مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية -الأحزاب والجماعات
دراسات /
سياسية /
2007-06-07
مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية
دراسات ـ الأحزاب والجماعات
مشروع أقلية يبحث عن عنوان أكثرية
حزب الشعب السوري والدفاع عن سورية: S.P.P
(الحزب السوري القومي الاجتماعي)
من جديد يقفز الحزب القومي السوري إلى الواجهة، بعد رحلة من الإبعاد ابتدأت بإعدام مؤسسه في ليلة غير مقمرة بتاريخ 1949، وعبر عقود من الزمن بعد ذلك ارتبط اسم الحزب بالشوفينية والفاشية ومعاداة القومية العربية، والارتباط بقوى أجنبية، وكان يعني كل ذلك، وضع الحزب في مربع التخوين والتهوين...
ولأمر ما منذ عهد الرئيس حافظ الأسد، بدأ الحزب يستعيد بعض اعتباره، باحتلاله مواقع متضمنة في بنية النظام السوري، لم تحظ بمثلها أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، التي كانت جزءاً من الديكور في صالون السياسة السورية، حيث حظي (شوقي خير الله) أحد رجالات الحزب البارزين بمنبر دائم في جريدة الثورة السورية..!!
وبعد زمن ليس بالطويل بدأت وسائل الإعلام السورية تشيد وتشير إلى بيانات الحزب، التي كانت تصدر في المناسبات في بيروت.. وكانت نبرة الحزب تعلو، وحضوره يمتد يوماً بعد يوم.. في ظل الوجود السوري في لبنان، وفي إطار توافقية مستغربة في المواقف والسياسات!! في عهد الرئيس بشار الأسد، حظي الحزب بمقعد في صفوف الجبهة الوطنية التقدمية بصفة مراقب، وهو الحزب الوحيد الذي نال بعض الاعتراف في عهد الرئيس بشار!!
ربما يتساءل المرء عن سر العلاقة بين حزبي البعث: القومي العربي.. وبين الحزب الاجتماعي القومي السوري الإقليمي الضيق؟!
إن مركز الشرق العربي.. إذ وضع في برنامجه فتح ملفات الأحزاب السورية، في دراسات موضوعية هادفة.. سيحاول أن يسلط الضوء على معنى العلاقة بين القومي والإقليمي في خصوصية النظام السوري، وكذا في خصوصية الجهة التي أعدمت والتي دعمت أنطون سعادة وحزبه من بعده.. دون أن نغفل أيضاً عن تحرك مماثل على ساحة الأردن، حيث استطاع الحزب أن يحظى بترخيص وفق قانون الأحزاب الأردني. ستكون الحلقة الأولى في هذا الملف: الحزب القومي السوري أسرار التكوين والتاريخ، مع ترجمة مستوعبة لأنطون سعادة تنشر على موقعنا تحت عنوان رجال من الشرق...
قام حزب (الشعب السوري) أو (الحزب السوري القومي الاجتماعي) على مذهب بالغ الابتكار، راح في فترة ما بين الحربين، ينمو مجنداً أعوانه ومؤيديه، من النخب السورية الجديدة الآخذة بالتكون. هذا الحزب هو حزب الشعب السوري (PP S)، والتسمية التي أطلقت عليه في عصر الانتداب من قبل الناطقين بالفرنسية وبالعربية هي (الحزب السوري القومي الاجتماعي). وقد وسم الحياة السياسية السورية في فترة ما بعد الحرب بطابعه، وكاد يستقطب بعنوانه الإقليمي كثيراً من الأقليات الدينية والمذهبية. ويمكن اعتباره تجسيداً استثنائياً جداً في الشرق العربي: للاعتراض الصريح على الهوية الإسلامية والعربية وتقديم الهوية السورية على أنها انبعاث للأقليات الوطنية. وقد بدا الاقتراح، بالغ الاستفزاز للروح العربية بأسلوب كان من شأنه، ولا سيما في الخمسينات، إتاحة الفرصة لهيجانات عاطفية، وإلى عقابيل من الأفعال المتسمة بالعنف المفرط، انتهت بالقضاء على الحزب حتى حين. لقد كان لهذه الخاصية الاستثنائية النادرة للحزب، وبالدور الذي لعبه في تسييس النخبة العلوية الجديدة، عمقها في نشأة الحزب، وصياغة تاريخه، وقراءة واقعه. فقد كان الحزب القومي السوري هو المحضن الأول لشباب الطائفة العلوية، الذين كانوا يراهنون على حزب ذي لافتة عامة يجعلونه طريقهم إلى الواقع السياسي السوري، ثم كان حزب البعث هو خيارهم الثاني والأخير، ومن هنا فإن الحزب القومي الاجتماعي مايزال يحظى بمكانته في ذاكرة السياسيين من أبناء النخبة العلوية...
