وثيقة الطائف والحريات الديمقراطية في لبنان
محاضرات /
سياسية /
1993-06-15
وثيقة الطائف والحريات الديمقراطية في لبنان
المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا
الثلاثاء 15حزيران, 1993
الساعة السادسة مساء
قاعة المحاضرات
ألقى هذه المحاضرة النائب والوزير السابق المحامي الشيخ بطرس حرب. وقدّم له وأدار الجلسة الدكتور مصطفى دندشلي رئيس المركز الثقافي في صيدا.
الشريط الاول
الدكتور مصطفى دندشلي:
يسرّنا أن نلتقي في هذه الأمسية وأن نتحاور مع أحد الوجوه السياسية الفاعلة, النائب والوزير السابق المحامي الشيخ بطرس حرب في موضوع هامّ, موضوع الساعة, وهو وثيقة الوفاق الوطني اللبناني والحريّات الديمقراطية في لبنان. والأستاذ حرب كما نعلم هو أحد المساهمين الأساسيين مع زملائه في صياغة هذه الوثيقة. فهو من هذه الناحية مؤهلٌ للإجابة عن كثيرٍ من التساؤلات التي تُـقلق بالُ اللبنانيين والتي أثارها ولا يزال يثيرها هذا الموضوع. ونحن في المركز الثقافي من أكثر المؤسّسات الثقافيّة التي طرحت للنقاش وللحوار وللسجال الديمقراطي وثيقة الوفاق الوطني. وشاهد على ذلك معالي الوزير الدكتور نزيه البزري وذلك آخر العام 1989. ولكننا نشعر مع ذلك بأننا لا نزال بحاجة لأن نعود الى هذه الوثيقة وأن نقرؤها بإمعان وأن نحلّلها وأن نفسّرها ونرى ما طُبق منها وما لا يزال من بنودها على لائحة الإنتظار, ونخشى أن يطول هذا الانتظار. فهل يمكننا أن نعتبر أنّ ما اصطُلح على تسميته بالجمهورية الثانية, هي الترجمة السياسية في االسلوك والممارسة لوثيقة الوفاق الوطني؟ فإذا كان الجواب بنعم فهل هذا ما يطمح إليه اللبنانيون بعد تجربةٍ مديدةٍ وحرب طويلة؟ وهل وثيقة الطائف ضمانة للحريّات السياسيّة الخاصة والعامّة, للحريّات الديمقراطية الحقيقية في لبنان؟ ثم ما هي الشروط الضرورية لتطوير كثيرٍ من بنودها لكي تتلاءم مع طموحاتنا وتعبّر عن حاجاتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية الملحّة؟ ثم أخراً, هل يمكننا أن نتصوّر لبنان بعد هذه التجربة السياسية العميقة من حياته دون حرية أو افتئاتٍ لمباديء الديمقراطية الحقيقية؟ هذه هي بعض الاسئلة التي نأمل أن يجيب عنها أستاذنا المحاضر الأستاذ بطرس حرب. فالكلام للأستاذ حرب فليتفضّل.
الأستاذ بطرس حرب:
صاحب المعالي, صاحب السعادة, أيها الاصدقاء,
عندما تدخل هذه المدينة تشعر بالهيبة وكأنّك تدخل مسجداً أو كنيسةً. فعلى مقربة من هنا وعلى هذا الشاطيء الزاخر بالحضارة والعطاء ومنذ آلاف السنين, انطلقت أقدم ديمقراطية عرفتها شعوب الأرض, مجسدة بذلك روح الحرية أبنائها التوّاقين الى تقديس حريّاتهم وحقوقهم. وعندما تجتاز "الاوّلي" تمتلكك الرهبة لأنك تدخل ساحة الشرف والبطولة, لأنك تتحسّس نبضات قلب لبنان الجريح, نبضات قويّة وكأنها قرعٌ لطبول الكرامة التي تدعوك الى الاعتزاز لأن الجنوب الرافض والصامد والثائر لن يهدأ ولن يستكين ما دام فيه طفلٌ واحدٌ لا يتنشّق روح الحرية والسيادة, ومادام فيه لبنانيٌّ واحدٌ يخضع لاحتلال يبتزه ويفرّق في ما بينه وبين أخٍ له في المواطنية. فهنا, في عاصمة الجنوب, يحلو الكلام عن الحريات بأبعد معانيها, فدماء شهدائنا التي تسيل ترنِّم أناشيد الحرية الرافضة للإحتلال؛ وقوة شعبنا وميزته أنه شعب امتـشق سلاح المقاومة لطرد عدوّ غاصب دون أن ينتظر سياسةً لحكومته أو دعماً من دولته أو خطةً لتحرير أرضه. فلقد نشأنا في أرض الحرية فتعودناها وعشقناها فأصبحت جزءاً أساسياً من حياتنا, نعجز عن البقاء بدونها ونموت من أجل المحافظة عليها.
وتاريخ لبنان مرتبط بتوق المجموعات البشرية, التي عاشت فيه أصلاً أو التي استوطنت لاحقاً, الى الحرية؛ حرية العقيدة والرأي والفكر. ففي الوقت الذي كان يستطيع أهل لبنان العيش في أراض وسهول خصبة كثيرة الغلال, فضّلوا العيش في هذه البقعة الصغيرة, في هذه الوديان الضيّقة وفي هذه الجبال الوعرة القاحلة يشقون ويجهدون لكي يخافظوا على حريّاتهم. ومن أجل هذا التمسّك بالحريات شهد تاريخنا حقبات مظلمة من الاضطهاد والتشريد مارستها قوى غريبة لترويض شعبنا وقمع حرياته. ومن أجل ذلك سقطت الإمارة في لبنان وسقطت معها الإقطاعية السياسية وتحوّل نظامنا السياسي تدريجيّاً الى جمهورية ديمقراطية برلمانية حيث الحريات العامة مقدسة, مُصانة بحكم الدستور والقوانين الوضعية. ومن أجل ذلك ورغم سقوط الأنظمة الديمقراطية من حولنا, وتحولها الى أنظمة الحزب الواحد أو الشخص الواحد, ورغم كل الظروف القاسية التي تعرضنا لها لاسيما خلال الأحداث الأخيرة المؤلمة التي شهدت سقوط الدولة ومؤسّساتها والتي قضت على الحريات بكاملها, نرى اللبنانيين يجتمعون مجدّداً ليُجمعوا من جديد على تكريس النظام الديمقراطي البرلماني الذي يقوم على الحريّات. ومن أجل ذلك نجد اللبنانيين, وعند كل مفترقٍ خطيرٍ من تاريخهم, قلقين من أن تُمسّ حرياتهم. وقد يكون مبرّر لقائنا هذا المساء هو هذا القلق بالذات, والرغبة في الاطمئنان أنّ وثيقة الوفاق الوطني الأخيرة المعروفة بإتفاق الطائف قد احترمت حرياتنا والحقوق المنبثقة عنها. وما يدعو فعلاً الى الاطمئنان أنّ المثقّفين في بلدنا هم حرّاس الحريّة وحُماتها. ففي المراكز الثقافية تتشكّل طليعة المدافعين عنها, وفي رحابها تتكرّس ممارستها. أوليست ندوتنا هذا المساء هي الترجمة الصحيحة لما أقول؟ ومن هذا المنطلق أجد نفسي متعاطفاً بصورة عفوية مع كل تحركٍ لهؤلاء المثقّفين, وأجد نفسي جالساً فيما بينكم. فبورِك مركزكم الثقافي للبحوث والتوثيق, وبورك تحرككم من أجل الحريات ومساء الخير.
