د. دندشلي - دور الثقافة في التغيير
دراسات /
ثقافية /
2010-07-03
السبت 3 تموز 2010
دور الثقافة في التغيير
أولاً : ما هي الثقافة :
في الحقيقة عندما نبحث عن تعريف للثقافة في المصادر والمراجع المختلفة فإننا نجد تعاريف مختلفة ومتعددة باختلاف وتعدد هذه المصادر والمراجع , حيث تتراوح هذه التعريفات بين القول : إن الثقافة هي مجرد اكتساب درجة من العلم والمعرفة أو إنها تعني الإبداع والابتكار الفني والجمالي, أو إنها السلوك أو نمط التعبير الخاص بمجتمع من المجتمعات , أو إنها مجرد إنتاج فكري وفني وأدبي أو مجرد مقولات وصيغ وعبارات تدون في الكتب , مروراً بالكثير من وجهات النظر والآراء التي تفهم الثقافة من زوايا خاصة ووفق أغراض محددة.
وبما أن الثقافة خاصة بالإنسان العاقل وملازمة له ولأن الإنسان يتطور ويتغير بحسب الحقب الزمانية والمراحل التاريخية فإن معنى الثقافة قد تطور واتسع و صار بإمكاننا القول : إن الثقافة هي نشاط الإنسان وفعاليته ووعيه وهي الابتكار والإبداع وإضافة كل ما هو جديد وإخضاعه لمصلحة الإنسان وخدمة تطلعاته وطموحاته .
ثانياً : دور الثقافة :
إذا تشكلت لدينا القناعة وكنا واثقين بأن للثقافة دوراً مؤثراً في المنعطفات التاريخية الحاسمة وبصفة خاصة في ما يتعلق في نهضة الشعوب وتقدمها كان من الواجب علينا إدراك المعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق تفعيل الثقافة العربية لتأخذ دورها في نهضة الأمة العربية المرتقبة.
إن الثقافة العربية بشكل عام ( من تعريفنا السابق للثقافة ) تمر في أزمة وإن هذه الأزمة قد طالت عندنا أكثر من أي شعب آخر , فالأمم والشعوب الأخرى التي حققت نهضتها وتقدمها مرت بمرحلة قلق وتأزم كالتي نمر بها اليوم ولكنها استطاعت أن تتجاوزها والتغلب عليها خلال فترة قصيرة قياساً على مرحلة أزمة الثقافة العربية التي طالت متجاوزةً القرنين من الزمان ومازالت غارقةً في أزمتها إلى يومنا هذا .
ويمكن تلخيص أزمة الثقافة العربية بعوامل ثلاثة :
1- الإشكالية القائمة بين الأصالة والمعاصرة .
2- عزلة الثقافة العربية عن الواقع الاجتماعي .
3- غياب الدور النقدي الفاعل .
