الأدب العربي المعاصر بين التواصل والانقطاع - الندوة1 - الجلسة 2
ندوات /
أدبية /
1991-12-07
الندوة الأولى الأدب العربي المعاصر
بين التواصل والانقطاع
الجلسة الثانية
الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم السبت، الواقع فيه 7 كانون الأول 1991
المحاضرون : الدكتور عمر الدقّاق ، الدكتور جورج طربيه ، الدكتور ميشال جحا
إدارة الندوة : الدكتورة إلهام كلاب البساط
* * *
إدارة الندوة :
أيّها الحضور الكرام
لن يتغيّر عليكم المنظر، سأبقى أمامكم دائماً، أيضاً وأيضاً... تواصل دون انقطاع، إذا استوحيت عنوان الحلقات. عندما قلت لكم في حلقة ما قبل الظهر: "صباح الخير"، ولم أكن قد تشرفت بمعرفتكم. لم أكن أعرف بأني سأقول لكم، في حلقة ما بعد الظهر، "مساء الخير"، وقد نعمت بالحديث معكم وتوثقت بيننا عرى المعرفة والتقديم، وأصبح السلام بيننا سلام صحبة وحوار. فأهلاً وسهلاً بكم من جديد. ونلتقي الآن في جلسة ثانية عن "الأدب العربيّ المعاصر، بين التواصل والإنقطاع"، ولو انقطع عن الكثير من أهل الثقافة اليوم، بسبب زحمة النشاطات الموجودة في مدينة صيدا.
محاضرو هذه الحلقة حملتهم محبة الجنوب وتقدير د. دندشلي، على الانتقال من الشمال، من أقصى الشمال ومن أقصى أقصى الشمال... وجمعهم هنا همّ التدريس الجامعي والأدب والإبداع. محاضرنا الدكتور عمر الدقّاق، هو أستاذ الأدب العربيّ الحديث في كلية الآداب في جامعة حلب، وحالياً رئيس فرع اتحاد الكتّاب العرب بحلب أيضاً... له عدد كبير من البحوث والكتب يناهز العشرين، منها "الاتجاه القومي في الشعر العربيّ الحديث"، "مصادر التراث العربيّ"، "شعراء العصبة الأندلسيّة في المهجر"، "ملامح الشعر الأندلسي"، و"فنون الأدب المعاصر في سوريا"... وسيتحدث اليوم عن "المسرح العربيّ والنزوع التراثيّ"...
ومحاضرنا الثاني هو الدكتور ميشال جحا، الأديب والناقد المتحمس والمتوقد دوماً في سبيل القضايا التي يؤمن بها، أستاذ الأدب العربيّ الحديث في كلية الآداب، الجامعة اللبنانيّة، وفي كلية بيروت الجامعيّة. له كتب عن الاستشراق، الدراسات العربيّة والإسلاميّة في أوروبا دراسة عن خليل مطران، باكورة التجديد في الشعر العربيّ الحديث، دراسة في حالات النهضة، كتاب عن سليم البستاني وكتاب قيد الطبع عن "إبراهيم اليازجي"...
يحاول الدكتور ميشال جحا من خلال النقد، التوقف عند تطبيق محلي للتواصل والإنقطاع، فيتناول إبراهيم اليازجي كناقد يشكل جسراً نقدياً بين القديم والحديث.
محاضرنا الثالث هو الدكتور جورج طربيه، الأديب والشاعر والصديق والرفيق في عدّة مجالات فكريّة، يدرّس الأدب والحضارة في الجامعة اللبنانيّة، وهو عضو اللجنة العليا للإشراف على الدكتوراه الدولة، له سلسلة موسوعيّة صدر منها حتى الآن ثمانية أجزاء في الحضارتين العربيّة والأسبانيّة وهي يلتقي مع الدكتور عمر الدقّاق في الإهتمام ذاته. مشارك في مؤتمرات ونوادٍ دوليّة عديدة، ومحاضر أيضاً فيها... له خاصة خمس مجموعات شعريّة، آخر مجموعة منها كانت: "زائرة الليل الليلكي" والتي كان لي فرح تقديمها والكلام عنها في مناسبات عديدة ويبدو بأن السادسة هي قيد الطبع. له أيضاً أبحاث تربوية في مركز البحوث والإنماء وهو مؤسس الملتقى الثقافي في تنورين وفي جبيل. وأمين سر المجلس الثقافي في بلاد جبيل... وأعرف أن الدكتور طربيه، مع تنوّع اهتماماته منحاز للشعر بضراوة. ولذا فسيكون حديثه عن "الشعر في مجال التواصل والإنفصال"...
وكما تعلمت من لقاء الظهر، فلن أتدخل ولن أقول شيئاً، لأن الأفكار كثيرة، حارة، وحادة في هذا الموضوع، والزاد كبير. لذا أترك الساحة للمحاضرين وابتدئ بإعطاء الكلام للدكتور الدقّاق...
الدكتور عمر الدقّاق: حين عالجت هذا الموضوع، في البدء أقول صراحة لم يكن هنالك لي مجال الاختيار الصحيح. ولكن، بعد التداول كان هنالك الثغرة في تغطية هذا الموضوع، فرضيت به وأنا على أية حال، غير نادم. لماذا؟... لأنني لا أُعد نفسي ناقداً مسرحياً، ولست ضليعاً ولا متمكناً من موضوع المسرح ولكنني على كل حال، دارس في الأدب الحديث. [أنظر النص كاملاً]
إدارة الندوة .... شكراً للدكتور عمر الدقّاق على بحثه العميق والمطعّم بملاحظات دقيقة وعملية وبالرؤى الجديدة، خاصة عند تناول الكتّاب المسرحيين، التاريخ الغني، وكيف يتصرفون به الآن، وموقع هذا المسرح التاريخيّ في إشكاليّة التراث المعاصرة. ومن الشعر المسرحيّ الذي دام وتواصل كما قال لنا الدكتور الدقّاق. ننتقل إلى الشعر الصافي، إلى الدكتور جورج طربيه الذي يمسرح الشعر في بعض دواوينه: فاين هو الشعر المعاصر، من تراث التاريخ الشعري القديم، وتجارب المعاصرة، الجواب هو الدكتور جورج طربيه، فليتفضل...
