الكاتب سماحة المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين - والذكريات صدى السنين - تقديم د مصطفى دندشلي
ندوات /
أدبية /
2003-11-12
كاتب وكتاب
الكاتب : سماحة المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين
الكتاب : والذكريات صدى السنين
التقديم : د. مصطفى دندشلي ( رئيس المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق )
الزمان : مساء 12 تشرين الثاني 2003
المكان : قاعة محاضرات المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق ، صيدا
* * *
أصحاب الفضيلة ، أيّها الأصدقاء الأعزاء
السلام عليكم ورحمة الله
يسعدني بداية أن أتوجّه بتحية طيِّبة وبأسمى عبارات التقدير والمحبَّة إلى سماحة مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين ... وأرحِّب بالحضور الكريم أجملَ ترحيب وأحسنه ، وأتقدَّم إليكم جميعاً بخالص التهنئة القلبيّة والتمنيّات الصادقة بحلول شهر رمضان المبارك ، راجين من الله تعالى أن يعيده علينا وعليكم جميعاً باليُمن والسعادة والخير العميم ، وكامل تحرير أرضنا المحتلَّة والانتصار القريب في الأرض المقدّسة فلسطين .
إنَّنا في هذه الأمسية الحميمة ، نتابع عقد الحلقات الدراسيّة والنَّدوات الحواريّة ، كما جرت العادة في السنين السابقة ، حول كُتُب وموضوعات متنوّعة نسعى إلى عرضها ومناقشتها وإثارة الاهتمام حولها ، لما فيها من فائدة علميّة وثقافيّة تهمّ جمهورنا الكريم .
ونحن في هذه الأمسية المباركة نجتمع لنعرض ونناقش كتاب سماحة مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين . وهو يشتمل على ذكريات حميمة ومذكَّرات خاصة ، صدىً لسنين خالية ، حافلة ، وغنيّة بأحداثها العلميّة والتعليميّة والتربويّة والدينيّة والوطنيّة . وهو كتاب ، إذا كان يخصّ شخصيّة صيداويّة مرموقة ، وشخصيّة روحيّة فاعلة ، كانت قد لعبت دوراً ريادياً بارزاً وما زالت حتى الآن ، على الصعيد الدينيّ والوطنيّ والإداريّ ، إلاّ أنّه في الوقت نفسه يُلقي ضوءاً مشعّاً على مرحلة تاريخيّة مديدة من تاريخنا الحديث ، كانت مسرحاً لأبرز الأحداث والظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة والثقافيّة والعلميّة والتربويّة، التي مرّ بها مجتمعنا الصيداويّ ، بل ولبنان بصورة عامة .
وسماحة المفتي الشيخ جلال الدين ، هو أوَّل رجل ـ فيما أعلم ـ من بين العلماء والسياسيّين والمثقّفين في مدينة صيدا ، يكتب سيرة ذاتيّة ومذكّرات شخصيّة تحوي جوانب عديدة تتَّصل بالحياة الثقافيّة والتعليميّة والدينيّة والاجتماعيّة والوطنيّة في صيدا ، ومن وجوهها المختلفة بوجه خاص وما جرى من أحداث في لبنان أيضاً بشكل عام . وذلك عملاً بقول الرسول الكريم ، مفاده أنّ عمل الإنسان بعد موته لا ينقطع ، وأنّ ذكره الطَيّب يبقى ، إذا ترك ، من جملة ما ترك ، علماً يُنفع به . وسماحته قد ترك لنا أشياء كثيرة على صعيد العلم والسلوك الحسن والمواقف الأخلاقيّة والوطنيّة والمصلحة العامة تنفع الناس جميعاً .
