الشـبـاب بين نظام القِيَم والتغيّر الاجتماعي - د. مصطفى دندشلي
ندوات /
ثقافية /
1995-11-12
الشـبـاب
بين نظام القِيَم والتغيّر الاجتماعي (1)
كـلمة التـقـديـم
د. مصطفى دندشلي
... في كلمة التقديم هذه وكمدخل لندوتنا الرابعة والأخيرة لهذا اليوم وعنوانها : " نظام القِيَم والتغيّر الاجتماعيّ "، أودّ أن أتوقّف أمام ثلاث نقاط أساسيّة في رأيي ، وهي : مفهوم الشباب، ونظام القِيَم ، والتغيّر الاجتماعيّ . قبل ذلك ، ثمّة ملاحظةٌ من الأهميّة الإشارة إليها وهي أنّ موضوعَ القِيَم كمفهومٍ اجتماعيّ وكنسقٍ ثقافيّ ، يفتقدُ إلى الدراسات والبحوث ، سواء كان منها الميدانيّة أو النظريّة. ذلك أنّ مفهوم القِيَم هو مفهوم جديد علينا في لبنان وحديث الاستعمال والتداول عندنا كمصطلح علميّ في علم النفس والعلوم الاجتماعيّة . من هنا كانت الصعوبات التي تواجه أيّ باحث جدّي في هذا الاختصاص .
هناك طبعاً بعض المحاولاتِ، محاولاتٍ جدّيةٍ حول نسقِ القِيَم، محاولاتٍ إمبريقيّة وميدانيّة، وأيضاً محاولاتٍ نظريّةٍ ضمن نطاق علم النفس وعلم النفس الاجتماعيّ ، إلاّ أنّها في الواقع تبقى محاولاتٍ فرديّةً أو متفرقةً ، لذلك فإنّ بحثَ هذا الموضوع يرتدي الآن أهميّةً كمدخلٍ لإثارة النقاش والحوار حوله ، ولأن يكون حافزاً لدراسات مستقبليّة أكثر تخصصاً وشموليةً (2).
* * *
مفهوم الشباب : الشباب ، كمفهوم وكمصطلح ، يشوبه كثيرٌ من الالتباس والغموض ، في معناه ومضمونه والفئة الاجتماعيّة التي يغطيها . وكلمة الشباب من حيث اللغة هي معنى مشتق من "أول الشيء ، ومن النموّ والارتقاء والاتقاد والحيوية " . ففيه معنى البداية والجدّة والحمية والنزوع نحو الأعلى أو التقدّم نحو المستقبل .
غير أنّ الشباب في الاصطلاح العام هو هذه الفئة الاجتماعيّة العُمريّة ( من العمر ) التي تتراوح بين سن المراهقة والثلاثين من العمر تقريباً . فإذا كان هناك تشابه بين أفراد هذه الفئة العُمريّة من حيث وَحدة السن ، إلاّ أن هذا التشابه يخفي في الواقع فروقاتٍ اجتماعيّة ، كثيرة أم قليلة، وتنوع في الثقافة تبعاً لتنوّع في الانتماءات الاجتماعيّة . فعندما نتحدّث عن الشباب في لبنان بإطلاق، يجب أن نحدّد الفئةَ الاجتماعيّة وأن نعيّن تلك التي نقصد : الشبابَ في الريف أم في المدن !!... أو عن أيّ انتماء اجتماعيّ نتحدّث : عن الطبقات الدنيا أو الوسطى أو العليا !!... أو ، بتعبير آخر ، عن فئة اجتماعيّة معيّنة كان لها حظ الارتقاء العلميّ والجامعيّ ، والانتماء إلى هذه الثقافة أو تلك السائدة في مجتمعنا !!...
