أي ثقافة، أي ديمقراطية نريد-مداخلـة السفير صلاح ستيتية
ندوات /
ثقافية /
2010-12-18
أي ثقافة، أي ديمقراطية نريد
مداخلـة
السفير صلاح ستيتية
كان غوبلز وزير إعلام هتلر الشهير يقول من منطلق ثقافته النازية (أي العنصرية) (عندما اسمع كلمة "ثقافة" أشهر مسدسي) ـ وبمعنى آخر إن الثقافة عدوة كل من يسعى للهيمنة على الإنسان في توجهه وانطلاقه واندفاعه نحو الحرية: حرية الفرد، وحرية الرأي، وحرية المجتمع.
الثقافة سلاح، فإذا كان الإنسان أعزل منها، يصبح سجين الأوهام، والأنظمة المفروضة، والأيديولوجيات الجماعية التي تمنع الفرد من التمكن في الاجتهاد، وإدراك الحقيقة بل إدراك حقيقته الذاتية، لأن لكل إنسان معنى اجتماعياً ومعنى ذاتياً ـ وهناك تفاعلات بين الجماعي والذاتي.
وما هي الديمقراطية؟
إن الديمقراطية بالمعنى الأيتمولوجي (والمنحدرة من الكلمة اليونانية Demos) هي حكم الشعب، وإذ بنا نرى بأن حكم الشعب هو الذي يوفّر للفرد التمكن من التعبير عن حقيقته الذاتية (أي عن ذاته) داخل البنية الاجتماعية المتوازنة، ويفضل قوة البنية الاجتماعية المتوازنة يتاح للفرد إمكانية التعبير بكل صراحة عن شخصيته وإظهار قدراته كاملة.
هناك إذن علاقة عضوية بين الثقافة والديمقراطية ومن الممكن أن تتوافر ثقافة من دون توافر الديمقراطية في مجتمع ما، علماً بأن مثل هذه الثقافة تكون معطلة إلى حد ما، في واحد من أبعادها الإنسانية على الأقل. فإذا عدنا مثلاً إلى تاريخ الصين القديم أو تاريخ اليابان القديم، نجد أن هناك ثقافة، بل حضارة عظيمة إنما لا نجد للإنسان فيها موقعاً يتيح له إمكانية الإمساك بمصيره داخل بنية اجتماعية قائمة على أساس أوتوقراطي، أي حكم القمة المطلق للقاعدة. بيد أنه ليس من ديمقراطية حية لا تتوافر الثقافة، ففي ذروة الحضارة اليونانية في القرن الخامس قبل المسيح، أي قرن باريكليس (Périclés) كانت، في الوقت ذاته، الممارسة الفعالة للديمقراطية والإبداع في جميع الميادين ـ (الفلسفة ـ الأدب ـ التمثيل ـ النحت ـ إلخ).
إنطلاقاً من هذا يمكننا القول بأنه عندما توافر لنا في لبنان الأمس شبه ثقافة ـ توافر لنا شبه ـ ديمقراطية.
فثقافتنا في الأمس القريب (أعني قبل الأحداث الراهنة) كانت ثقافة مخضرمة.
ماذا تعني بالثقافة المخضرمة؟
إنها الثقافة التي يختلط فيها، لدى البعض، التمسك بمواقف تلتزم فقط بقِيَم الماضي مما نتج عنه بطء التحرك نحو المستقبل، ولدى البعض الآخر التحرك نحو المستقبل من منطلق الانقطاع عن الجذور والتخلي عن القِيَم الموروثة أي فئة تغلق الباب أمامها، وفئة تغلقه وراءها، والفئتين سجينتا وضعهما.
فالفئة الأولى معرضة إلى التحجر والانغلاق والثانية معرضة، بانفتاحها المبالغ فيه، إلى الضياع والتلاشي في أفق الآخر.
إن الحوار الثقافي الحي والحقيقي هو حوار بين الماضي والمستقبل ـ بين الآنا والآخر، بين الجذور والأغصان ـ الجذور ضمانة لأصالتنا، والأغصان دليل على حيويتنا وامتدادنا وازدهارنا في الفضاء المستقبلي.