الدكتور جورج طربيه
موضوع "الشعر بين التواصل والإنقطاع" قديمٌ في جانب منه، وجديدٌ في جانب آخر كل الجدّة. ففي التاريخ الأدبيّ العالميّ نلاحظ أن الأمم، منذ جاهلياتها، شهدت معارك أدبيّة بين تياريّ التقليد والتحديث، تارة في المضمون وطوراً في الشكل. فلغة عُديّ بن زيد العبادي غير لغة أصحاب المعلقات. ولغة هؤلاء وبنيوتهم الشعريّة تختلفان كثيراً عن لغة أبي نواس ومدرسته الشعريّة في المشرق والمغرب، ومنحى أبي تمام التوالدي ـ الرمزي محطة مهمّة أمام الباحثين عن مسار القصيدة العربيّة التطوري، ومثله منحى الأعمى المعرّي في قصصه التأملي الفلسفي، وصولاً إلى الموشح الأندلسي وأزجال ابن قزمان وتابعيه، وما وسمهما من تبسيط وتمازج لساني وتجديد في الشكل والتوجّه الخطابي، ممّا دفع كثيرين كابن بسّام إلى إسقاط هذين الفنين من أبراج الشعر الكلاسيكي التليد... وانتهاء بما شهدته الحركة الشعريّة في العالمين العربيّ والمهجري منذ قرن ونيِّف، من حركات تجديدية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: حركات أبوللو ـ عصبة العشرة ـ الرابطة القلمية ـ العصبة الأندلسية ـ يوسف الخال ومؤسسي مجلة "شعر" ـ فضلاً عما أدخلته أسماء كبيرة من تجديد في مضمون القصيدة العربيّة أو بِنيتها كخليل مطران، أحمد شوقي، سعيد عقل، بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، وسواهم من لائحة ثرية بالأسماء، في شرف ملهم، مفعم بروح الشعر، ما زالت تعرض وتطول. الخلاصة أن المجددين كثر، بغض النظر عن الموقف النقدي وتصنيفه للنتاج المتراكم من حيث النوعية والتراتبية. وهو حديث آخر، أراني في هذه العجالة مفطراً لمحاذرته، وعدم مقاربته إلاّ من بعد، ولماماً، كموقف وقائي. إذ إنني لا أرى هنا كبير فائدة في العودة إلى الجذور النقدية العربية، والتوقف عند آراء تأثرية متناثرة هنا وهناك في أمهات المراجع الأدبية والمعجمات، أو في المؤلفات التي تنحو منحى التخصص الشعري والنقدي، القديمة والحديثة، منذ ابن سلاّم في طبقاته، إلى سليمان البستاني في مقدمته، ومارون عبود وميخائيل نعيمة وسيّد قطب وطه حسين وغالي شكري وأنس داود وعز الدين إسماعيل وأدونيس وعشرات سواهم من الأسماء المعلومة والمجهولة على امتداد العالم العربيّ، ممن أثاروا معارك أدبية، فلا تكاد يتبدّد غبار معركة، حتى يثار غبار معركة أخرى، بين المقلدين والمجددين.
وما نقوله بشأن الأدب العربيّ ينسحب على الآداب العالميّة بعامة، والشعر فيها بنوع خاص. من هنا نفهم أبعاد تلك المغامرة التاريخيّة التي خاضها ذاك الضرير المولود على ضفاف نهر أزير، تلك المطاردة الرائدة الحاقدة المنتفضة للكرامة والأصالة التي قام بها هوميروس، عبر البحار، لتنجلي اسمه ونتاجه الإبداعي الملحمي الأصيل. ونفهم مرور الزمن على أسماء كبيرة ذكرها دانتي في كوميدياه الالهية، كانت مشهورة في عصره، لكن اتباعيتها وتقليديتها أسقطتها من ثم في ظلام النسيان. وشكسبير، لدى الإنكليز، خاض معارك مسرحية وشعرية في وجه المتشبثين بالكلاسيكية الضاربة في جذورها حتى العهد اليوناني القديم. وصولاً إلى "باوند" و"يس" و"اليوت" وما أدخلوه من تجديد في فهم الشعر وتعديل لأسسه الفنيّة. و"فونولون" في رسائله إلى الأكاديمية الفرنسية، ركز على مسألة الاختصام بين القدامى والمحدثين، وبعده "بوالو" في "فنّه الشعري"، و"هوجو" في مقدمة مسرحيته الدرامية "Hernani"، وصولاً إلى "مالاريه"، و"ريمو"، و"بودلير" ومن تبعهم في فرنسا من أنصار السوريالية والدادائية والطليعية السائرة إلى المجهول، فضلاً عمن تطالعنا بهم ألمانيا (برخت، ريلكه، وينكلمن، غوته)، والولايات المتحدة الأميركية (إدغار الهابو، أملي ديكنسون) وروسيا (بوشكين، يفتوئينكم) وأميركا الجنوبية (جورجي أمادو، خورفي بورفس، بابلو نيرودا)، وسواهم ممن شكلوا علامات فارقة في زمانهم ومكانهم، وكل زمان ومكان مما تقتضي دراسته بحثاً يضاف إلى آلاف في هذا المجال.
لذا ستقتصر معالجتنا لموضوع "الشعر بين التواصل والإنقطاع" على التميّز بين خطَّي الموضوع العريضين، عنينا التواصل من جهة والآنقطاع من جهة ثانية لنخلص إلى اتخاذ الموقف المناسب من هذين الخطين. التواصل لغة يفيد الوصل والاستمرار من دون أن يعني بالضرورة النسخ والتبعية. فالوصل يفترض قابلية الوصال والالتحام بين أشخاص أو أمور يجمعها قاسم مشترك، بالرغم مما تحمل في طياتها من فرادة وتمايز. وهو، فلسفة ومنطقاً، الأكثر انسجاماً مع حركتي الزمان والمكان. فالأول متداخل كنهر هرقليطس، تجمعه وحدة زمانية بين أيعاد الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، وحدة مائية جارية إذا شئتم لا تعرف الآسن. والثاني قائم في أساس وجوده ثنائيّين التوالد والتبدّد، في نظام توازنه على قوتي الجذب والطرد، وفي نظام مساره على أحداية التمدد والاتجاه. إنه كون متكامل، متطوّر، متغيّر باستمرار، ولا مجال لفهم اية حركة خارج إطاره الزماني ـ المكاني. وهو إنتماء وهُوية عربية، الأكثر تجذراً في أرض العرب وروحها الشعرية، منذ العصر الجاهلي.
هنا لا بدّ من التميز بين مفاهيم ثلاثة: 1ـ التطوّر (Evolution)، 2ـ القفز في التطوّر (revolution)، 3 ـ الانفصال أو البتر (Rupture). أما المفهومان الأولان فينتظمان ضمن الخط التواصلي، بعكس المفهوم الثالث الانفصالي.
