صـيـدا ومعـروف سعـد ( 1) - الدكتور مصطفى دندشلي
إصدارات المركز /
إعلامية /
1984-04-15
صـيـدا ومعـروف سعـد ( )
بقلم : د. مصطفى دندشلي
يصدر عن " المركز الثقافيّ للتعليم والدراسات الجامعيّة " في صيدا ، ملف " أحداث صيدا في العام 1975 " وهو يضمّ معلومات وثائقيّة مستقاة من الصحافة اللبنانيّة ويوميات عن استشهاد المناضل الوطنيّ معروف سعد وعن بدايات اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان ، من أواخر شباط وحتى منتصف أيار ، أي حتى استقالة حكومة الرئيس رشيد الصلح . وفي التقديم الذي كتبه د. مصطفى دندشلي ، رئيس المركز الثقافيّ ، وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في الجامعة اللبنانيّة ، صورة عن زعامة معروف سعد السياسيّة ، ونظراً لما يجري في الجنوب من تصاعد الانتفاضات الجماهيريّة ضدّ الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ واتساع المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة ، ننشر هنا مما في هذا التقديم :
إنّ الاهتمام بشخصيّة معروف سعد الوطنيّة وفي هذا الظرف بالذات ، إنّما يأتي لكونها ظاهرة وطنيّة قلّ نظيرها ، وقد أثّرت وتفاعلت وأصبحت رمزاً وطنياً لشعب بأسره .
فهناك تفاعل وتأثير وتأثّر بين نضال معروف سعد وتاريخ صيدا الوطنيّ ، فهما مترابطان برباط وثيق لا ينفصل أحدهما عن الآخر ، في حقبة زمنيّة تمتدّ إلى ما يقرب من أربعين عاماً . فلا يمكن التاريخ لنضال شعب صيدا الوطنيّ ، قبيل الحرب العالميّة الثانية وحتى العام 1975، من دون أن يكون معروف سعد محوره الأساسيّ وممثلاً لتيار شعبيّ واضح المعالم والمنطلقات . فمنذ سقوطه في الانتخابات النيابيّة في العام 1972 وحتى سقوطه في ساحة النضال السياسيّ ـ الاجتماعيّ في العام 1975 ، بقي معروف سعد واستمرّ ، كما هو ، مركز العمل السياسيّ في مدينته صيدا ولولبها. فلم يحصل أيّ تحرك سياسيّ أو وطنيّ أو اجتماعيّ ، إلاّ وكان معروف في صميمه وقيادته الفعليّة على الأرض وفي " الشارع ". فالنيابة بمعناها السياسيّ الشائع ، لم تكن والحالة هذه إلاّ عرضاً في عمله السياسيّ أو منبراً إضافياً يطلّ منه على الجماهير الشعبيّة ، من موقع المسؤوليّة ، أو كما نقول هنا ، في صيدا بالتعبير الشعبيّ ، " مصطبة " أمكنة منها تلبية حاجات الناس ومتطلباتها .
وفي الواقع ، فقد ابتدأ معروف سعد حياته بالنضال الوطنيّ والممارسة الوطنيّة العمليّة ، وذلك عن طريق الكفاح ضدّ الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين ، ومن خلال قيادة التظاهرات ضدّ الاستعمار بشقيه الفرنسيّ والبريطانيّ . ومن ثمّ ، فقد اعتمد هذه الحياة التي لا تعرف الكلل أو الملل بالنضال الاجتماعيّ . وقد انتهت في معركة اجتماعيّة في ساحة المدينة التي أحبها معروف ، فيكون بذلك قد دخل التاريخ من بابه الواسع ، ويكون التاريخ في الوقت نفسه قد أنصف معروفاً ، إذ ليس المهمّ أن يعيش المناضل الوطنيّ عشر سنين أكثر أم أقلّ ، لكن الأهميّة الكبرى بالنسبة إليه وبالنسبة إلى شعبه والتاريخ ، أن تأخذ هذه الحياة النضاليّة على قصرها ، المعنى الحقيقيّ ، المعنى العميق الذي تستحقه . بل ، وأكثر من ذلك ، يمكننا القول أنّ معروف سعد ، الرمز الوطنيّ ، لشعب ولحقبة تاريخيّة ، ربما لم يكن ليأخذ هذا البريق اللاهب وهذه الصدمة العنيفة وهذا الوهج الذي هزّ الضمائر والنفوس . لو لم تكن نهاية هذه الحياة الوطنيّة الصاخبة كما وقعت تماماً : مأساويّة ، مثيرة ، أعادت المعادلات السياسيّة والوطنيّة إلى وضعها الصحيح .
