د. دندشلي - جولــة في جميع دور النشر اللبنانيّة
إعلام وصحافة /
ثقافية /
2011-10-12
جولــة في دور النشر اللبنانيّة.....
دار العلم للملايين(1) :
رئيس نقابة الناشرين يقول :
* المناهج التربويّة سيّئة التخطيط .
* اللبنانيّ لا يقرأ ؟...
*غالبية المحامين والأطباء لا يقرأون حتى في تخصّصهم !!...
* بعض دور النشر ترتكب عمليات قرصنة وتزوير .
إنّ البحث في أوضاع دور النشر ونشاطاتها الحالية والعامة ، إنّما هو في الواقع طرح جانب من مشاكل الثقافة العربيّة والكتاب العربيّ ، والتطرق في الوقت نفسه إلى علاقة المال بالفكر والتجارة بالثقافة .
وإننا إذ نفتح هذا الملف ، ملف دور النشر اللبنانية في سلسلة حلقات ، لا ندَّعي بأننا سنقدِّم حلولاً جاهزة وإنّما هي فقط محاولة لطرح المشكلة ، وإثارة الموضوع ، خصوصاً وأن هذا الموضوع يُثار حوله لغطٌ وهمسٌ ، هذا إذا لم نقل اتهامات أحياناً تصل إلى حدّ الخطورة. فالحوار إذن مفتوح . وهذا منبر لكلّ رأي يمكن أن يضيف إلى المناقشة عناصر جديدة ، تُلقي ضوءاً على هذا الموضوع وتسعى لتوضيحه للقارئ العربيّ . وبما أنّه ليس بالإمكان الاتّصال وإجراء أحاديث مع كلّ دور النشر الموجودة في بيروت ــــــ وهي كثيرة جداً ــــــ لذلك فقد وقع الاختيار على بعضها مراعين في هذا التنويع اختلاف الميادين والاهتمامات والاتجاهات .
* * *
دار العلم للملايين ، موضوع حديثنا اليوم، تملك تجربة غنية نسبياً في هذا الميدان . فهي قد تأسّست عام 1945 بإشراف أربعة أساتذة : منير بعلبكي ، بهيج عثمان ، عفيف ومحمد بعلبكي . ثمّ استقلَّ بها الأستاذان منير بعلبكي وبهيج عثمان ، صاحباها حالياً .
يجيب الأستاذ بهيج عثمان رئيس نقابة الناشرين في لبنان عن سؤالنا الأول حول تعريف القارئ العربيّ بالدار فيقول : « منذ بداية عمل دار العلم للملايين، اهتمت فقط بترجمة الكتب الأجنبية ، وخاصة منها الكتب السيكولوجيّة، ثم لم تلبث أن تطور نشاطها وتنوّع حتى شمل سائر فروع المعرفة ، في علم النفس والفلسفة والاجتماع والسياسة والمؤلفات الأجنبيّة التي تتحدّث عن التاريخ العربيّ والتّراث العربيّ .
وتفسير هذا الانكباب على الترجمة هو أن المكتبة العربيّة كانت ( ولا تزال ) بحاجة ماسة إلى الكتب العلميّة الموجودة في اللغات الأجنبيّة ، ونقل التيارات الفكريّة من الحضارة العالميّة (والغربيّة منها على وجه الخصوص ) إلى اللغة العربيّة ". [...]
اللبنانيّ لا يقرأ
هناك إجماع من أصحاب دور النشر على أنّه لا يحسب أي حساب للسوق اللبنانيّ . إنّ الاستهلاك المحليّ من مجموع نسخ الكتب التي توزّع لا يتجاوز في أحسن الحالات 10 بالمئة . إنّ تفسير ذلك ، كما يؤكّد الأستاذ عثمان رئيس نقابة الناشرين في لبنان ، " هو أنّ اللبنانيّ لا يقرأ ، وإذا قرأ، فإنّه يفضل القراءة في اللغة الأجنبيّة ". ويضيف قائلاً : " من المؤسف أن أقول أنّ الكتب العربيّة التي تباع في لبنان يقتني أوفاها الوافدون من البلاد العربيّة . فمن المعلوم أنّ بعض ما ينشر من الكتب في لبنان يمنع في بلد عربيّ أو آخر . فإذا ما جاء المصطافون العرب مثلاً أقبلوا على شراء هذه الكتب التي لا توجد في بلادهم ".
ولكن لماذا لا يقرأ اللبنانيّ ؟... وما سبب ذلك ، مع العلم بأنّ نسبة المتعلمين في لبنان عالية بالمقارنة إلى بقية البلدان العربيّة ؟...
إنّ الأستاذ عثمان يوعز ذلك " إلى سوء التخطيط في المناهج التربويّة ". فهو يقول : " لقد أدخلت المدرسة في ذهن الطلاب أنّ الكتاب ، هو هذا الكتاب الذي يقرأ في الصف . فلم توجههم إلى كتاب المطالعة الذي يزيد من ثقافتهم ويوسع آفاق معرفتهم . فما أقلّ المحامين الذين يقرأون أو يقتنون الكتب التي تصدر حتى في الحقوق ، في ميادين تخصّصهم نفسها ؟!... وكذلك الأطباء ، وكم عدد الذين يحجزون منهم نسخهم من الكتب الطبيّة ؟!"...
إنّ متعلمينا ، للأسف ، يعتقدون أنّهم قد ملكوا علم الأولين والآخرين ، عندما ينالون الشهادة. إنّني أزور أصدقائي من المحامين والأطباء فلا أجد إلاّ قليلاً منهم من يملك مكتبة في بيته . وهذا فيما أعتقد راجع إلى أساس التوجيه التربويّ في مناهجنا ...".
هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنّ عمر القارئ العربيّ ، برأي الأستاذ بهيج عثمان ، يتراوح ما بين 17 و25 سنة . وما أن يتجاوز هذه المرحلة حتى ينصرف إلى شؤون الحياة ويخف اهتمامه بالقراءة كثيراً . والسبب في ذلك هو أن أكثر القراء في اللغة العربية لا يقرأون إلاّ بوحي من أساتذتهم في المدارس الثانوية أو في الجامعة . ومن هنا كثرة الإقبال على الكتب ذات الصلة بالمناهج المدرسيّة أو الجامعيّة...