من ضمن هذا التحديد نفهم تواصلية الشعر العربيّ منذ الجاهلية حتى القرن العشرين، عبر سلسلة متكاملة الحلقات من شعراء الفرادة والتمايز في عالمي المشرق والمغرب، والزمانين القديم والحديث. فحتى الذين تمردوا على نظام الجماعة، وسلكوا مسلك الصعلكة، شكلوا من دون أي شك جزءاً من نظام التواصلية الأدبية. فالشنفري، مثلاً، الذي شذَّ عن الجماعة وقال قولته الشهيرة:
ولي دونكم أهلون سيّد عمتسٌ وأرقطُ زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ
هذا الشاعر الذي اسيء فهمه فنُبذَ في حياته ومماته، حتى أنه حالياً بات حجَّة المجددين في رسم سياسة المناهج المدرسية، للتمرد على المدرسة الاشباعية القديمة، وُجد له من يناصره من باحثينا الكبار، صديقنا العلاَّمة الراحل البروفسور نقولا جورج سعاده، في كتابه بالفرنسية: (Essais sur la literature compare) حيث أجرى مقارنة بين هذا الشاعر المنبوذ الجاهلي وشاعر النهضة الفرنسية فرنسوا دي فيّون، وأظهر بوضوح كيف أن الشنفري العربي يتفوق على الشاعر الفرنسي في تعاطيه الإنساني مع العالم الحيواني، وكيف أنه بالرغم من شذوذه في الآفاق كان أقرب من إضرابه غلى روح الصحراء العربية الأصيلة، روح المغامرة والشجاعة والشهامة والاباء وتعشق الاستقلال والحريّة. فالحجر الذي رذله البناؤون، بات ركناً للزاوية. وبالمقياس ذاته، يمكن أن نقيس سائر الحركات الشعرية الفردية والجماعية، القديمة والحديثة، التي تنتفض على التراث، إما مضموناً وإما شكلاً، ولكنها تظل موصولة به بشكل من الأشكال، كالحركة الشعوبية في المشرق والمغرب الأندلس، التي هاجمت العنصرية العربية والتمسك ببعض التقاليد الموروثة، والتعالي الديني، وتزوير التاريخ لخدمة تمايزها وتدعيم حكمها السياسي، لكنها في الوقت نفسه، تكلمت لغة العرب، واستعانت بتفاعليهم وأوزانهم، وتناولت موضوعاتهم بشكل عام، وإن من منطلقات مختلفة. حتى ما يسمى ثورة تجديدية، (revolution) ليس في الواقع سوى قفزة في التطوّر (bon dans l'evolution)، كالموشحات والأزجال الأندلسية، التي حافظت على نظام الفصلة، والصور الحسية الكلاسيكية، والإيقاع الموسيقي الخارجي، وصولاً إلى لازمة الرويّ، وما أحاط بها في بناء الأغصان والأقفال والخرجات الموسميّ. أو كانفتاح عصبة العشرة ومطران وشوقي وعقل على المضمون الغربي مع الحفاظ على القالب العربي... وهو ما ينسحب على شعراء العصبة الأندلسية مع المعالفة والجردقازان بنوع خاص، وشعراء الرابطة القلمية مع جبران ونعيمة وأبي ماضي، بلوغاً غلى شعراء الحداثة ومجلة "شعر" من الأقطاب المؤسسين (وهناك دائماً فروقات كبيرة بين المؤسسين والتابعين)، الذين جددوا في بِنية القصيدة العربية شكلاً ومضموناً.
أما الانفصال او البرّ فشأن مختلف تماماً. وهذا الوصف لا ينطبق على ما عارض مضموناً ووافق شكلاً، او العكس، وإنما على ذاك النوع "الشعري" المنفصل كلياً، أي مضموناً وشكلاً معاً، على التراث.والتراث هنا لا يقتصر على الخصوصية العنصرية أو الدينية أو البيئية العامة، وإنما يشمل التراث الإنساني ككل. هذه الحركة تقنَّعت بالشعر والحداثة وهما منها براء. إنها تعتمد البتر الحضاري، والحضارات تتلاقح وتتناسل، تتوازى وتتحاذى، أو تتواجه وتتصادم، وتتعرج وتتراجع، في سباقها المحموم على حدّ تعبير سان سيمون إلى قمة جبل الحضارات، تحقيقاً لما أسماه دي شاردان كروية الحضارات أو الحضارة الإنسانية الواحدة القائمة على التواصل والتكامل. وكل خروج عن هذا النظام الحضاري والكوني شذوذ وولوج عبر عتبة التيه نحو عالم اللا محسوس واللا معقول، أي اللا موجودن أي العدم. إنها حركة البرّ مع كل موروث قدسته الأجيال، بما في ذلك القِيَموالمثل وأنماط التفكير والتصوير والتعبير.
هذه الحركة المسماة أدبية، ليس فيها من الأدب شيء. وقد كال لها بعض كبار الشعراء الحداثة ومنهم خليل حاوي أكيالاً من التعابير الخالية من الكياسة، بما يتناسب مع دورها المشبوه الشاذ. ومن اقواله إن الدادائية ما هي إلاّ جمهرة من الشعراء، أنوفهم من القذارة، ودورهم النباح على الحضارة. أما ما يسمونه شعراً منثوراً فما هو إلاّ ضرب من النثر الرديء...
بالفعل يأتيك هذا كلمات مغلقة مقلقة عمادها الإبهام وتحدّي الأذواق والأفهام. بعد أيام تقرأ تنبيهاً من كاتبها إلى عدد من الأخطاء الطباعية وردت فيها. فتقارن بين الخطأ والصواب فلا تجد أي فارق. كلا النصّين متساويان في التفاهة، مغلقان عليك، تماماً كما أغلق على الطابع من قبلك. ويأتيك ذاك بقصيدة بصرية، تتكثف فيها الكلمة الواحدة وتتقلص تصاعدياً راسمة سكَّة القطار. ويؤثّرك ذاك بقصيدة كهرمغناطيسية أو الكترونية، وقد يريحك آخر بقصيدة مراحيضية، وكأن المطلوب من الحداثة أن تكون القصيدة مستودعاً للمنتجات والمخترعات الحديثة، وهو ما سخر منه بحقّ، الناقد المصري غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين؟". أما الصور فتتحدّى نظام القِيَم وعلم الجمال كقول أحدهم متصنعاً ؟ ، (والسوريالية حركة أصيلة رائدة في تاريخ الشعر وليست هذه التُرهات): "رأيت الله في ؟ "، وقول آخر متغزلاً: "اسنانك زرقاء كأنياب البغل". أيّ نظام قيم خلقية وجمالية هذا الذ يداس فيه الآله، وتتحول فيه ثغور النساء زرقاء كأشداق البغال؟...
والبرّ يتجاوز نظام المثل والصور إلى الشكل التعبيري. فقد تظن لأول وهلة إن خيطاً خفياً، هو خيط الشكل التعبيري، ما زال يصلك ولو بشكل واهٍ بالتراث. إلاّ انك بعد اتمام النظر والفكر،سرعان ما تتبيّن الفارق بين الكلمة واللفظة. اللفظة عربية والحربي عربي لكن الكلمة لا منتمية إلى أية لغة. اللغة علاقات بين الكلمات. العلاقات هنا معلَّقة واللغة ملغاة. من هنا يتساوى نصان عربي وفارسي (أمام من يجهل الفارسية) فكلاهما مكتوبان بالحرف العربي الواحد، وبلغة مغلقة على القارئ.