* * *
هنا اسمحوا لي ، أيّها السيِّدات والسّادة ، بأن أستطرد بعض الشيء ، لأشير سريعاً إلى ما كان قد كتبه الكاتب والمفكّر والقصّاص الفرنسيّ " أناتول فرانس " في أحد كتبه ، وطَرَح فيه فكرة مثيرة للذهن والفكر والخيال على حدّ سواء ، مؤدّاها : لو أنَّ البشر ، منذ أن عرفوا الكتابة والقراءة ، أخذ كلّ واحد منهم يدوّن انطباعاته وأفكاره وخواطره وأحاسيسه وعواطفه ونظرته إلى الكون والوجود والإنسان والخلق والطبيعة وعلاقات الناس بعضهم مع البعض الآخر ، وأشاروا إلى تنظيماتهم الاجتماعيّة ومفاهيمهم الخلقيّة والدينيّة والروحيّة إلى آخر ما هنالك ، لو كان كلُّ واحد منهم فعل ذلك وسجَّل هذه الانطباعات والملاحظات ، وهذه التصوَّرات الذهنيّة ، لكانت ، برأي الكاتب ، أكبر غنى وثروة لا تقدَّر بثمن ، وذلك لإغناء الحضارة الإنسانيّة بمجملها . حقاً ، هذه فكرة مثيرة للذهن البشريّ والخيال ، غير أنّها فكرة نظريّة مجرّدة غيبيّة ، وتصوِّرات ذهنيّة لا أكثر ولا أقلّ ...
هنا ، وفي هذه السياق ، تُطرح في الواقع مسألةُ مفهومِنا للتّاريخ وللتّاريخ المعاصر على وجه الخصوص ، وكيفيّة قراءتنا له ، وما هي الفائدة من وراء ذلك !!... ففي هذا المجال ، كثيراً ما كانت توجّه إلينا وإلى مركزنا الثقافيّ ملاحظات ، هذا إذا لم أقل انتقادات ، ملخّصها أنَّنا كثيراً ما نركِّز على النَّواحي التاريخيّة ، وأنّ موضوعاتنا ومحاضراتنا كثيراً ما كانت تعالج وتتَّصل إلى هذا الحدّ أو ذاك ، بقضايا التَّاريخ وبالتَّاريخ المعاصر ، الاقتصاديّ منه والاجتماعيّ والسياسيّ والثقافيّ ، إلى آخر ما هنالك .
لقد كنّا دائماً نُسأل عن فائدة هذا الإلحاح على التَّاريخ الماضي في وقتنا الحاضر . أَلَيس هذا التَّاريخ ، كما يزعمون ، إنّما هو عبارة عن فترة من الفترات الزَّمنيّة قد مضت وانقضت وولّت ؟... أَوَلَيس من الأجدى والأنفع لنا جميعاً الآن أن نتوجَّه بتفكيرنا وجهدنا إلى المستقبل ، ونسعى دائماً وأبداً إلى العمل على بنائه ودفعه نحو الأفضل ؟!...
لقد كان دائماً جوابُنا ببساطة متناهية ، أنّ قراءتنا للتَّاريخ ، وللتَّاريخ الحديث والمعاصر على وجه الخصوص ، لا لإعادته إلينا بقضِّه وقضيضه ، بتفصيلاته وحذافيره ، بحرفيته وشموله ، بعلاقاته الاجتماعيّة ومفاهيمه وأفكاره وآرائه ، لا ، بل المقصود ، في الأساس والأعماق ، أن نعيد قراءة التَّاريخ ، والتَّاريخ القريب منّا تحديداً ، قراءة علميّة وعقليّة وموضوعيّة ، وذلك لإدراكه ووعيه من جديد ، وبصيغة جديدة ، ومن ثمَّ إعادة تكوينه وتصوّره ورسمه وتقريبه إلى أذهاننا في الظّرف الراهن من جوانبه المختلفة ونواحيه المتنوِّعة ، كي نفهمه ونعيه وندركه إدراكاً تاماً وحقيقياً واستخلاص منه العِبَر والدروس ، ويكون لنا عوناً إن أمكن ، ذلك أنّه يُكوِّن ، حقيقة وفعلاً ، جزءاً لا يتجزأ منّا ، من وجودنا وشخصيّتنا ، من حاضرنا وواقعنا الحالي .
إنّ قراءتنا للتّاريخ ، وبخاصة التَّاريخ الحديث والمعاصر ، إنَّما لنقف على مكوِّنات شخصيتنا وعوامل التغيّر الحاصل وأسبابه وظروفه وعناصره ، وماكمن الزَّلل والخلل أو الخطأ فيه من جهة ، ونواحي النّجاح والصّواب من جهة أخرى ، كلّ ذلك من أجل فهم الحاضر الذي نعيش فيه ، وبالتّالي توضيح رؤيتنا للمستقبل الذي نسعى إليه ونطمح .