وإذا لم تكن الأهميّة الكبرى الآن وبالنسبة إلى المعركة الوطنيّة التي تخوضها الجماهير ، أن نتحقّق من الحدث التاريخيّ وصدقه وكيفيّة حدوثه بالدقة المطلوبة ، فالأهمّ هو المعنى والدلالة التي يمكن أن يأخذها هذا الحدث في وعي النفس وحسهم الوطنيّ . إنّ نهاية معروف سعد وبالصورة التي حدثت فيها إنّما هي ، في الواقع ، تكريس لنضال معروف سعد وتنصيبه بالشهادة ، زعيماً وطنياً ومناضلاً اجتماعياً في التاريخ .
فما هي مقومات هذه الزعامة السياسيّة ومرتكزاتها الأساسيّة ؟... لم قم زعامة معروف سعد السياسيّة والوطنيّة . بادئ ذي بدء ، على أيّ معنى من معاني الجاه ، من الناحية الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة ، بمعنى أنّها لم تتأت من نفوذ يعتمد على المال والغنى أو الملكيّة الواسعة . كما أنّها لم تأت كذلك بسبب من انتماء دينيّ أو من وجاهة عائليّة كبيرة أوعريقة . في الواقع أنّ زعامة معروف سعد لم تقم على أسس تقليديّة متعارف عليها وشائعة ، كما كان تبنى عليها الزعامات السياسيّة الأخرى في مناطقنا . إنّ هذه الزعامة بنيت تدريجاً ، تلقائياً ، عَبْر النضال والممارسة وتداخلت فيها جوانب مميّزة ، يمكن تحديدها بعوامل ثلاثة : العامل الذاتيّ ، والعامل الوطنيّ ، والعامل الشعبيّ. هذه هي ، برأينا ، المنطلقات الأولى والأساسيّة مجتمعة متداخلة ، التي جعلت من معروف زعيماً وقائداً بصفات خاصة وشخصيّة فريدة ومميّزة . فلم يسع هنالك ، وطوال الحقبة التاريخيّة من حياتنا دوراً ريادياً هائماً على وجهه في المدينة يبحث عن بطل فكان هذا البطل هو معروف .
في كلّ الأحوال ، ينبغي أن ننظر إلى معروف سعد على أنّه إنسان ، إذا أردنا أن نقوم بعمليّة تقويم لحياته العامة . وهذا الإنسان ، كما فيه قوّة وإرادة ، فيه أيضاً ضعف ووهن . كذلك فإنّ حياة معروف سعد ونضاله السياسيّ المتواصل والممتد على حقب زمنيّة طويلة ، ينبغي أن تؤخذ كلّ وبمجملها ، ومدى تأثيرها العام في الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة ومدى ما قدّمت وأعطت وأثّرت وتأثّرت ، وذلك من دون أن نتوقف كثيراً أمام الهفوات والأخطاء التي قد تذوب أو تصبح هامشيّة أمام المنحى الكلّي والسياق العام .