حيال هذا "الأدب" المنحرف الحائر المحيِّر، يتساءل الباحث الأدبي عن معنى هذا الأدب الطَّرح العقيم. عن معنى الهدر الكبير في الوقت والورق في زمن تثمّن فيه الثواني والسِّلع بأبهظ الأثمان. ويتساءل الباحث العربيّ عن معنى هذا البرّ مع التراث العربي المشرقي، والقفز، في الزمن، فوق مخزون هائل ثري بالجمالات والقِيَم، وفي المكان، فوق آلاف الكيلومترات من الجغرافيا، للالتصاق بحركة عبئية غير مجدية ولا مسؤولة. هذا الاغتراب مسيء على الصعيد الأدبي إساءة لهجرة الأدمغة واليد العاملة والرساميل على الصعيد الاقتصادي، وشبه به على الصعيد السياسي ذات الاغتراب الروحي الذي يعانيه البعض، فيقفز فوق آلاف السنين لينعزل فينيقياً، متنكراً للعروبة (علماً إن الفينيقيين كما يقول بعض العلماء، ومنهم الباحث الدستوري الكبير ادمون رباط، موجة من أمواج الجزيرة العربية السامية، بل هم موجة عربية انتشرت على الشاطئ المتوسطي ولم تكن متقوقعة على الإطلاق)، وهو يقفز فوق آلاف الكلم من الجغرافيا ليلتصق بالغرب على حساب محيطه العربيّ. هذا الاغتراب المتعدد الوجوه، من المستفيد منه؟... ألا يكفي العرب ما ابتلوا به منذ نصف قرن من توطين لليهود في فلسطين، وتهجير للفلسطينيين واللبنانيين وسائر العرب من أرضهم، أو تهجير لطاقاتهم ورساميلهم، فجاء هذا التغريب أو التهجير الروحي ليشكل ثالثة الاتافي. أم أن هذه تكمل تلك، والعلاقة بين الأمرين جدلية مترابطة ترابط الأسباب بالنتائج، ولا مكان للمفاجآت؟... أليس الإرتجاج والخُلف (perturbation) مدخلاً مثالياً للمغتصب المستغل إلى عقل المستغل، أليس التشتت والتسطح وسهولة الإنزلاق نقيض المطلوب في معركة المواجهة الحضارية الكبرى، من تأصل وانغراز في الأرض، وتعرف إلى الذات، وبيَّن للممكنات انطلاقاً من المعطيات؟...
إننا بقدر ما نؤيد المجددين في التراث، تطوّراً طبيعياً أم قفزاً نوعياً، نجد أنفسنا بالحماس نفسه في خط معاكس للفئة الباترة الانفصالية. فالتراث كالبشر حيٌّ متنامٍ من الداخل، وهل يمكن المرء أن يذبح ماضيه أو الطفل الذي فيه وقد بات جزءاً منه. أيحق للأغصان المتعالية في النور حتى السحاب، التباهي على جذورها الضاربة في أعماق التراب؟... أليست لهذه تدين تلك.
إن تنكرنا لجماعة الانفصال لا يعفينا من إدانة نقيضها، أي جماعة التطرف في الايفال الماضوي، والتأثر النسخي الببغائي. هذه حجزت الشعر في الإطار الخليلي، وغرقت في الماضي حتى التأبد والتجمد والانفصام المرضي، فقدّست كل قديم، ولعنت ما عداه، وتلك تنكرت للخليل، ورفعت راية العصيان، باسم الحداثة. هذان التياران الطفيليان المرتبطان ارتباطاً مبثوراً بأحد التراثين الشرقي أو الغربي، لم نكن نتصدى لهما، لو لم يقوَ تيارهما، وتتعدَّد منابرهما المضلّلة والمضلِّلة، مما بات يشكل تهديداً حقيقياً للنماء الذوقي والثقافي لدى ناشئتنا في المدارس والجامعات، فباتت قلقة سؤولة، تستصرخ ضمائرنا أن تنقذها من تيهٍ هي فيه.
تقرأ في بعض الصحف والمجلات كتاباتٍ هي إلى الأحاجي والألغاز والعقم، أقرب منها إلى النثر أو النظم. فإذا أنت أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن العيب فيك وفي مقدرتك على الفهم والهضم. إما في الكاتب نفسه. ولسنا نقول هنا كثيراً على اتساع شهرة هذا أو ذاك من كتاب التفاهات. فالشهرة لا ترتبط ضرورة بالإصالة. فإذا قرأت وإنني في كوميدياه الإلهية، وقع نظرك على أكثر من اسم لشاعر كان مشهوراً في عصره، ثم سرعان ما طوته حجب النسيان. بالمقابل، غطى الغبار شعر ابن جريج الرومي النعراني أجيالاً، لكن نار أصالته ظلّت تتوقد تحت الرماد، حتى عادت تتوهج من جديد.
المتطفلون "النثريون" (وليس كل كاتب بالشكل المرسل متطفل، فبعضهم من كبار الشعراء) يجيدون صناعة الشواذ والعزف على آلة النشاز، فهم عن الشعر الأصيل في تيهان، وعن قضايا العصر في نومان، يعصرون عودهم اليابس وقلمهم العقيم، فإذا "شعرهم" نثر رديء، وقصيدتهم سطر، وسطرهم كلمة، وكلمتهم تخمة. وإذا عُقْمهم عَمْق، وصمتُهم نطق، وسوادهم بياض، وبياضهم سواد، والناس حولهم عُمْيٌ صُمٌّ بُكْمٌ، إلاّ قلَّة معقدة تدعي الفهم، نستسيغ أردأ الكتابات وتتبادل التهاني على كتابة المعمَّيات.
وعلى الضفة الأخرى من نهر الشعر، تجد صنفاً آخر من ضفادع النقيق. عنيت النظاميّين المنبريين المحدودي الأفق والمعدومي الموهبة الشعرية، ممن فهموا الأمر تأبداً وتجمُّداً في محيط الزمن، فاستغرقوا في الماضي السحيق وتأثروا خطى السَّلف الصالح، فتمنطوا في أقبية الماضي ودهاليزه كالأصنام، وباتوا صوراً مشوهة كماضٍ تليد، يكتبون في القرن العشرين وكأنهم منتمون إلى القرون الأولى، وفي الدخيل الناسخ مَسْخٌ للأصيل الراسخ. هؤلاء لا نستغربنَّ إذا زحف الجبل والساحل لسماع قصائدهم التّماميّة العصماء، أو قدّم لشعرهم، وتنادى لقول الرأي فيهم، سياسيون ووجهاء ورجال أعمال لا يفقهون شيئاً في علم الشعر والجمال، فغداً عندما يسقط إرهاب القاعات. وتتعطل مجشمات الصوت، ويتبدّد الصوت الجهوري الأجشّ تحت المجهر العلمي الصارم، سوف يتناثر نتاجهم ويتبخر تحت شمس الحقيقة.
هؤلاء ينظمون المعاني التافهة، أو يفعِّلون المعاني السامية فيشوهونها. هم طبول تطن وصنوج ترن، أفكارهم مسروقة وأبوابهم مطروقة، يحيط بهم بسطاء سُذَّج، أو متملِّقون خُدَّع، يصفقون ويهتفون وينفخون، بينما عقولهم ليست اقل فراغاً وتجويفاً مما يحملون وينفخون. هؤلاء الألفاظيون النظامون، حدودهم حدود اللفظة الفارغة الطنانة التي تستثير التصفيق الرخيص، ومداهم مدى الصوت الجهوري، وصداهم صدى الأكف المصفقة بصفاقة.
الألغازيون، باسم القطيعة مع التراث، تعمدوا الإبهام وتحدوا الأذواق والأفهام، مترسمين خطى الغربيين. والنظاميون، باسم الأصولية افتقدوا الأصالة، فقلدوا المشاركة القدامى. وتتبعوا خطاهم من دون أن يرقوا إلى مستواهم، على الرغم من قرقعة العظام في وسط الطعام.
بين أولئك وهؤلاء، أيٌّ هو الشاعر ؟...
