كلمة التقديم للقاضي السيد محمد حسن الأمين في الأمسية الشعرية التي أحياها الشاعر محمد علي شمس الدين
دعوات /
أدبية /
1989-12-23
كلمة التقديم للقاضي السيد محمد حسن الأمين
في الأمسية الشعرية التي أحياها الشاعر محمد علي شمس الدين
بدعوة من المركز الثقافـي للبحوث والتوثيـق في صيدا، في 23/12/1989 في دوحة المقاصد.
لا مقدمة للشعر.. لا كلام يسبـق حضوره.. حضوره الغامر المبارك فوق كل حضور.. لا كلام يرشدك للدخول إلى ملكوته.. هو المرفق الوحيد الذي لا يحتاج فيه السائح إلى دليل.. وكلّ كلام يدعي امتلاك مفاتيح أبوابه كلام باطل.. ليس باطلاً فحسب.. بل أكثر.. إنه يفسد عليك متعة الدهشة والمفاجأة.
الكلام على الشعر أو عنه لا يساهم في إضاءة العتمة والالتباس في أروقته.. لأن الغموض والالتباس في القصيدة غيره في الأماكن السياحية.. أنه في الثانية بحاجة إلى دليل من خارج يسلط الضوء ويشرح ويفسِّر.. وفي القصيدة بحاجة إلى دليل من داخل الذات يتوهم ويحدس ويكتشف بذاته ولذاته.. فأنت وحدك ولا أحد سواك فالوحدة شرط توهجك وانكشافكما أنت والقصيدة الواحد على الآخر.
فالقصيدة حضور كامل لا يحتاج إلى مبرر من خارج وللقصيدة كيانها الخاص.. تحبها فكأنك تدخل في الحب لأول مرَّة.. تستسلم لك وتتمنع عليك وفق القوانين نفسها التي تحكم علاقة العاشق بالحبيبة.. فاستماع القصيدة هو الفن الذي يلي في الأهمية مباشرة درجة إبداعها والبعض يذهب إلى أكثر: إلى أن القصيدة لا تستكمل حضورها إلاَّ بعد أن يكتشفها المتلقي الذي يوفر لها شرطها الإبداعي.
عفو الشعر ـ إذن ـ فأنا لا أقدمه ولا أمهد لحضوره الأبهى ولا أريد أن أفسد اللحظة المباركة بالكلمة التي تشرح وتفسر وتمهد وقصارها أن تستلهم ومضة من فانوسه السحري تشعل فينا بعض الرغبة والتحفز لدخول القصيدة شاعرنا هذه الأمسية محمد علي شمس الدين لا يقدمه شىء كما تقدمه قصائده والكلمات التي افتتح فيها هذه الأمسية لا تدعي لنفسها أكثر من محاولة سريعة لمعرفة مكان هذا الشاعر في بناء صرح شعرنا العربي المعاصر الذي يشهد أخطر تحول في تاريخه.. منذ أكثر من ألف وخمسمائة عام ملاحظاً أن المفاصل التاريخية التي شهد فيها الشعر العربي تحولات عميقة كانت هي الفاصل الزمنية التي عاش فيها كبار الشعراء العرب وعلى أيديهم تمت تلك التحولات العميقة منذ طرفة ابن العبد الشاعر الجاهلي مروراً بالثلاثي الأموي الأخطل وجرير والفرزدق ثم بشعراء العصر العباسي كابن الرومي وابن تمام والمتنبي وصولاً إلى شعرنا العربي المعاصر حيث يشهد الشعر العربي تحولات أكثر جذرية وعمقاً والشاعر محمد علي شمس الدين الذي يحتل مكاناً طليعياً بين عدد من الكبار الذين يضطلعون بهذه المهمة الإبداعية التاريخية يأخذ مكانته المميزة لكونه أحد رواد الحداثة الشعرية. ولكن هذا لا يفسّر المكانة الإبداعية المميزة لشاعرنا.. فهو بين قلة من شعراء الحداثة الذين تلوا جيل الرواد الأول.. الباب وحاوي وعبد الصبور وأدونيس لم يبدأ حيث انتهى هؤلاء وما أكثر شعراء الحداثة الذين انطلقوا من قاعدة هؤلاء الرواد فحسب.. بل بدأ شاعرنا حيث بدأ رواد الحداثة الأول ولكنه لم ينته حيث انتهوا بل تابع رحلة الكشف والتجاوز والبحث عن الشعر الجاد العظيم فأسس مع بضعة شعراء غيره كمحمود درويش وأمل دنقل وغيرهم المرحلة الريادية الثانية.
في قصائد محمد علي شمس الدين فتوحات شعرية شارفت الآفاق التي يطمح إليها الشعر الجاد وسكلته هذه المشارفة في أسرة المبدعين على اختلاف عصورهم.. وليست الحداثة في شعره زيّاً ولا تمحلاً لغوياً أو بنائياً، بل هي انعكاس لامتلاكه الشروط المعقدة لتحقيق إبداعه الخاص المشتمل على نبض عصره.
في شعره طلاوة وحلاوة قلما تقع على مثلها في شعر سواه من المحدثين هي جزء من رصيده المكتنز من تراث الغنائية الشعرية العربية ولكنها غنائيته الخاصة وصوته الذي لا تخطئه وهو يتهدج بفجائعية عصره.
تمرَّد على شروط موهومة للحداثة عندما أدخل عليها اللغة الباذخة والإيقاع الدقيق على النحو الذي يذكرك بقدرة كبار الشعر العرب على اللعب باللغة وامتلاك شروط الإيقاع العروضي ولكن دون أن يقع في أسر اللعبة كما يحدث للشعراء الشكليين، تقع في شعر المراحل الأخيرة لديه على حضور لتراث التصوّف يأتي مترافقاً مع نزعة ظاهرة لتصفية اللغة الشعرية من الشوائب، أيّ لمزيد من الشفافية والكشف والتوحد وتدوير الزوايا الحادة في اللغة والأداء الشعريين وصولاً إلى امتلاك الشعر
محمد علي شمس الدين شاعر عربي كبير ولكن مكانه الرائد بين شعراء الحداثة العربيـة لا يلقي خصوصيته لشاعر جنوبي اشتق لغته ونحت مفرداته من هذا المدى الجنوبي فجاءت غنائيته الأصيلة استكمالاً للمواويل الطويلة والحكايات الشعبية المنسوجة على دفء مواقد الشتاء العاملية وجاء غزله صدى لغناء الصبايا في عشايا الكروم وامتداد لآهات الجرار المحمولة على أكتافهن على الطريق بين العين وبيوت القرية ناهيك عن اختلاج الجرح الكربلائي في صوته شارة انحياز إلى خط المأساة والبطولة عبر التاريخ.
وأخيراً ابن المقاومة في شعر محمد علي شمس الدين..؟ وهل جعلها موضوعاً لقصائده.. كلاَّ فالذين يجعلون المقاومة موضوعاً لقصائدهم يصفونها ويتحدثون عنها ويمتدحونها، أما عند شاعرنا فهي تتفتَّح في قصائده وترشح من كلماتها وهذا ـ لعمري ـ هو شعر المقاومة الحقيقي..
أيها الشعراء لا تتحدثوا عن المقاومة كثيراً، بل دعوها تتفتح في أشعاركم. وبعد.. استميح الشعر عذراً فهذه الأمسية ما كان ليشاركه فيها غيره، فهي خالصة له وحده وكل كلام سواه وإفساد لمتعة المثول أمام حضوره الأبهى.