نجد في بدء تأسيس الحزب، عام 1932، سورياً هو (أنطون سعادة)، ابن لأرثوذكسي شرقي لبناني، من أصل غير عربي هاجر إلى أمريكا اللاتينية. وفي عام 1929 كان أنطون سعادة قد عاد إلى الشرق العربي ليعمل في جريدة في دمشق. ومنذ عام 1935، وقد اجتذبت إليه أفكاره السياسية عدداً كبيراً من المتابعين، اعتقلته السلطات الفرنسية. وفي عام 1938 نشر في بيروت كتاباً هو (نشوء الأمم) حيث طرح فيه المبادئ الأساسية لدعوته.
كان أول المبادئ يفصح عن (أن سوريا يجب أن تكون للسوريين) و(أن السوريين هم أمة واحدة ذات كيان مستقل). ويؤكد أنطون سعادة أنه بعد أبحاث مستفيضة، توصل إلى أن السوريين يشكلون كياناً قومياً مميزاً. لم يكونوا عرباً. وإنما سلالات شعب كان موطنه الطبيعي منذ أزمنة ما قبل التاريخ، سورية. فالأمة السورية ينظر إليها على هذا النحو، كأنما هي خليط من (الكنعانيين والأكاديين والآشوريين والأراميين والحثيين والميتانيين). فالخاصية الـ (سورية) كانت مؤكدة تماماً عندما حدث الفتح العربي في القرن السابع. وبتمجيده للأمة السورية التي كانت تشمل في نظره لبنان وشرق الأردن وضم إليها فيما بعد العراق وقبرص، وكان يبشر بالحاجة المطلقة للوحدة القومية السورية: (فمن خلال الوحدة القومية سوف تختفي منازعات الولاء والمواقف السلبية، ليحل محلها شعور وحيد وسليم من الإخلاص للأمة، يؤمن إحياءها) وكان يحدد أيضاً أن (مصلحة سوريا تتقدم على كل ما عداها من المصالح) وإذ كان يطابق المجتمع مع الأمة، فإنه كان يضع الأمة فوق كل شيء…
وقد طرح أنطون سعادة خمسة مشروعات للإصلاح تشكل جزء متمماً لدعوته هي:
1ـ فصل الكنيسة عن الدولة.
2ـ استبعاد الأكليروس (رجال الدين) من ميدان الشؤون السياسية والقانونية.
3ـ إزالة جميع الحوائل بين الأديان والفرق الطائفية. (وتبدو هذه المشروعات الثلاثة تحدياً للأكثرية المسلمة السنية، وإن كان الحديث ينصب ظاهراً على الكنيسة والإكليروس!!
4ـ إلغاء (الإقطاع) وتنظيم الاقتصاد القومي على النمط التعاوني، وحماية حقوق العامل ومصالح الأمة والدولة.
5ـ إنشاء جيش قوي قادر على تأمين سلامة الأمة والدولة.
كانت مقدمة دستور الحزب الذي تم إعداده عام 1934، تحدد بأن حزب الشعب السوري قد أسس على مبدأ عقد مبرم بين المشرع (وهو هنا أنطون سعادة) الذي كان أول من طرح فكرة القومية السورية بنوع خاص، وجميع أولئك الذين قبلوا بها.