الأول ذوو الفذلكات النثرية مدانون حتى إثبات العكس، فإذا كان العيب فينا لنقص في ثقافتنا واستيعابنا، فليرحمونا قليلاً، وليتنازلوا برهة من أبراجهم العاجية، ويرونا نماذج نفهمها من أوائل الدرجات في سُلَّمهم النوراني. فالآلهة نفسها دخلت التاريخ، وتنازلت إلى مستوى البشر، وتقمصت جسد الضعف. لعلهم إذا نزلوا إلى مستوى أكتافنا رفعونا إلى مستوى أكتافهم فنرى ما يرون، ونعتقد ما يعتقدون.
إن المغنّي الذي يود أن يقدّم لنا نموذجاً مميّزاً من الأغاني، ينعدم فيه التطريب، كطراز إبداعي جديد في ميدان الغناء، عليه أولاً، وللحظات على الأقل، أن يقدّم لنا بعض قديمه التطريبي، أو أن يستهل بموّال، يظهر جمال صوته، وقدرته على تأدية ما سوف يمتنع عنه. المعركة الشريفة التي تخاض بأصالة وبسالة هي معركة القادرين الممتنعين، لا الثعالب المقصرين المتطاولين. من هنا نقدر معركة بعضهم ضد الفصحى، وإن اعتبروها بغير حقّ لغة ميتة، باتت من التاريخ... فهي معركة القادرين المحلقين في كتابتها، الممتنعين عنها بعد منعة فيها، وإن كنّا نرى رأيهم في كثير من المنطلقات والتوجهات... كذلك نقدّر تطلعات روّاد مجلة "شعر" وتوجهاتهم التجديدية، وإن نَحَتْ أحياناً منحى الطرافة الصادمة. ولكن شتّان ما بين المؤسسين الأصيلين الخلاّقين المجددين كالخال وحاوي وأبي شقرا والحاج وأدونيس ورفعه... وأرتال المتطفلين التابعين.
أما الآخرون الناظمون ففي مسارهم المعاكس لحركة التاريخ، إدانة لهم كافية، فهم عوضاً عن أن يعودا إلى المخزون التراثي والبيئي ليطوروه في اتجاه الحركة المستقبلية، يتقوقعون في ظلام الماضي، ففي الجمود إعاقة، فكيف بالتراجع اللا مسوَّغ واللا مسؤول. وعلم النفس المرضي يميز بوضوح بين العبارتين (Être son passé – avoir un passé).
ونطرح السؤال: بين التواصل والإنقطاع أين يقع الشعر ؟...
والجواب أن لا شعر إلاّ الحديث. ولا حديث إلاّ الأصيل. أو كما قال الناقد ت.س، اليوت: "كل شعر أصيل هو بالضرورة شعر حديث". منذ القدم، ترمز، اسطورة بروميسيوس إلى سرقة النار، سرقة السر أي كلمة السحر. منذ القدم يصفون الشاعر بالساحر. إذ كما تيفولا الساحر بكلمات تخربط نظام الطبيعة، هكذا يتفوه الشاعر بكلمات موسيقية هي كأصابع "البيانو" تحت يدي العازف الماهر، فيخرج منها اللحن الساحر الذي يلهو بالعواطف، ويعيد التوازن المفقود بين الإنسان والوجود. هذا السحر الشعري، أكان في الإيحاء عند "ديدرو"، أم في الكلمات عند "نوفاليس"، في الألفاظ عند "مالارميه" أم في النغم الذي لا ينسى عند "توماس اليوت"... في الجمال المتوهج البرّاق الفرح عند "فاليري"، أم في الجمل الموسيقية والإيحاءات والترميزات عند شعراء القصيدة المطوَّلة الحديثة، أم في روح المزامير عند سان جون بيرس... أم في المشاعر الإنسانية الشاملة ومسح الغبار عن عيني الإنسانية كما عند برفت وغوته وطاغور وحافظ الشيرازي ودانتي وشكسبير وجبران... القاسم المشترك لدى الجميع، الأصالة والسِّحر اللذان إذا توافرا توافر الشعر، بغض النظر عن قضاياه وأشكاله، الوانه وأوزانه. وبقدر ما تشبع الكلمة الشعرية النَّهم الروحي العالمي، وتروي الغليل الأممي، وتجسد في ذاتها قلق الأجزاء وتوقها إلى الاتحاد بالكل، قلق الأنا الفردية وتوقها إلى الانصهار بالآنا الكلية، ترقى إلى مستوى العالمية.
للكلمة الشعرية كيمياء خاصة تميز بواسطتها المطبوع من المصنوع، الأصيل من الأصولي، المقول من المنقول، المتنامي من المتراكم، التحويلي من التقريري. هذا هو الشعر في معناه العميق، في رؤيته ورؤياه، في موسيقاه السمعية والخفية، في إثارته الذوق الجسدي والروحي، في من طيته المباشرة والخفية للمشاعر البشرية. هذا الشعر بإمكانه أن يكون منظوماً مقفى أو منثوراً مصفّى. وليس مطلوباً من كل أصيل أن يدرس التفاعيل أو يتتلمذ على الخليل. ففي نشيد الأناشيد، وسفر أيوب، وصلوات تباح حث واخناتون، ومرائي أنبياء التوراة وأحزان الناصري، وغراميات شكسبير وجبران، ووداع هذا الأخير لمدينة أورفليس... من الشعر المنثور المرسل، ما يفوق بما لا يُحد الكثير من الشعر المنظوم، علماً أن الكثير من المنظوم ليس، كما أسلفنا، شعراً على الإطلاق، وأن تجلبب بجلباب الملاحم أحياناً، كما في "عيد الغدير" و"عيد الرياض" لبولس سلامة، ومعظم مطولات شوقي التاريخية و"علي بك الكبير" و"كبريات الحوادة في وادي النيل"، وما شابهما لدى الشاعر الكوسمولوجي محمود صدقي الزهاوي، وسواهما من المعروفين والمغمورين.
الشعر الحيّ هو لغة الحياة نفسها، إنه ليس في النظم والنثر، وإنما هو لغة خاصة، لغة ثالثة تستطيع أن تعبّر عن نفسها بكل الأشكال الموزونة والمرسلة، الشعر كالهواء الذي يأبى الانحباس، وإلاّ اصابه النتن والفساد، وبات مادة إفناء لا مادة إحياء... الشعر لغة معجزة وتشبيهاً... إنه اللغة المميزة في كل لغة ، إنه لغة في قلب اللغة.
نحن نقول مع "اليوت" إن كلّ أصيل حديث. لكن للحداثة في المفهوم المعاصر معايير بُذل في سبيلها الكثير من الدراسات غرباً وشرقاً. وإذا كانت السوريالية تمرداً على الواقع والتراث وما زخر به من تعاليم وتقاليد وأساطير، وهي بذلك تمثل انقطاعاً عن التراث، إلاّ أنها من حيث هي سعي دؤوب إلى اكتشاف الجدة والصدمة والدهشة، تتصل بصميم الجوهر الشعري، وتفتح أمامه آفاقاً جديدة، هي آفاق التوازن المفقود بين الإنسان والوجود، إنها اكتشاف الخيال الخلاّق في موازاة العقل واكتشافاته العلمية العملاقة. هذه التوازنية عن طريق الكلمات اللا متوازنة، تعبّر من جهة أخرى عن التواصل بالنسبة إلى البحث المجد الإنساني عن أسرار الجمالية والتوازنيَّة في الوجود.