بمعنى آخر هل يمكننا أن نتحدّث عن الشباب بإطلاق ، من حيث مشاكله وقضاياه ، بمعزل عن مشاكل المجتمع وقضاياه ؟... ثم ، هل الشبابُ يكوّن فئةً اجتماعيّة متجانسةً موحّدةَ الأهدافِ والرؤى والتطلعاتِ والطموحات، أم أنّ هناك تنوعاتٍ وفروقاتٍ يجب أن تؤخذ في الاعتبارات بحسب الانتماءات الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة ؟... بمعنى أكثر تحديداً ، هل مشاكلُ الشبابِ في منطقة الشمال من لبنان ومن أقصاها ، هي ذاتها مشاكلُ الشباب في مجتمع لبنان الجنوبيّ ؟... وهل تلك المشاكل والقضايا في مناطق الشمال أم في الجنوب ، هي ذاتها في البقاع من أقصاه إلى أقصاه أو في مناطق جبل لبنان في ساحله وجروده ؟... سؤال آخر، هل مشاكلُ الشباب هي ذاتُها مشاكلُ وهواجسُ الشابات ، أم أنّ هنا فوارقَ الجنسِ تلعبُ دوراً أيضاً في المفاهيم والقِيَم ، إلى جانب الفروقاتِ الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة ؟... كما أنّه هل يحقّ لنا أن نتحدّث تخصيصاً عن مشاكل وقضايا الشباب بعيداً عن قضايا ومشاكل المجتمع ذاته التي هي حكماً مصدر مشاكل الشباب وأزماته وهواجسه ، ذلك أنّها جزءٌ لا يتجزأ من مشاكل المجتمع وقضاياه ؟!...
* * *
نظام القِيَم : وهذا الاصطلاح أيضاً ، نظام القِيَم ، يثير بعضاً من الإبهام ، ويُطرح السؤال حول ما إذا كان هناك فعلاً نظامٌ واحدٌ أو نسقٌ واحدٌ للقِيَم في لبنان ، أم عددٌ كبيرٌ من الأنظمة والأنساق وذلك بحسب البِنيات الاجتماعيّة شديدة التنوّع ، وبحسب أيضاً الانتماءات الاجتماعيّة والمهنيّة والسياسيّة المتعدّدة !!... فلكلّ فئة اجتماعيّة ، هذا إذا لم نقل لكلّ طبقة اجتماعيّة معيّنة ، قِيَمُها الماديّة والمثاليّة والأخلاقيّة والسياسيّة ، بحسب أيضاً الثقافة التي تنتمي إليها . وأرى أنّه لا يحقّ لنا أن نتحدّث في لبنان عن نظامٍ للقِيَم بشموليته ـ وهو نظام موجود عندنا كحقيقة واقعيّة ننتسب إليها جميعنا على صعيد القِيَم المشتركة ـ إلاّ إذا سبق ذلك دراساتٌ ميدانيّة إمبريقيّة ، لمفاهيم القِيَم الجزئيّة بحسب الانتماءات الاجتماعيّة والثقافيّة المتنوّعة ، حتى ننتهي بعد ذلك إلى القواسم المشتركة التي تجمع أبناء الوطن اللبنانيّ الواحد في قِيَم واحدة ، وذات مصادر واحدة وتطلعات مستقبليّة كذلك واحدة .
والقِيَم : مفردها قيمة وهي تُستعمل لغة بمعنى القَدْرِ والمنزلة . وهي تطلق على كلّ ما هو جدير باهتمام المرء وعنايتـه لاعتبارات اقتصاديّة أو سيكولوجيّة أو اجتماعيّة أو أخلاقيّة أو جمالية.(3) وهي تندرج في الواقع الاجتماعيّ وتتأثّر به وتفعل فيه . وإذا أردتُ أن أقدم تعريفاً لمفهوم القِيَم ، فهو : "طريقة في الوجود أو في السلوك ، يعترف بها شخص أو جماعة على أنها مثال يُحتذى ، وتجعل مـن التصرفات أو من الأفراد الذين تُنسب إليهم ، أمراً مرغوباً فيه أو شأناً مُقدراً خير تقدير ". وإذا كانت القيمة تتحدّد في المرتبة المثالية وليس في مستوى الأشياء المحسوسة أو الأحداث ، إلاّ أنها ليست أقلّ واقعيّة من التصرفات أو الأشياء التي تتجسد فيها أو تعبّر عن ذاتها من خلالها . ففي هذا السياق تُفهم مقولة دوركايم عندما يقول : " إنَّ للقِيَم موضوعيّة كموضوعيّة الأشياء ". بمعنى أن عالم القِيَم إنما هو حقيقة واقعيّة بالنسبة إلى الأشخاص الذين ينتمون إليه . إنّه جزء من مجتمع كالأبنية وشبكة الطرق .