الصفات الشخصيّة
أوّل ما يثير الانتباه في شخصيّة معروف هو البساطة ، والتواضع ، والبعد عن المظاهر والرفاهيّة والأبهة ، والانعتاق من القيود الضيّقة وعدم التقيّد بما هو مألوف وسائد . ففيه ميل ، نكاد أن نقول أنّه غريزيّ للتحرر الذاتيّ والشخصيّ والخروج على ما هو مألوف وشائع . فجميع نلامذته وأجيالهم المتتابعة ، على سبيل المثال ، لا يزالون يذكرون كيف كان يدخل عليهم " الأستاذ " وهم في الصف، في أوائل أيام الصيف الحار ، بلباس لم يكن مألوفاً إطلاقاً ، لا في الماضي ولا في الحاضر، على الأقلّ في مجتمعاتنا الراهنة : كان يدخل عليهم " بالشورت الكاكي " و" الصندل "، عاري الصدر إلاّ من قميص شفاف مفتوح من الأمام . وأصدقاؤه الأساتذة في كلية المقاصد الإسلاميّة في صيدا وطلابه كذلك . إنّما كانوا يتقبلون ذلك ، بكثير من الطرافة والدهشة المحببة إذا جاء من معروف ومن معروف فقط . فالخروج على المألوف ، بهذا المعنى ، وبطريقة متحررة وغير مؤذية ـ وهناك حوادث ونوادر كثيرة تروي في هذا الصدد ـ إنّما يلقي الضوء على جانب من جوانب شخصيّة معروف سعد المنطلقة والتي يصعب تقييدها .
إنّ المقارنة مغرية لنا ، في هذا المجال ، بين الخروج على المألوف في الحياة العاديّة والخروج على المألوف في العمل الوطنيّ . من هنا برأينا وافق معروف سعد وصدقه مع نفسه قبل أن يكون صادقاً مع الآخرين . ومن هنا كذلك وانسجاماً مع الذات يمكننا أن نفهم عليّة اقتحام "القشلة". الحادثة المشهورة التي أثارت خيال الأجيال وكانت تتناقلها جيلاً بعد جيل . إذ أنّ هذا الاقحام ، وهو نتيجة لسياق وطنيّ عام في المدينة ، وبالصورة التي تمّ فيها ، وركب المخاطرة التي أحاطت به ورافقته ، إنّما هو موقف غير مألوف إطلاقاً عن القادة العاديين . من هنا العلاقة بين بطولة الأبطال والثوار من جهة والرؤية غير العاديّة وغير المألوفة للأشياء والوقائع من جهة أخرى والتي تقتحم في الوقت الذي لا مجال فيه للتراجع . وتتجرأ في الوقت الذي يرى فيه " الحكماء " إنّ من " الحكمة والتعقّل " الانتظار والحذر .
فأولى صفات معروف سعد الشخصيّة ، إذن ، هي الصدق ، الصدق مع النفس ومع الآخرين ، الصدق في السلوك وفي القول والفعل . ولك شيمة الشجعان والأبطال . وهو وفيّ إذا صادق، ويفي بعهده إذا وعد . كريم وسخي إلى أبعد الحدود إذا دعت الضرورة لذلك . ليس لديه للمال قيمة إلاّ بمدى ما يفيد منه الأصدقاء والأصحاب والفقراء والمحرومون كفيف اللسان . لم يُعرف عنه بأنّه أساء إلى أحد بالقول أو بالفعل ، دون مبرر أو موجب ، غير أنّه كان يستاء ويغضب إذا نُسب إليه سوء ليس فيه أو وجّه إليه اتهام فيه كذب وافتراء . يتحاشى الحديث عن نفسه وعن أعماله وبطولاته ومآثره . وإذا ، بمناسبة أو أخرى ، أثار أحدهم الموضوع أمامه ، احمر وجهه خجلاً وارتباكاً .
الزعامة السياسيّة : العامل الذاتيّ
وإذا كنّا قد انطلقنا في تحديدنا لجوانب أو مقوّمات زعامة معروف سعد السياسيّة بثلاثة عوامل ، الذاتيّة والوطنيّة والشعبيّة ، فإنّنا ما نقصد أولاً بالعامل الذاتيّ هو القوّ الجسديّة النادرة . وقد اقترنت تلك القوّة الجسديّة بالإقدام والجرأة .
وممّا أضفى على جانب القوّة الجسديّة تألقاً في شخصيّة معروف هو كرمه وسخاؤه لمن صادق وصاحب . فقد كانت حياته مع رفاقه أقرب إلى الحياة الجماعيّة المشتركة ، " كسّاب وهّاب ، كلّ ما في جيبه لأصدقائه وأصحابه ". كما كان يقال آنذاك . وعندما كانت تلتقي " الشلّة الكبيرة " في مقهى " باب السراي " في وسط صيدا القديمة ، مثلاً وبوجود معروف بينها ، فهو الذي يدفع حساب طلبات جميع الأصحاب أو يعطي هو أولاً ما في جيبه من مال ، فإذا قصّر في ذلك " يسمح " بعدئذٍ للآخرين بأن يعطوا ما لديهم .