وتؤكد على أن الذي صاغ مبادئ النهضة القومية الاجتماعية، هو الذي يجب أن يكون الزعيم للحزب مدى الحياة، وأن أولئك الذين ينتمون إلى هذه المبادئ يكونون منذ الآن أعضاء في هذا الحزب، مدافعين عن قضيته، ومانحين دعمهم وولاءهم بلا تحفظ للزعيم، ولتشريعه ولإدارته الداخلية. وهكذا أدخلت فكرة الخضوع المطلق إلى زعيم واحد في مبادئ الحزب نفسها. (وقد انتقلت هذه الأفكار مباشرة إلى زعامات حزب البعث العربي الاشتراكي بعد ذلك)
كانت هذه العقيدة المتسمة بالميول الشمولية، تستمد أسسها من عدد معين من الحجج الفلسفية والتاريخية القابلة للتنازع، ولكن معظم المنتمين للحزب، لم يكونوا قط على أي حال، في مستوى تقديرها بل في مستوى فهمها. وهكذا كما يلاحظ ذلك باتريك سيل فإن (خاصية جاذبيته كانت تكمن بصفة أساسية في التشديد على الشبيبة، والتدريب الصارم، والتصور الفاشستي لدور الزعيم، في نفس الوقت الذي يعبر فيه عن الأطروحة البسيطة التي يرى فيها أن سورية الطبيعية كانت أمة كبيرة، لعبت وسوف تلعب أيضاً دوراً عظيماً في التاريخ). وقد تركت هذه الرؤية بصماتها البعيدة المدى في شخصية الرئيس السوري حافظ الأسد.
كان لهذه الأطروحة القومية السورية، التي تجيء بحكم الواقع لمنافسة القومية العربية، كما لملامح العلمنة في برنامج الحزب، ما يجتذب عدداً من عناصر الأقليات، سواء من وجهة النظر العرقية، أم من وجهة النظر الدينية، وبالفعل، فإن الغالبية العظمى من أعضاء الحزب على جميع مستويات مراتبيته قد جندت من المسيحيين غير العرب، ومن الدروز والعلويين وبنسبة أقل من الأكراد. وبالمقابل فإن الحزب جلب على نفسه عداوة تشكيلات سياسية أخرى: الحزب الشيوعي (من أجل قسماته الفاشستية)، والانفصاليون اللبنانيون (الموارنة بصفة أساسية) لأنه كان يضم لبنان في إطار القومية السورية (وبسبب تضارب المصالح الفرنسية ـ الألمانية، التي حاول الحزب أن يجسدها في وقت مبكر في منطقة الشرق العربي)، والقوميون العرب لأنه كان يطرح نفسه منافساً للوحدة العربية، ويريد عزل سورية عن الأمة العربية. وكانت قطاعات أخرى من أهل الرأي تأخذ عليه ميوله المعادية للديمقراطية والعلمانية. أما السلطات الفرنسية من جهتها فقد اعتبرته مخرباً. وقد ظل كثير من النخب السياسية العلوية خاصة على ولائهم لمبادئ الحزب، وإن تلبسوا في مرحلة تالية بلبوس القومية العربية، وظلوا يعملون في إطار حزب البعث العربي الاشتراكي، على تحقيق سياسات ومنطلقات الحزب الاجتماعي السوري. وعلى ضوء هذه الحقيقة نستطيع أن نفسر الكثير من سياسات حزب البعث في سورية: (علاقاته الاستحواذية مع دول الجوار (لبنان ـ الأردن ـ فلسطين) ـ مواقفه من قضايا التضامن العربي ـ مواءمته المبكرة بعد صراع ظاهري لأنشطة الحزب الاجتماعي القومي)
ولم يكن تاريخ هذا الحزب سوى سلسلة من العنف. فقد تكون في الأصل من شبكة محكمة، تضم فروعاً وخلايا من سورية ولبنان، ولكنها على وجه أخص أكثر تركيزاً على لبنان!! وقد هدمت السلطات الفرنسية هذا التنظيم السري عام 1935. واعتقل سعادة، متهماً بالتآمر على الدولة، وحكم عليه بالسجن ستة أشهر. وبعد الإفراج عنه بوقت قصير اعتقل من جديد في نفس الوقت مع عدد من أتباعه لمحاولات اغتيال شخصية، لعدد من الصحفيين اللبنانيين. وهكذا أصبح الحزب في نزاع مستمر مع السلطات اللبنانية والفرنسية. إلا أنه في عام 1937 نال الحزب الموافقة للعودة إلى نشاطاته على الأرض اللبنانية، بعد