د.دندشلي - جولة في دور النشر اللبنانيّة - دار الآداب
مقالات و تحقيقات /
أدبية /
1972-02-24
جولة في دور النشر اللبنانيّة (1) … تحقيق : د. مصطفى دندشلي
5 ـ دار الآداب : هزال في التأليف والإبداع الفنيّ العربيّ
وغياب جيل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وسواهم عن الساحة الأدبيّة ...
الركاكة في الترجمة تكمن وراءها نزعة تجاريّة فاسدة ...
لم يعرف القارئ العربيّ الدكتور سهيل إدريس فقط من خلال قصته الأولى ـ الحيّ اللاتيني ـ التي لاقت ، حين صدورها في أوائل الخمسينات ، رواجاً كبيراً وإنّما كذلك وخاصة كمؤسّس ومشرف على " مجلة الآداب " التي تقرأ في الأوساط الأدبيّة في أربعة زوايا العالم العربيّ . وفي جولتنا في بعض دور النشر اللبنانيّة ، التقينا بالدكتور إدريس ، صاحب ومدير " دار الآداب "، وطرحنا عليه عدّة أسئلة تتعلق بنشاط الدار ومشاكل الكتاب العربيّ ، المؤلف منه والمترجم ، واتجاهات القراءة حالياً في البلاد العربيّة .
وعن سؤالنا الأوّل حول تعريف القارئ العربيّ بـ" دار الآداب " واتجاهها الفكريّ والثقافيّ، أجاب الدكتور سهيل إدريس قائلاً :
كانت " دار الآداب "، عند تأسيسها في سنة 1959 ، شركة مع الأستاذ نزار قباني ، وحين سافر الأستاذ قباني والتحق بالسلك الدبلوماسيّ ، أصبحت الدار مستقلة ، أشرف عليها أنا وزوجتي . وهكذا يكون قد انقضى على تأسيسها زهاء عشرة أعوام . وقد نشرت حتى الآن ما يقرب من 250 كتاباً ، أي بمعدل 25 كتاباً في العام .
* سؤال : ما هو ، دكتور إدريس ، اتجاه " دار الآداب " الثقافيّ والفكريّ ؟...
جواب : إنّ اتجاه الدار في النشر مرتبط إلى حدّ كبير باتجاه مجلة الآداب ، أي أنّها تنشر مبدئياً الكتب الفكريّة والعقائديّة الملتزمة وتفتح الباب واسعاً لنشر الإنتاج الأجنبيّ مترجماً ...
* سؤال : القول بنشر الكتب الفكريّة الملتزمة هل يعني ذلك الالتزام باتجاه فكريّ عقائديّ معيّن ؟...
جواب : فيما يخصّ النتاج الفكريّ ، فإنّ " دار الآداب " تنشر أحياناً كتباً متناقضة ، مثلاً تنشر كتباً تؤيد الماركسيّة وكتباً تنتقدها والغاية من ذلك ، كما هو واضح ، اطلاع القارئ العربيّ على مختلف التيارات ، ليستطيع أن يكون لنفسه طريقاً خاصاً ، غير متزمت ولا ضيّق الأفق .
وقد أصبح من المعروف ، إلى جانب ذلك ، أنّ " دار الآداب " هي التي تبنت موجة الشعر العربيّ الحديث ونشرت لشعراء الشباب إنتاجهم الأوّل .
ومن اتجاهها كذلك حرصها على تقديم آخر الروائع العالميّة في مجال الفكر والرواية . فالدار هي التي عرفت القراء العرب على مجمل فكر " جان ـ بول سارتر " و" سيمون دي بوفوار " و" كولن ولسون "، وأخيراً " روجي غارودي " و" هربرت ماركوز ". وهي التي نقلت إلى العربيّة روايات " ألبرتو مورافيا "، وآخرها روايته التي تثير الآن ضجّة كبيرة في العالم : " أنا وهو ".
* سؤال : بإلقاء نظرة سريعة على قائمة مطبوعات " دار الآداب " لعام 1971 ، يظهر بوضوح أنّ الكتب المترجمة عن اللغات الأجنبيّة إلى اللغة العربيّة تفوق بكثير الكتب المؤلفة بالعربيّة، كيف يمكن أن تفسر هذه الظاهرة ؟...