فالمجتمع ، أيّ مجتمع ، لم يأتِ إلينا ويصل من فراغ أو من عدم ، ولا هو معلّق بين السماء والأرض . بل هو نتيجة طبيعيّة ، موضوعيّة ، لماضٍ قريب أو بعيد أو موغل في الزّمن السحيق . لذلك وانطلاقاً من هذا التصوّر التّاريخيّ ، لا يمكن أن نفهم الحاضر فهماً حقيقياً ، علمياً ، بمعزل عن هذا الماضي . فانطلاقاً منه ومن هذا الحاضر ووعيه ، نستطيع ، إذا أردنا ، أن نبنيَ مستقبلاً أفضل ، يحقِّق فيه الإنسان كرامته وعزَّته وإنسانيته .
* * *
من هنا ، وفي هذا الإطار ، ينبغي أن توضع قراءتُنا لكتاب سماحة المفتي الشيخ جلال الدين ، ومناقشتُه وتحليلُه وانتقاده . فهي قراءة في الحقيقة تضعنا في تماس مباشَر وحيويّ ومعيوش مع واقعنا الصيداويّ بتغيّراته في الماضي والحاضر ، وتركيبته الاجتماعيّة والعائليّة ، وعاداته وتقاليده ، ومرافقه العلميّة والتربويّة وخلافه . فالشيخ جلال الدين ، عندما يتحدَّث عن نفسه وعائلته وتربيته وتعليمه والوظائف التي احتلها والمناصب التي تبوأها ، إنّما يتحدّث في كلّ ذلك من خلال انتمائه الحميم لمدينة صيدا ، وانطلاقاً من مجتمعه الصيداويّ نحو الآفاق الأخرى .
وهنا ، يحقُّ لنا أن نطمئن روح المغفور له الشيخ أحمد عارف الزين ، بأنّ عدداً من الصيداويين ، وإن كانوا ما يزالون قلة ، أخذوا منذ زمن قريب يُعيرون اهتماماً أكثر فأكثر بتاريخهم . ذلك أنّه قد أشار في كتابه الفريد والمفيد والرائد في زمانه " تاريخ صيدا " الصادر عام 1912 ، إلى ما يلي : " لا نشك في أنّ مواطنينا الصيداويّين ، متى وقفوا على تاريخ أجدادهم الغابرين ، يفيقون من السّبات ويتداركون ما فات (...) وإن عَدُمَ من بينهم أو قلّ ، مَن يشتغل بالمفيد ". والمفيد هنا يعني الأدب والشعر والفكر والتَّاريخ ، بلغة الأدباء .
فأصبح لدينا الآن عددٌ من الكتّاب والمؤرخين الاجتماعيّين والعلماء الذين تناولوا مدينة صيدا عَبر الحِقَب التاريخيّة والاجتماعيّة المتعاقبة . والكتاب الذي بين أيدينا ، لهو دليل ساطع على أنّه يذهب هذا المنحى في التَّأريخ ، وإن كان عَبر السيرة الذاتيّة والمذكّرات الشخصيّة .
ولما كان هذا المؤلَّفُ الذي هو عبارةٌ عن ذكرياتٍ شخصيةٍ ، كانت صدىً لسنين معيوشة ، قد أثار في فكرنا كثيراً من الأهميّة والرَّغبة في المعرفَة الذاتيّة والفائدة التاريخيّة ، فقد أمضينا حوالي يومَين متواصلَيْن أو أكثر بقليل ، في قراءة هذا السِّفر الغنيّ بمعلوماته الاجتماعيّة الصيداويّة ، ومحطاته التاريخيّة ، وإشاراته العلميّة الدقيقة في كثير من الأحيان ، وتفصيلاته الممتعة والمشوّقة والمنعشة لذاكرتنا ، ولذاكرة الصيداويّين جميعاً ، حاضراً وأعتقد أيضاً مستقبلاً . فهي سيرة ذاتيّة خاصة وحميمة ، تُلقي بظلالها الشاملة ولمحاتها الموحية على مدينة صيدا ، قديماً وحديثاً ، علميّاً وروحيّاً ووطنيّاً وثقافيّاً ، أو أنَّ مدينة صيدا تتحدّث عن نفسها ، عَبر هذه السِّيرة الذاتيّة ومن خلالها .
* * *
هذا ، وتتضمَّن هذه السِّيرة الذاتيّة خمسة فصول :
الفصل الأول : مرحلة التحصيل العلميّ من جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في صيدا إلى الأزهر الشريف ... ومن ثمَّ إلى مهنة التعليم .
الفصل الثاني : مرحلة القضاء .
الفصل الثالث : مرحلة الإفتاء في صيدا .