في قضيّة الحريّات, قبل سقوط الاتحاد السوفياتي التقى أميركيّ وسوفياتيّ, فابتدأ الحوار حول الحريّات. فقال الأميركيّ إنّ نظامنا نظامٌ حرّ, يستطيع أي مواطن أميركي أن يقف على باب البيت الأبيض, وأن يشتم رئيس البلاد دون أن يُعاقَب. فكان ردّ السوفياتي, وعندنا في الإتحاد السوفياتي الأمر كذلك, يستطيع أي واحد أن يقف على باب الكرملين وأن يشتم رئيس البيت الابيض.
هذه النكتة تدلّ على أهمية مفهوم الحرية وعلى تاريخ طويل للحرية في تاريخ الشعوب. وللحريات بمفهومها العام قصة طويلة جداً مرتبطة بتاريخ الانسانية. وقد ابتدأ مفهوم الحرية عندما كُتب على الانسان أن يعيش في مجتمع معين, فاصطدمت حقوقه وحرياته بحقوق الغير الذين يعيشون معه في هذا المجتمع. ومن أجل ذلك انبثقت فكرة تنظيم المجتمع من خلال خلق قيادة لهذه المجتمعات تنظم علاقة هذه القيادة بالمجتمع, وعلاقة أفراد هذا المجتمع فيما بينهم. إلّا أنّه مع تطوّر الأيام اشتدّت تلك القيادات وابتدأت تُمارس, في سبيل المحافظة على مكاسبها, ما يسمّى قمعاً لحريات الناس وضرباً لحقوقهم. ومن أجل ذلك ابتدأ الصراع بين الشعوب وبين السلطة المجسّدة أمّا بهيئة وأمّا بشخص. وامتدّ هذا الصراع عبر التاريخ لكي يطال مرحلة اصطدام الشعوب بقياداتها. وابتدأت هذه الاصطدامات التاريخية, للمحافظة على الحريّات, من خلال نقاط تحوّل أساسية. ابتدأت في مرحلة كان يعتبر فيها الحاكم نفسه إلهاً وبالتالي يملك الشعب والأرض والحريّات. ومن ثم انتقلت الى مرحلة كان يُعتبر فيها أن المُلكيّة محصورة في عائلة معيّنة وتمتدّ فيها, عبر ممارسة قدرتها على التحكم بملك الناس وحقوق الناس وحريّات الناس. إلّا أنّ هذا الأمر لم يستمر بالرغم من أنه طال الزمان به. فتطوّر الشعوب وتطوّر الحياة الإجتماعية دفعت الشعوب الى الثورة والى التحرك في وجه هذا الإستبداد وهذا التسلط.
فكان في تاريخ الشعوب ما يسمّى بمحطّات أساسيّة, منها الحركة الأولى التي انطلقت في انجلترا والتي دفعت جموع الشعب الى المطالبة بإنشاء ما يسمى "مجلس شورى", تبتدئ صلاحياته بمراقبة مصاريف الملِك التي يعتمد عليها ويفرض ضرائب على الشعوب في سبيلها. فاُنشئ أوّل مجلس نيابي تمثيلي في العالم في إنجلترا في العصر الحديث لكي يراقب مصاريف الملِك, وهو بالتالي يراقب الموازنة والمصاريف التي يقرّرها الملِك, فيخضع بذلك لموافقة ممثلين عن الشعب. ومن ثم انطلقت تلك الثورات فحلّت الثورة الاميركية, ومن ثم الثورة الفرنسية التي كرّست حقوق وحريّات المواطنين في فرنسا, أو ما يُسمّى "حقوق الانسان". وكانت هذه الإنطلاقة الأولى الجديّة لكي يتحوّل العمل الثوري المطالِب بتكريس الحريات الى حركة دولية, والى حركة عالميّة تطال كل شعوب العالم.
وإذا ما رأينا فيما بعد أن الأنظمة الديمقراطية قد اعتمدت ما يُسمى تكريس مبدأ الحريّات الديمقراطية, فإنّنا نعتبر أنّ في "جان جاك روسو" و"مونتسكيو", فلاسفة علماء الاجتماع وعلماء السياسة الذين حضّروا للثورة الفرنسية, نجد الأساس والركيزة الاولى لتكريس حريّات الشعوب وحقوق الشعوب في دُوَلها. وبعد ذلك قامت حركة عالمية, وهي التي انبثق عنها "الإعلان العالمي لحقوق الانسان" الذي أكّد وأعلن حقوق الانسان, والذي تحوّل الى ينبوع تستقي منه الدساتير العالمية في الدول الديمقراطية, كدولتنا, الحريّات التي يجب المحافظة عليها. إلّا أنّ الحريّات الديمقراطية هي الحريّات التي تكرّسها الأنظمة الديمقراطية, والتي تُعطي المواطن في هذه الأنظمة حقوقاً معّينة تنبثق من حريّاتٍ معّينة, وتحفظها له إنْ كان على الصعيد السياسي أو الشخصي, أم على صعيد السلامة الجسدية, أم على صعيد السلامة والحرية الفكرية أم على صعيد السياسة والحرية الاقتصادية والاجتماعية. وهي مبادئ ارتكزت عليها كل الأنظمة الديمقراطية الحديثة لكي تصل بالنتيجة الى تكريس ما هو مُتعارف عليه بالحريّات الديمقراطية, أي الحريات العامة في أنظمتها.