وعن سؤال عمّا إذا تطوّر وازداد عدد القراء في العالم العربيّ ، فإن مدير دار العلم للملايين يجيب بأنّ " نسبة القراءة قد ازدادت من غير شكّ منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية حتى يومنا هذا . ولكن هذه النسبة لم تزدد بنفس نسبة المتعلمين ، أي أنّها غير متوازية في تصاعدها مع عدد المتعلمين في العالم العربيّ .
أمّا في ما يتعلق بتطوّر ميادين القراءة ، فإنّ الإقبال كان شديداً في الأربعينات على الكتب التي تتناول موضوعات القوميّة العربيّة . وكان " سيّد السوق " آنذاك ، الباحث الكبير ساطع الحصري. فلما طُويت الأربعينات ، بدأت الكتب الاشتراكيّة تحل محلّها . فأقبل عليها القراء إقبالاً شديداً . وفي الستينات ، أخذت مواضيع الاشتراكيّة الثوريّة في الانتشار وكثرت الكتب التي تتحدّث عن الثورة في جميع ميادين الحياة العربيّة ".
ثمّ يؤكّد الأستاذ بهيج عثمان أنّه " بعد حرب حزيران 1967 ، أصاب القارئ العربيّ نوع من القرف . ولا أجد تعبيراً أدقّ من ذلك . فأهمل كلّ هذه الموضوعات السابقة ــــــ القوميّة العربيّة والاشتراكيّة والاشتراكيّة الثوريّة وزهد حتى في القراءة . وحلّ محله موجة أخرى من جمهور القراء رأى ضالته في هذه الكتب الجنسيّة الرخيصة التي تنسيه ما حوله من أحداث وتشبع نهمه الشخصيّ . فإذا بالكتاب الجنسيّ يرتفع مبيعه إلى عشرات الآلاف . وبقي الكتاب القوميّ أو العلميّ أو الأدبيّ على الرفّ ، ينتظر قارئه الذي لا يحضر ".
ولكن إلى جانب ذلك ، هناك كتب الجنسيّة العلميّة ، ويعطي الأستاذ عثمان مثلاً كتاب "حياتنا الجنسيّة " للدكتور صبري القباني ( دار العلم للملايين ) الذي طبع منه 13 طبعة وكلّ طبعة عشرة آلاف نسخة ، وكذلك أيضاً كتاب " أطفال تحت الطلب " ( لنفس المؤلف والدار )، الذي طبع منه 17 طبعة وكلّ طبعة 10 آلاف نسخة أيضاً .
وهنا يشير الأستاذ عثمان إلى ناحية وهي أنّ الفتيات ، بشكل عام ، يقبلن على قراءة الشعر، وبصورة خاصة، شعر نزار قباني ، وهنّ في هذا الميدان يزدن عن الشباب .
اللصوصيّة العصريّة في النشر
مَهمة دور النشر مبدئياً هي أن تقوم بصلة الوصل بين الكاتب أو المفكر وبين القارئ أو السوق . وهي لا تفعل ذلك " لوجه الله " أو لتأدية " رسالة ثقافيّة ". بل هناك أيضاً وخاصة هدف الربح والتجارة . والغاية المثلى هي أن يكون هناك توافق بين نشر الثقافة والمعرفة من جهة وبين الكسب الماديّ المعقول الذي بدونه ــــــ في أوضاعنا الحالية ــــــ لا يمكن تأدية الهدف الأول من جهة أخرى .
ولكن ما يجري عادة ــــــ عدا دور النشر الملتزمة سياسياً ــــــ هو أن يطغى عامل الربح والتجارة على كلّ ما سواه وتنقلب دور النشر والترجمة والتوزيع إلى مؤسّسات تجاريّة رأسماليّة همها الأساسيّ ــــ كأيّ مؤسّسة رأسماليّة ــــــ الكسب السريع والكبير وبأيّة طريقة كانت . ولهذا السبب يثار حول أعمال ونشاط بعض دور النشر في لبنان لغط كبير، وتطلق الاتهامات وتقام الدعاوي . بل ولا يُخفى على أحد أنّ هناك عملياتِ سرقة وتزوير ترتكب بالنسبة للكتب العربيّة ، وخاصة منها ما يسمّى بكتب التّراث العربيّ .
وليس هناك أجدر من الأستاذ بهيج عثمان ، رئيس نقابة الناشرين اللبنانيين ، ليجيبنا عن هذه التساؤلات : " لا ريب بأنّ بعض الناشرين وأكثرهم غير منتمين إلى نقابة الناشرين اللبنانيين ، يصدرون بين حين وآخر كتباً لا يملكون حقوق نشرها . أمّا الكتب المترجمة، فمن الواضح أنّنا بموجب ارتباطنا باتفاقيّة " بِرْن " ( عاصمة سويسرا ) يتوجّب علينا أن نؤدّي للمؤلِّف الذي تترجم آثاره حقوق التأليف . وهؤلاء الذين يقومون بهذا العمل دون أداء هذه الحقوق، يخالفون قانون النشر. وأمّا الذين ينشرون كتب التّراث العربيّ ــــــ إن نقلوا عن طبعة لغيرهم ــــــ فإنّما يعتدون على حقوق الطبع للناشر ".
" ولكن الأخطر من هذا كلّه أن يوجد في لبنان وسوريا وإيران من ينشر كتباً ما زال أصحابها أحياء يعيشون من إيرادها الضئيل ، وهذا أشنع ضروب القرصنة واللصوصيّة ". " وعلى الدول العربيّة وسائر الدول الأخرى أن تتعاون لمكافحة هذا النّوع من اللصوصيّة العصريّة وذلك بأن تسنّ القوانين الرادعة وأن يحسن تطبيقها ، وهذا أهمّ شيء".
" ومن المؤسف أن أصرّح بأنّ في السوق اليوم عدداً من هذه الكتب التي يستثمرها مَن لا صلة شرعيّة لديها، في الوقت الذي يحتاج مؤلفها إلى ما يسدّ به رمقه . ومن المؤسف أيضاً أنّ هؤلاء المعتدين قد أفلتوا من رقابة القانون التي هي عندنا كالغربال الكثير الثقوب يستطيع أن يتسرّب منها المعتدون كأنّهم أبرياء . وتدرس نقابة الناشرين اليوم وسائل جديدة تؤدّي إلى الحدّ من هذه الآفة، ونرجو أن تلقي المعاونة المنشودة من السلطة اللبنانيّة ، لكي تحتفظ لبلدنا سمعته في عالم الفكر ، هذه السمعة التي طالما تبجحنا بها ".