الفصل الرابع : في الهيئات الإسلاميّة الخيريّة .
الفصل الخامس : تكريم مفتي صيدا والجنوب .
يضاف إلى ذلك : تمهيد ومقدّمة تعريفيّة طويلة نسبيّاً ، وهي تنقسم إلى قسمين : أولاً تعريف بصاحب المذكرات ، ثانياً تعريف بمدينته صيدا . ويختم بملاحق تاريخيّة وثائقيّة غاية في الأهميّة ، بلغت 18 ملحقاً .
يبتدئ الشيخ جلال الدين في تعريفه إلى الاسم والشّهرة والحسب والنَّسب الذي يتَّصل بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ، عـن طريق ابنته السيِّدة فاطمة وولديها الحسن والحسين من زوجها الإمام علي بن أبي طالب . وأصل العائلة من شبه الجزيرة العربيّة . وكان قد وَفَدَ الجدّ الأعلى السيّد جلال الدين البخاريّ إلى صيدا في عهد دولة المماليك ووالده السيّد أحمد جلال الدين نقيب الأشراف في صيدا ، قبل إلغاء هذا المنصب في زمن الانتداب . وكانت النشأة والطفولة في بيت يقع في حيّ الزويتيني داخل صيدا القديمة ، ويتصل بزاوية بني جلال الدين .
ثم يقدِّم صاحب السيرة الذاتيّة لمحة ضافية عن حياة والده أحمد جلال الدين ، الذي عاش حياة الأولياء الصالحين وتولّى إمامة صلاتَي الظهر والعصر في مسجد البحر ، والخطابة في الجامع العمريّ الكبير وأجيز بإقامة الذِّكر حسب الطريقة السنوسيّة من السيّد أحمد السنوسي . وهنا يجري الحديث والشرح عن مفهوم الطريقة الصوفيّة ومفهوم طريقة الذّكر ، والمراد بالأشراف ونشوء فكرة تأسيس " جمعيّة نشر العلم والفضيلة " في صيدا في أوائل العشرينات .
ثمّ بعد ذلك، يأتي إلى مراحل التعليم المتتالية : المرحلة الابتدائيّة في جمعيّة المقاصد والمدرسة الرسميّة الرشديّة حتى الخامس الابتدائيّ ، ومن ثمّ الانتساب إلى مدرسة الصنائع الرسميّة في بيروت ، ومن بعدها الانتساب إلى مدرسة الأخوة المريميّين ( الفرير ) بصيدا ، بعدها الانتقال والانتساب إلى الكليّة الإسلاميّة في بيروت ، ثمّ الانتساب إلى كليّة دار التربية والتعليم في طرابلس ، والحصول منها على شهادة البكالوريا . وأخيراً الانتساب في أعوام 35 ـ 38 إلى جامعة الأزهر في القاهرة والحصول منها على شهادة العالميّة للغرباء.
أما الوظائف التي شغلها الشيخ محمد سليم جلال الدين ، فهي التعليم في كليّة المقاصد الإسلاميّة حتى صدور المرسوم بالتعيين قاضياً شرعياً في محكمة حاصبيّا الشرعيّة . وبعدها تنقّل في سلك القضاء الشرعيّ من منصب قاضٍ في محكمة صيدا الشرعيّة ، ثمّ مستشار في محكمة الاستئناف في بيروت . ثمّ الانتقال في آذار 1955 إلى رئاسة المحكمة الشرعيّة في صيدا لغاية آذار 1975 . وفي هذا التّاريخ صدر المرسوم بالتعيين رئيساً للمحكمة الشرعيّة السنيّة العليا في بيروت ومديراً عاماً ومفتشاً للمحاكم الشرعيّة السنيّة في لبنان . وبتاريخ 30 حزيران 1983 صدر مرسوم بالإحالة على التَّقاعد . وفي 5 كانون الأول من السنة نفسها ، صدر القرار بتكليفه بتولي منصب مفتي صيدا . وفي أيار 1984 ، انتخب مفتياً لصيدا بالتَّزكية ، وأصبح مفتياً لصيدا والجنوب رسمياً .
أما المناصب التي شغلها ، فهي رئاسة جمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في صيدا، عضو في اللَّجنة الدائمة للمجلس الشرعيّ الإسلاميّ الأعلى ، رئيس اللَّجنة القضائيّة في المجلس الشرعيّ الإسلاميّ الأعلى ، رئيس مجلس العمدة لمدارس الإيمان ، رئيس هيئة الدعوة الإسلاميّة في صيدا ، رئيس هيئة الإغاثة الصيداويّة .