هذه هي ، في الحقيقة ، أولى بوادر القيادة أو الزعامة بمعناها العفويّ أو الفطريّ .
العامل الوطنيّ
ربما كان ثمّة من هو أكثر من معروف أو من يوازيه قوّة جسديّة أو لا يقلّ عنه جرأة وشجاعة طوال الحقبة الزمنيّة التي كانت مسرحاً لحياته، ولكن ما ميّزه عن غيره ، هو توظيف القوّة الجسديّة والشجاعة ، توظيفاً كلياً ومطلقاً في العمل الوطنيّ ، وفي الحركات والمواقف الوطنيّة . فكما كان هنالك استقطاب جسديّ ، كان كذلك استقطاب وطنيّ حول شخصيّة معروف سعد . وقد ظهر ذلك في مراحله الأولى ، إمّا من خلال الكفاح المسلح مع مجموعة من رفاقه في أرض فلسطين ، وإمّا في نصب كمائن للسيارات مع أعداد غفيرة من شباب صيدا وفتيانها ، هذه السيارات التي كانت تحمل الخضار والفواكه والمؤن الغذائيّة إلى المؤسّسات التجاريّة الصهيونيّة في فلسطين ، وتحطيمها عند مداخل صيدا الشماليّة أو الجنوبيّة .
وكان يظهر ذلك أيضاً ، وعلى الأخص ، في قيادة معروف للتظاهرات الشعبيّة والجماهيريّة العامة في المدينة ، مع مجموعة من رجالات صيدا والجنوب الذين يختلف عنهم جميعاً من حيث الجذور الاجتماعيّة المتواضعة ، خصوصاً تلك التظاهرات ذات الأهداف القوميّة والوطنيّة المعادية للاستعمارين الفرنسيّ والبريطانيّ والمؤيدة للقضيّة الفلسطينيّة والوحدة العربيّة .
وما اقتحام " القشلة " في تموز 1936، وفي الأوضاع الوطنيّةالسائدة آنذاك ، سوى مظهر نادر للجرأة والإقدام والشجاع وتوظيفها في موقف وطنيّ مثير يصل إلى حدّ " الجنون "، بمعنى الخروج عن المألوف . فدخول معروف سعد إلى " القشلة "، المحتشدة برجال البوليس و" الجندرمة " الفرنسيين وبيده مسدسه وتحت وابل من الرصاص المنهمر ، ليس ذلك " المشهد " أو الحدث التاريخيّ ـ وكما يرويه شهود عيان ثقة ـ سوى مرحلة فاصلة في حياة معروف ومنطلق للزعامة الوطنيّة وتكريس لها .
إنّ رهان معروف سعد آنذاك ، رهانه العفويّ الكبير ، الذي وضع فيه حياته كلّها في الميزان فقد كان ، إمّا أن يخسر هذه الحياة، فيكون قد وقف موقفاً اريخياً وطنياً رائعاً وصادقاً ، أسوة برفاقه الشهداء الذين سقطوا في الساحة الوطنيّة . وإمّا أن يكسب البطولة ، وقد كسبها بالفعل ، عن جدارة واستحقاق . إنّ أهميّة هذا الحدث التاريخيّ الوطنيّ وما أخذ معنى " الاقتحام " في أذهان الجماهير وخيالها ، لا يحدّد باعتبار مصداقيّة التفاصيل الدقيقة وكيفيّة حدوث ذلك بالفعل ، أو بعبارة أخرى ، ليست الأهميّة بالنسبة إلى وعي الناس وطموحاتها أننتحقّق من دقّة الحدث وصدق الرواية ، أو كما يقال ، واقعيّة هذا العمل الوطنيّ أو عدم واقعيته ، فكلّ ذلك متروك للمؤرّخ والباحث . وإنّما الأهمّ ، عَبْر حِقب طويلة ، هو ما علق في ذهن شعب المدينة وما نسج خيال الناس حوله من قصص وأساطير شعبيّة تتناقلها الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة .
في الحقيقة ، إنّ شعوبنا هي شعوب مقهورة ، مسضعفة ومضطهدة ( بفتح الهاء ) في الداخل والخارج . وهي تشعر بأعمق أعماقها وبوعيها الدفين ، أنّها ترزح طوال حقب التاريخ الطويلة، تحت " كابوسين " كبيرين : عظمة الماضي وبؤس الحاضر. فهي متعطشة وتنتظر اللحظات التاريخيّة الحاسمة لمجابهة قوى الداخل وقوى الخارج ، بالتحدّي المطلوب وعن طريق البطولة والصلابة والوضوح . من هنا كانت دائماً ضع آمالها و" أحلامها " في التحرر والاستقلال والكرامة الإنسانيّة، وتجسّدها في زعماء قبلوا التحدّي الكبير ، الداخليّ والخارجيّ ، وتجاوبوا بجرأة وبطولة مع طموحا شعوبهم وتطلعاتهم المستقبليّة . بهذا المعنى ينبغي لنا أن ننظر إلى زعامة معروف سعد السياسيّة والتصاقها بالفئات الشعبيّة ، وكذلك وبمعنى أعمّ وأوسع ، إلى زعامة عبد الناصر التاريخيّة للشعب العربيّ من أقصاه إلى أقصاه ، انطلاقاً من تحديه التاريخيّ الحاسم للغرب الاستعماريّ بتأميم قناة السويس في العام 1956 .
وإذا أردنا أن نشير ، في مجال العمل الوطنيّ ، إلى بعض المفاهيم الأساسيّة ، فإنّنا نجد أنّ تلك المفاهيم هي مفاهيم بسيطة ، تلقائيّة ، تنطلق من معرفة تجريبيّة عمليّة ، وهي تتحدّد في العروبة والوحدة والاستقلال والتحرر ومحاربة الاستعمار والدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة . ومعروف ، في مواقفه السياسيّة والوطنيّة ، لم يكن ليميل إطلاقاً للتنظير أو البحث المجرّد أو المفاهيم النظريّة . بل المهمّ عنده وما يتوافق مع طبيعته ، هو العمل والممارسة ، والتحرّك على الأرض . والممارسة العمليّة عنده تتأتى قبل الجدل النظريّ . وكلّ ذلك ينطلق من منطلقات وطنيّة صادقة لم تخطئ أو هم. فكانت هذه الممارسة الوطنيّة ، في الحقيقة ، تعبيراً صادقاً عن مرحلة تاريخيّة بكاملها ، مرحلة وطنيّة وقوميّة واجتماعيّة .
العامل الشعبيّ
إنّ طبيعة معروف سعد المتواضعة كانت تميل به دائماً نحو البساطة في كلّ شيء وإلى أن يكون أقرب إلى الفئات الشعبيّة الفقيرة لارتياحه لها . فقد كان يجد نفسه على فطرتها وإنسانيتها وعفويتها بالقرب منها والاحتكاك بها . وقد كان يظهر هذا الجانب الشعبيّ في طريقة ملبسه ومشيته ونبرة صوته ومأكله ومشربه وما له علاقة بمظهره الخارجيّ عموماً ، فهو في تحركاته وعلاقاته يميل ميلاً فطرياً إلى عدم التكلف وتبدو في كلّ ذلك عفويّة نوازعه الإنسانيّة الطبيعيّة . فكان يستأنس بالقرب من الفئات الشعبيّة والجماهير الفقيرة ، ويعمل دائماًعلى الارتباط بها وعدم ىنفصال عنها واستلهامها في حياته السياسيّة ومواقفه العمليّة، وطنياً واجتماعياً . فكان يشاركهم همومهم ومشاغلهم، ويعمل بصبر وأناة على إيجاد الحلول لخلافاتهم اليوميّة والاجتماعيّة منها بوجه خاص . في الحقيقة كان معروف سعد ، طوال حياته ، تعبيراً صادقاً عن هذه الجموع الغفيرة من الفقراء والبسطاء والمحرومين ، وكان في الوقت نفسه تعبيراً عن طموحاتهم السياسيّة والوطنيّة والاجتماعيّة .