أما القصيدة الحديثة فوفق تعريفات روادها وتطبيقاتهم العملية، تنفصل عن الماضي في أنها تحاذر السرد التاريخي وترفض المحاكاة والتذكر الاستقرائي اليونانيين، لكنها من ناحية ثانية تعتمد الأسطورة عموداً فقرياً، وليس فقط كما كانت قبلها إشارة أو تضميناً، والأسطورية فيها امتداد للتراث وإن بتماهٍ وقراءة جديدة، كما تعتمد المعادل الموضوعي فتنطلق من هذا المعادل لإعادة البناء، أما إدارتها فالتكثيف والترميز عبر سلم متطاول مترفٍ من الدلالات، ونظام من التوازنات بين المدركات والمحسوسات، تلعب فيها الصورة والفكرة دور الجناحين بالنسبة إلى الطائر المحلق.
إذاً ليست الحداثة لغواً ولفظاً، وليست تعقيدات ومبهمات، فبعض ما ينسب إلى الحداثة أخلق به أن يوصف بالأُحدوثة أو الأُخلوقة والأضحوكة. فكل ما بر نفسه عن جذع التراث المتنامي وشكّل علامة فارقة جديدة، دخل في باب الفذلكة التعبيرية أكثر مما في باب الجمالية الشعرية، وما ارتبط بها من أصالة أو أصولية. إنه الاعيبُ أحداثٍ صبيانية، أبعد ما تكون عن اللعبة الحداثية الإبداعية.
إننا نحتفظ بالمفيد ونسقط ما عداه. تماماً كما يمتص الكائن الحيّ عصارة الغذاء ويسقط ما عداها، هكذا نهضم من التراث، عقلياً وروحياً، ما يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا. ونتخلّى عن المهملات، باعتبار أنها عبءٌ معيق، لا طاقة محيية. إننا ننظر إلى الماضي بعين مستقبلية. نرتد إلى الوراء لا بهدف التأبُّد والتجمُّد، وإنما بهدف متناسب مع رسالتنا الحضارية الرائدة، ودورنا الأصيل كشعراء ونقاد، الذي يشكل جزءاً أساسياً من علم المستقبلية (futurisme). فالخيال الخلاّق والروحانية الرؤيوية تتوجان عالم الأرقام والتكنولوجيا البارد، وتصلانه بالسكك الحراري المحيي، وتسمانه بالسمة الإنسانية، وتسموان به إلى المستوى الحضاري المنشود.
إننا نقف كالنبّالين على أرض الواقع، عيناً على الماضي وأخرى على المستقبل، نرتد لنتقدم، وارتباطنا بالتراث اتصالي وانفصالي في آن، في عملية جدلية مزدوجة الاجتهادات. إن ارتدادنا تقدمي، تماماً كما يُشدَّ السهم إلى الوراء قبل أن يسدّد إلى الهدف المحدَّد. يبقى أن نحسن اختيار الهدف، ونحسن من ثمَّ التسديد والإصابة، فلا تطيش السِّهام.
إدارة الندوة... شكر للدكتور طربيه، وشكراً خاصة على هذه الصورة الجميلة، صورة السهم التي اختتم بها كلامه. لقد عبّر الدكتور طربيه، بحماس وانحياز، عن موقفع من الدين يحجزون أنفسهم في الإطار الخليلي، بدون إبداعن وكذلك الذين يحكمون هذا الإطار أيضاً بدون إبداع. ولكنه بذلك استجلب لنفسه إمكانية النقاش والإقناع المقبلين.
بعد هذا الموقف النقدي، ننتقل إلى موقف آخر هو موقف تطبيق عملي، سيعطينا إياه الدكتور ميشال جحا، إذ سيتناول إبراهيم اليازجي كناقد، كما قلنا، يشكل جسراً بين التواصل والإنقطاع، بين التراث والمعاصرة...
الدكتور ميشال جحا:
أيّها السيدات والسادة
خارج عن الموضوع: أضاع الشاعر العراقي، المرحوم أحمد الصافي النجفي، نظارته فقال: ضاعت عويناتي فمن يلقاها هي أعيني ضاعت فكيف أرى
وأنا أضعت نظارتي، فاستعنت بنظارة زوجتي... فإذا أخطأت فالحقّ عليها.
في الحقيقة، أنني ربما عن خطأ مني، لم اشأ أن آتيكم اليوم منظراً، ولأني أعمل على كتاب سيصدر قريباً عن إبراهيم اليازجي، إكتشفت أن هذا الرجل الذي شهر بأنه عالم لغة وأنه شاعر وأنه صحفيّ وكاتب وأديب وكثير من الأشياء الأخرىن إكتشفت أنه فعلاً كان ناقداً مهماً. وأردت بذلك أن اقف عند هذا الرجل. فابتعد عن التنظير لأركز على شخص أعتبره بمثابة جسر بين القديم والحديث، بين الإنقطاع والتواصل... وإذا وقفت عند ناقد ونقاد من لبنان، لا يعني أنني انعزالي، ولا يعني أنني متعصب للبنان، إنما أنطلق من كوني أهتم بما كتبه اللبنانيّون، ولا أريد أن أخوض الموضوع بشكل عام، فأتناول كل من تناول النقد في الأقطار العربية الشقيقة...
إذن، غير اليازجي يمكن أن نقف عند مقدمة "الإلياذة" لسليمان البستاني، ثمّ "غربال"، مخائيل نعيمة، ثم أمين الريحاني، ثم عمر فاخوري ومارون عبّود فرئيف مروّة وسواهم كثير. ولم أذكر سوى الذين خرجوا من الدنيا.
فالشيخ إبراهيم اليازجي، قلت إنه بالنسبة لي رجل يشكل الجسر. ولعله من الروّاد الأوائل الذين فهموا النقد ومارسوه في مجلته الضياء وفي مقدمة "شرح ديوان المتنبي" الذي بدأه والده ثم أكمله هو.
في أواخر القرن الماضي، أي منذ قرنٍ ونيّف، بدأ النقد الأدبي يستعيد مكانته التي سبق وحقّقها في العصر العباسي ـ عصره الذهبيّ ـ على أيدي أمثال: ابن سلاّم وابن قتيبة وابن رشيق وابن الأثير والآمدي وعبد القاهر الجرجاني وسواهم ممن وضعوا أسس النقد الأدبي، بعد انقطاع طويل أعقبه تواصل.
ولا بدّ لمن يؤرخ للنقد الأدبي في لبنان من أن يبدأ بأحمد فارس الشدياق (1804 ـ 1887) الذي يتحدث في مقدمة ديوانه عن الشعر والشعراءز
بيد أن الرائد في هذا الحقل هو الشيخ إبراهيم اليازجي (1847 ـ 1906)، عُفَ الشيخ إبراهيم كأديب ولغويّ مدقّق وواضع للعديد من المصطلحات الحديثة، وعالم بأسرار اللغة العربية، وصحافي وشاعر وواضع أصول أحرف الطباعة العربية، إلى ممارسته التعليم والترجمة، وصاحب أول دعوة للتحرر أطلقها في قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
تنبّهوا واستفيقوا أيها العربُ فقد طمى الخطبُ حتى غاصت الركبُ
ولكن نادراً ما تناوله أحدٌ كناقد أدبيّ متذوّق وموجِّه وصاحب ذوق سليم، سديد الرأي ومن الأوائل الذين تناولوا هذا الموضوع بجدّية في أدبنا العربيّ الحديث منذ قرنٍ ونيّف.