أما الكتب التي أصدرها فهي خمسة : الزّواج ، الطّلاق ، الزّكاة ، دليل الحاج والمعتمر ، رسالة الجنائز .
* * *
وبعد هذا القسم الخاص بصاحب المذكّرات ، يأتي إلى الحديث عن مدينته صيدا بشيء من الدِّقّة والتفصيل من حيث موقعها واسمها وتاريخها قديماً وحديثاً ، حتى عهد الأتراك ، الذي كان مليئاً بالأحداث ومميّزاً بالوعي القوميّ العربيّ ، والتخلُّص ، كما يقول الشيخ جلال الدين ، من ظلم الحكّام الأتراك الذين تعاقبوا على الحكم في لبنان وسوريا في تلك الحِقْبة، وهي فترة حاملةٌ مآسي الحرب العالميّة الأولى ، إلخ ...
بعدها ، يجري الحديث وبشيء من التوسّع عن : صيدا في عهد الانتداب ، صيدا في عهد الاستقلال ، صيدا والاحتلال الإسرائيليّ وحال صيدا المدينة ووضعها في أثناء الاحتلال وبعده .
* * *
ثمّ يتحدَّث صاحب السّيرة الذاتيّة عن العمران ، والآثار ، وأحياء صيدا داخل السّور وخارجه ، والمواقع الأثريّة المهمَّة ومساجد وحمّامات صيدا الأثريّة ، إلى أن يأتيَ إلى الحديث عن مدارس صيدا في الربع الأول من القرن العشرين ، من مدارس أهليّة ومدارس خاصة أقامتها الإرساليات ، وقد أتينا على ذكرها أعلاه ، إلخ ...
* * *
وبما أنّ للوضع الاجتماعيّ والعادات والتقاليد ، أهميّةً كبرى في تشكيل جانب كبير من التّراث ودوراً بارزاً في الثقافة ، عَمَدَ الشيخ محمد سليم جلال الدين في كتابه ، وبشيء من التفصيل أيضاً ، إلى عرض بالشرح والتفسير العادات والتقاليد والأفراح في المناسبات المختلفة ، والأعياد ، وأسلوب حياة الصيداويّين في الربع الأول من القرن العشرين .
* هنا كنت أتمنى أن يتوسّع قليلاً في وصف حيّ الزويتيني ، وهو الحيّ الذي نشأ وترعرع فيه : وصفِ هذا الحيّ الشعبيّ وحياة معيشة الناس فيه .
* كنت أتمنى كذلك أن يصف لنا الزينة التي كانت تقام في صيدا القديمة ، في حيّ المصلبيّة مثلاً ، وساحة باب السّراي أيام رمضان والأعياد ، والأنوار المشعّة والمحلات التجاريّة المزدانة ومحلات الحلويات التي يتدلَّى منها قضبان الملبن ، والشوارع التي تغطيها زينة قصاصات الورق من كلّ الأشكال والألوان ... والحياة التي تدبّ في صيدا من جديد في الأمسيات الرمضانيّة وفي كلّ حيّ أو ساحة أو ناحية .
ثمّ نصل إلى الإعداد لفصل الشتاء في تأمين كميّة القمح لأربعة أشهر ، والتي تأتي من حوران . وتحضير كميّة البرغل لمدة عام من سلق القمح ، ثمّ نشره على السطح ، ثمَّ جرشه، ثمَّ تأمين كميّة العدس وغسله ونشره ، إلخ ... وصنع المربّيات التي تحتاجها العائلة . والإضاءة في مصابيح على الكاز . والخبز والأفران ، ذلك أنّ صيدا لم تعرف أفراناً تبيع الخبز من صنعها في العقدَين الأول والثاني من القرن العشرين ، بل كانت كلّ عائلة تحضِّر العجين وتعدّه أرغفةً وتضعه على لوح أو " فرش " ( من خشب ) وينقله أجير الفرّان. وكان الفرّان يتقاضى أجرة شهريّة ويأخذ من الخبز رغيفاً عن كلّ عشرين ، ومن صينيّة الكبّة قرصاً . كذلك صنع العائلة أقراصاً بالتمر والمعمول والأسحا والسَّحلب والزَّردة وهزّت رأسها ، إلخ ...