و لنأتِ على كل عامل من هذه العوامل بقليل من الإيضاح :
1- الإشكالية القائمة بين الأصالة والمعاصرة :
هناك خلل في التوازن بين الماضي والحاضر , الماضي الذي يمثل الأصالة والحاضر الذي يمثل المعاصرة فالتعصب الشديد للمحافظة على الأصالة والهوية التاريخية يحمل في طياته التقوقع و الانغلاق ومن ثم مفارقة العالم المعاصر فالماضي أصبح بعيداً عنا والحاضر يهرب منا ونغرب عنه وبالتالي أصبحنا ريشة في مهب الريح تتقاذفنا بشتى الاتجاهات , فلا الماضي يسعفنا ! لأنه انقضى وعودته مستحيلة , والحاضر يجفل منا ! لأننا منفصلين عنه متنكرين لمعطياته , فنحن في طريقنا إلى اندثار الأصالة المنشودة ! لأن الأصالة الحقيقية تعني الثقة بالنفس والقدرة على التمسك بالوجود الفاعل في الحياة , ومواكبة العصر وإضافة ما هو جديد إليه , أو بمعنى آخر :
الأصالة الحقيقية هي إمكانية القدرة على التجدد والإبداع , حيث أن الأصالة والهوية لا معنى لهما ولا يمكنهما الصمود أمام التطورات العلمية والتقنية المذهلة والسريعة ما لم تتمكنا من مواجهة العصر بنفس أسلحته العلمية والفكرية والثقافية وإثبات الحضور والنديَّة فيه أمام العالم المتقدم حضارياً . وفي الوقت نفسه نجد أن التطرّف باتجاه المعاصرة والتغريب أي نقل وتقليد ما يصدر عن الغرب دون دراسة وتمحيص وتفاعل يحمل في ثناياه خَطَرَ سلفيةٍ معاصرةٍ لا تقل تنكُّراً للواقع عن سلفيةِ دعاة الأصالة التقليديين حيث تحمل في تنظيراتها خطرَ انقطاع الفردِ والمجتمع عن واقعه الصادمِ وعن تاريخه الضائع وعن هويته المهددة بالتدمير وبالتالي فقدان المناعة وسهولة الاختراق , لذلك فإن ثقافة البعد الواحد أو الثقافةَ الأُحاديةَ الوجه تعكِسُ أزمة الثقافة العربية الراهنة فهي إما ثقافةُ حاضرٍ تفتقرُ إلى روابطَ بماضيها أو ثقافةُ ماضٍ عاجزةٌ عن مدِّ الجسورِ مع حاضرها .
- ليس من العار أن نتخلى عن بعض عاداتنا وتقاليدنا وسلوكنا وقيمنا إذا استبدلناها بما هو أصلح منها ونحن بالتأكيد لا نفقد شخصيتنا عندما نستفيد من تجارب الآخرين وعلم الآخرين إلا أننا نفقد هذه الشخصية عندما نتحول إلى تابعين للآخرين و لا نفقد شخصيتنا عندما نبني جيشاً غربي الطابع أو جامعة حديثة أو عندما نستخدم وسائل النقل و الاتصالات المتطورة ولكننا نفقدها عندما نستهلك ولا ننتج عندما نقلد ولا نجدد عندما نتلقى ولا نضيف أو نعدل أو نطور وليس من العار أن نقتبسَ , بل من العار أن كل ما نقتبسه ينتجه غيرنا ونحن نستخدمه دون إلمام بكل أبعاده وأغراضه ووظائف أجزائه .
- ولعل من أبرز الأمثلة على نشاط العرب والمسلمين العلمي والعالمي عندما قادوا مسيرة حضارية بأخذهم واقتباسهم من الشعوب التي فتحوا بلدانها فأضافوا إلى ما أخذوه وجددوا وابتكروا مما اجتذب ذلك العلماء والحكماء ورجال الفن والأدب من جميع الأصقاع فكان بينهم الفرس والأقباط والهنود والكلدان ولم يكن العرب ليستطيعوا أن يرتقوا إلى المرتبة العالية التي وصلوا إليها لولا استعارتهم من علم غيرهم واستفادتهم من معرفة من تقدم عليهم , وقد أنشأوا مؤسسات خاصة لنقل علوم هذه الشعوب أشهرها (بيت الحكمة في بغداد) .
وقد لخص غوستاف لوبون في كتابه ( حضارة العرب ) ذلك بعبارة موجزةٍ حيث قال : إن العرب استطاعوا أن يبدعوا حضارة جديدة مستعينين بما استعاروا من الفرس واليونان والرومان.
- إن الثقافة الحقيقية هي التي تستطيع إثبات استمراريتها و تجددها وتفاعلها مع عصرها ومواكبته في التحولات والمساهمة في رسم المشروع القومي والعالمي عن طريق حشد طاقات الأمة وتفعيلها وهذا هو الجانب الحيوي في أي ثقافة .