أمّا في لبنان, فكلّنا يعلم أنّنا مررنا في مراحل كانت أهمّها مرحلة ماقبل الإستقلال, أي المرحلة التي اعتُمد فيها نظام الدولة الديمقراطية التي تعتمد التمثيل الشعبي, مع الشوائب التي كانت ترتدي هذا التمثيل الشعبي, الذي يسمح للمواطنين باختيار ممثلين عنهم لكي يشرّعوا باسمهم ولكي يقرّروا مصيرهم عنهم وذلك ابتدأ من عهد المتصرفيّة. إلّا أنّ ذاك التمثيل لم يكن تمثيلاً صحيحاً, باعتبار أنّه كان تمثيلاُ منبثقاً من إرادة القيادات الروحيّة في الطوائف اللبنانية المتعدّدة ومن إرادة الأعيان في هذه الطوائف. وجاء دستور 1926 بعد إعلان دولة لبنان الكبير لكي يكرّس أيضاً نظام التمثيل الشعبي. إلّا أنه كان محدوداً, لأنه يعود للسلطة المنتدِبة أنْ تعيّن بعض النواب في مجلس النواب اللبناني باسم الشعب االبناني. ومن أجل ذلك أعتَبر أنه لم تستقِم عملية التمثيل الشعبي ومشاركة الشعب في إدارة شؤونه وتقرير مصيره إلّا عندما ألغيَ مبدأ التعيين, وبصورة أساسية عندما نالَ لبنان استقلاله في العام 1943. إذ أنّه آنذاك أُعطي للشعب اللبناني حق أنْ يقرّر بصورة شخصيّة, منطلقة من إرادته الذاتية, مَن هم ممثلوه وما هي البرامج التي ينتخب على أساسها الممثلين, وما هي الصيغة التي يريد الشعب اللبناني ويريد المواطنون اللبنانيون المحافظة عليها لتقرير مصيرهم وحكم ذاتهم. وخلال مراحل الإستقلال وقبل الطائف يمكن أن نسجّل ظاهرة ثابتة في تاريخنا كشعب لبناني, وهي أنّ كل عهد حاول أن يتخطّى الحريّات التي منحها الدستور للشعب اللبناني من خلال قمع هذه الحريّات أم الخروج عن حقّه في اختيار ممثليه, كان يصطدم بإرادة شعبية عارمة كانت تَحُول دون تحكّم هذا العهد أو سيّد هذا العهد أو حكومات هذا العهد بإلارادة الشعبية. وإذا ما أخذنا ما جرى في العهد الثاني للرئيس بشارة الخوري من قيام ثورة شعبية بيضاء أسقطت عهده, لأن الحكم أنذاك خرج عن إطار الحريّات وحقوق المواطنين وحاول ممارسة سياسة قد تصطدم مع هذه الحريات, نجد أنّها أوّل ترجمة في ردّات الفعل الشعبية ضد أي ممارسة سلطوية قد تقمع الحريّات العائدة للشعب اللبناني. وأذا ما رأينا ما جرى في نهاية عهد الرئيس شمعون لوجدنا أنّ الظاهرة ذاتها تتكرّر. وإذا ما درسنا ما ورد في نهاية عهد الرئيس شهاب لوجدنا هذه الظاهرة أيضاً, أي أنّ الحالة الشعبية العامّة حالَت دون تجديد هذا العهد بالرغم من أنّ المؤسّسات الدستورية كانت تسمح للرئيس شهاب بأن يجدد عهده وولايته. وذلك لأنّهم اعتبروا أنّ في التجديد ما يخالف أحكام الدستور التي تسمح للشعب اللبناني بممارسة حقوقه الدستورية دون أي تعارض أو دون أي حدّ لهذه الحريّات. وإذا ما نظرنا الى ما مرّ في عهد المليشيات من تسلّط جرى على الحريّات العامّة, لوجدنا ردود الفعل الشعبية على ظاهرة المليشيات, التي شِئنا أم أبَينا, تشكّل جزءاً من شعبنا والتي حملتْ البندقية لسبب أو لآخر. وإذا ما نظرنا الى ردود الفعل الشعبية على حامل البندقية وما نجد اليوم في الشارع لاكتشفنا أيضاً وأيضاً أنّ الشعب اللبناني رافض لأي ممارسة عنفيّة إذا ما طالت هذه الممارسة حقوقه وحريّاته العامّة. وحتى إذا ما درسنا ظاهرة "العماد عون", بالرغم من التأييد الشعبي الذي استحصل عليه في الاوساط السياسية, لوجدنا أنّ الممارسة التي تمّت خلال تولّيه الحكم كانت سلطويّة وبالتالي كانت مرفوضة من المثقفين المتمسكين بحرياتهم.
أمّا وثيقة الطائف وهنا السؤال, فماذا حملت هذه الوثيقة الى الشعب اللبناني؟ وهل حافظت هذه الوثيقة على المقاييس الأساسية لقيام النظام الديمقراطي الذي يحفظ للشعب اللبناني حرياته وحقوقه؟ والجواب هو أنّ هذه الوثيقة حافظت فيما حافظت عليه على حقوقٍ وحريّاتٍ أساسية نصّ عليها الدستور اللبناني في مواده المتعدّدة, خاصةً في بداية مواده. ومن ثم انتقل الى معالجة الثغرات التي كانت قائمة في نظامنا السياسي, والتي كانت تُصيب حقوق المواطنين في المساواة وفي كيفية تأمين اختيار الممثلين الشرعيين لهم, من خلال تدابير مرحليّة, آسَف أنْ أُعلن الآن وقبل البحث في تفاصيلها, جاءت بتطبيقها غير متناسبة وغير متناسقة وغير منسجمة مع الأهداف وحتى مع النصوص التي وضعناها في وثيقة الوفاق الوطن. فلنؤكّد على المبادئ وعلى الحريات التي أعاد اتّفاق الطائف تكريسها من جديد. فاتفاق الطائف اكّد على مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون في الواجبات والحقوق وهو ما جاء في المادة السابعة في الدستور, إذ ورد في المادة السابعة أنّ كل اللبنانيين سواء لدى القانون, وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم .إلّا أنّ هذه المادّة إذا ما أخذناها كما أُعيد تكريسها في اتّفاق الطائف نجد أنّها مادة مبدئية تتعارض مع تركيبة لبنان الطائفية والاجتماعية. وأنّ هذه المادة إذا ما أردنا تطبيقها بالمطلق وبشكلٍ سليم يجب أن نكون قد تجاوزنا مبدأ الطائفية في لبنان. ولا أتكلم عن الطائفية السياسية فقط بل عن الطائفية السياسية والاجتماعية. باعتبار أنه على الصعيد السياسي ليس صحيحاً أنّ كل اللبنانيين سواء في تولّي الوظيفة العامّة. فليس صحيحاً أنّ كل لبناني يحق له أنّ يتولّى أي وظيفة, وكلّنا يعرف أنّ هناك تقليداً وعرفاً سياسياً يوزِّع الرئاسات بين الطوائف الرئيسية. وكلّنا يعلم أنّ هناك أيضاً ليس تقليداً بل نصّاً وهو المادة 95 من الدستور التي تنصّ على وجوب توزيع المناصب الوزارية مناصفة بين المسلمين والمسيحيين, وهو ما يمكن أن يحدّ من وصول بعض المسيحيين أو بعض المسلمين الى الوزارة بحكم هذا التوازن الطائفي. ومما يدفعنا الى القول أنه لا يمكن احترام هذا النص أي المادة 95 أيضاً, التي لا تزال تكرّس المناصفة في وظائف الفئة الاولى بين المسلمين وبين المسيحيين.