ثمّ يختم حديثه في هذا الجانب الاجتماعيّ عمّا كان يحدث في شهر رمضان في صيدا قديماً وحديثاً وعن الأعياد في مرحلة الطفولة والمراهقة . ثمّ يشير وفي صفحات عديدة إلى التعايش الإسلاميّ المسيحيّ في صيدا ويستشهد مرّات عديدة بالآية الكريمة : " يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم". وفي الحديث الشريف : " الناس سواسية كأسنان المشط ".
في هذه المقدّمة ، يسعى سماحة الشيخ جلال الدين إلى إبراز القيمة الإنسانيّة والتّعايش الإنسانيّ والتَّعاون بين الناس ، فقد كان العيش المشترك دوماً مستمراً ومتواصلاً في صيدا بين طوائفها وأهلها . فهي (أي صيدا ) تمتاز بمجتمعها الوطنيّ الذي يضمّ عائلات من الطائفتَين الإسلاميّة والمسيحيّة . وقد انصهرت هذه العائلات في بوتقة واحدة وتعايشت وكأنّها عائلة واحدة . وأصبحت عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم واحدة . وقد استمرّ هذا التعايش رغم ما صادفه من هزّات وحملات ودسائس . ( أحداث 1958 ، وأحداث 1975 ).
* * *
لن أستطيع بطبيعة الحال أن أدخل أكثر من ذلك في الإحاطة والعرض بما جاء في هذا السِّفر النفيس ، إنّما أردت أن أعطيَ لمحة سريعة فقط . فهو في الحقيقة يحوي معلومات اجتماعيّة وثقافيّة وعلميّة ووطنيّة بالغة الأهميّة ، والغزارة والدقّة في الوصف والتفاصيل ، من حيث العادات والتقاليد والأفراح وأنواع الأطعمة والمأكولات على أشكالها . والإشارة في كثير من الصفحات إلى الإنسان وكرامته وسبب خلقه وتفضيله على سائر المخلوقات .
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، فإنّ أثر المدارس العديدة والمختلفة التي دَرَس فيها وتعلّم، كان له تأثير كبير في بناء شخصيته وفكره وعلاقاته الاجتماعيّة . فالمقاصد ، كما يقول ، زوّدته بالنظام والمحافظة على طاعة الله وأداء الأمانة وحبّ الوطن . وفي المدرسة الرسميّة التي تضمّ طلاباً من مسلمين ومسيحيّين ، كان لـه فيها رفاقٌ من الطائفتَين . فازداد فهمه للعيش الوطنيّ المشترك وانتماؤه للوطن . وفي مدرسة الصنائع في بيروت ، وجد نفسه في جوّ جديد يضمّ طلاباً من مختلف المناطق ، لكلّ عاداته ولجهته . وكان قد تعلّم واكتسب من خبرة السنين الطويلة في التعليم ضوابط حفظ النِّظام وقت إعطاء الدرس والطريقة التي توافِقُ مستوى الطلاب .
وهنا لا بدّ من أن نشير إشارة سريعة إلى أنَّه كان قد أمضى ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر في تعليم الحساب والجبر والهندسة ، كما أنَّه أمضى في القضاء الشرعيّ مدّة بلغت أربعين عاماً ونيّف ، ممّا أكسبه كلّ ذلك ، حتماً ، فكراً نيِّراً ومنطقياً ، يبدو واضحاً أشدّ الوضوح في لغته وأسلوبه وترابط أفكاره .
هنا ، لا بدّ من التوقف قليلاً للحديث عن اللغة والأسلوب . لقد أعجبني جداً ، بل أحببت ذلك الأسلوب العلميّ الدقيق الهادئ الواضح ، واللغة العربيّة الجميلة المتقنة ، التي لا غرابة فيها أو صعوبة أو تعقيد ، بل هي سلسة كسلاسة الماء العذب الرقراق ، تتدفَّق بسهولة ويسر ، مع ما يتخللها بين الحين والآخر ، طُرفةٌ من هنا أو نادرةٌ من هناك ، يشمل ذلك كلّه صراحةً كليةً وجرأةً نادرةً ، وبخاصة في أيامنا الراهنة ، وذلك عندما يأتي ، مثلاً ، على ذكر الشاعر علي الحوماني الذي فُصل من كليّة دار التربية والتعليم في طرابلس ، بسبب أبيات من الشعر ، كان قد أوردها في محاضراته في الأدب العربيّ ، وهما بيتان لأبي نواس حيث يقول ( بالأذن منكم جميعاً ).
