العرب اليوم - الموضوعية العوراء - د.علي فخرو
إعلام وصحافة /
سياسية ثقافية /
2010-08-26
د.علي فخرو
الموضوعية العوراء
تقييم : 3.0 من 5
2010-08-26
لا شيء يفجع الوجدان اكثر من محاولات بعض مثقفي الامة العرب اختزال الامور بصورة تجعل مناقشة قضايا الامة العربية الكبرى وكأنها تجري تحت عباءة او في الظل الحالك السواد. وهكذا, ففي ايام متقاربة واجهت موقفين يجسدان مثل تلك الفواجع.
في الموقف الاول اصر احدهم على ان مأساة هذه الامة هي في مجتمعاتها المتخلفة وانه آن الآوان ان نتوقف عن اللوم الدائم لسلطات الدول, اذ كما تكونوا يول عليكم. كذا في لحظة غفوة للضمير او العقل نسي المتحدث تاريخ الاستبداد عبر القرون وما فعله ذلك الاستبداد من بطش وترويع وشراء ذمم وافساد وتجهيل وغواية وتعويد على الطاعة لاناس المجتمعات العربية فاحالها الى مجتمعات عاجزة مغلوب على امرها وانتهازية تعتمد على سلطة الحكم لاطعامها وابقائها حية راضية بعيش الخراف في مراعي الدولة الريعية.
نسي متحدثي انه بعد الاستقلال عقدت الآمال على سلطات الدولة العربية الوطنية في ان تقود مجتمعاتها المتخلفة الخارجة لتوها من حكم الاستعمار نحو التقدم والنهوض. لكن حصيلة عقود طوال من الحكم الوطني هي ما نراه اليوم امامنا امة مجزأة تنخر اجزاءها القطرية ديدان الصراعات المذهبية والقبلية والعائلية والعرقية, تنمية اقتصادية تابعة مشوهة غير انتاجية وغير معرفية, فساد مالي وسياسي واداري, غياب للكثير من مقومات الديمقراطية وحقوق الانسان, توزيع جائر لثروات الوطن المادية والسياسية والرمزية. فهل حقاً اننا يجب ان نتوقف عن لوم الدولة المسؤولة عن كل ذلك واكثر من ذلك وان نتجه الى المجتمع لنلومه على وجود الامية والفقر المدقع والتنمية المشوهة والتخلف الثقافي والابتذال الاعلامي وحكم الاقليات ورجوع الاستعمار? السنا هنا نصرخ في وجه الحصان المنهك المضرج بدمه ونتناسى اليد التي تحمل السوط والكرباج?
اذا كنا نريد ان نناقش تحت ضوء الشمس فعلينا عندما نعدد منجزات الدولة العربية, وهي بلا شك موجودة ومعترف بها, ان لا نغفل ذكر سقوطها المذهل في بناء مجتمعات حيوية وقادرة على العطاء ومساعدة النفس والتصرف باستقلال ومن دون وصاية.
الموقف الثاني كان في شكل استماع لمناقشات عن اهمية تشكيل الوعي السياسي للانتقال نحو الديمقراطية. لقد كان قائد المناقشة مبدعاً وعميقاً وشاملاً في عرضه النظري المتميز بشأن متطلبات ووسائل البناء الديمقراطي المطلوب. وكانت اشاراته الى تجارب الامم الاخرى في حقل التحولات الديمقراطية بالغة الدقة والاهمية.
لكن المستمع ظل ينتظر الاجابة على سؤال محوري بالنسبة للموضوع المطروح والسؤال هو: هل ان بنية وتركيبة الانظمة السياسية العربية عبر الوطن العربي كله ستسمح ببناء ذلك الوعي السياسي الديمقراطي ام انها بطبيعتها ستكون حاجزاً يمنع بناء المتطلبات الضرورية لانتقال المجتمعات العربية نحو الديمقراطية? بعيداً عن المماحكات السياسية وسوء الفهم في ارض العرب المنكوبة بألف علة وعلة, ذاك السؤال هو في قلب تلك المناقشات, لكنه لا يطرح ويترك في الظل المعتم.
ان تكون الوعي السياسي الوطني الجامع للمواطنين احتكم في المجتمعات الديمقراطية العريقة الى مرجعية فكرية سياسية والى ميزان حكمي معقول يتمثلان في مبدأ المواطنة. ومبدأ المواطنة يستدعي تساوي الناس امام القانون وتساوي الفرص الحياتية الممنوحة لهم في التعليم والصحة والاسكان والعمل والمكانة الاجتماعية, ويستدعي بالتالي وجود مستوى معقول من العدالة في المجتمع. وهو مبدأ لا قيمة له الا اذا طبق في الواقع واحس بوهج تواجده الجميع. فهل استطاع النظام السياسي العربي الرسمي بناء تلك المرجعية, مرجعية المواطنة المطبقة, حتى ينطلق الوعي السياسي منها?
ثم هل يمكن الحديث عن المواطنة من دون ان يسبقه توافق مجتمعي حول اسس شرعية الحكم وحول دستور ينبثق من ارادة الناس وحول الاسس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي ستحكم حياة بشر المجتمع ومؤسساته? من هنا فان اي حديث عن الانتقال الى النظام الديمقراطي لا يلازمه حديث صريح وموضوعي عن معوقات ذلك الانتقال سيكون حديثاً نظرياً ويدور حول نفسه في خطاب الينبغيات والاحلام. لكن هذه البديهة تجنب مواجهتها بعض المثقفين العرب حتى لا يحرجوا انفسهم مع
الجهة او تلك.
لقد كان الكاتب الامريكي هنري ثورو يقول بان قول الحقيقة يحتاج لاثنين: احدهما يتكلم والثاني يستمع. فاذا كان المثقفون العرب يودون ان يستمع الناس لما يقولون فعليهم قول الحقيقة كاملة.
بحلاوتها ومرارتها, بضحاياها وبجلاديها.
ومنذ قرون نصح الفيلسوف اليوناني ارسطو الكتاب بان يتحدثوا كما يتحدث الناس العاديون, فعلا نزل اولئك المثقفون العرب من ابراجهم الهادئة المسترخية الى اماكن صخب الناس ليعرفوا ماذا يقول هؤلاء الناس? انهم يقولون بأنهم, كما كل البشر, يريدون التقدم وتحسن الاحوال والسلام الاجتماعي ومسرة الحياة, لكن هناك من يمنعهم او يضن عليهم, مسؤولية المثقف العربي ان يكشف النقاب عمن يمنعون او يضنون لا ان يخفيهم تحت العباءة او في الظل الحالك السواد, ثم يواجه الاتهام للمحرومين والمهمشين كجزء من موضوعية عوراء .
* البحرين