وإذا كانت القِيَمُ موضوعيّةً ، فهي أيضاً ذاتية ، وصفة تميّز الأفراد أو الجماعات بعضهم عن بعض ، إلى هذا الحدّ أو ذاك . وللقِيَم أيضاً خاصيّة وهي نسبيتها بمعنى أنها قِيَم مجتمع مخصوص وتختص بفترة زمنيّة تاريخيّة معيّنة ، ذلك لأن القِيَم تتغير في الزمان ، كما أنّها تتغير من مجتمع إلى آخر . والقِيَم حتى تتغير وتتطوّر قـد تقتضي وقـتاً طويلاً ويصادف تغيُّرُها مقاومة شديدة (4)..وهي بهذا المعنى جزءٌ من الأيديولوجيا السائدة في مجتمع ما وفي مرحلة زمنيّة معيّنة ، كما أن الأيديولوجيا ذاتها هي عنصر أساسيّ ومحور مركزيّ في الثقافة ، بالمعنى الاجتماعيّ والأنتروبولوجيّ للكلمة . وإذا كانت القِيَمُ مثاليةً فهي أيضاً قد تكون نفعيّة ومصدرَ وجودها هو المجتمع بذاته ، في تطوّره وتفاعله مع الثقافات الأخرى . ففي القِيَم تراثٌ وتقاليد كما فيها مثاقفةٌ ومحاكاة واستلهام لقِيَم من مجتمعات أخرى .
* * *
التغيّر الاجتماعي : في الحقيقة ، إنّنا نعيش الآن في عالم شديد التغير ، وفي مجتمع بسبب من ظروفه الداخليّة والتأثيرات الخارجيّة التي يخضع لها ، يتغير بسرعة فائقة ، مما يُحدث في البنيات الاجتماعيّة خللاً واهتزازاً .
التغيّر الاجتماعي !!... تغيّر المجتمع : ماذا يعني ذلك ؟... يعني أنّ المجتمع في حركة تغيّر دائمة ومستمرة عَبْر الزمن . والمجتمع هو تاريخ . فالتغيّر فيه حاصل بحكم قوى داخليّة وبنيات اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة . فهذه كلّها في حركة دائمة متفاعلة ومستمرة . كما أن التغيّر السريع غالباً ما يكون بسبب المؤثرات الخارجيّة وبسبب فعل القوى المحيطة والتي تؤثّر بشكل أو بآخر بالداخل وقد يكون أيضاً وعلى وجه الخصوص بسبب تفاعل العوامل الداخليّة والمؤثّرات الخارجيّة وتفاعلها معاً في جدلية لا تتوقف .
إنّنا نعيش الآن في أزمة أو أزمات متتالية ، وكلّ واحدة من هذه الأزمات الاجتماعيّة تهيئ للأزمة الأخرى التي تليها . فالتغيّر الاجتماعي إنما هو الآن وفي الظروف الراهنة تغيّر سريع ومفاجئ وشامل ، مما يؤدّي إلى اضطراب في مفاهيم القِيَم وبالتالي في مفاهيم السياسة والأخلاق والوجود والمصير . إنّنا نعيش في مجتمع تجتاحه موجات هائلة من الأفكار والمعلومات وأنماط المعيشة والأزياء والأغاني والموسيقى ، وأشكال الكسب والمهن وطبيعة التخصصات. من هنا ، فإنّنا جميعاً ، وليس الشبابُ وحدَهم ، نحارُ في فهمها واستيعابها وهضمها . ولهذا فإنّنا نحتاج إلى وقت كي نفهمَها وتنفتحَ إدراكاتُنا وعقولُنا عليها .
إن كلّ ذلك يؤدّي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى تأثيرات بالغة وأحياناً عميقة في عالم القِيَم عندنا . فهذا الكمّ الهائل والمتجدد بصورة مفاجئة وسريعة من المعلومات يُحدث عندنا انقلاباً في مصادر القِيَم والقِيَم الجديدة وفي تكوينها ، ممّا يجعلنا في حالة عدم الاستقرار الفكريّ والاجتماعيّ والعاطفيّ والخلقيّ والجماليّ . من هنا ، مصدر هذه الخضّات الاجتماعيّة المتتالية وهذا الاختلال في موازين القِيَم والصراعات بين عالم القِيَم الموروث والتقليديّ من جهة ، وعالم القِيَم الحديث والمعاصر من الجهة الأخرى .
وهذه القِيَم الجديدة ، هذه القِيَم الحديثة إنّما هي في الواقع ترد إلينا وتصدر من مجتمع مختلف كلياً في بِناه الفكريّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة وفي مفاهيمه وتقاليده وآدابه وعاداته وفي رؤاه للعالم وللمستقبل .