دار الطليعة (2) :
* العمل من أجل الوحدة العربيّة وقضية فلسطين والتقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ .
* الكتب الجنسيّة كانت ولا تزال تحظى باهتمام العرب .
في هذه الجولة التي قمنا بها في دور النشر اللبنانيّة ، التقينا مدير دار الطليعة . وطُرحت عليه أسئلة كثيرة، أوّلها يتعلق بتعريف سياسة الدار الفكريّة والثقافيّة إلى القراء ، فأجاب :
" تأسّست "دار الطليعة" في سنة 1959 . والهدف من إنشائها هو خدمة القضيّة القوميّة وخدمة الثقافة والفكر التقدّميّ . وعلى هذا الأساس ، كانت منذ البدء منفتحة على كلّ التيارات القوميّة والتقدّميّة ، واهتمّت ، على الأخصّ ، بقضيّة الوحدة العربيّة ، وقضيّة فلسطين وقضيّة التقدّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ في البلاد العربيّة، كما أنّها اهتمّت بنشر الثقافة التقدميّة عن طريق الترجمة .
لهذا فإنّنا نستطيع القول بأنّ اتجاه الدار هو اتجاه وطنيّ تقدميّ ، ينطلق من الإيمان بضرورة الوحدة العربيّة وبتبني كلّ القضايا القوميّة الأساسيّة ـــــ تحرير فلسطين ، تحرير الأراضي العربيّة المحتلة، والعمل، عن طريق نشر الدراسات الاختصاصيّة ، لإزالة التخلّف بمختلف صوره الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة".
س : ولكن هناك رأي شائع يقول بأنّ "دار الطليعة" على علاقة وثيقة بحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وأنّها كانت ـــــــ وربما لا تزال ــــــ المنبر الوحيد في فترة ما ، لنشر آرائه وكتبه ، فما هو رأيك في هذا الموضوع ؟!…
أجاب المدير المسؤول قائلاً: "دار الطليعة الآن شركة مساهمة مستقلة . وهي ليست مرتبطة بحزب أو دولة. ولقد كانت كذلك منذ البَدء . وأمّا الاهتمام ، في الابتداء ، الذي كان ينصبّ على نشر بعض الكتابات القوميّة، فإنّما كان ناتجاً عن الاعتقاد بضرورة هذه المؤلفات للعمل السياسيّ من أجل الوحدة العربيّة .
وسلسلة الكتب الأخيرة عن حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، والتي نشرتها مؤخراً دار الطليعة، إنّما هي محاولة لجمع الوثائق لتاريخ الحركة الوطنيّة الحديثة . وهناك الآن اهتمام بجمع وثائق الأحزاب الأخرى : الشيوعيون ، والقوميون العرب ، إلخ …".
س : ألا تعتقد بأنّ "دار الطليعة" تتخذ موقفاً متحفظاً ـــ أو كما يقال معادياً ـــ من الناصريّة ؟…
ج : "أبداً ، لم تأخذ "دار الطليعة" لا في الماضي ولا في الحاضر موقفاً معادياً من الناصريّة ولا من أيّ حركة عربيّة تقدميّة . وإنّما كان لها موقف تقدميّ من كلّ هذه الحركات ، بشكل أو بآخر . وكانت تحرص على تقديم كلّ وُجهات النّظر ذات الصبغة التقدميّة ، حتى وُجهات النّظر التي لا ترى الهيئة المشرفة على الدار أنّها صحيحة وتختلف معها حول قضايا أساسيّة . وكان الهدف من ذلك المساهمة في بلورة فكر عربيّ تقدميّ من خلال الحوار. لذلك نشرنا مثلاً كتباً تحمل وُجهة نظر ناصريّة ، وتعاونا مع مفكرين وكتّاب ناصريين . ولكن في الوقت نفسه نشرنا دراسات نقدت الناصريّة وتعاونا مع كتّاب ومثقّفين اختلفوا مع الناصريّة بشكل أو بآخر" …
أما من ناحية الصعوبات التي تواجه "دار الطليعة" لجهة تسويق الكتب والمطبوعات، فيجيب المدير المسؤول: قضيّة التسويق تخضع لعوامل مختلفة ، بعضها سياسيّة وبعضها اقتصاديّة .
ففي فترات صعود الحركة السياسيّة والجماهيريّة ، يزداد الإقبال على الكتب ذات الصبغة السياسيّة . وفي فترات النكسة والتراجع ، يركد سوق هذه الكتب . بعد هزيمة حزيران عام 1967 وصعود حركة المقاومة الفلسطينيّة ، زاد عدد الكتب التي تعالج حرب العصابات والحرب عموماً وكَثُر انتشارها . ولكن هذا النّوع من الكتب أصيب بشيء من الكساد بل وبعدم الاهتمام الكبير بعد أزمة أيلول في الأردن سنة 1970 .
وهناك ، من ناحية أخرى ، عوامل اقتصاديّة لا تتعلق بمستوى دخل الأفراد ، بل بالسياسة الماليّة في البلاد العربيّة وسياسة تحويل العملة . مثلاً ، إخضاع التحويل الخارجيّ لسلطة الدولة في العراق أو في ليبيا أو في السودان ، قَيَّد عملية استيراد الكتب ، وأصبحت المكتبات مضطرة للاستيراد بالمبالغ التي تخصّصها لها المراجع المختصّة . كما أنّ روتين الحصول على إذن الاستيراد يؤثّر كثيراً على تصدير الكتب .