أن قطع على نفسه التأكيد بأن نشاطه لن يهدف إلى تدمير الكيان اللبناني، وإنما سيسعى فحسب إلى وحدة الكيان السوري. وفي عام 1939 شنت الحرب على الحزب عندما كان سعادة في زيارة لجالية من المهاجرين السوريين في أمريكا الجنوبية. فمكث هناك حتى عام 1947. وفي غضون ذلك منعت الدولة المنتدبة الحزب من مزاولة نشاطه، واعتقلت عدداً كبيراً من أعضائه، بتهمة التآمر على سلامة الدولة، وبالتواطؤ مع دول المحور. وعلى الرغم من ميول الحزب (PP S) الفاشية، لم يثبت أبداً بيقين وجود صلات بينه وبين الحكومتين الألمانية والإيطالية. وفي عام 1941 أطلق سراح أعضاء الحزب المعتقلين، بتدخل جماعة من الأعيان اللبنانيين، وبعد مرور ثلاث سنوات، سمح للحزب من جديد بمزاولة نشاطه في لبنان. فبدل اسمه وأصبح منذئذ (الحزب السوري القومي الاجتماعي ) وكان هذا التبدل مطابقاً لتبني توجه جديد: صار الحزب من بعد يركز عمله في السياسة اللبنانية الداخلية وحدها، وكان على أنطون سعادة لدى عودته في عام 1947، أن ينكر هذا التوجه الجديد وأن يطرد بعض الزعماء الذين اعتمدوه، وأن يعيد تثبيت زعامته وحدها للحزب. وراح النزاع بين الحكومة اللبنانية، التي أصبحت مستقلة بعدها، وبين الحزب يعود للصدارة في الأحداث اليومية، وبالنظر إلى أن سعادة عاود نشاطاته لصالح الوحدة السورية. وبعد حقبة قصيرة من السرية، طاردت القوى الحكومية أثناءها أعضاء الحزب في جبل لبنان، سمح للحزب من جديد بالعودة إلى العمل، لأنه أكد مجدداً احترامه للكيان اللبناني.
إلا أنه كان عليه، بعد لأي، أن يهاجم من جديد الحكومة اللبنانية كما يهاجم القوميين العرب، الذين كان يستنكر عملهم المشؤوم من أجل الكيان السوري. فقد أكد أن هزيمة الجيوش العربية عام 1948 كانت تقيم الدليل على إفلاس العروبة!!. وانضم إليه عدد من الزعماء السياسيين اللبنانيين من الدرجة الأولى (من الموارنة والدروز)، ولكن معظمهم وكذلك معظم أهل الرأي، ظلوا على عدائهم له. وفي عام 1949 سُجلت مواجهات مسلحة خطيرة بين الحزب وأعضاء حزب الكتائب. فاتهم الحزب (PP S) حينئذ حكومة رياض الصلح بإثارة هذه الحوادث لامتلاك ذريعة لمنع الحزب. وأيا ما كان الأمر، فإن الحزب وجد نفسه فعلاً ممنوعاً من العمل. وقد تم اعتقال ألفين من أعضائه. فاضطر سعادة إلى الالتجاء إلى سورية حيث أحسن حسني الزعيم استقباله في البداية. ثم انقلب عليه متراجعاً تحت الضغط الديبلوماسي اللبناني، وضغط قطاعات الرأي المعادية للحزب، فقام أول حاكم عسكري لسورية بتسليم سعادة إلى الحكومة اللبنانية. فحوكم سعادة في لبنان أمام محكمة عسكرية، وأعدم صباح اليوم التالي نفسه لصدور الحكم، لتجنب أية محاولة للضغط أو للشفاعة. وكان فقدان هذا الزعيم بشخصيته الفاشية كارثة على الحزب. فمنذ أُعلن نبأ إعدامه، توقفت ميليشيا الحزب التي أصدر إليها سعادة الأمر بالمقاومة، مؤملاً بدعم حسني الزعيم، عن القتال. ولكن الحزب (PP S) لم ينهر بسبب ذلك. فإن محاكمة زعيمه المختصرة، وتنفيذ الحكم فيه فوراً اجتذبتا إليه العطف. وقد ظهر هذا العطف بوضوح في سورية حيث لعب الضباط المتعاطفون أو الأعضاء في الحزب دوراً حاسماً في الانقلاب الذي كان من شأنه الإطاحة بحسني الزعيم. وفي انتخابات تشرين الثاني / نوفمبر 1949 تم انتخاب تسعة من أعضاء الحزب ..S.P.P في الجمعية الوطنية الدستورية. وفي رئاسة زعيمه الجديد، جورج عبد المسيح، نقل مركز قيادة الحزب من لبنان إلى دمشق.