* * *
عندما نقول بأنّ الشباب يدعو إلى التغيير : هنا السؤال يُطرح ، إلى أيّ تغيير ، وتغيير ماذا وفي أيّ اتجاه وكيف ؟... وهل نستطيع أن نغيّر ما لا نعيه ونستوعبه ونفهمه ؟... سؤال آخر ، هل يعي الشباب بإطلاق قضاياه ؟... أو بمعنى آخر نقول بأنّ مجتمعنا في أزمة أو في أزمات متلاحقة والشباب فئة اجتماعيّة أساسيّة في هذا المجتمع ، فهي إذن في أزمة أيضاً ، فهل يعي الشبابُ بإطلاق سببَ هذه الأزمة ، عواملَها ، مكوِّناتِها ، والحلولَ للخروج منها ؟... أم أن مواقف الشباب في كثير من الأحيان ، إنّما هي في الحقيقة مواقف إحساسٍ وشعورٍ بالأزمة أكثر من وعيها في عمقها وأبعادها ، وهي بالتالي حالات تذمر عامة أكثر منها رؤية واضحة ومعرفة للقضايا والظروف . بكلمة ، إنّ مواقف الشباب بصورة عامة هي ردّات فعل عاطفيّة انفعاليّة أكثر منها وعي حقيقي وعميق للمشاكل الواقعيّة المطروحة في المجتمع .
* * *
هناك في الواقع فاصل في حياتنا بين القول والفعل . وهناك أيضاً هوّةٌ قد تكون سحيقةً بين الفكر والممارسة . نشعر بالأزماتِ وأسبابِها ولكننا غالباً ما نعجز عن الفعل المُجدي والقويم للخروج منها . وكما قيل وما هو معروف ، فإنّنا نعيش في مجتمع فرديّ بل وأنانيّ ، لذلك لا نحسن على الإطلاق العمل الجماعيّ الديمقراطيّ الحقيقيّ ، بل نميل دائماً إلى المنفعة الذاتيّة والخاصة . من هنا تكمن أسباب الفشل في كلّ مجالات العمل الموحّد والمنظّم والهادف . فتستأثر فينا وتتحكم قِيَم الفرديّة والأنانيّة وقِيَم النفعيّة .
في الواقع ، نحن نعيش في مرحلة انتقاليّة ، تاريخيّة ، مصيريّة وخطيرة ، مرحلة تتجاذبها قِيَم متنافرة بل ومتناقضة في الداخل وفي الخارج ، فمجتمعنا ومعه هذه الفئة الأساسيّة فيه والتي نسميها عنصر الشباب ، يعيش في تناقض بين مجتمعين ، المجتمع التقليديّ من جهة بقِيَمه ومفاهيمه وتفكيره وأعرافه ، ومن جهة أخرى بين عالم حديث ومعاصر يغزونا ثقافياً من كلّ جانب ويهيمن علينا فارضاً أساليبه في العمل ومفاهيمه في السلوك وطرقه في التفكير وقِيَمه الخلقيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة .
من هنا مصدر الصراع الاجتماعيّ الحاد أحياناً والضمنيّ أحياناً أخرى ، وموقع الشباب فيه بين عالمين ، عالم المجتمع التقليديّ وعالم الآخر ، الحديث والمتطوّر ، على صعيد مفاهيمه ورؤاه للإنسان والمجتمع والكون .
والشباب بإطلاق ، وهذه الفئة الطليعيّة منه ، هذه النخبة المثقّفة والواعية لهذه الأزمة ، وأنتم هنا في مقدّمتها ، تعيش في صميم هذه الصراعات وفي خضمّها وهي تبحث عن حلول وعن مخرج لها وعن دور تلعبُه أو يجب أن تلعبَه كطليعة مستقبليّة رائدة وقياديّة من أجل إعادة بناء الوطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1) كلمة الدكتور مصطفى دندشلي ، في مؤتمر ومهرجان " انتظارت الشباب "، وذلك بتاريخ الأحد الواقع فيه 12 تشرين الثاني 1995.
2) هناك حلقة دراسيّة كان قد عقدها مركز الدراسات الوحـدة العربيّة بتاريخ 28 أيار 1992 في بيروت تحت عنـوان " نسق القِـيَم في لبنان : مقاربـة أولية " منشورة في المستقبـل العربـيّ ، العدد 183 ، أيار 1994 ، ص 86 ـ 143
3) أنظر جميل صليبا : المعجم الفلسفيّ ، لفظة : قيمة ، valeur
4) حول موضوع : القِيَم ، أنظر: غي روشيه ( Guy Rocher )، مدخل إلى علم الاجتماع العام، ( تعريب، د. مصطفى دندشلي ) ، بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط أولى ، 1983 ، ص 88 وما بعدها ...