ثمّ هناك أيضاً الرقابة ومشاكلها . وهي مشاكل لا يمكن التنبؤ بها ، لأنّه ليس من السهل معرفة مجموعة الحساسيات والمواقف التي تخضع لها سياسة دولة من الدول العربيّة . كما أنّ العقليّة الضيّقة التي تتحكّم في العمل الروتينيّ في الرقابة والخوف من المشاكل التي قد تنتج عن السماح بكتاب من الكتب ، جعلت الرقيب أميل إلى المنع لأتفه سبب ، هذا بالإضافة إلى أنّ الكتب تبقى زمناً طويلاً تحت رحمة الرقابة …
* وحول السوق المحلية اللبنانيّة حيث لا رقابة عموماً ، هل تستوعب عدداً كبيراً من كتب ومطبوعات دار الطليعة ؟…
يقول المدير المسؤول: إنّ السوق اللبنانيّة ضيِّقة جداً ومبيعات "دار الطليعة" في هذا النطاق زهيدة . لنأخذ مثلاً مجلة " دراسات عربيّة " التي تصدر عن "دار الطليعة" ، فإنّ مجمل مبيعاتها الآن تبلغ 6500 عدداً يباع منها أقلّ من 500 عدد في لبنان . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، هناك مشكلة التوزيع بالنسبة لدار الطليعة ، إذ إنّ كثيراً من كتبها تمنع في بعض البلاد العربيّة . فهي مثلاً لا تدخل المغرب والسعودية إطلاقاً …
س: غير أنه من الملاحظ أنّ دار الطليعة تولي عناية كبرى للترجمة ، ما سبب ذلك ؟…
ج: في الواقع، السبب في ذلك، يجيب مدير الدار، أننا نحاول الآن أن تكون نسبة الكتب المترجمة والمؤلفة خمسون بالمئة من كلّ نوع . ولكن الكتب المترجمة تزيد أحياناً هذه النسبة لوجود "كلاسيكيات " وكتب أجنبيّة جيّدة من الضروريّ ترجمتها . وكذلك أيضاً لأنّ نسبة عالية من الكتب المؤلفة لا تتوفّر فيها الميّزات التي تجعلها جديرة بالنشر .
س: ولكن هناك رأي شائع يؤكد بأنّ الاتجاه الآن ومنذ هزيمة حرب حزيران عام 1967 هو نحو ازدياد وانتشار الكتب الدينيّة أو الكتب الجنسيّة ، فما هي وُجهة نظر دار الطليعة في هذا الموضوع ؟..
ج: هذا الرأي، كما يرى المدير المسؤول، إنما يحتاج إلى إثبات ، لأنّ هناك أساساً قرّاءً متنوعين ، فمنهم من يقرأ كتباً دينيّة ، وهم استمرار المدرسة التقليديّة ، وفئة أخرى تهتمّ بالكتب ذات الاتجاه السياسي الحديث ، وثالثة تميل لا لهذا ولا لذاك، وإنّما للمؤلفات الخفيفة . فليس إذن من مقياس واحد للحكم ، ولا يمكننا أن نُغفل ذلك لعدم توافر الإحصائيات اللازمة في هذا الميدان .
أمّا بالنسبة للكتب الجنسيّة ، فقد كانت ولا تزال تحظى باهتمام العرب . ولعلّ كتاب : "علم الياء في رجوع الشيخ إلى صباه "، من أكثر الكتب التي قرئت في البلاد العربيّة . ولكن موضوع الجنس يأخذ عندنا طابعاً آخر .
فهناك أولاً الكبت الذي يجعل من القراءة عن الجنس نوعاً من المتعة التي تأخذ طابعاً تعويضياً ، وهناك ثانياً محاولة اكتشاف ذلك المجهول ، الجنس ، وهناك ثالثاً موجة ـــــ على الصعيد العالميّ ـــــ من الإقبال على الجنس تظهر في الأفلام والكتب وفي الحياة العامة . ولا بدّ من أن ينعكس هذا على الكتاب والنشر في المجتمع العربيّ . لأنذ المجتمع العربيّ يمرّ بمرحلة انتقاليّة تتحطّم فيها بِنى اجتماعيّة وقِيَم تقليديّة ويعيش الناس أنماطاً جديدة من الحياة ، خاصة في المدن .
ولعل التبدّل في العلاقات الاجتماعيّة من أهمّ مظاهر هذه المرحلة . والجنس " تابو " العرب، ولا بدّ من أن يلقى والحالة هذه ، كثيراً من الاهتمام . ويمكن تلخيص أسباب هذا الاتجاه بعدّة عوامل أهمّها :
الهزائم والنكسات التي تجعل الناس أكثر إنكفاءاً على ذواتهم .
الفكر الليبرالي والتحرّريّ الذي يطرح قضيّة المساواة بين الجنسين وقضيّة تصحيح الهلاقات بين الرجل والمرأة .
موجة الانفلات الجنسيّ التي تكتسح العالم في الوقت الحاضر ، حتى في البلدان الاشتراكيّة...
وفي ختام حديثنا، طرحنا هذا السؤال على مدير دار الطليعة: هل تعتقد بأنّ حركة الترجمة والنشر قد انتقلت من القاهرة إلى بيروت ؟...
فأجاب قائلاً: لا أعتقد ذلك ، بل العكس ، تبى القاهرة أهمّ مركز في هذا الشأن . إنّ تحسّن مستوى النشر في السنين الأخيرة في مصر ، أدّى إلى أنّ القاهرة تقوم الآن بدور لا تستطيع أن تقوم به بيروت . وذلك لأنّ القطاع الأساسيّ للنشر هناك مؤمّم ، وهو بالتالي غير خاضع لحوافز الربح الموَقَّت والسريع ، ولا هو خاضع لسياسة نشر الكتب المثيرة وذات القِيَم الضئيلة . كما أن المشرفين على قطاع النشر في القاهرة هم من كبار المثقّفين . أمّا في لبنان، فإنّ الوضع يختلف تماماً ، النشر هنا خاضع أولاً لعوامل الربح والسوق ، وثانياً ، لأهواء وأمزجة عدد كبير من الناشرين الذين يكادون لا يحسنون القراءة والكتابة ...
دار الآداب (3) :
هزالٌ في التأليف والإبداع الفنيّ العربيّ
وغياب جيل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وسواهم عن الساحة الأدبيّة ...
الركاكة في الترجمة تكمن وراءها نزعةٌ تجاريّةٌ فاسدةٌ ...
لم يعرف القارئ العربيّ الدكتور سهيل إدريس فقط من خلال قصته الأولى ـــــ الحيّ اللاتيني ـــــ التي لاقت ، حين صدورها في أوائل الخمسينات ، رواجاً كبيراً، وإنّما كذلك وخاصة كمؤسّس ومشرف على " مجلة الآداب " التي تقرأ في الأوساط الأدبيّة في أربعة زوايا العالم العربيّ .
وفي جولتنا على بعض دور النشر اللبنانيّة ، التقينا الدكتور إدريس ، صاحب ومدير " دار الآداب "، وطرحنا عليه مجموعة أسئلة تتعلق بنشاط الدار ومشاكل الكتاب العربيّ ، المؤلف منه والمترجم ، واتجاهات القراءة حالياً في البلاد العربيّة .