إذا أتى شهرُ الصِّيام أَفطرُ على كأسِ المدامِ أو المدامة
وإذا حجَجْتُ أحجَج على ظهر الغلامِ أو الغلامة
في الحقيقة ، لقد توقَّفت طويلاً وتأمَّلت ، ولم أصدّق أن يَرِد هذَان البيتان الإباحيّان ، وإعادتهما تحت قلم سماحة المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين ، فهذا إن دلّ على شيء ، فإنّما يدلّ فقط على روحه السّمحة ، الجريئة ، الطريفة ، والمرحة في نهاية المطاف .
* * *
وفي ختام حديثي ، لا بدّ لي من إبداء بعض الملاحظات والإشارات السَّريعة على ما لَفت نظري ، عند قراءتي هذا الكتاب القيِّم والمليئ بالذِّكريات الحميمة وبأشياء كثيرة وكثيرة جداً في الواقع، من المتعذِر عليّ في هذه العُجالة أن آتيَ عليها بمجملها أو أن أذكرها تفصيلاً. لذلك سأحاول قدر الإمكان أن اقتصر وأتوقَّف أمام بعض منها ، لأقول :
* ما لفتني بداية هو هذا الموقف المتسامح ، غير الطائفيّ ، وهذا الأفق الإنسانيّ والدينيّ ، الروحيّ الذي تتمتع به شخصيّة المؤلف ، وتشديده في فصول عديدة من الكتاب ، على تمسّكه بالعيش الوطنيّ المشترك واستشهاده مرّات عديدة بالآية الكريمة : " يا أيّها الناس، إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ".
* كذلك تلك الدقَّة في التَّواريخ والمعلومات ، والدقّة في الوصف والتحديد ، سواءً كان ذلك لجهة المكان أو الأمكنة ، أم الزمان أو الأزمنة المتعاقبة . كما أنّ المنهج الذي اعتمده في هذه المذكَّرات هو المنهج التاريخيّ ... وهو أيضاً المنهج الذي اعتمده عند بحث كثير من الموضوعات المتنوّعة لموضوعات القضاء والأوقاف وخلافهما ...
* ثمّ حديثه الدقيق وشبه التفصيليّ عن المدارس التي تعلّم فيها ، ابتداءً من مدرسة المقاصد ووصولاً إلى دراسته في كليّة الشريعة في الأزهر الشريف في القاهرة ، مروراً بالمدارس الأخرى التي أتينا على ذكرها أعلاه ، وإشاراته الواسعة والموحية عن ذكرياته في كلٍّ مدرسة من هذه المدارس والأسباب التي دفعته إلى الانتساب إليها والفكرة التي راودته والأشخاص الذين شجّعوه وساعدوه والنصائح التي زوَّدوه بها لاختيار دراسة الشريعة الإسلاميّة واللغة العربيّة في القاهرة ، وسفره من صيدا إلى مصر عن طريق البرّ في أيلول 1935 على ثلاث مراحل ، ووصوله إلى القاهرة في ساعة متأخرة من الليل . ثمّ الفندق الذي نزل فيه الليلة الأولى ، وعربة الحنطور التي استخدمها والمبلغ من المال المخصّص له شهرياً ، إلى أن يذكر بعد ذلك نبذة موجزة عن جامع الأزهر في القاهرة .
هنا ، أتوقّف عن " الكلام المباح "، ولن أذكر شيئاً أكثر من ذلك ، حتى أدعوَ وأشجّع كلَّ واحد منكم ، مَن لم يقرأ الكتاب ، أن يقرأه وأن يشعر بالمتعة الفكريّة والثقافيّة والتاريخيّة التي شعرت بها والمعلومات الكثيرة التي اكتسبتها من جرَّاء هذه القراءة . كلّ ذلك وغيره كثير أيضاً بحيث أنّك عندما تقرأه ، تشعر وكأنَّك تعيش معه وترافقه في رحلته وتنقلاته ...
