زينب فهيم أحمد - اللغة العربية وأهميتها فى العلوم الشرعية
دراسات /
أدبية /
2010-08-23
المنتدى : اللغة العربية
اللغة العربية وأهميتها فى العلوم الشرعية
________________________________________
اللغة العربية وأهميتها فى العلوم الشرعية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد شرّف اللغة العربية وخصها بأمرين عظيمين حيث أنزل كتابه بها واصطفى رسوله من أهلها والناطقين بها، فكانت بذلك وعاء لأصْلَي الإسلام العظيمين: القرآن والسنة.
وقد أدرك سلف هذه الأمة الصالح هذه الحقيقة العظيمة فاحتفوا باللغة العربية وأنزلوها المكان اللائق بها وبقدسيتها، وأوجبوا تعلّمها وتعليمها على أنفسهم وأبنائهم، ولم يسمحوا لأنفسهم بالتساهل فيها لأنهم رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم يندب أصحابه بقوله: «أرشدوا أخاكم فقد ضل» عندما لحن رجل في حضرته. ورأوا الفاروق رضي الله عنه تتوالى عه التوجيهات في ذلك، فيكتب إلى أبي موسى الأشعري بقوله: «تعلّموا العربية فإنها من دينكم.. وأعربوا القرآن فإنه عربيّ». ويكتب له في مناسبة أخرى عندما ورده منه كتاب أخطأ فيه كاتبه: «قنّع كاتبَك سوطاً». ويشتد غضبه ويعظم نكيره عندما سمع أعرابياً يقرأ آية سورة براءة: «أن اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولُه..» بجر اللام في (رسوله) ويقول: وأنا بريء مما برئ اللهُ منه. فقال له عمر: ويحك يا أعرابي، كيف تبرأ من رسول الله؟ فقال الأعرابي: ذاك ما علمنيه أصحابُك. فقد قدمتُ إلى المدينة ولا علمَ لي بالقرآن، فأقرأني بعضُ أصحابك هذه الآية كما سمعتَها مني. فقال له عمر: إنها ليست كذلك، وإنما هي (ورسولُه) بضمة على اللام. فقال الأعرابي: وأنا بريء مما برئ اللهُ ورسولُه منه. فأمر عمرُ بعد ذلك بأن لا يقريء القرآن إلا من له إلمام بالعربية.
وكل الذي تصدّوا للتفسير من العلماء صدّروا تفاسيرهم بمقدمات أبانوا فيها عن أهمية اللغة العربية لمن يريد أن يتصدى لتفسير القرآن.
وذكر السيوطي في «الإتقان» أن على المفسر أن يكون –قبل البدء في التفسير- على إلمام بخمسة عشر علماً، أولها: علم اللغة العربية
وثانيها: علم النحو
ثالثها: علم الصرف..
إلى آخرها.
فهذه العلوم الثلاثة التي ذكرها السيوطي في كتابه كلها تندرج تحت مسمى عام واحد هو علم اللغة العربية.
وما قيل بصدد المشتغلين بالقرآن وتفسيره، يقال مثله للمشتغلين بالسنة وبيانها وشرحها، ذلك أن القرآن والسنة نصّان عربيان يتسنّمان الذروة في البلاغة والفصاحة، ويشتركان في احتياج المشتغل بهما إلى فقه اللغة التي جاءا بها، والإحاطة بأسرارها ودقائقها وشورادها. وقد مر على ذلك مثال من القرآن. ومن أمثلة ذلك من الحديث اختلاف الفقهاء في حكم جنين بهيمة الأنعام الذي تذبح أمه وهو في بطنها، بسبب اختلاف الرواية في ضبط هذا الحديث: «ذكاة الجنين ذكاة أمه»، فقد رُويت كلمة «ذكاة» الأخيرة بروايتين: الرفع والنصب. ويختلف الحكم الشرعي في كل واحدة منهما عن الأخرى، فرواية الرفع تجعل تذكية أمه مجزية عنها وعنه، أما رواية النصب فتوجب له تذكية كتذكية أمه.