بيد أن الحزب . S.P.P لم يكن قادراً على مزيد من النمو قدماً أمام صعود قوى اليسار المتزايد من اشتراكية بعثية وشيوعية، وأمام معارضة القوى المحافظة السنية النامية. ففي سنوات 1954 ـ 1955 بلغ النزاع بين حزب الشعب السوري . S.P. Pمن جهة والبعث والضباط القوميين العرب من وأعضاء الحزب الشيوعي . S.C.P من جهة أخرى نقطة الذروة. وجاء اغتيال ضابط سني من دمشق هو العقيد عدنان المالكي، البعثي على يد رقيب علوي منتم للحزب P P S ، بحيث وضع الحزب موضع الاتهام. عندئذ انضم جميع القوميين العرب في الجيش، من بعثيين وغير بعثيين، إلى حزب البعث، لاستبعاد جميع العناصر الموالين للحزب فيه، وإن كانت ولاءات بعضهم الحقيقية ماتزال متعلقة بأفكار الحزب ومبادئه، لقد كانت المحاكمة في قضية اغتيال المالكي محاكمة للحزب قبل كل شيء، وبدل أن تكون محاكمة في جريمة متعلقة بالحق العام: تحولت هذه الدعوى التي طالت وتأخر الفصل فيها إلى محاكمة للحزب نفسه، أكثر من ذلك فإن الدعوى أدت إلى وضع الحزب برمته موضع الاتهام: فلسفته وكذلك مصداقيته.
ومن المهم جداً أن نلاحظ بأن خط الانفساح الذي كان يفصل المعسكرين المتواجدين لم يكن الحد بين أقليات / أكثريات، لأن حزب الشعب السوري . S.P.P، تماماً كالبعث كان يجند أعضاءه من أوساط مختلطة أقلية وأكثرية في آن واحد، مع أن تلون حزب الشعب السوري .S.P.P بالأقليات كان أكثر وضوحاً (كانت عناصره من الأقليات عددياً أكثر منها من العرب السنة). فإن الحدود: الأقليات/ الأكثريات كانت تمر هنا داخل كل من هذين المعسكرين. إلا أن علاقة موضوع النزاع على مستوى الشعارات، كانت تتصل بتحديد العلاقات بين أقليات وأكثريات. هذا الوجه الجوهري من القضية في نظرنا، لم يكن مدركاً من قبل مراقبي الحياة السياسية. فلا بد لنا إذن من أن نلفت النظر إلى أنه كان يتعارض أساساً في هذا النزاع، تفسيران متناقضان للصلة بين الأقليات والأغلبيات؛ فالتفسير الإيديولوجي الأول وهو تفسير حزب الشعب السوري . S.P.P، يتجه إلى تجاوز (واقعة الأقلية) بذاتها، منكراً في سورية الصفة والهوية العربيتين (تعبير جماعة الأكثرية)، ومؤسساً للأقليات والأغلبيات تحت هوية سورية (تعبير الجماعة الأقلية). وكان طابع الأقلية السياسية لهذه الحركة ظاهراً، وإرادتها النضالية معلنة صراحة: إن مذهب سعادة يحدد بدقة إنه ينبغي إعادة سورية للـ (سورييين).
إن إيديولوجية حزب الشعب السوري . S.P.P كإيديولوجية البعث سواء بسواء، تشكل كل منهما مسلكاً، لدمج العناصر الأقلية، ولكن ضمن تصورين، أو مفهومين متعارضين جذرياً، للمضمون المطلوب إعطاؤه لهذا الدمج السياسي للأقليات: أحدهما مؤكداً أولية هوية الجماعة الأكثرية العربية، والآخر مؤكداً على أولية هوية ما قبل الإسلام و(ما قبل العرب)، هوية السكان الأصليين قبل الفتح العربي.