لم يؤلِّف الشيخ اليازجي كتاباً في النقد الأدبي بل إنه اكتفى بأن تناول هذا الموضوع عَرَضاً في بعض مقالاته ومراجعاته وتعليقاته في مجلته "الضياء" (1898 ـ 1906) لبعض القصائد والأشعار التي كانت تُنشر في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن في الصحف والمجلات في مصر ولبنان. كما تناوله في نشره لشرح ديوان المتنبي الذي بدأه والده الشيخ ناصيف اليازجي (1800 ـ 1871)، والمعروف بـ"العرف الطيّب في شرح ديوان أب الطيّب"، والذي أتمّه هو سنة 1887 وابى أن ينسبه إلى نفسه.
كان يمارس النقد من زاويتين: الزاوية النظرية والزاوية التطبيقية. وكان يعرض إلى بعض الكتب والدواوين ويعلق عليها مظهراً رأيه بدون تملّق أو محاباة. وكان أحياناً يشكو من تخلف صناعة الآداب في بلادنا السورية ومهد ذلك في ظنه (1) ليس نقصاً في الغرائز ولا فتوراً في الذكاء وإنما هو من نقص العلم وسوء التلقين وفقد المنبهين على العثرات والمدّدين في طريق العمل مما سوّل للقاصران ليتطاول إلى ما يفُوت يده من الغايات واراه. طريق الفضل سهلاً فوطئه وهو لا يدري ما أمامه من المهاوي والعقبات فكثر المتطفلون على موائد العلم والمجترئون على قمامات الشعر والإنشاء على حين لا وازع يَزَع ولا هادي يدعو فَيُتَّبعْ وما كان أحوج البلاد إلى مسيطرين على أقلام الشعراء والكتّاب كما أن فيها مسيطرين على أقلام أصحاب الجرائد السياسية وصحف الأخبار لأنه إن خيف من تلك أن تضر بالمصلحة الوطنية من الجهة السياسية فإن هذه ولا جرم تضرّ بها من الجهة الأدبية بما تؤدي إليه من فساد اللغة التي هي أعظم أركان الوطنية وأهمّ روابط الجامعة الأميّة.
ومعلوم أن الشعر من أعلى طبقات الكلام وأبعدها غاية لما يقتضيه من شرف الألفاظ ونباهة المعاني وسلامة الذوق والمبالغة في التنقيح والتهذيب. فابتذاله على ألسنة غير آهلة مما يزري به ويُفسد رونقه ويُسقط قريته بل ربما افضى إلى دفن كثير من جواهره في صدور أربابه لأنه اصبح متداولاً بين أيدي العامّة وابتذله من لا يُحسنه أنف المجيدون له من انتحاله وتجافى كبراء أهل القول عن نزول كتفه. وهـذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مجلة "الضياء" المجلد الأول (1898 ـ 1899) ص 112 ـ 119
ولا ريب أحد أسباب عقم الشعر في هذه الأيام. وانصراف الرغبة عنه إلى النثر الذي لا يجلّي في حلبته إلاّ من أعطته البلاغة قيادها وملّكته الفصاحة عَنانها ولذلك ترى المتعرّضين للشعر أكثر من المتعرّضين للنثر حتى في الأعصر الأولى وأيام كانت الفصاحة شائعة بين طبقات المتأدبين على العموم.
واضح من هذا الكلام حرصه على سلامة اللغة العربية لأن اللغة هي أعظم أركان الوطنية وأهمّ روابط الجامعة الأميّة. وعدم تساهله مع الذين يدّعون الأدب والشعر وهم ليسوا من أهلهما. وذلك لأن للشعر اصوله وقواعده ولا يجوز لكلّ متطفّل أن ينتسب إليه ويدّعي شرف الإنتماء إليه. ومن هنا أنه يقف موثق الناقد الموجِّه الذي يطلب من الذين ينتسبون إلى دوحة الشعر أن يتقنوا اللغة أولاً ويعرفوا قواعدها ويقرأوا جيّد الشعر قبل أن يبدأوا بنظمه، فالشعر ليس عملية سهلة ولا هو تسلية بل هو عملية جادّة ترتكز على الموهبة والمراس.
إلى أن يقول:
"ولقد مرّ بنا كثير من ركيك الشعر وساقط القول ولا سيما في هذه السنين المتأخرة التي لم يبقى فيها من عرف قاعدة من قواعد الصرف أو قرأ ديواناً من دواوين الشعراء إلاّ تصدّى للنظم وطيّر قصائده في البلاد إلاّ أن جلّ ما كنّا ننكره على أولئك الشعراء خلوّ كلامهم في مبتكر المعاني وجليل الأغراض وبُعد ألفاظهم عن قمام الجزالة العربية التي هي حلية الشعر ورونقه ولم نكن نتوهم أن نرى من الشعر ما يبلغ أن ينتظم في سلك اللغو ويُعدّ ضرباً من التخطيط والهذيان مما لم نرَ له مثيلاً إلاّ في كلام بعض الجرائد عندنا مما سبقت لنا الإشارة إليه في غير هذا الموضع. لا جرم أن هذا من هامش التأخر بل هو نهاية السقوط والانحطاط ولولا أن تكون تلك القصائد مطبوعة متداولة بين أيدي المطالعين لما كنّا نؤثر إلاّ سترها على أربابها تفادياً من هذه المهمّة الشنعاء.
وبعد أن يأتي بالأمثلة والشواهد على انحطاط هذا الشعر الذي ينتقد وكيف أن الشاعر لا يعرف أبسط قواعد اللغة ويقع في العديد من الأخطاء وأن فساد الذوق الشعري وجهل أساليب القول وبراعة النظم هي الصفات المسيطرة على هذا الشعر المُهَلْهَل الركيك الساقط. وبعد أن يعرض لأبيات في المديح ليس فيها أيّ مديح بل هي مجلبة للسخرية والاستهزاء يقول : "وأنت تدري أن المقصود بالمدح والرثاء وسائر الأغراض الشعرية تصدير المعنى بأظهر ألوانه وأشدها تأثيراً في النفس والمبالغة في الوصف إلى آخر حدٍّ ممكن على ما هو المعروف من مذهب الشعراء، فإذا برز ذلك المدح في صورةٍ مضحكة وقالب مستهجن غلب فيه من الهُجنة على محاسن أوصاف الممدوح وانصرفت النفس عن الاشتغال بتصوّر فضائله والإعجاب بمناقبه إلى اللهو بما ورد في كلام الشاعر من المضحكات فتوارى ذكر الممدوح وراء هذا الستار الممتهن".