2- عزلة الثقافة عن الواقع الاجتماعي :
- إن نظرة متفحصة لحالة الثقافة وسط مجتمعاتنا يبدو من خلالها أن الحديث عن هذه الظاهرة وكأنه حديث عن ظاهرة ليس لها علاقة بواقع الوطن والمجتمع أو أنه حديث عن ظاهرة مقطوعة الصلة بالحياة والوجود , علماً أنه من الممكن أن نقيم مجتمعاً ما وما بلغه من رقيٍ أو مدنية من خلال انتشار الثقافة والتعليم ونوعيةِ المعارفِ التي حصل عليها فعلياً وتطبيقياً , حيث أن الثقافة والمعرفة المتماشية مع الواقع تعد سلاحاً نظرياً يمكن أن ينقلب ويتحول إلى قوةٍ ماديةٍ إذا ما وضعناها هدفاً للعمل وما نود قوله في هذا المجال هو أن العملية الثقافيةَ تجري بمعزل عن المشاركة الجماهيرية وأنها تظل مقتصرةً على فئة متعلمة أو نخبة معزولة مبتعدة عن الهمومِ الجماهيرية بمقدار ما تناله هذه النخبة من ارتفاع المكانة الثقافية .
- إن الثقافة الفاعلة الحية هي التي تعالج مشاكل الناس وهمومهم وتطلعاتهم ومصالحهم بجرأة وشجاعة وستظل الثقافة العربية أسيرة تقديس الماضي من جهة , وهوس الاغتراب من جهة أخرى ما لم تتجه إلى الهموم التي يطرحها الواقع المتغير .
3- غياب الدور النقدي الفاعل :
إن أزمة الثقافة العربية تبدو واضحة جلية للعيان في غياب دورها النقدي الفاعل بهدف إنتاج ثقافة واقعية جدية , وتبدو هنا أهمية تفعيل النقد والنقد الذاتي مهمة جليلة في ظل تعقد الأوضاع الوطنية و القومية في البناء و التنمية والتقدم لذلك المطلوب من المواطن العربي أن يتدرب على عقلية نقدية بعيدة عن العقلية التناحرية ذات السمات المطلقة , هذه العقلية النقدية يجب أن تتصف بتوازن موضوعي وتتسلح بوعي تاريخي وعلمي . ومن مظاهر أزمة الثقافة العربية هو غياب المشروع الحضاري عامةً والقومي خاصةً , الذي يمكن أن يخلصها من واقع الاستنقاع القطري والإقليمي ويمنحها أفقاً قومياً وإنسانياً يجعلها جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الكونية , وتكمن أزمة الثقافة العربية أيضاً في عمق الهوة بين الأقوال والأفعال بين ما هو نظري وبين ما هو عملي و تطبيقي فمعظم مثقفينا يقولون مالا يفعلون حيث لا قيمة للأفكار ما لم تترجم إلى سلوك نظيف يحولها إلى عمل واقعي مفيد .
يجب أن تكون لثقافتنا القدرة على إنتاج معرفة موضوعية تحلل مقومات الواقع و إشكالاته كي لا تكون غريبة عن واقعها وتنجز معرفة نوعية لا كمية وتبتعد في تشخيصها للأوضاعِ العربية القائمة عن أسلوبِ المدحِ أو الذم أو الثناء أو الهجاء و الرثاء .
إن التاريخَ يقدمُ لنا أدلةً دامغة على أن هزائم الأمم والشعوب لا تأتي مفاجئة بل مهدت لها مقدمة ثقافية هشة وخلفية حضارية متداعية ويأتي في مقدمة هذه الهزائم هزيمة الثقافة و الاديولوجية وبالتالي يجب أن نسعى إلى ثقافة قومية وإنسانية ذات أبعاد تحررية وديمقراطية إن الثقافة العربية المعاصرة يجب أن تكون منفتحة على الثقافات العالمية فتؤثر بها وتتأثر منها أي يجب أن نتعلم من تجارب الآخرين لا أن نقلدها , فالمفكر العربي والمثقف العربي الذي يستوعب ثقافة الآخر الأجنبي ويتمثلها , يستطيع استناداً إلى ثقافته القومية وتجربته الذاتية أن يصنع إبداعه الخاص المبني على تفاعل الثقافات لكي يبني نموذجاً ثقافياً يكتسب طابعاً إنسانياً مؤثراً .