ونترك أمر موضوع المساواة في بحثها الثاني الى مرحلة لاحقة. وأتكلم عن إلغاء الطائفية الاجتماعية لكي يُمكن آنذاك أن نقول أنّ المادة السابعة من الدستور اللبناني محترَمةً احتراماً كلياً. إذ أنّ المساواة ليست فقط بين المسلم والمسيحي بينما هي بين المسلم والمسيحي وبين الذكر والانثى وبين الولد والرجل وبين كل أفراد المجتمع اللبناني. إلّا أننا نعلم أنّه بتركيبتنا الاجتماعية والطائفية هناك أحكام في الاحوال الشخصية تختلف بين طائفة وأخرى, وتختلف أيضاً فيما بين المذاهب أكانت مسيحية أم مسلمة. وأنّه لكي تتحقق المساواة التي تعنيها المادة السابعة من الدستور يجب أن نلغي كل الاحكام التي يُمكن أن تفرّق بين حقوق الرجل والانثى أم المسيحي والمسلم والى ما هنالك من تصنيفات اجتماعية وطائفية نعيشها في لبنان.
وقد كرّس اتفاق الطائف أيضاً من جديد ما يسمّى مبدأ الحرية الشخصية. فإنّ المادة الثامنة من الدستور قد نصّت على أنّ الحرية الشخصية مَصونة وفي حِمى القانون, ولا يمكن أن يُقبض على أحد أو يُحبس أو يوقَف إلّا وفاقاً لأحكام القانون, ولا يمكن تحديد جُرم أو تعيين عقوبة إلّا بمقتضي القانون. مما يعني أنه اليوم لا يمكن التعرّض لحريّة أي فرد إلّا إذا ارتكب جرماً يعاقب عليه القانون. ولا يمكن أن يوقَف أي شخص دون أن يُحال على القضاء, لكي يتحول القضاء ضمانة لحرياته وحقوقه. ومن أجل ذلك نجد أنه من المؤسف, ورغم ما نصّ عليه قانون العقوبات اللبناني حول الاصول الجزائية وحول الجرائم الجزائية, وما نص عليه قانون أصول المحاكمات الجزائية حول مدّة التوقيف الاحتياطي, مدة يجوز أن يوقَف المواطن فيها احتياطياً لاجراء التحقيقات الاوليّة والمحدّدة بمهلة 24 ساعة يمكن تمديدها الى 48 بأمر من النائب العام, نجد أن هناك ممارسات لدى السلطات القضائية ولدى الشرطة القضائية والعسكرية, في بعض الاحيان, تتجاوز وتخالف المباديء التي نصّ عليها قانون أصول المحاكمات الجزائية. بحيث نرى أنّ بعض الموقوفين في لبنان لايزالون موقوفين بعد مرور أكثر من 48 ساعة وفي بعض الاحيان أكثر من عشرة أيّام دون أن تضع النيابة العامّة أو قضاة التحقيق يَدَهم على ملفّات التحقيق العائدة لهم. بالاضافة الى ذلك وفيما يسمّى بعمليّات التحقيق نجد أنّ هناك ممارسات, تقوم بها في بعض الاحيان الشرطة العدليّة أو الشرطة العسكرية, تتنافى والمبادئ الأساسية لأصول التحقيق الجزائي. إذ يتعرض الموقوف في كثير من الاحيان الى الضغط والضرب والتهديد والتعذيب, وهو ما يعطّل إحدى القواعد الأساسية التي يجب أن تحمي مَن هو موقوف مِن أي عملية ترهيب أو ضغط لدفعه الى الإدلاء بإفادة, قد لا يُدلي بها وهو بملء إرادته وخارج أي ضغط جسدي أو معنوي عليه.
أمّا حرمة المنزل التي نصّ عليها الدستور أيضاً في المادة الرابعة عشرة, نجد أنها تتعرض الى الكثير من الانتهاك, وذلك خلافاً للنصوص الدستورية والقانوية. ونجد أن النصوص الواردة في قانون العقوبات وقانون أصول المحاكمات الجزائية تُخالَف, باعتبار أنّ هناك أصولاً لدخول أي منزل. فنجد أنّ هذه الأصول لا تُحترم, وأنّ كثيراً من حُرمات المنازل تُخرق دون مراعاة ودون احترام لاحكام القانون.
أمّا بالنسبة لحق وحرية ما يسمّى بسريّة المراسلات, إن كان على صعيد الاتصالات الهاتفية أو على صعيد المراسلات البريديّة. فلا أُذيع سراً إذا ما قلت, والكل يعلم ذلك, أنّ قليلاً من المخابرات التي يجريها السياسيون, وفيما بيننا سياسيون, لا تخضع لمراقبة السلطات واالمخابرات لكي يُتابَع عمل السياسي, فيُحرم هذا السياسي من حق مقدّس ألا وهو سريّة مخابراته واتصالاته. ومن أجل ذلك أقول وأردّد لو أنّ كل ما اتفقنا عليه يُحترم, لكان لبنان ولكانت الحريّات في لبنان بألف خير. إنّما المشكلة أنّ النص شيء والممارسة شيء آخر. المشكلة أننا نتغنى بالحريّات وباحترام الحريات في لبنان, والممارسة على الارض تكون في بعض الاحيان على حساب هذه الحريات وعلى حساب حق المواطنين في التمتع بهذه الحريات.