ـ التنافس والتقارب بين حزب الشعب السوري . S.P.P والبعث القومي ـ الوظيفة المشتركة لإيديولوجيتهما:
كان اتجاه هذا النزاع بين حزب الشعب السوري . S.P.P والبعث هو المجابهة إذن والمنافسة بين إيديولوجيتين بديلتين، متعلقتين بتقديم الواقعة الأقلية ومستقبلها. فإننا لنفهم أن عناصر أقلية غير عربية أو أنها عربية ولكن غير سنية، كالعلويين والدروز، قد تم اجتذابها من هذا الحزب أو ذاك، ونفهم كذلك بأن البعث تمكن في الحقبة التي تلت عام 1955 من تفكيك حزب الشعب السوري .S.P.P، وأن يسترجع إليه قسماً كبيراً من أنصار هذا الحزب من الأقليات العلوية والدرزية خاصة. إلا أن الوظيفة المشتركة لإيديولوجيتهما البالغتي التعارض، وهي وظيفة الدمج المعنوي للأقليات في الأمة، تفسر في خطوطها العريضة، انتقال هذه العناصر من تشكيل إلى آخر من هذين التشكيلين. وقد سُهل هذا الانتقال، من جهة أخرى، في حالة العلويين والدروز، أن البعث مع بقائه طريقة للتعبير عن هذه العناصر الأقلية، كان يتيح كذلك إعادة دمجهم في الهوية العربية، التي كانت هويتهم من دون شك، ولكن الجانب الديني الأقلي، غير السني، لتأثير التفشي، قد موّه هذه الهوية بعض الشيء. أن ازدواجية الإيديولوجية البعثية في أساسها، كطريقة للتعبير عن العناصر الأقلية، ولتمجيد هوية الأكثرية في آن واحد معاً. كان من شأنها حقيقة، تسيير دمج الأقليات العلوية والدرزية والاسماعيلية والمسيحية في سياق السياسات القومية، بل هناك أكثر من هذا أيضاً؛ كان من شأنها أن تتيح لهذه العناصر العمل على تغليب مشروع أقلي نوعي تحت غطاء من القومية العربية وباسمها. فتحت الراية البعثية سوف لا يتخلى العلويون خاصة عن شيء من هويتهم الأقلية. على العكس كانوا سيجدون في البعثية، وإن كان هذا لم يظهر، إلا فيما بعد، بعد استيلائهم على السلطة وإسقاط خصومهم؛ وسيلةً ملائمةً في الصعود نحو القمة، كما سيجدون فيها طريقة بالرجوع للثابت القومي، للإقرار بشرعية تصوراتهم ومشاريعهم الخاصة المتعلقة بمستقبل سورية. ذلك ما سوف يكون عليه، رهان العلويين المزدوج: الفوز بالسلطة لأنفسهم وحدهم، والاحتفاظ بها من جهة، ومن جهة أخرى الممارسة تحت مظلة القومية العربية، لسياسة خاضعة قدماً لتقدم وارتقاء الـ (سوريانية) التي كان يدافع عنها فيما مضى حزب الشعب السوري.
إن التقارب الذي أُثِرَ، في ظل زعامة حافظ الأسد، بمواقع البعث السوري، وحزب الشعب السوري، هو من جهة أخرى جدير بالملاحظة وذو مغزى على نحو خاص. ففي السبعينات والثمانينات كان حزب الشعب السوري ما يزال دائماً ممنوعاً من العمل في الإطار السوري، ويبقى يتخذ قاعدته في لبنان، حيث انقسم إلى اتجاهات عدة: جناح ثوري، يدعى (ماوي) يقوده أسد الأشقر، وجناح يميني متطرف متوافق مع تقاليد الحزب يقوده جورج عبد المسيح، وأخيراً جناح (وسطي) هو جناح انعام رعد وعبد الله سعادة. وعليه، على الرغم من ذلك المنع الذي استمر ضربه في سورية فإن حزب الشعب السوري رأى واحداً من أعضائه هو (شوقي خير الله)، يستنفع، في ظل نظام حافظ الأسد، بمزية منبر في الجريدة اليومية الثورة، لسان حال الحكومة.
هذا التعاون المفاجئ إذا نحن تذكرنا ضراوة النزاع في معارضة أحد الحزبين للآخر وعمق الهوة التي كانت تفصل موقع كل منهما عن الآخر، فيما يتعلق بقضية الهوية القومية وبنية عائدية الدولة المطلوب فرضها، إن هذا التعاون لا يفسر اليوم إلا لأن عدوي الأمس، على وجه الدقة في هذا الميدان، قد سلكا دروباً متقاربة، قادتهما إلى موقع لم يكن بعيداً عن أن يكون مشتركاً.