جواب : لا يزال لدينا الشعور ( الذي يجد دون شكّ تبريراً له ) بأنّنا محتاجون إلى المزيد من الثقافة الأجنبيّة لنستطيع أن نلحق بالركب العالميّ في ميدان الثقافة والعلم . وهذه ظاهرة طبيعيّة . وقد سبق للفكر الأجنبيّ في القرون الوسطى أن نقل الفكر العربيّ والثقافة العربيّة . فهو اليوم لا يفعل إلاّ أن يرد لنا بعض الفضل .
هذا من جهة ومن جهة أخرى ، فإنّ العقد الأخير قد شهد بعض الضعف والانحسار في ميدان التأليف والإبداع العربيّ . إنّنا نجتاز اليوم مرحلة انتقاليّة في هذا الميدان . وقد أوشك جيل طه حسين وتوفيق الحكيم وميخائيل نعيمة وسواهم أن يغيبوا عن الساحة الأدبيّة . ولكن لم يستطع الجيل التالي أن يركّز أقدامه بعد ممّا يجعله يحتل الساحة الأدبيّة . فلا بدّ والحالة هذه من الاستعاضة عن هذا النقص بلجوء إلى الترجمة والاقتباس .
* سؤال : ولكن من الواضح أنّ الترجمات ، بشكل عام ، رديئة جداً . بعضها ـ إذا لم نقل غالبيتها ـ يتّصف بركاكة الأسلوب وضعف مبنى الجمل ، ممّا يؤدّي بطبيعة الحال إلى تشويه المضمون والأثر الأجنبيّ المترجم نفسه . ما هو سبب ذلك ، برأيك ؟...
جواب : هذه الرداءة في الترجمة ـ إذا وجدت ـ فهي تشبه الرداءة في التأليف أيضاً . المهمّ أن تكون دار النشر التي تتولى القيام بإصدار الكتب ، واعية لمهمتها ورسالتها في تقديم أفضل الإنتاج تأليفاً أو ترجمة . فأرجو أن تكون هذه التهمة بعيدة عن منشورات " دار الآداب ".
ولا ريب في أنّ السرعة والركاكة في الترجمة اللتين تلازمان بعض الكتب ، تكمن وراءهما نزعة تجاريّة فاسدة لا علاقة لها بوعي حقيقيّ لقضيّة الإسهام بتعزيز الثقافة العربيّة الراهنة.
* سؤال : هل أنت تميل ، دكتور سهيل ، إلى الترجمة الحرفيّة ؟...
جواب : موضوع الترجمة خرجت فيه ، من تدريسي لهذه المادة طوال عشرين عاماً وتجربتي في ترجمة كثير من الكتب الفرنسيّة ، بمفهوم يتلخص بأنّ الترجمة الدقيقة التي تكاد أن تكون حرفيّة هي أسلم الترجمات وأوفاها تعبيراً عن الأصل . ليس المهمّ أن نصوغ الفكر الأجنبيّ بصياغات عربيّة نتوخّى منها البلاغة والفصاحة العربيّة ، فإنّ ذلك سيضرّ حتماً بطريقة التفكير الأجنبيّ بالعبقريّة الخاصة لكلّ لغة .
إنّني شخصياً أفضل أن يقال عن الترجمة العربيّة لأثر أجنبيّ أنّ الأصل الأجنبيّ واضح فيها ، على أن يقال أنك لا تحس فيها الأصل الأجنبيّ . أي أنّه بكلمة واحدة ، يجب المحافظة على عبقريّة كلّ لغة أجنبيّة في اللغة المترجم إليها حتى ولو أدّى ذلك إلى عدم جمال الأسلوب وعدم التقيّد بالأسلوب البلاغيّ .
* سؤال : ولكن المترجم هو أيضاً مبدع وخلاق ، بمعنى من المعاني ، مع المحافظة على روحيّة النصّ ومضمونه . وإذا كانت الترجمة الحرفيّة يمكن أن تتمّ في ترجمة الكتب الاقتصاديّة أو السياسيّة مثلاً ، إلاّ أنّه كيف يمكن أن تتصورها في ترجمة أثر أدبيّ أو فنّي ز فما هي الصفات التي يجب أن تتوفر ، برأيك ، في المترجم ؟...