وعن سؤالنا الأوّل حول تعريف القارئ العربيّ بـ" دار الآداب " واتجاهها الفكريّ والثقافيّ، أجاب الدكتور سهيل إدريس قائلاً : كانت " دار الآداب "، عند تأسيسها سنة 1959 ، شركة مع الأستاذ نزار قباني. وحين سافر الأستاذ قباني والتحق بالسلك الدبلوماسيّ ، أصبحتْ الدار مستقلة ، أشرفُ عليها أنا وزوجتي . وهكذا يكون قد انقضى على تأسيسها زهاء عشرة أعوام .
* ما هو ، دكتور إدريس ، اتجاه " دار الآداب " الثقافيّ والفكريّ ؟...
إنّ اتجاه الدار في النشر مرتبط إلى حدّ كبير باتجاه مجلة الآداب ، أي أنّها تنشر مبدئياً الكتب الفكريّة والعقائديّة الملتزمة وتفتح الباب واسعاً لنشر الإنتاج الأجنبيّ مترجماً ...
* القول بنشر الكتب الفكريّة الملتزمة، هل يعني ذلك الالتزام باتجاه فكريّ عقائديّ معيّن ؟...
في ما يخصّ النتاج الفكريّ ، فإنّ " دار الآداب " تنشر أحياناً كتباً متناقضة ، مثلاً تنشر كتباً تؤيد الماركسيّة وكتباً تنتقدها والغاية من ذلك ، كما هو واضح ، اطلاع القارئ العربيّ على مختلف التيارات ، ليستطيع أن يكوِّن لنفسه طريقاً خاصاً ، غير متزمت ولا ضيّق الأفق . وقد أصبح من المعروف ، إلى جانب ذلك ، أنّ " دار الآداب " هي التي تبنت موجة الشعر العربيّ الحديث ونشرت لشعراء الشباب إنتاجهم الأوّل .
ومن اتجاهها كذلك حرصها على تقديم آخر الروائع العالميّة في مجال الفكر والرواية . فالدار هي التي عَرَّفت القراء العرب إلى مجمل فكر " جان ــــــ بول سارتر " و" سيمون دي بوفوار " و" كولن ولسون "، وأخيراً " روجيه غارودي " و" هربرت ماركوز ". وهي التي نقلت إلى العربيّة روايات " ألبرتو مورافيا "، وآخرها روايته التي تثير الآن ضجّة كبيرة في العالم : " أنا وهو ".
* بإلقاء نظرة سريعة على قائمة مطبوعات " دار الآداب " لعام 1971 ، يظهر بوضوح أنّ الكتب المترجمة عن اللغات الأجنبيّة إلى اللغة العربيّة تفوق بكثير الكتب المؤلفة بالعربيّة، كيف يمكن أن تفسر هذه الظاهرة ؟...
لا يزال لدينا الشعور ( الذي يجد دون شكّ تبريراً له ) بأنّنا محتاجون إلى المزيد من الثقافة الأجنبيّة لنستطيع أن نلحق بالركب العالميّ في ميدان الثقافة والعلم . وهذه ظاهرة طبيعيّة . وقد سبق للفكر الأجنبيّ في القرون الوسطى أن نقل الفكر العربيّ والثقافة العربيّة . فهو اليوم لا يفعل إلاّ أن يرد لنا بعض الفضل .
هذا من جهة ومن جهة أخرى ، فإنّ العقد الأخير قد شهد بعض الضعف والانحسار في ميدان التأليف والإبداع العربيّ . إنّنا نجتاز اليوم مرحلة انتقاليّة في هذا الميدان . وقد أوشك جيل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وسواهم أن يغيبوا عن الساحة الأدبيّة . ولكن لم يستطع الجيل التالي أن يركّز أقدامه بعد ممّا يجعله يحتل الساحة الأدبيّة . فلا بدّ والحالة هذه من الاستعاضة عن هذا النقص بلجوء إلى الترجمة والاقتباس .
* ولكن من الواضح أنّ الترجمات ، بشكل عام ، رديئة جداً . بعضها ــــــ إذا لم نقل غالبيتها ـــــ يتّصف بركاكة الأسلوب وضعف مبنى الجمل ، ممّا يؤدّي بطبيعة الحال إلى تشويه المضمون والأثر الأجنبيّ المترجم نفسه . ما هو سبب ذلك ، برأيك ؟...
هذه الرداءة في الترجمة ــــــ إذا وُجدت ــــــ فهي تشبه الرداءة في التأليف أيضاً . المهمّ أن تكون دار النشر التي تتولى القيام بإصدار الكتب ، واعية لمهمتها ورسالتها في تقديم أفضل الإنتاج تأليفاً أو ترجمة . فأرجو أن تكون هذه التهمة بعيدة عن منشورات " دار الآداب ".
ولا ريب في أنّ السرعة والركاكة في الترجمة اللتَين تلازمان بعض الكتب ، تكمن وراءهما نزعة تجاريّة فاسدة، لا علاقة لها بوعي حقيقيّ لقضيّة الإسهام بتعزيز الثقافة العربيّة الراهنة.
* هل أنت تميل ، دكتور سهيل ، إلى الترجمة الحَرفيّة ؟...
موضوع الترجمة خرجتُ فيه ، من تدريسي لهذه المادة طوال عشرين عاماً وتجربتي في ترجمة كثير من الكتب الفرنسيّة ، بمفهوم يتلخص بأنّ الترجمة الدقيقة التي تكاد أن تكون حرفيّة هي أسلم الترجمات وأوفاها تعبيراً عن الأصل . ليس المهمّ أن نصوغ الفكر الأجنبيّ بصياغات عربيّة نتوخّى منها البلاغة والفصاحة العربيّة ، فإنّ ذلك سيضرّ حتماً بطريقة التفكير الأجنبيّ وبالعبقريّة الخاصة لكلّ لغة .
إنّني شخصياً أفضل أن يقال عن الترجمة العربيّة لأثر أجنبيّ أنّ الأصل الأجنبيّ واضح فيها ، على أن يقال أنك لا تحس فيها الأصل الأجنبيّ . أي أنّه بكلمة واحدة ، يجب المحافظة على عبقريّة كلّ لغة أجنبيّة في اللغة المترجم إليها حتى ولو أدّى ذلك إلى عدم جمال الأسلوب وعدم التقيّد بالأسلوب البلاغيّ .