هذا التلاقي الذي يكاد لا يصدق، في المواقع التناقضية قطعاً فيما مضى، والمتنافرة ظاهراً قد جرى على نحو غير محسوس رويداً رويداً، من جانب كل ظرف، من دون أن يكون شيء ما قد أنكر حقيقة على مستوى الإيديولوجية من الطروحات القديمة المدافع عنها. فالبعث السوري بسيطرة الإقليميين، وجناحه العسكري ذي اللون الأقلي الشديد، فد أعاد كما سوف نرى بعد قليل، تركيز إيديولوجيته، ولوى ممارسته في اتجاه أولوية بناء (الكيان السوري) (سورية ـ لبنان ـ وربما شرق الأردن)، مع المحافظة تماماً على عدائية بعثية عملية إلى بناء وحدة عربية أوسع كثيراً، وإلى أولوية الهوية العربية في الأمة. ومن جهة أخرى فإن حزب الشعب السوري، إذا أخذنا بالاعتبار من خلال كتابات شوقي خير الله، يمكن أن يكون قد تخلى عن أولوية (كيان سوري) غير عربي، وهو ما كان يمثل قلباً معنوياً بالغ الإثارة، ومرفوضاً من الأغلبية العربية السنية، والذي مني حزب الشعب السوري من أجله في زمن أنطون سعادة، بنبذ شديد العنف. وعلى العكس فإن حزب الشعب السوري في السبعينات والثمانينات بات يصيح بأعلى صوته بالطابع الـ (عربي) للكيان السوري ـ اللبناني، اللذين يريد بناءهما دوماً، الأمر الذي يجعله أكثر قبولاً إلى حد ما في نظر القوميين العرب. وراح مسلك حزب الشعب السوري يقوم منذئذ على الالتفاف حول المحظور المحرم الضاغط، على التعبير الحزبي المعلن: بنفي الهوية العربية للدولة والأمة، وعلى أن يتحالف مع هذا المحظور بممارسة الإبهام بدلاً من محاولة انتهاكه صراحة كما في السابق بدفعه الثمن الباهظ وأباح حزب الشعب السوري، وبسعيه للحصول على المسامحة التامة من جانب العروبة، لنفسه تحويل أخطر اتهام كان يشغل كاهله ضد الآخرين، وهي التهمة بأنه حركة شعوبية أي معاد للعرب، وأن يفضح والحالة هذه، أعداءه الأبديين: الكتائب، بأنهم مافيا شعوبية، وبصورة أعم أعداءه من المسيحيين اللبنانيين، الذين يسعون إلى تقسيم لبنان. فتعاون حزب الشعب السوري مع الحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت تدعم كميل شمعون طيلة الحرب الأهلية. وفي 31 كانون الأول/ ديسمبر 1961/ فشلت محاولة انقلاب موجهة ضد الناصريين والكتائب الذين يدعمون خليفة شمعون، فؤاد شهاب، أعدها شوقي خير الله وعبد الله سعادة رئيس حزب الشعب السوري. فوجد خير الله الذي حكم عليه بالإعدام، عقوبته تستبدل بالسجن المؤبد. ثم يخرج من السجن عام 1971 بعفو من الرئيس فرنجية. وفي الحرب الأهلية لعام 1975 تقرب حزب الشعب من الجبهة الوطنية التي تجمع حول البعثتين اللبنانيين وحزب وليد جنبلاط الاشتراكي التقدمي، بعض التشكيلات الموالية لسورية، مثل حركة المحرومين للإمام موسى الصدر والاتحاد الوطني لقوى العمل لكمال شاتيلا الخ، وانتهى به الأمر بعد تردد، إلى الإقرار بسياسة دمشق في لبنان، معتبراً أنها من أفضل السياسات القمينة بدمج لبنان المستقل (في لحمة الاتحاد المشرقي المنسوج بين سورية وشرقي الأردن، وكل قطعة من الأرض مغتصبة يمكن أن تحرر) إشارة إلى فلسطين. إن التحول العميق الذي مني به البعث السوري بفعل العناصر الأقلية، وانزلاقه نحو الدفاع عن الخصوصية السورية، وتسخير إيديولوجية حزب الشعب السوري باتجاه معاكس، وإذعانه حقيقة أم بمحض الانتهازية لما يتعلق بفكرة القومية العربية الرئيسية؛ لسوف يكون من شأن ذلك كله أن يقود هذين الحزبين إلى تبني شعار ومشروع سياسي قومي متماثل. ولكن هذا المسلك أم ذاك يجب أن يجري تحليله كتعبير عن شكل من خصوصية سياسية أقلية باحثة عن وجه أكثرية. هذان التطوران المذهبيان المتلاقيان، اللذان يسيء إدراكهما المراقبون، بسبب من (ضبابية) الأيديولوجية، على وجه الدقة التي يثيرانها، قد أنجيا تماماً، في نظرنا كل واحد منهما من السعي إلى التعارض.