جواب : لا شكّ أنّ المفهوم الأساسيّ للترجمة هو أن يكون المترجم مالكاً تماماً لكلتا اللغتين المترجم إليها ، والمترجم عنها . فهذا ضمان لسلامة الترجمة وأمانتها . وهذا يقتضي طبعاً أن يكون على اطّلاع واسع وعميق على تاريخ اللغة الأم وآدابها وتاريخ اللغة الأجنبيّة وآدابها .
* سؤال : هل تعتقد بأنّ هناك كثيراً من هؤلاء المترجمين العرب ؟...
جواب : أظنّ أنّ هناك عدداً طيّباً من هؤلاء ...
* سؤال : هل ازدادت نسبة القراء ، وبالتالي نسبة مبيعات الكتب في البلاد العربيّة ؟...
جواب : في الواقع ، لا أستطيع أن أقول أنّه حصل ازدياد في المبيعات ، بل العكس هو الأقرب إلى الصواب ، أي أنّه بعد حرب حزيران 1967 ، انخفض مبيع الكتب إجمالاً إلاّ ما يتعلق منها بالكتب السياسيّة والعسكريّة ، وذلك لفترة سنتين أو ثلاث ، ثمّ بدأ القراء يعزفون حتى عن هذه الكتب . وهناك الآن نزعة نحو الروايات والدراسات الفلسفيّة .
* سؤال : وهل صحيح رأي من يقول بأنّ حركة الترجمة والنشر والتأليف قد انتقلت من القاهرة إلى بيروت ؟...
جواب : لا شكّ في أنّ حركة الترجمة والنشر قد نشطت نشاطاً كبيراً في السنوات العشر الأخيرة في لبنان ، ولكن لا يعني ذلك أنّ الفكر الإبداعيّ هنا قد حلّ محل الفكر الإبداعيّ في القاهرة. فالحقيقة إنّ نتاج الخلق في لبنان لا يزال مختلفاً عمّا هو في القاهرة أو في بغداد مثلاً .
وتفسير هذا النشاط في لبنان يعود إلى القيود المفروضة على انتقاء الكتاب في مصر ، هذه القيود لا وجود لها في لبنان .
* سؤال : هل السوق اللبنانيّ سوق محلي ذو أهميّة بالنسبة لدار الآداب ؟...
جواب : مع الأسف الشديد . بيروت ولبنان عامة هو أضعف سوق للكتاب العربيّ . ولو كان كتابنا مغلقاً عليه بحيث يوزّع في لبنان وحده ، لأفلست جميع دور النشر . وإنّما السوق الرئيسيّ للكتاب الآن هو العراق وسوريا ثم يأتي السودان وليبيا ( هذا إذا لم يمنع الكتاب في هذا البلد الأخير ) ثم أفريقيا الشماليّة .
* سؤال : من المعروف أنّ اللبنانيّ ـ وهذا هو سؤالي الأخير ـ لا يقرأ كثيراً ، كيف يمكن أن نفسر ذلك ؟...
جواب : أظنّ أنّ لذلك أكثر من سبب ، أوّلها استغناء المثقّف اللبنانيّ عن الكتاب العربيّ بالكتاب الأجنبيّ : فرنسيّ أو إنكليزيّ ، وثانيها أنّ المثقّف اللبنانيّ إجمالاً لا يصبر صبراً جاداً على القراءة والمطالعة ، بسبب أنّ وسائل الإعلام الأخرى ووسائل التسلية والمرح طاغية في لبنان طغياناً يغري بالانصراف عن الكتاب .
ثمّ أنّ هذا القارئ لا يتأثّر إلاّ بما يثير حوله ضجّة ودعاية حول كتاب يعيشه ، حتى ولو كان من حيث القِيَم والفنّ في مستوى متوسط . وهكذا فإنّ رواية " قصة حب " التي أخرجت في فيلم عرض منذ مدّة في بيروت ، لقيت رواجاً كبيراً لدى القارئ اللبنانيّ ، لمجرد أنّها فيلم ناجح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) أنظر ، جريدة " المحرر " 24 شباط 1972 .