هذا طرف مما يخص المفسر والمحدث. ولو نظرنا إلى الفقيه لوجدناه لا يقل عنهما في احتياجه إلى الفقه في العربية ليكون فقيهاً في الأحكام الشرعية، وفي حديث «الذكاة» المذكور إشارة إلى ذلك. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما يروى من الطرائف التي تحدث في مجلس الخليفة هارون الرشيد بين جليسيه العالمين الجليلين أبي يوسف الفقيه، صاحب أبي حنيفة، والكسائي النحوي القارئ، فقد كان أبو يوسف يداعب الكسائي ويحاول إغاظته بالتقليل من شأن علمه الذي نبغ فيه وهو علم النحو والعربية، فأراد الكسائي أن يثبت له أهمية هذا العلم وحاجة الناس إليه وبخاصة الفقهاء، فقال له: يا أبا يوسف، ما رأيك في رجلين رفِع إليك أمرهما رجل يقول عن أحدهما: هذا قاتلُ أخي (بالإضافة)، وقوله عن الآخر: هذا قاتلٌ أخي (بالتنوين)، أيهما تقتصّ منه؟ فقال أبو يوسف: منهما معاً. فقال الكسائي: أخطأت. القِصاص إنما يكون من الأول لأنه هو الذي قتَل وانتهى، أما الثاني فإنه يتوعّد ولمّا يقتل بعد.
هذه بعض الأمثلة والنماذج الموجزة التي تشعِر بأهمية اللغة العربية وتفرّدها وقدسيتها. ذلك أنها اللغة الوحيدة من بين لغات الدنيا التي تتصف بهذه الصفة وتجعلها ميراثاً وأمانة يتلقاها الخلف عن السلف ويبلغونها لمن بعدهم دون أن يكون لهم حرية التغيير أو التصرف فيها. ولهذا نراها لا زالت غضّة طريّة كما كانت عليه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. ويستطيع بها ابن هذا القرن الخامس عشر أن يقرأ ما أنتجه أبناء العصر الجاهي والإسلامي وما بعدهما ويفهم بكل يسر وسهولة، فيما يندر أن تجد لغة يفهم فيها أبناء الجيلِ الجيلَ السابق عليهم. ولعل هذا ما يفسر لنا السبب وراء تلك الحملات العاتية التي تتعرض له اللغة العربية من قبل أعدائها منذ مطلع هذا القرن الميلادي ما لم تتعرض له أي لغة أخرى –فيما أعلم- لأن اللغة العربية ليست كهذه اللغات أداة للتفاهم فحسب، وإنما هي وعاء لموروث مقدّس خالد ومنهاج حياة، يتمثّل في القرآن والسنة وما خلفه السلف لنا من شتى العلوم والفنون والمعارف، مما جعل الأعداء حريصين على أن يقطعوا صلتنا بهذا الماضي التليد سالكين لتحقيق ذلك سبلاً متعددة، منها: الدعوة إلى العامّية، لكي يتمزّق شمل العرب بين عامّيات متعددة، وتنقطع صلتهم بالفصحى ومن ثمّ بالقرآن والسّنّة. ومنها: الدعوة إلى إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية، لكي لا يستطيع المسلمون قراءة تراثهم المكتوب بالحروف العربية كما حصل في تركيا. ومنها الدعوة إلى إلغاء الإعراب وحركاته لكي ينعدم التفريق والتمييز بين الفاعل والمفعول والمرفوع والمنصوب والمجرور، فيضيع المعنى المراد ويلتبس الفهم، إلى غير ذلك من الدعوات الخبيثة التي نشرها الأعداء في مصر بادئ ذي بدء نظراً لأهميتها وثقلها في العالم العربي، ثم انطلقوا منها إلى بقية البلاد العربية. وقد بدأ هذه الحملات مستشرقون حاقدون، وتلقّفها عنهم عرب مستغربون بكل أسف. ولكن هذه الحملات كلها باءت بالفشل بفضل الله الذي حرس العربية وقيّض لها بعض الغيورين الذين دافعوا عنها ونافحوا بالحجة والبرهان، مما هو محفوظ ومسجل في مناظرات ومحاورات شهدتها حقبةُ الخمسينات في مصر. «ويمكرون ويمكر اللهُ واللهُ خير الماكرين»، «إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافِظون».
توقيع : زينب فهيم أحمد