* ولكن المترجم هو أيضاً مبدعٌ وخلاقٌ ، بمعنى من المعاني ، مع المحافظة على روحيّة النصّ ومضمونه. وإذا كانت الترجمة الحَرفيّة يمكن أن تتمّ في ترجمة الكتب الاقتصاديّة أو السياسيّة مثلاً ، إلاّ أنّه كيف يمكن أن تتصورها في ترجمة أثر أدبيّ أو فنّي، هذا من جهة ومن جهة أخرى فما هي الصفات التي يجب أن تتوافر ، برأيك ، في المترجم ؟...
لا شكّ في أنّ المفهوم الأساسيّ للترجمة هو أن يكون المترجم مالكاً تماماً لكلتا اللغتَين المترجم إليها والمترجم عنها . فهذا ضمان لسلامة الترجمة وأمانتها . وهذا يقتضي طبعاً أن يكون على اطّلاع واسع وعميق على تاريخ اللغة الأم وآدابها وتاريخ اللغة الأجنبيّة وآدابها .
* هل تعتقد بأنّ هناك كثيراً من هؤلاء المترجمين العرب ؟...
أظنّ أنّ هناك عدداً طيّباً من هؤلاء ...
* هل ازدادت نسبة القراء ، وبالتالي نسبة مبيعات الكتب في البلاد العربيّة ؟...
في الواقع ، لا أستطيع أن أقول أنّه حصل ازدياد في المبيعات ، بل العكس هو الأقرب إلى الصواب ، أي أنّه بعد حرب حزيران 1967 ، انخفض مبيع الكتب إجمالاً إلاّ ما يتعلق منها بالكتب السياسيّة والعسكريّة ، وذلك لفترة سنتين أو ثلاث ، ثمّ بدأ القراء يعزفون حتى عن هذه الكتب . وهناك الآن نزعة نحو الروايات والدراسات الفلسفيّة .
* وهل صحيح رأي مَن يقول بأنّ حركة الترجمة والنشر والتأليف قد انتقلت من القاهرة إلى بيروت ؟...
لا شكّ في أنّ حركة الترجمة والنشر قد نشطت نشاطاً كبيراً في السنوات العشر الأخيرة في لبنان ، ولكن لا يعني ذلك أنّ الفكر الإبداعيّ هنا قد حلّ محل الفكر الإبداعيّ في القاهرة. فالحقيقة إنّ نتاج الخلق في لبنان لا يزال مختلفاً عمّا هو في القاهرة أو في بغداد مثلاً . وتفسير هذا النشاط في لبنان يعود إلى القيود المفروضة على انتقاء الكتاب في مصر ، هذه القيود لا وجود لها في لبنان .
* هل السوق اللبنانيّة سوق محلية ذات أهميّة بالنسبة لدار الآداب ؟...
مع الأسف الشديد . بيروت ولبنان عامة هما أضعف سوق للكتاب العربيّ . ولو كان كتابنا مغلقاً عليه بحيث يوزّع في لبنان وحده ، لأفلست جميع دور النشر . وإنّما السوق الرئيسة للكتاب الآن هو العراق وسوريا ثم يأتي السودان وليبيا ( هذا إذا لم يمنع الكتاب في هذا البلد الأخير ) ثم أفريقيا الشماليّة .
* من المعروف أنّ اللبنانيّ ــــــ وهذا هو سؤالي الأخير ــــــ لا يقرأ كثيراً ، كيف يمكن أن نفسر ذلك ؟...
أظنّ أنّ لذلك أكثر من سبب ، أوّلها استغناء المثقّف اللبنانيّ عن الكتاب العربيّ بالكتاب الأجنبيّ : فرنسيّ أو إنكليزيّ ، وثانيها أنّ المثقّف اللبنانيّ إجمالاً لا يصبر صبراً جاداً على القراءة والمطالعة ، بسبب أنّ وسائل الإعلام الأخرى ووسائل التسلية والمرح طاغية في لبنان طغياناً يغري بالانصراف عن الكتاب .
ثمّ إنّ هذا القارئ لا يتأثّر إلاّ بما يثير حوله ضجّة ودعاية حول كتاب يعيشه ، حتى ولو كان من حيث القِيَم والفنّ في مستوى متوسط . وهكذا فإنّ رواية " قصة حب " التي أخرجت في فيلم عرض منذ مدّة في بيروت ، لقيت رواجاً كبيراً لدى القارئ اللبنانيّ ، لمجرد أنّها فيلم ناجح .
دار الشروق(4) :
العودة إلى التّراث العربيّ والإسلاميّ الأصيل والنظرة إليه بمنظار جديد وعَبر الواقع المعاصر .
تأسّست " دار الشروق " للطباعة والنشر عام 1961 في القاهرة ، ومن ثَمَّ أسّست لها فرعاً آخر في بيروت في العام التالي. وهي تهتمّ ، أول ما تهتمّ ، بنشر كتب التّراث العربيّ والإسلاميّ. ومع أنّه لم تمض فترة طويلة على وجودها إلاّ أنّها استطاعت أن تطبع وتنشر كتباً عديدة ومتنوعة ، منها ما يختص بالإسلاميات، ومنها ما يدخل في باب " أدب وفكر" . وهناك ، إلى جانب ذلك ، سلسلة من الكتب للأطفال والناشئين ، تمتاز بجمال صورها وألوانها وأسلوبها ، والمواضيع التي تعالجها مستقاة من التّراث العربيّ والعلميّ المعاصر .
وقد طُرحت على السيّد إبراهيم المعلم ، مدير دار الشروق ، بعض الأسئلة وهذه أبرز الأجوبة عنها :
* ما هو اتجاه الدار ونشاطاتها في الوقت الحاضر ؟...
يقول مدير الدار، جواباً عن سؤالنا: إنّ اهتمامنا في ما يتعلق بالنشر والطباعة ، ينصبّ كلياً على إحياء التّراث الإسلاميّ والعربيّ الأصيل ولكن إحياء هذا التّراث يجب أن يتلاءم ، مضموناً وشكلاً ، مع حضارة العصر الذي نعيش فيه. إنني أقصد بذلك باختصار أن نبتعد عن اللفظيّة الأدبيّة أو البلاغيّة أو العاطفيّة وأن نعطي اهتمامنا الكلّي بالأصول وبما هو أصيل في تراثنا الفكريّ العربيّ . أيّ ، بمعنى آخر ، أن نغيّر الأسلوب المتّبع حتى الآن في نقل ونشر الفكر العربيّ والتّراث الإسلاميّ، اللذان يبعدان عن المنهج العلميّ والعمق ، وأن نعود إلى هذا التّراث من خلال الواقع المعاصر وبمنظار جديد ...