يمكننا الآن استخلاص تعريف للثقافة القومية :
الثقافة القومية :
- هي التجلي الخاص لشعب من الشعوب , هي تعبير المجتمع بطريقته الخاصة و رموزه المستقلة عن نضجه و تطوره ورؤيته للإنسان والعالم والطبيعة والكون عموماً , إنها طريقته الخاصة بتجسيد حاضره ورسم آماله ومعالم مستقبله و عدم غفلته عن كل ماضيه وقيمه وما درج عليه من سلوك وما أخذ به من عادات وتقاليد ومحافظة على تراثه الخاص وشخصيته المتميزة على أن لا تكون المحافظة على التراث الخاص والتمسك بالشخصية المتميزة مدعاة للمحافظة على القديم حتى لو وجد ما هو أصلح منه لحياته .
ثالثاً : دور المثقفين في تجاوز الواقع العربي :
إن الظروف التاريخية الراهنة لجميع الأقطار العربية هي متشابهة وتكاد تكون متطابقة لذلك نوسع دائرة الخطاب على الواقع العربي بأكمله .
- من هو المثقف :
- هو الإنسان المتعلم الذي تحصَّلَ على قدرٍ من العلم والمعرفة ووضع نتائج أبحاثه في خدمة الحركة العلمية المعاصرة وترجم علمه إلى تطبيقات ونتائج تصب في الحركة العلمية الواحدة فمن وقفت حدود ثقافته عند حدود ثقافة الأوائل لا تتعداها إلى ما آلت إليه الثقافة في عصره فليس له من علاقة بالثقافة والمثقفين , بل لا بد له من أن يكون منخرطاً في روح عصره وهموم عصره وثقافة عصره وقضايا عصرهِ .
- فلن يتمكن العرب من تشخيص أمراضهم التي كثرت وتعددت أو يعالجوا قضاياهم الكبيرة إلا في نظرة شمولية متعددة الجوانب و متداخلة في ما بينها , أولها تبدأ بوقفة نقدية عقلانية ثقافية ومعرفية للماضي والحاضر ومجمل معطيات عصرنا وحقائقه التي برزت على أرض الواقع , فالمثقف يجب أن يبدأ في البحث عن الحقيقة فإذا أردنا التقدم فعلينا بإعمال العقل وإذا أردنا تكوين ثقافة معرفية جدية فعلينا اكتساب معرفة علمية لذاتنا العربية وللآخر العالمي , فكل الأمم التي ارتقت استطاعت أن تحقق نهضة فكرية ثقافية ومعرفية كانت هذه النهضة هي الأساس الذي انبعثت من خلاله الإنجازات الجبارة على مختلف الصعد العلمية والتكنولوجية .
- ويقع دور كبير على عاتق مثقفينا للنهوض والتطور والتقدم إذ عليهم السعي بخطى حثيثة بإعادة غربلة المفاهيم والأفكار والنظريات المختلفة التي تحصنت فيها كل شريحة ثقافية واعتبرتها من المسلمات بل أحياناً من المقدسات وأن يتخلصوا من التنظيرات المتعالية عن الواقع وأن يولوا اهتماما شديداً لعلاقة أفكارهم بواقعهم وواقع مجتمعاتهم ومدى مطابقتها له , إذ في كثير من الأحيان ما تختفي حقيقة الواقع وراء النظريات والإيديولوجيات الوهمية أو الخيالية التي تقدم صورة زائفة عن الأوضاع التي يراد معالجتها .
(( إذ لا يمكن لأفكار تطالب وتتحدث عن بناء مدن سياحية وفنادق فاخرة ومطاعم زاهرة أن تتحقق وتشاد وسط مجتمع معظم أفراده من أصحاب الأفواه الجائعة والبطون الخاوية ومفتقرين للمسكن وفاقدين لفرص العمل )) فالأفكار المناسبة هنا هي التي تتحدث عن الخيم و الشوادر وبيوت الصفيح وبائعي الخضار في قارعة الطريق وبائع الفلافل المتجول .