من هنا جاء المثل العربي الشهير، من ليس له من قديم ليس له من جديد ـ هكذا كان وضعنا في الأمس القريب على نحو مبسط.
ثم كان التفجير واشتعلت الحرب الأهلية بجميع مظاهرها بما فيها المظاهرة العسكرية والمظاهر السياسية، والمظاهر الاجتماعية ـ والاقتصادية والأمنية وطبعاً المظاهر الثقافية.
وأذكر هنا، أنه في بداية الأحداث وفي العام 1977 عقد في باريس اجتماع ضم مثقفين لبنانيين من مختلف الفئات، وخلال النقاش قال أحدهم وهو من فئة معينة، موجهاً كلامه نحوي: إن الحرب بيننا وبينكم هي في النهاية حرب ثقافية ـ وقد أسفت يومذاك لهذه الإشارة لأنني أعتبر أن اللبنانيين بمختلف عقائدهم واتجاهاتهم الثقافية، يشربون من نفس الماء ويتنشقون نفس الهواء، ويستظلون نفس السماء وهم في النهاية، شاؤوا أم أبوا، من طينة واحدة.
لنعد إلى السؤال المطروح: أي ثقافة نريد؟ وأي ديمقراطية؟
أولاً: إننا في حالة نزاع، بل نحن، بالنسبة لإسرائيل في حالة من التأهب المستمر والمقاومة المستمرة ـ وفي هذه المرحلة الصعبة، على ثقافتنا أن تكون ملتزمة التزاماً تاماً، لأن الثقافة تحمل مبادئ وأبعاداً، فإذا اختلت المبادئ وغمضت الأبعاد، لتعرضنا جماعياً إلى انهيار مؤكد. إذن، فمهما كانت قناعاتنا الذاتية وتوجهاتنا الدينية أو الحزبية أو غير ذلك، يتوجب علينا جميعاً أن نتجاوزها ـ مرحلياً ـ لكي نشترك جميعاً في مواجهة عدو شرس وقوي، يسعى، من منطلق إيمانه بنفسه، وغروره العرقي، إلى إبادتنا لما نمثله من عقبة في وجه مشاريعه الخاصة بالنسبة لظاهرة التعايش في وطننا والتي تشكل عنصر تهديد بالغ الأهمية لكيانه المرتكز على أساس الدين الواحد والعنصر المتميز. بمعنى آخر مكتوب علينا، في هذه المرحلة، التضامن، وإلاّ فليس أمامنا سوى الزوال.
ثانياً: يجب علينا التمسك بهويتنا العربية لأنه لا معنى لنا من دونها ـ خاصة وأن لدى البعض تساؤلات غبية حول هويتنا، والهوية تعني، في النهاية، إذا أردنا أن ننزه أنفسنا عن العنصرية، تعني التاريخ واللغة ـ فلغتنا هي العربية ـ واللغة ليست باللغة فقط أي أداة التعبير السطحي وإنما هي حاملة تراث وقِيَم وأبعاد.
وتاريخنا فهو مرتبط ارتباطاً جذرياً بالتاريخ العربي في الأمس وفي الحاضر، لأن جميع التحديات التي واجهتنا وتواجهنا متأتية من كوننا جزء من الأمة العربية، فعلينا أن نجيب على جميع التحديات المصيرية من منطلق إيماننا والتزامنا بهويتنا العربية، ورفع هذه الهوية، من دون أي مبالغات لفظية إلى المستوى التاريخي المطالبون به.
ثالثاً: وإيماننا بهويتنا العربية يجب أن يؤدي إلى الانفتاح على العالم، خاصة وأن عالمنا الراهن أصبح عالماً صغيراً عنيا بالتفاعلات والانعكاسات والحوار المستمر بمختلف أنواعه، الحوار السياسي والاقتصادي والحضاري والإعلامي.
