسلام نصاً وسنة وتراثاً فثمة تواصل وإنقطاع. ولكن مثل هذا التفسير سيجنبنا الخوض في كل الأبعاد التاريخية التي تلتصق بالفكر وتكون عاملاً على انبعاثه وعلى تسويبه. ثم إن التماهي بين الفكر وبين هويته الثابتة سيحدد إطار الدراسة إلى حدّ كبير. ولن يكون الإجتهاد إلاّ تنويعاً في عزف مقطوعة واحدة. ولا أظن أن الفكر العربي وعلى مدى عصوره وعهوده قد كان كذلك. لقد استلهم روح النصّ والتراث الذي نشأ في أثره ثمّ شقّ طريقه وفتح باباً على الحدث. حتى مدية الفارابي برغم اقترابها من الفكر الأفلاطوني فهي لم تكن بعيدة عن تمنيات عصرها بتحسين ما ساء من أحوال مستجدة ومن فرقة ظلت تتسع وتشتد حتى حدث ما حدث وأصيبت الأمة في قلبها وضاع تراثها ليصبح معبراً من ضفة نهر إلى الضفة الأخرى.
دون أن يتفكر أحد بأسباب ما حدث إلى أن كال ابن خلدون ليطرح سؤاله الوحيد لماذا تتقلب أحوال الأمم وتزول الدول فتذهب الواحدة وتأتي الأخرى. نحن نعلم إن إجابة ابن خلدون لم تكن تواصلاً بقدر ما كانت إنقطاعاً. بمعنى آخر لقد أدخل ابن خلدون التاريخ إطاراً للإجابة فاتحاً بذلك مجال التأويل وفاتحاً للتراث العربي الإسلامي آفاقاً جديدة، لقد وضع الأحداث في إطارها وربطها بعصرها وبالظروف التي تعمل على ظهورها واندثارها وأياً كانت النتائج التي توصل إليها والأحكام التي نطلقها عليها، ونحن لا نقيمها حكماً إلاّ من موقع ما توصلنا إليه من أفكار حديثة، فإن المنهجية التي أوجدها ابن خلدون كانت جديدة كل الجدة وقد ظلت تجربته تجربة يتيمة. فمن أتى بعده. من ابن الأزرق حتى خير الدين التونسي لم يكن مقلداً. فضاعت التجربة ولم تستفد منها في خلق دولة لا تدول ترمن الفزة والمنفعة وتحمي أبناؤها وتمنحهم التقدم والرفاهية. وبعد، ماذا يطرح الآن من موضوعات. وكيف يمكن تجاوز السؤال؟...
أعرف إن الإجابة صعبة ولكن فكراً لا يتجاوز أزمته سيظل فكراً تردادياً يكرر مقولات من هذا الجانب أو ذلك فيرفض نفسه بحجة سبق الغير له وجل ما يريده صادقاً كان مع نفسه أم كاذباً اللحاق بهذا التقدم أو التمسك بأطرافه والثمن كما نعلم جميعاً لن يكون رخيصاً. ويرفض الغير بحجة أخلاقية أو بحجة المحافظة على الأصالة فيغرق بترداد مقولات ملؤها الحنين إلى زمن كنا فيه أسياد العلم والمعرفة فتوقفنا وسبقنا الغير. وما علينا إلاّ أن نعود إلى ما كنّا عليه أسياد علم ومعرفة وكان ذلك في عصر لم يتراخى فيه الدين ولا دخلته الطقوس والممارسات الرتيبة ولا تعددت الآراء ولا اختلفت وبعبارات الكواكبي "لقد فقدنا الطرا