أمّا من أهم الحريات التي كرسها اتفاق الطائف والتي تكرسها الشرائع في الانظمة الديمقراطية, الحريات المعنوية التي يجب أن يتمتع بها الانسان والمواطن, وهي الحرية الدينية وحرية الرأي والتعبير وحرية التعلّم. وهي حريّات ثلاثة تسمّى بالحريات المعنوية التي يجب أن يتمتّع بها المواطن في الانظمة الديمقراطية التي تقدّس وتحافظ على الحريات. ففي الحرية الدينية هناك حريّتان هناك حرية الضمير وهناك حرية العبادة. فأنا حرّ أنّ أكون مؤمناً بأيّ إله أريد, وأنا حرّ بأن لا أكون مؤمناً بأيّ إله, وهذه حريّة كرّسها الدستور. وإنّما ما يجب أن يوفَّر للمواطن ليس حريّة ضميره واقتناعه, بل يجب أن توفَّر له الضمانات لممارسة حريّة الضمير من خلال الشعائر الدينية والعبادة. ومن أجل ذلك نجد في الدستور اللبناني نصاً صريحاً واضحاً يكرّس حرية الضمير وحرية ممارسة الشعائر الدينية, على أن لا تَمسّ هذه الممارسة المصلحة الوطنية والنظام العام. فهذه الحريّة شِئنا أم أبيْنا لها قيود, وقيودها مفيدة في بعض الأحيان. وإذا أفلتنا هذه الحرية, سنجد يومياً ما يُمكن أن يُثير الفتنة والحرب الأهلية في مجتمع متعدّد الطوائف والمذاهب كلبنان. ومن أجل ذلك أعتبر أنّ الضوابط في ممارسة هذه الحرية, بحيث لا تمسّ شعور الآخرين من الذين لا يشاركونها الايمان, هي ضوابط مفيدة وواجبة في مجتمع متعدّد الانتماءات كالمجتمع اللبناني.
إلّا أنّ هذه الحرية الدينية تطرح علينا, إذا ما كرّسناها, ما أثرته من مشكلة على صعيد التمثيل السياسي ومن مشكلة على صعيد الموظفين. إذ أنّ انتماءنا الطائفي يشكّل شِئنا أم أبيْنا حدوداً للحرية الدينية وممارستها دون قيد. إذ أنّها تصطدم بحقوق الطوائف الاخرى وحرية الطوائف الاخرى, حريّتها في ممارسة الشعائر الدينية وحقوقها في تقلّد وتولّي الوظائف العامة والمسؤوليّات السياسية في البلاد. وهي حدود لا أجد مناصاً من التقيّد بها مؤقتاً, إلى أن يبلغ المجتمع اللبناني حدود الانعتاق من الانتماء الطائفي, وحدود ولوج باب العمل الوطني والانتماء الوطني الذي يسمح آنذاك وآنذاك فقط بأن تُمارس الحريّات الدينية وحرية الضمير والشعائر الدينية, دون أي قيد يُمكن أن يؤثّر على حقوق هذه الطوائف في المشاركة في القرارات المصيرية الوطنية العامة.
أمّا الفرق بين ما أقرّه الطائف وبين ما كنّا عليه في موضوع الوظائف العامة وفي موضوع الأعراف التي توزّع الرئاسات فهو كبير. أذ أنّ البعض يقول بأنّ نص المادة 95 اليوم لا يختلف في مفهومه عن نص المادة 95 الماضي. ولكي أكون واضحاً اسمحوا لي أن أتلو عليكم نص هذه المادة . فالمادة 95 اليوم تقول: "على مجلس النواب, المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين, اتّخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطّة مرحليّة. وتشكيل هيئة وطنيّة برئاسة رئيس الجمهورية تضمّ, بالاضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء, شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمّة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية, وتقديمها الى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطّة المرحلية. في المرحلة الانتقالية أولاً, تُمثَّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة. ثانياً, تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامّة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني, باستثناء وظائف الفئة الاولى وما يعادلها. وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة". مما يعني أنّ هذه المادة تختلف عن سابقتها بأنها أقرّت أيضاً أن توزيع المناصب السياسية والوظائفية بين المسلمين والمسيحيين هو "تكبيرٌ بوَقت", مع الفارق أنّ المادة الجديدة وضعت أصولاً يمكن اتّباعها لبلوغ ما يُسمّى إلغاء الطائفية السياسية. إلّا أنّ ما يجب ذكره ونحن في معرض تعيينات جديدة في الإدارات, وفي معرض مجلس منتخب جديد, وما يؤسف له, هو أنّ ما جرى في موضوع التعيينات يُعتبر مخالفة واضحة للمبدأ الوارد في المادة 95, والتي تقول تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة. ولنا في ما جرى في التعيينات الأخيرة أكبر مثال على عدم احترام قاعدة الاختصاص والكفاءة. ولنا أكبر مثال على خرق هذه القاعدة, أن تُعتمد المحسوبية وليس الكفاءة, وأن يكون ولاء مَن يُعيَّن الى مَن سعى الى تعيينه وليس الى الوظيفة. وهو ما لا يبشّر خيراً إطلاقاً في بناء دولة القانون والمؤسسات القادرة على التطوّر لبلوغ دولة تحفظ كرامة كل المواطنين وتؤمّن حقوقهم.