ويمكن أن يتمّ ذلك بأن نولي عناية كبرى بمختلف أنواع الثقافة والنّواحي العلميّة في حضارتنا وأن نخرجها إخراجاً جميلاً يتناسب مع مستوى العصر الذي نحن فيه . إنّنا دائماً نقارن أنفسنا بالناشر أو الكتاب الأجنبيّ من حيث الدقّة والجهد والجمال والأناقة في الإخراج ، كلّ ذلك مع مراعاة الذوق والأصالة العربيّة ...
لنأخذ مثلاً كتب الأطفال هنا في لبنان . إنّ كتب الأطفال المقرّرة في المدارس اللبنانيّة تعالج في أغلب الأحيان مواضيع بعيدة عن حياة الطفل أو تاريخه الثقافيّ . وهي وإن كانت قد كتبت باللغة العربيّة إلاّ أنّ مضمونها والمواضيع التي تعالجها ، أجنبيّة .
لهذا، من الأهميّة بمكان أن نضع بمتناول يد الطفل العربيّ كتباً لا يقلّ مستواها عن مستوى الكتاب الأجنبيّ، على أن تنمي فيه الروح الإسلاميّة والعربيّة بأسلوب جذّاب وسلس، وأن يكون الكتاب مليئاً بالصور الجميلة الملوّثة التي تشدّ الطفل وتسعده وتعوِّده على حبّ القراءة .
* يقال بأنّ قسماً كبيراً من القراء يتجه حالياً إلى قراءة الكتب الدينيّة أو الكتب الجنسيّة ، هل هذا صحيح وما هو تفسيرك لهذه الظاهرة ؟...
يجيب مدير الدار: نعم، الكتب الدينيّة والجنسيّة تلاقي في الظروف الحالية ، رواجاً أكثر من غيرها في الأسواق العربيّة ، والسبب في ذلك يعود قبل كلّ شيء إلى الهزيمة التي هزّت أعماق كلّ فرد عربيّ ، وخصوصاً في دول المشرق العربيّ. إنّ هذه الهزيمة سببت وتسبب تمزقاً داخلياً وحيرة فكريّة ورفضاً لكلّ الشعارات التي كانت تطلق سابقاً . مقابل ذلك ، لا يجد الناس شيئاً آخر ... لهذا فقد هربوا من الواقع عن طريق الإغراق في الدين ومن ثمّ في التصوّف ، أو اتجه البعض الآخر إلى الإغراق في قراءة كتب الجنس .
أما المشاكل التي تواجه الكتاب العربيّ، فهي مشاكل كثيرة ، تأتي في المقام الأوّل مشكلة التأليف : بمعنى أنّه ليس هناك من مؤلفين أو مفكرين ، حتى الرعيل الأوّل منهم ، الكتاب الكبار ، قد نضبت قريحتهم ... القارئ العربيّ متعطش للكتاب ولكن للكتاب الجيِّد والجديد من ناحية الموضوع والأسلوب والإخراج والسعر ... والمكتبة العربيّة " فارغة " وتحتاج إلى المزيد وإلى المزيد .
وهناك مشكلة أخرى أشدّ خطورة وهي مشكلة التزوير والتهريب ، ومركزها بيروت ، ومنها تصدر الكتب المزورة إلى مختلف أنحاء البلاد العربيّة والإسلاميّة ، وحتى أنّ بعض الحكومات العربيّة كانت ولا تزال تشتري الكتب المزورة . والمثل الذي يمكن أن يُساق في هذا الصدد ، قصص: نجيب محفوظ ، توفيق الحكيم ، عبد الحليم عبد الله ، طه حسين ( في الأدب الجاهليّ ، والأيام )، أحمد أمين ( ضحى الإسلام )، إلخ...إلخ...
* * *
دار الحقيقة(5) :
مؤلفات الكتّاب العرب في الموضوعات الاجتماعيّة نوعٌ من الترجمة بتصرف عن الكتب الأجنبيّة .
" دار الحقيقة " حديثة العهد في عالم النشر والطباعة والتوزيع : فقد تأسّست في أواخر عام 1969، أي أنّه لم يمض على وجودها أكثر من سنتين . فتجربتها ، إذن ، في هذا الميدان لم تتسع بعد. إلاّ أنّ طموحها الثقافيّ كبير: فهي تسعى إلى المشاركة في تغيير المجتمع العربيّ من مختلف جوانبه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والحضاريّة . أي أنّها تريد العمل ، من الناحية الفكريّة ، على دفع المجتمع العربيّ إلى أن يعيش النصف الثاني من القرن العشرين .
ويوضح بيانها الذي أصدرته في العام الماضي الظروف التي دفعت إلى تأسيسها ، وهو يحدّد في الوقت نفسه، أهدافها الفكريّة أو حتى السياسيّة التي وضعتها لنفسها :
" على حطام النكسة ، وكمساهمة في الردّ عليها ، على صعيد الفكر ، قامت " دار الحقيقة " لتقدّم خدمة فحسب . وفي ظروف السيطرة الأمبرياليّة والتجزئة والتخلّف التي يرزح فيها الشعب العربيّ، يصبح الطريق الوحيد إلى تأدية هذه الخدمة هو العمل في سبيل التغيير .
"هذا التغيير يبدأ بالرفض . ولكي يكون هذا الرفض واعياً وعنيداً، ينبغي أن يستند إلى معرفة يستطيع المواطن العربيّ من خلالها التعرّف الموضوعيّ على الواقع العربيّ والعالميّ . لذا فإنَّ الثقافة التي تقدّمها هي الثقافة الثوريّة ".
يظهر من ذلك بوضوح أنّ غاية الدار هي محاولة إذكاء النضال العربيّ وتنميته ضدّ الأمبرياليّة والتجزئة والاستغلال والتخلّف .
ولكن هناك صعوبات واجهت الدار منذ البَدء . ومن هذه الصعوبات التي ركّز عليها مديرها المسؤول ، عدم وجود شركات للتوزيع والتسويق تمتدّ إلى مختلف البلاد العربيّة . وهناك أيضاً الرقابة في بعض البلاد العربيّة ، والرقابة الذاتية . وهكذا فإنّ كتب " دار الحقيقة " مثلاً لا تدخل السعوديّة بتاتاً وكذلك الكويت وكلّ البلاد العربيّة المحافظة واليمينيّة .