ثم يخلص في نهاية مقالته إلى تبرئة نفسه من مهمة تثبيط الهمم والتجني على أصحاب القلم فيقول: "والله يعلم أن ليس في عرضنا فيما أوردناه تثبيط اقلام أولئك الأدباء وأمثالهم عن الجري في هذا المضمار فإنه ليسرّنا أن نرى في ؟ من يهتم بالأدب واللغة ويشتغل بالشعر والإنشاء وهو ولا شك مما تفخر به البلاد ويحيا به تمدّن الأمة ولكن لا أقل من أن يكون ما يأتون به صحيح التركيب مفهوم المعنى. ولا نطالبهم بالفائق والجيّد وإلاّ فقد كانت الأمة أجمل وأستر. وإنما الذي نتوخاه هنا تنبيههم إلى التثبّت فيما يكتبون وأن لا يُعجِّلوا إلى نشر ما يبدر في قرائحهم قبل تنقيحه وعرضه على من يُقيم من أوده أو ينبه إلى ما فيه من خطأ أو لحن وإلا فلا أقلّ من أن يطلع الواحد منهم صاحبه على ما يجود به خاطره فإن للمرء في شعر غيره نظرة غير نظرته في شعر نفسه وإن لم يكن هذا ولا ذاك فليطوِ ما ينظمه عن نفسه أياماً حتى يتناساه ثم يعاوده فإنه حينئذٍ يكون نظره فيه كنظر الأجنبي وليتنبه فيه الأشياء لم يتنبه لها حال النظم".
وهو حريص على أن تكون للأدب قيمته وللشعر حرمته فلا يتصدّى أي كان إلى ذلك ويدعي أنه كاتب تحرير وشاعر كبير. فتنتشر له الصحف نتاجه الأدبي الساقط هذا على أنه أدب راقٍ وإبداع مميّز وتقوم فوق ذلك ؟ ومدحه.
وهو حريص كذلك على اللغة العربية أن تكون لساناً عربياً مُبيّناً وليس مجرد كلام ركيك وسفاسف ساقطة يُستخدم في غير موضعه ويُسخّر للمديح والتفريط والاستجداء.
وهو يقول في نقده لإحدى القصائد السخيفة: (2)
"كنا نطالب شعراءَنا بالمعاني المخترعة والأساليب البليغة والعدول عن التراكيب الركيكة واللفظ المبتذل فصرنا نقنع من بعضهم الكلام المعقول والتعبير المفهوم. وما كان يخطر لنا إننل سنصير إلى عهدٍ نرى الشعر فيه ضرباً من اللغو والخلط وسرداً لألفاظ لا معنى لها وكأن هذا من ابتكارات هذا العصر حتى صار طريقة يجري عليها بعض شعرائنا . ثم لا يكفينا منهم ذلك حتى ينشروا شعرهم في الآفاق وحتى يتلقاه بعضُ من يتخيّل فيهم التمييز بين صحيح القول وسقيمه بالقبول والإعجاب ويكونوا هم الساعين بنشره بين أهل الأدب مما يدل على عموم الجهل بين عامّة طبقات الأمة".
ثم يلوم أصحاب الصحف والمجلات الذين ينشرون مثل هذا السخف على أنه شعر ويكيلون المديح والتقريظ لناظمه رياءً وتملقاً فيقول: "... ولكننا نكتفي بعض ابيات القصيدة عبرت لذوي الألباب من أهل هذا اللسان وحثاً لحملة الأقلام منهم وأصحاب الجرائد على الخصوص أن يقفوا سدّاً في طريق أمثال هذه الفاسق الساقطة بل الفضائح الشائنة وأن يبادروا لتدارك هذا الداء الوبيل قبل استحقاقه فقد كفى اللغة ما تسلط عليها من دواعي الوَهَنْ والفساد".
ثم يضيف: "ولسنا نلوم الشاعر على إن أتى مثل هذا السخف فإن ذلك مبلغ ما عنده... ولكن الذي حدانا على كتابة هذا الفصل إنّنا رأينا هذه القصيدة على ما ربنا من حالها مصدّرة بعنوان فخيم ظننا وراءه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) مجلة "الضياء" المجلد الأول (1898ـ 1899) ص 205 ـ 209
إن المتنبي قد بُعث في هذا العصر ليُحيي ما عفا من دارس الشعر فلما شرعنا في تلاوتها أدركنا من القشعريرة والانقباض ما يدرك القارئ من العجب والاستغراب إذا تلونا عليه العنوان المذكور بعدما سمع من الأبيات وهذه صورة العنوان بنصه: "نَظَرَ حضرة العالِم الفاضل واللاذعي البارع الكامل مكر مثلو الشيخ فلان فلان أفندي الفلاني من علماء مدينة كذا قصيدة غرّاء، وهي بحرفها الرائق ومعناها السّائق". فلا جرم إن مثل هذا الوصف في مثل هذا الشاعر لا يعد إلاّ ضرباً من التغرير يُجرَّأ به هو وأمثاله على الاسترسال في مثل هذه الركاكات ونشرها بين أظهر القوم لا يحذر فيها رقيباً ولا حسيباً فيكون ذلك ذريعة إلى إفساد ذوق الشعر وابتذاله بين المتطفلين عليه فضلاً عمّا فيه من رمي عامّة الأمة بالجهل إذا كان افاضلها والقابضون على أزمة الأدب فيها يقبلون مثل هذا الكلام ثم يخدمونه بالطبع والتوزيع في أطراف البلاد بعد أن يقلّدوه بمثل الوصف المذكور".
فهو مصيب في إلقاء اللوم على وسائل النشر التي تفسد الذوق بنشر مثل هذا الشعر الساقط وتتجنّى على الأدب والشعر بدلاً من أن تكون الرادع لنشر مثل هذا السخف فتقف في وجهه سداً منيعاً وتنتقده وتروّج لما يستحق من النتاج الأدبي الأصيل.
وهو كذلك في موقف آخر وفي مقال يتناول فيه ديوان الشاعر المصري المعروف حافظ إبراهيم (1871 ـ 1932) يلوم شارح الديوان محمد بك هلال إبراهيم الذي يشرح كلمات لا حاجة إلى شرحها وأحياناً تَرِدُ أخطاءٌ صرفية ونحوية عديدة في الشرح فيقول:(3) "بيد أنّا لا نجد في هذا المقام بدّاً من الإشارة إلى شيء مما يتعلق بهذا الشرح وهو ما نظنّ أنّا نترجم به عن رأي أكثر من اطّلع عليه من الأدباء. وذلك أننا عند تصفحنا للديوان لم نكد نجد فيه ما يدعو إلى الشرح أو التفسير لتوخي الناظم الألفاظ المأنوسة والتراكيب السهلة والمعاني القريبة المأتى دون الإيفال في عويص اللغة والإبعاد في المغازي إلى ما يفوت ذهن المُطالع وهي المَزيّة التي عُرف بها هذا الشاعر والحلية التي يوصف بها شعره واللون الذي تتمثل به صورة كلامه في الأذهان ولذلك لم يكد الشارح يجد ما يخدمه به ولم يرَ أن يقتصر على تفسير الغريب وحده لأنه لا يتعدى ألفاظاً معدودة أكثرها يُعرف بالقرينة فانصرف إلى تفسير المعروف بالمعلوم