- إذاً هناك مسؤولية تاريخية أمام المفكرين والمثقفين العرب في السير على دروب غير تقليدية أي ( غير اعتيادية ) للحصول على معارف حديثة ومستقبلية من خلال تبني وعيٍ تاريخيٍ تناقديٍ والتخلص من المواقف الجاهزة المسبقة والتراجع عن الأُطُرِ المعرفيةِ التقليدية والدخول في نطاق العصر والتفاعل مع الحضارات والثقافات الإنسانية الأخرى .
- حيث إن مسؤولية الانتقال بالثقافة العربية من وضعها الراهن الذي نحسبه متخلفاً إلى ثقافة متقدمة لا تقع على عاتق الحكومات والأنظمة العربية فقط بل إنها مسؤولية كبرى نتحمل أثقالها وأوزارها جميعاً في فتح أفاق ديمقراطية للوصول بالعمل الفكري والثقافي إلى مكانة مرموقة وتوسيع ساحاته وتحسين أدائه ومن الأهمية بمكان الدفاع عن دور المفكر والمثقف الملتزم وحمايته وتهيئة الجو المناسب له ليقدم أفضل ما يستطيع وأن نوفر له شروط الثبات والمقاومة لكي لا يكون فريسة للسقوط والاستسلام الذي تدفعه إليه بعض الجهات من خلال قنوات مختلفة .
- ومن مهام المثقفين وواجباتهم وحقهم , أن يعملوا من أجل مجتمع مدني من خلال إتاحة المجال لمؤسساته بالنمو والانتشار كالأحزاب والاتحادات والنقابات والجمعيات ومنظمات حقوق الإنسان وتأخذ دورها الكامل في المجتمع وهكذا يمكننا أن نقول بأن المثقف هو وحده الذي يمتلك القدرة على تحليل الأحداث وصياغة الحلول الناجعة لها , وهو القادر على تعبئة الشعب وتنويره , وتعزيز دور الرأي العام وتفعيله وإنضاجه وتوعية المواطنين والتأثير على سياسة الحكومات وتحويلها إلى سياسة تخدم المصالح العامة والقطاعات الشعبية الواسعة وهو بهذا يساهم ويعمل على ربط الفكر بحركة الواقع وربط ما هو نظري بما هو عملي وبذلك يكون المثقف قد شارك في خلق الأسس اللازمة لإحداث نقلة نوعية في الواقع العربي .
رابعاً : دور السياسة وعلاقتها بالثقافة :
- هناك ترابط بل تداخل بين المسألة السياسية والمسألة الثقافية ولا يمكن أن نفصل بين السياسة والثقافة فثمة علاقة جدلية بينهما فلا سياسة بدون ثقافة حقيقية وبدون معرفة علمية حيث أن السياسة هي جزء من الثقافة العامة وليس من مبرر لثقافة ما لا تدافع عن استقلال الوطن وحرية المجتمع ومصالح الأمة والتخلص من العبودية والتبعية للأجنبي .