أمّا بالنسبة لموضوع الانتخابات, وكلّنا قرأنا, أنّ على المجلس النيابي المنتخب على أساس المناصفة, أي الذي ينطلق من مبدأ الانتخاب, وأستميح صديقي وزميلي وعزيزي "أبو معروف" لهذه الملاحظة العلميّة غير السياسية, إذ أنّ هذه الانتخابات بالشكل الذي جرت فيه تتعارض وكل ما توافقنا عليه في الطائف وفي وثيقة الوفاق الوطني. إذ أنّ قانون الانتخابات الذي جرت على أساسه الإنتخابات جاء مخالفاً بمضمونه للإتفاق الوطني الذي حصل في الطائف. وأُعطي بعض الأمثلة لكي لا أُطيل البحث عليكم, وهو موضوع قد بُحث كثيراً, أُعطي بعض الأمثلة عن الخروقات, وهو مبدأ اعتماد المحافظة كأساس للدائرة الانتخابية. فإذا بقانون الانتخاب الذي جرت على أساسه الانتخابات النيابية قسم لبنان الى خمس لبنانات مختلفة, يخضع كل لبنان منها الى قانون انتخابي يختلف عن القانون الذي تخضع له الأربع محافظات. والدليل أنّه في الشمال مثلاً, وأنا ابن الشمال, وُحِّدت محافظة الشمال الى دائرة انتخابية واحدة دُعي فيها الناخبون الى انتخاب 28 نائباً في المجلس النيابي. وبذلك تمكّن كل مواطن شمالي من ممارسة حقه في الانتخاب, وهناك الكثير الكثير ممن رفضوا ممارسة هذا الحق. ودُعي المواطنون في جبل لبنان الى الانتخاب على أساس الدائرة القديمة, فدُعيَ ابن قضاء جبيل وأُعطي الحق في انتخاب ثلاثة نواب. والبقاع قُسّم الى ثلاث محافظات أو دوائر انتخابية دون أي مبرّر لذلك, فجاءت تركيبة البقاع تختلف عن تركيبة جبل لبنان وجاءت تركيبة الشمال تختلف عن الجنوب كذلك. إذ أننا في الجنوب بدلاً من أن نعتمد المحافظة كدائرة انتخابية, جمعنا محافظتين في مخافظة واحدة وحولناها دائرة انتخابية واحدة, ودعينا المواطنين في المحافظتين الى ممارسة حق الانتخاب في دائرة انتخابية واحدة. وهذا ما أدى في المرحلة الاولى الى فقدان مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات لدى المواطنين. إذ أنه من غير الطبيعي أن يُمنح المواطن الشمالي حق اختيار 28 نائباً ويُمنح المواطن في جبل لبنان حق اختيار ثلاثة نواب فقط لا غير.
ثانياً, قلنا أنّ الانتخابات يجب أن تجري في جوّ ديمقراطي سليم, يحفظ للمواطن حقه وحريته في اختيار من يريد لكي يمثله في المجلس النيابي, وذلك في جوّ يوفّر له حريته وحقوقه بعيداً عن الضغوط حيث يستطيع ممارسة حقه الانتخابي خارج أي إطار من عمليات الترهيب والترغيب التي ذكرت. فماذا نرى؟ جرت الانتخابات وكانت لا تزال المليشيات أو معظم المليشيات مسلّحة. جرت الانتخابات ولا يزال قسم كبير من اللبنانيين مهجّراً لا يتمتّع بحقه الأساسي في أن يتنقّل في لبنان الى حيث يريد وأن يقيم في لبنان حيث يريد. دُعي المُهاجر الى ممارسة حقه في الانتخابات وهو غير قادر على التوجّه الى قريته لممارسة هذا الحق. دُعي المواطن اللبناني الخاضع للإحتلال الاسرائيلي في الجنوب الى ممارسة حقه في الانتخابات, وكلّنا يدرك ما هو دور اسرائيل في توجيه أو تعطيل الانتخابات, وبالتالي توجيه إرادته في اختيار ممثليه. دُعي المواطن اللبناني الى ممارسة حقه في الانتخاب والى اختيار مجلس نيابي يقّرر مصيره ويشرّع باسمه ويقرر مستقبله, وهذا المواطن عاجز بالمفهوم الديمقراطي السليم عن اختيار المرشح الذي يرغب به لكي يمثله في المجلس النيابي. ولست هنا في مجال الطعن في قانونية الانتخاب, فأنا محاميّ التربية ومحاميّ الممارسة, وأعتبر أنّ هذه الانتخابات جرت في ظلّ قانون, وهي بالتالي في نظري قانونية لا جدال حول قانونيتها. إنّما لنا تحفظّات كثيرة حول كيفية إجرائها وحول نتائجها. ومن أجل ذلك نجد أنّ هذه الانتخابات, شِئنا أم أبيْنا, خَلقت شرخاً وطنياً وتباعداً فيما بين اللبنانيين, في وقتٍ نحن في أشدّ الحاجة الى توحيد اللبنانيين لمواجهة الاستحقاقات الخطيرة التي يواجهها لبنان, خصوصاً ونحن على منعطف تاريخي, وهو المفاوضات الجارية اليوم حول مستقبل المنطقة وحول السلام.
بالاضافة الى أننا كنّا اتفقنا في وثيقة الوفاق الوطني على أن نُعطي القضاء استقلاليته الكاملة, وأن نُنشئ المؤسّسات القادرة على مراقبة وضبط عمليّات السلطة التنفيذية والإدارية. ولنا في موضوع الانتخابات نقاش كبير حول موضوع المجلس الدستوري الذي وُضعت أصوله لكي يُراقب العمليات الانتخابية, ويُبطل الانتخابات إذا ما تبيّن أنّها مزوّرة ولم يُحفظ للمواطن فيها حقه وحريته في اختيار من يريد. فعمدت الحكومة الى إجراء الانتخابات دون أن تُنشئ المجلس الدستوري ومن أجل ذلك لم نجد أي رقابة وأي ضبط لعمليات التزوير الكبيرة التي شهدتها الانتخابات, وخاصة في بعض المناطق الانتخابية التي ظهرت فيها بوادر التزوير أكثر من مناطق أخرى.