أمّا في ما يتعلّق بالأسواق التي تتوجّه إليها " دار الحقيقة " أو سائر دور النشر لتصريف كتبها، فهي أولاً أسواق البلاد العربيّة وفي مقدمتها السوق السوريّة والعراقيّة ، أمّا السوق المحلية اللبنانيّة، فإنّها تستهلك نسبة ضئيلة جداً من مطبوعاتها .
لماذا وما هو سبب ذلك ؟...
أولاً وقبل كلّ شيء لأنّ السوق اللبنانيّة ، نظراً لعدد السكان ، ضيّقة جداً بالنسبة إلى البلاد العربيّة الأخرى . وكذلك أيضاً ، فيما يظهر ، فإنّ اللبنانيّ المتعلّم أو " المثقّف " لا يقرأ كثيراً ( مع ما يحمل هذا من تناقض ). يضاف إلى ذلك منافسة الكتاب الأجنبيّ ، على الأخصّ الفرنسيّ والإنكليزيّ ، مع أنّ سعره عال نسبياً . وبما أنّ هناك نسبة كبيرة من اللبنانيين ذوي الثقافة الأجنبيّة ، فإنّهم في هذه الحالة يفضلون ، إذا أرادوا القراءة ، أن يقرأوا الكتب الأجنبيّة .
ويذكر مدير " دار الحقيقة " أنّ الكتب التي تقرأ أكثر من غيرها ، خاصة بين الأجيال الطالعة، هي الكتب التي تدعو إلى التغيير ، تغيير الواقع العربيّ اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً .
لذلك فإنّنا نجد أنّ مواضيع الكتب التي تصدر عن "دار الحقيقة" ، ليست كتباً تعالج مواضيع الساعة ( حرب العصابات مثلاً ) وإنّما هي كتب أساسيّة وفي بعض الأحيان كلاسيكيّة يمكن أن تقرأ مرة وأكثر ، وأن يعاد إليها بين فترة وفترة .
وفيما يلي بعض عناوين الكتب التي نشرتها الدار حتى الآن ، وهي تعطي فكرة للقارئ عن خطّها السياسيّ : التخلّف والتنمية في العالم الثالث ( ألبرتيني )، ثورة أكتوبر في نصف قرن ( إسحق دويتشر )، في الفكر اللينينيّ (لوكاكش ، بوخارين ، غارودي ) الاستعمار الجديد في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة ( جاك وودس )، ماركس وإنجلز ( أوغست كورنو ) إلخ ، إلخ .....
وعن سؤال حول ما إذا كان صحيحاً الرأي الذي يقول بأنّ حركة النشر والترجمة قد انتقلت بالفعل من القاهرة إلى بيروت ، فجواب مسؤول "دار الحقيقة" يبقى غير قطعيّ ، لا إيجاباً ولا سلباً، وهو يضيف قائلاً : من أجل الإجابة عن ذلك بطريقة علميّة، يجب القيام أولاً بدراسة إحصائيّة، وهذا ما لم يعمل حتى الآن .
إلاّ أنّه ، على فرض أنّ نشاط النشر والترجمة قد تمركز حالياً في بيروت بدل القاهرة ، فإنّ ذلك يمكن أن يفهم بسهولة ، وأوّل سبب يتبادر إلى الذهن هو أنّ مجال تنوّع النشر في بيروت أوسع بكثير منه في القاهرة .
كلّنا يعرف مثلاً ــــــ وذلك لا يحتاج إلى ذكاء كبير لإدراكه ــــــ أنّه في بيروت ، أصبحت حريّة النشر تشبه " الانفلات "، ينشر فيها ويطبع ويوزَّع ما هبّ ودبّ ، حتى الكتب المشبوهة والمدسوسة وبإيحاء مباشَر أو غير مباشَر من المخابرات الاستعماريّة أو الإسرائيليّة ".
ويعطي مدير " دار الحقيقة " مثلاً على ذلك ، انتشار كتاب " تحطمت الطائرات عند الفجر" في مكتبات بيروت ... وكذلك أيضاً مئات الأمثلة يمكن أن تُساق في هذا المجال .
" ولكن إلى جانب ذلك ، ثمّة كتبٌ ثوريّة ، ومتطرّفةٌ في ثورتها . وهذه أيضاً بالمئات . مثلاً مؤلفات : شي جيفارا ، مالكوم إكس ، الفهود السود ... إلخ ، إلخ "...
هذا ، وإذا نظرنا إلى ما طبعت ووزعت " دار الحقيقة " إلى الآن ( ومجموعه 26 كتاباً )، فإنّنا نجد فقط أربعة كتب مؤلفة لكاتب عربيّ واحد ، والباقي مترجم عن اللغة الفرنسيّة في الغالب . لماذا؟.... ذلك لأنّ ميادين الكتب ــــــ كما يؤكد مسؤول الدار في نهاية حديثه ــــــ " هي موضوعات اجتماعيّة ( سوسيولوجيّة ) اقتصاديّة أو سياسيّة عامة . وفي مثل هذه الموضوعات ـــــــ إذا لم يكن الكتاب يتناول موضوعاً أو مسألة عربيّة ــــــ فإنّنا نفضل في هذه الحالة اللجوء إلى الكتاب الأجنبيّ . فما الداعي إلى اعتماد نتاج لكاتب عربيّ هو في الواقع ضَرب من الترجمة بتصرف ..".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - تحقيق مصطفى دندشلي، أنظر جريدة " المحرر " (بيروت)، 18 شباط (فبراير) 1972 .
هنا، لابد من الإشارة إلى أن ترتيب الحلقات لهذه السلسلة من التحقيقات، لم نتقيّد بتاريخ نشرها في جريدة " المحرر" اللبنانية، وإنما اعتمدنا تسلسل الموضوعات وتناسقها في الدرجة الأولى، مع ذكر تاريخ صدور كل تحقيق في الهامش، فاقتضى التنويه...
(2) – تحقيق مصطفى دندشلي، أنظر جريدة " المحرر" (بيروت)، 22 شباط (فبراير) 1972 .
(3) – تحقيق مصطفى دندشلي، أنظر جريدة "المحرر" (بيروت)، 24 شباط (فبراير) 1972.
(4) – تحقيق مصطفى دندشلي، أنظر جريدة "المحرر" (بيروت)، 23 شباط (فبراير) 1972.
(5) - تحقيق مصطفى دندشلي، أنظر جريدة "المحرر" (بيروت)، 16 شباط (فبراير) 1972.