فهناك مثلاً الحوار بين الشرق والغرب
وحوار بين الشمال والجنوب
وحوار (معطل) بين الدول الغنية والدول الفقيرة
وحوار بواسطة التنقلات الدائمة والمواصلات المتطورة سمعياً وبصرياً وما يسمى بالسياحة الثقافية والتبادل بين الجامعات الكبرى في العالم ـ والتوسع التكنولوجي فلم يعد من الجائز على أي بلد، أو أي لغة أو أي حضارة أن تنغلق على ذاتها لأن الانغلاق يؤدي إلى تقوقعها وجفافها وموتها.
وللبنان على هذا الصعيد دور مميز، بل مسؤولية خاصة به نظراً لوضعه الخاص جغرافياً وتاريخياً وحضارياً ـ ويحضرني قول ينسب للرئيس الشيهد المرحوم رشيد كرامي جاء فيه: إن لبنان مختبر أرواح ـ نعم إن لبنان كذلك وسيبقى إذا نحن عرفنا كيف نحافظ عليه ونعمل على تطويره.
رابعاً: يجب على الثقافة أن تكون شاملة:
فلبنان الأمس كان يتميّز بثقافة طابعها الأبرز هو الطابع الأدبي واللفظي ـ
إن عالم اليوم هو عالم الذرة والأقمار الصناعية، والحاسبات الآلية، والسيطرة على الفضاء، والمعلوماتية، والسباق العلمي الحاد بين الدول المتطورة التي ترفض مشاركة الدول النامية لها في ما تحققه من إنجازات على تلك الصعد.
فعلينا إذن في لبنان، نظراً لدورنا الرائد في العالم العربي طيلة عشرات السنين، أن نولي هذا الجانب حقه من التطور لأنه يحمل جنين المستقبل، ثم هناك عدواً مجار لنا متيقظ، إلى أقصى حد، إلى شتّى المجالات العلمية، وهو ساع دوماً نحو تطوره التكنولوجي وآخر ما أتى به أنه قام بربط خمس من جامعاته بواسطة الكومبيوتر بجامعة باركلي مباشرة حيث يوجد مركز أساسي لتخزين المعلومات وهو مركز (كارنيجي) أهم مركز في العالم على هذا الصعيد. الأمر الذي يتيح للجامعات الإسرائيلية الخمس أن تكون على صلة فورية ومستمرة بكل جديد يحدث علمياً في أي جامعة من جامعات العالم.
وقال شيمون بيريز في حديث للكاتب جان ، جاك سرفان شرايبر: إن المتر المربع من الأرض (يعني الأرض المغتصبة) لم يعد يهمني بحد ذاته، وإنما ما يهمني هو كم أستطيع أن أغرس في هذا المتر المربع من مادة رمادية (دوماغية).
فلننتبه إلى هذا الجانب من الخطر الإسرائيلي، وعلى العرب جميعاً أن ينتبهوا إليه ـ لا سيما إننا في لبنان نأتي في المرتبة الأولى اتجاه هذا الخطر.
وهذا لا يعني انقطاعنا عن الثقافة الأدبية إنما علينا أن نضيف إلى دائرة اهتمامنا البالغ لهذا الموضوع الحاد والمستعجل.
وعندما نؤمن جميع هذه المعطيات تكون قد كونا حصناً منيعاً لنا أمام خطر عدو في الخارج، وأمام خطر عدو في الداخل وأعني به عدم تطورنا، نحن اللبنانيين جميعاً، في الاتجاه السليم. وهذا التطور إذا تحقق فسيؤدي حتماً إلى تطورنا السياسي والاجتماعي الذي يضمن تجسيد الديمقراطية الحقيقية. فالديمقراطية ـ كالثقافة، لا تعالج، لا بمسدس غوبلز ولا بمدفع غيره.
والديمقراطية، كالثقافة، لا تقتل لا بالرصاص ولا بالقذائف.
علينا أن نكذب لغة المسدس أو المدفع بلغة الثقافة والديمقراطية وهي اللغة الأقوى للشعوب المقاومة كشعبنا اللبناني في موقفه التاريخي هذا.