أمّا حق المواطن أو حرية المواطن في إبداء رأيه والتعبير عن رأيه. فلقد كرّس الدستور والوفاق الوطني, الذي اكّدناه في الطائف, على حرية المواطنين في التعبير عن رأيهم. ونعلم أنّ وسائل التعبير هي في لقاءٍ كلقاءنا وتجمّع كتجمّعنا هذا المساء, وهي بواسطة الوسائل الاعلامية من تلفزيون وإذاعة وراديو وسينما وصحافة ومجلة. ونحن يوم كنّا في الطائف حرصنا على أن يُصار الى تنظيم الإعلام في إطار الحرية المسموحة, أي انطلاقا من مبدأ الحرية التي لا تضر مصلحة الوطن ومصلحة الغير. إذ انّنا آنذاك كنّا في جو تعمّ فيه الفوضى الاعلامية في كل لبنان, وشعرنا آنذاك أنّ هذه الفوضى ترادف بأضرارها كبت الحريات. ومن أجل ذلك وبوصفي مدافعاً عن جريدة "السفير" أمام القضاء أُعلن بصورة, سريعة جداً, المبدأ الذي أنطلق منه, وأرفض أن تتحول وسائل الاعلام الى منابر شتم وإهانة وتحقير للناس. كما أرفض أن تتحوّل وسائل الاعلام وسيلة لقمع الرأي عبر السلطة التي لا ترغب في أن تسمع رأيا منتقداً أو معارضاً لسياستها. ومن أجل ذلك وضعت نفسي في تصرّف جريدة "السفير" كمحامٍ للدفاع عنها انطلاقاً من هذين المبدأين مطالباً بتعديل المرسوم 104 الذي يرعى شؤون الصحافة, بحيث يُمكن منع الصحف ووسائل الاعلام من الإضرار بالمصلحة العامة أو من التحقير أو الذم أو القدح, وبالوقت ذاته منع السلطة التنفيذية من قمع الحرية الاعلامية عبر تدابير كالتدبير الموجود في المرسوم 104, الذي يمنح المدّعي العام حق إقفال مؤسّسة صحفية لمدة شهر كامل قبل أن يضع القضاء يده على هذه الدعوى وقبل أن يتأكّد القضاء من أنّ هناك جُرما جزائيا يبرر إفقال هذه المؤسسة. ومن أجل ذلك أقول بأنه لا يكفي أيضاً أن يُقال في الدستور وفي وثيقة الوفاق الوطني أنّ حرية الرأي مقدّسة في لبنان, بل يجب أن نعطي للقضاء قدرته على مراقبة أعمال السلطة التنفيذية في قمع الحريّات وفي إقفال الصحف والمجلّات. وإذا لم يتوفر للقضاء استقلاليته وقدرته على منع السلطة التنفيذية من التمادي في التدابير الإدارية التي تصيب حريّة الرأي والتعبير فنكون آنذاك حوّلنا نظامنا الى نظام سلطوي لا مجال فيه الى احترام الحريّات.
أمّا حريّة التعليم فلها ضوابط في لبنان وأعتبر أنّ ضوابط حرية التعليم واجب وطني. فنحن بلد متعدّد المذاهب والهويات والإتجاهات. ولقد بلغَت بنا الأحداث فترة, وأتكلم هنا بوصفي وزيراً سابقاً للتربية, أن وجدنا مدارس معينة تعلّم مناهج تربوية, وبالتحديد في بعض المواد الأساسية الوطنية, تتناقض كلياً والأهداف الوطنية بحيث تنمي روح الطائفية والتباعد والحقد والتعصّب والكره للطوائف الأخرى. وبحيث أنّها تساهم في ذلك بشرذمة الصفّ الوطني وبتباعد المواطنين بدلاً من انصهارهم في تربية وطنية موحّدة قادرة على إنشاء جيل لبناني يعرف حقوقه وواجباته ويعرف تقاليده وتاريخه ويعرف قيمة وطنه ومتعلق به. ومن أجل ذلك اتفقنا في الطائف أولاً, على أنّ التعلّم لا يجب أن يكون خاضعاً لمزاج الأهل بل يجب أن يُصبح واجباً بحيث أقررنا مبدأ التعليم الإلزامي الإبتدائي, بما معناه أنه على الدولة اللبنانية أن تؤمّن تعليماً إلزامياً إبتدائياً مجانياً. ويوم كنت وزيراً للتربية رفعت الى مجلس الوزراء مشروعاً بهذا المعنى, فتردّد مجلس الوزراء آنذاك في إقرار هذا المشروع ليس رفضاً للمبدأ, إنّما آخذاً في الإعتبار الإمكانات الماليّة في الدولة لتأمين التعليم الإلزامي الإبتدائي الذي يفترض أن يكون مجانياً ليُصبح إلزامياً. أمّا بالنسبة لتوحيد المناهج التربوية في لبنان فلقد أقرّينا مبدأ حرية التعليم, حرية المدارس في تعليمها لمناهج وزارة التربية على أن تخصع للمراقبة, مبدأ حرية التأليف والكتاب ماعدا شأنين, كتاب التاريخ وكتاب التربية الوطنية. إذا اعتبرنا أنّنا إذا ما تركنا لكل مدرسة أن تعلّم التاريخ بالشكل الذي ترتئيه ووفقاً لعقيدةٍ قد تتناقض مع عقيدةٍ أخرى, وأن يغيب دور الدولة ودور وزارة التربية عن مراقبة تعليم التاريخ والتربية الوطنية في لبنان, لكنّا نساهم بصورة غير مباشرة في تفجير المجتمع اللبناني وفي خلق مجتمعات متناقضة متنافرة. ومن أجل ذلك قيّدنا هذه الحريّة بأن فرضنا فيما اتفقنا عليه توحيد كتابي "التاريخ" و"التربية المدنية", بحيث نتمكن من خلال التربية من إنشاء أجيال منصهرة منسجمة لها توجّهات وطنية واحدة, قادرة على الإيمان بوطنها والولاء له وبناء الدولة التي تؤمّن لجميع اللبنانيين كل الحقوق والحريات الواجبة لكي تعيش بكرامة.
أمّا الحريّات السياسية ولقد ذكرنا فيما ذكرنا حق الانتخاب والتشريع, ففي الطائف كرّسنا حق كل مواطن بلغ الواحد والعشرين من عمره في الانتخاب, وكّرسنا أيضاً مبدأ إعادة النظر في قانون الإنتخاب لكي يأتي هذا القانون صحيحاً ومفسحاً في المجال أمام تمثيلٍ جيّد شامل عادل لجميع الآراء والطبقات والفئات الشعبية في لبنان. واعتبرنا من أجل ذلك وجوب أن تتحوّل الدوائر, التي فيها ما يسمى انخراط لطائفة واحدة في نسيجها, الى دوائر مختلطة من الطوائف بكاملها بحيث لا يعود يَسمح لنفسه أيّ سياسي مسيحياً كان أم مسلماً أن يركب موجة التطرُّف الطائفي والتعصُّب المذهبي استدراراً لتأييد أو تصفيق ناخبيه في دائرته الذين ينتمون الى طائفة معينة هو منها طبعاً . ومن أجل ذلك اعتبرنا أنه يجب أن تجري الإنتخابات على أساس المحافظة, على أن يُعاد النظر بالمحافظات الحاليّة وبالتقسيم الإداري الحالي. ونحن بانتظار أن يتحول العمل السياسي في لبنان, من عمل فردي تقوم به بعض الزعامات السياسية, الى عملٍ حزبي يقوم على برامج حزبية يُصار الى اختيار المرشّحين على أساسها. أعتبر أنه من واجبنا أن لا تكون هذه الدائرة الإنتخابية موسّعة جداً, إذ أنني أستطيع أن أؤكد أنه من خلال التجربة الإنتخابية الأخيرة, وآخذ محافظة الشمال على سبيل المثال, أنّ المواطن الذي وضع 28 إسماً في اللائحة قد لا يكون يعرف أكثر من خمسة أو ستة مرشّحين, وأنه بالتالي لم يستطع أن يميّز بين هذا المرشّح أو ذاك ولا أن يعلم ما هي الدوافع أو البرامج أو الأفكار التي يطرحها هذا المرشح الإنتخابي. ومن أجل ذلك أنا من الداعين الى اعتماد المحافظة كدائرة انتخابية, على أن لا تكون هذه المحافظة كبيرة جداً, في انتظار أن يتحول العمل السياسي في لبنان الى عمل حزبي, بحيث يستطيع المواطن أن يعتمد على برامج الاحزاب لاختيار المرشحين من هذه الاحزاب على هذه الدوائر.