- إن الإشكالية بين السياسة والثقافة في الوطن العربي هي أن العامل السياسي هو الأساس الوحيد المعتبر , يطغى على كل ما حوله ويجبُّ ما عداه من عناصر أخرى وبالتالي فهو يسقط من حساباته كل مؤيدات الوجود والمؤثرات الأخرى إلا من خلال ارتباطه بالعامل السياسي لذلك وفي هذا الإطار فإن الثقافة يجب أن تخضع لاعتبارات السياسة وتكون في خدمتها ومن هنا يجب أن تكون الثقافة تابعة للسياسة بشكل كلي وبذلك تضيق دائرة الحديث عن الحريات الديمقراطية , وينتفي حق مؤسسات المجتمع المدني وما تتمتع به من شخصية اعتبارية واستقلالية فهذه المؤسسات المدنية لا تعدوا كونها ديكوراً في المسرح السياسي الرسمي الذي يسخر كل ما حوله بهدف السيطرة العامة على مقدرات الحياة في الوطن العربي إننا إذا أردنا معالجة إشكالية العلاقة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي بموضوعية وعقلانية فيمكن أن نقول إن السياسة والثقافة السياسية هي أحد فروع الثقافة الشاملة للمجتمع وأن السياسة هي ثقافة تخضع لتأثير الثقافة الكلية وإن الثقافي يجب أن يستوعب السياسي ويحتويه وأن السياسي قلما يحتوي الثقافي في بلد متحضر حيث يتوفر مناخ ديمقراطي أي أن السياسي لا يستطيع أن يبتلع الثقافي حيث حجم الأخير أكبر لا يقاس من حجم الأول الذي هو فرع منه والفرع لا يفسر الأصل وهذا ما يوضح إشكالية الصراع بين السياسي وبين الثقافي وأسباب الانعزال عنه أو الصراع العدائي معه والنتيجة المنطقية هي الإقرار أن الثقافي هو العنصر الأساسي وأن السياسي هو العنصر الثانوي وأن العلاقة بينهما يجب أن تقوم على هذه الأرضية المعرفية المنطقية , لكن الواقع العملي في الوطن العربي يقلب هذه المعادلة على رأسها ويبين أن السياسي يسحق الثقافي ويلتهمه ولا يعيره كبير الاهتمام إلا بالقدر الذي يبرر ممارساته ونوازعه .
- هناك تصور عند البعض أن ميدان رجل الفكر والثقافة يستند إلى المثالية في التنظير والمنهج في حين يعتقد فريق آخر أن ميدان رجل السياسة هو ميدان عملي تجريبي يخضع لمتطلبات الواقع لذلك يشطب من حساباته قدرة تأثير الفكر في الواقع أو التفاعل معه كما يرى فريق ثالث أن رجل السياسة أبعد ما يكون عن استخدام أي منهج علمي في عمله الإستراتيجي أو حتى التكتيكي وفي تشخيصه للوقائع و الأحداث أو في معالجة الأمور السياسية وما يرتبط بها , وهنا يأخذ العمل السياسي طابعاً مزيفاً وكأن العمل السياسي شكل من أشكال الخداع والكذب , أو نوعاً من التلون والتقلب والشطارة لا يخضع لضوابط موضوعية أو علمية وهنا تبدو المفارقة بين عمل رجل الفكر والثقافة ورجل السياسة , يقوم هذا المفهوم الخاطئ على وجود تعارض بين عمل رجل الفكر والثقافة ورجل السياسة , يقوم هذا المفهوم الخاطئ على وجود تعارض بين الموقف العقائدي الإيديولوجي وبين الموقف السياسي , ويقوم هذا التعارض على افتراض أن الموقف العقائدي هو ضرب من المثالية ونكران الواقع والانقياد للمسلمات , دون الخضوع لأي مراجعة أو تعديل , في حين أن الموقف السياسي يقف بناءً على هذه المقارنة على الطرف النقيض , إذ يعتبره أصحاب هذا الرأي موقفا سريع التقلب وكثير التلون متفاعلاً مع الأحداث ولا يضبطه منهج .
- ومن هنا يبرز التصور أن هناك نموذجين من الرجال نموذج رجل فكر ونموذج رجل سياسة إلا أن الحقيقة تقول إن التطورات السياسية والاجتماعية على المدى المتوسط والطويل تخضع للواقع الموضوعي ولا تفعل شيئاً خارج ذلك الواقع ! لأن سنة التطور لا تقيم وزناً للمحاولات الذاتية لعرقلة التطور العلمي وأن التطور الاجتماعي يقوم على أساسٍ علمي يزاوج بين الفكر والثقافة من جهة وبين السياسة من جهة أخرى ولا يمكن فصل السياسة عن الثقافة .
المهندس هاشم الهاشم
عضو المكتب السياسي
للحزب الديمقراطي السوري