فعلى سبيل المثال فقط لا الحصر : تحديده السنة التي انتسب فيها إلى كليّة المقاصد الإسلاميّة ، وكان ذلك عقب الحرب العالميّة الأولى وقيام دولة لبنان الكبير ودخولها تحت الانتداب الفرنسيّ ، حيث أمضى في المقاصد سنتين وتعلّمه حروف الأبجديّة حفظاً وكتابة لجهة وقوعها أوَّل الكلمة ، ثمّ في وسطها وفي آخرها... مثلاً ، الأبجديّة مقرونة بأحد حروف العلّة لفظاً وترديداً : باء ألف باء ـ باء واو بو ـ باء ياء بي ، إلخ ... ثمّ كتابة : با ، بو ، بي ... ، إلخ ...
ومن ثمّ ، تحديده التَّاريخ وهو عام 1921 ، الذي عيّن فيه المرحوم الأستاذ عبد الرحمن البزري مديراً جديداً في كليّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في صيدا ، بعد أن كان قد تلقّى علومه في مدرسة السلطاني في بيروت ( وهي مدرسة عثمانيّة )، ووصفه إيّاه من حيث شخصيته : فكان أستاذاً حازماً في إدارته وساهراً على حفظ النظام ومصلحة التلاميذ ، أميناً على ما عُهد إليه به . وقد عُيِّن معه أساتذة ممَّن كانوا في مدرسة السلطاني في بيروت ، وأُخذوا ضباطاً في الجيش العثمانيّ إبّان الحرب العالميّة الأولى : وهم داود الديماسي ، محمد طاهر المغربي دارغوث ، محمد علي جلال الدين ، عبد الله الخليلي ، محمد بربر ...
ويضيف الشيخ جلال الدين : كنّا نشعر من خلال النِّظام المتَّبع في تلك الفترة الزمنيّة، بأنَّنا نؤهَّلُ عسكرياً لجهة الانضباط والمحافظة على التعليمات والأوامر ، لأنَّ الإدارة كانت في نهجها الجديد ، شبيهة بالنِّظام المتّبع في تدريب الجيوش لجهة الانتظام في الصفّ المنضبط والمشي وإصدار التعليمات ...
ثمّ حديثه الشيِّق الدقيق عمّا كان يسمّى في تلك المرحلة بـ" الطبشة "، وهي القطعة الطويلة من الخشب ، التي كانت تُستخدم لتنفيذ قصاصٍ بأحد التلاميذ المخالفين للأوامر والتعليمات . كما يشير في هذه المذكّرات إلى كيفيّة الخروج من المدرسة عند الانصراف ، وفقاً لنظام مدروس ومحدَّد ، لا يمكن للتلميذ الانفراد عن الصفّ إلاّ عندما يصل إلى ناحية منزله ، ويكون على رأس كلّ صفٍّ عريفٌ يضبط النّظام .
ومهما يكن ، فثمّة سؤال لا بدّ من طرحه ، وهو في الواقع يَطرح نفسه : هذه المعلومات والتفصيلات الغزيرة والمتنوِّعة ، والتي تشمل مرحلة زمنيّة طويلة ـ أكثر من ثلاثة أرباع القرن ـ كيف تمّ جمعها والحصول عليها :
ـ هل بالاعتماد على الذاكرة فقط ، وهي ذاكرة والحمد الله قويّة وخصبة ؟!...
ـ أم أنَّ الشيخ جلال الدين ، منذ أن كان طالباً إلى يومنا هذا ، كان يحتفظ بوثائقه الخاصة وأوراقه ويومياته التي كان يدوِّنها يوماً بعد يوم ، أو مرحلة بعد مرحلة ؟...
ـ أم أنّه عاد إلى مراجع ومصادر ومدوَّنات حتى استطاع أن يحصل على هذه المعلومات وأن يجمعها بتواريخها والأسماء الكثيرة التي يوردها ؟...
وهو على أيِّ حال لم يذكر في هذه السيرة الذاتيّة ، سوى مصدرٍ واحدٍ ، عندما تحدّث عن جامع الأزهر الشريف : وهو الموسوعة العربيّة الميسّرة ...
أما في الفصل الخامس ، أخيراً وليس آخراً ، فهو يتضمّن : تكريم سماحة مفتي صيدا والجنوب الشيخ محمد سليم جلال الدين ، أولاً ، من رئيس الجمهورية ، وسام الاستحقاق ، الوسام اللبنانيّ المذهّب ، مع الصُّوَر . ثانياً ، تكريم مجلس بلدية صيدا ، بإطلاق اسم المفتي الشيخ محمد سليم جلال الدين ، على الشارع المقابل لمبنى دار الإفتاء ودائرة الأوقاف في صيدا ، مع الكلمات التي نشرت في هذه المناسبة ...