أيّها السادة الحريّات عديدة وكثيرة في لبنان, إنّما أهم ما في الحريّات هو أن نضمن ممارسة هذه الحريّات. أنا من القائلين بأنّ الوسيلة الوحيدة لضمان ممارسة هذه الحريات هو أن نمنع تسلّط أو انفراد هيئة أو شخص أو فئة في السلطة بمؤسّسات الدولة. ومن أجل ذلك قام النظام الديمقراطي في لبنان على مبدأ فصل السلطات, بحيث تتوازن السلطة التشريعية للمجلس النيابي مع السلطة التنفيذية في تولّي شؤون البلاد. وتتعاون فيما بينها في إطار ما يسمّى مبدأ فصل السلطات. فلا يتدخل في عمل السلطة التنفيذية أعضاء السلطة التشريعية ولا يتدخل في عمل السلطة التشريعية أعضاء السلطة التنفيذية. ومن أجل ذلك عندما يُطرح ما يسمّى "الترويكا", أي الحكم القائم على الرئاسات الثلاثة, أعتبر أن هذه هرطقة دستورية وضرب لمبدأ فصل السلطات. إذ أنه إذا شاركت السلطة التشريعية في قرارات السلطة التنفيذية فكيف يمكنها إذ ذاك من إجراء رقابة على القرارات التي تشارك فيها. ومن أجل هذا اعتُمد مبدأ فصل السلطات الذي أعتَبر اليوم أنه يُخرق. ومن أجل ذلك أرى أنّ هناك احتمال في أن تنحصر السلطات في هيئة واحدة يُمكن أن تُهيمن على كل الهيئات والمؤسسات الدستورية الأخرى, مما قد يعرض حريّاتنا السياسية وحقوقنا الفردية الى أكبر خطر إذا لم نتدارك هذا الامر بسرعة, وإذا لم نعد الى ممارسة الأصول الدستورية كما نصّ عليها الدستور اللبناني. بالإضافة الى ذلك أنا أعتبر أنه إذا لم يستطع المجلس النيابي ممارسة حق الرقابة على السلطة التنفيذية ومحاسبتها وإسقاطها في المجلس غذا ما استدعى الأمر, فإن هذا الخلل فيه ما يَمسّ حرياتنا وحقوقنا. ولكي يستقيم الحكم في لبنان وتُحفظ الحريات وحقوق المواطنين, يجب على السلطة التشريعية أن تمارس سلطتها في الرقابة والتوجيه والمحاسبة, وإلّا لا يمكن أن تستقيم اللعبة الديمقراطية مما يعرض حرياتنا لأكبر الأخطار.
أمّا بالنسبة للقضاء, فلا يكفي أن يكون هناك مجلس نيابي أو رئيس للجمهورية يستطيع أن يطلب "إعادة نظر" بقانون ما, إذا ما وجد أنّ هذا القانون يخالف الأحكام الدستورية. من أجل ذلك عندما اجتمعنا في الطائف قرّرنا إنشاء المجلس الدستوري وأنَطْنا به حق وواجب مراقبة مدى دستوريّة القوانين, بحيث أنّه إذا ما صدر قانون مخالف للأحكام الدستورية يستطيع هذا المجلس أن يعطّل مفعول هذا القانون ويوقف تنفيذه. وإذا بنا اليوم, وبعد أكثر من سنتين على إقرار الطائف ولأسباب يجهلها البعض ولا يجهلها البعض الآخر, نجد أنّ المجلس الدستوري لا يزال يأخذ مجراه الطبيعي الطويل المدى متّبعاً الأصول الطويلة لتفادي أن يمارِس رقابته على أعمال السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية. وإحدى هذه الأعمال كانت الإنتخابات النيابية التي لم تخضع لأي رقابة أو أي محاسبة .
أيّها السادة قد يطول الكلام حول الحريّات. فبالرغم من النصوص الجيدة التي أُدخلت على دستورنا, فالأساس هو حُسن التطبيق. خروقات متعدّدة تحصل يومياً للنصوص والمبادئ, فالسلامة الجسدية تُخرق إذ يُقبض على مواطنين ولا تُحترم أصول القبض عليهم وإحالتهم للقضاء. وممارسات الضرب والتعذيب في التحقيقات سارية وأصبحت جزءاً من ممارستنا القضائية. ورقابة السلطة القضائية إذّاك تسقط وهي الرقابة الوحيدة القادرة على حماية حقوق المواطنين.
أيّها السادة قد يحلو لنا الإسترسال في بحث موضوع الحريات فنحن كلبنانيين سُكارى بالحريات, إنّما الوقت لا بد أنه يقيّدنا, وإذا كان هناك من حريّات فليس لي حريّة الإسترسال في بحث موضوع الحريات. إلّا أنني أودّ أن أؤكد لكم أنّ الحريات في لبنان ستبقى بألف خير مهما حاولوا قمعها أو القضاء عليها. فلن تمرّ بنا ظروف أقسى من التي مرّت, إنّما الحزن يُصيبنا والقلق يُخيفنا يوم تُبادر السلطة الشرعيّة الى قمع الحريّات والى ضرب حقوق المواطنين. إلّا أنّ السلطة هي وليدة إرادتنا وخياراتنا, فنحن كشعب قادرون على صيانتها في حركة التغيير التي نمارسها في الانتخابات. وإنْ جاءت هذه الإنتخابات مخيّبة للآمال بما رافقها من مخالفات وتجاوزات, رغم أنّها أدّت إلى دخول بعض الشخصيات والرموز السياسية الص