ليس هناك من حاجز لا يخرق بين مروف والجماهير الشعبيّة ، فقد كانت العلاقة هي علاقة مباشرة . فهم في بيته أو حتى في غرفةِ تومه ، إذا كانوا بحاجة إليه لتحقيق خدمة أو مطلب ، فلم يُعرف من لايضيق ذرعاً بهذه " الدالة الشعبيّة " سوى معروف ، من هنا جاءت تسميته من قِبَل الفقراء أنفسهم بـ" أبي الفقراء ".
هذه هي الجوانب المتعدّدة في شخصيّة معروف سعد والتي تفاعلت في شخصيته بعضها ببعض وتداخلت بشكل مميّز انتجت قيادة وزعامة وطنيّة فريدة ، فذّة ، محبّبة ، صادقة مع نفسها ومع الآخرين ، قريبة من الناس ، كلّ الناس، بعفويتها وصراحتها . فلم تكن نظرة معروف إلى الزعامة على أنّها وجاهة ، أو إلى السياسة على أنّها مكسب تقوم على التآمر و" الحرتقة " والخداع. بل أنّه فهم السياسة وطبّقها عملياً على أنّها خدمة وتضحية وإحقاق حقّ . وكثير من رفاقه الذين تابعوه في عمله السياسيّ في مراحله المتنوّعة، يؤكدون أنّ هناك فرقاً كبيراً بين ما نسميه بـ"التكتيك" أو الذكاء السياسيّ عنده ، وبين الدجل والتردّد أوالكذب في السياسة أو النظرة إلى العمل السياسيّ نظرة " بوليسيّة " تآمريّة .
إنّ العمل السياسيّ في حياة معروف سعد ، عمل متكامل ، وصاعد ، ومنسجم كلياً مع طموحاته ومواقفه . فليس فيه صعود أو هبوط ، يحيّر في تفسيراته أو تبريراته . فلم يتخذ موقفاً سياسياً حاسماً أو مصيرياً ـ كما نقول ـ ثمّ بعد ذل يعود لينقضه كأنّ شيئاً لم يكن ، كما يحصل عادة عند كثير من السياسيّين . فهو يحترم " رأي الناس " ويصدقها في مواقفه ويصدق نفسه معها .
لذلك فقد قيل أنّ الزعامة جاءت إلى معروف ساعية ولم يركض وراءها . ومن هنا أيضاً فإنّ حياته السياسيّة والوطنيّة في شتّى منعطفاتها التاريخيّة هي ، في النهاية ، حياة غنيّة وملهمة وذات جوانب متعدّدة .
وأولى هذه الجوانب في شخصيّة معروف هي الصدق ، الصدق في العمل السياسيّ والعمل الوطنيّ . والأهميّة الكبرى التي كانت تتجلّى دائماً في مواقفه هي اقتران القول بالعمل ، والوفاء إذا وعد فالشعارات والخطابات والتصريحات السياسيّة والوطنيّة لا قيمة لها ولا فائدة عمليّة منها ، إذا لم يتجسد ذلك في مواقف وتترجم عملياً على الأرض . من السهل صياغ الشعارات ولكن الصعوبة تأتي من تطبيقها . وليس المهمّ أن تعرف أشياء كثيرة وإنّما الأهمّ أن تحقّق ما تعرفه ولو كان قليلاً .
والجانب الآخر في شخصيّة معروف هو الجرأة وعدم التردّد في اللحظات الوطنيّة الحاسمة والإقدام والتضحية . إذ لا مواقف وطنيّة من دون أن رافقها شجاعة وطنيّة ، هذا هو ، في الحقيقة ، معنى الزعامة ، معنى القياة ، معنى الطليعة . الزعيم هو أن يستوعب الظروف ويكون تعبيراً صادقاً عنها وعن طموحات الناس وتجسيدها ، فيقود من دون تتبادر إلى الذهن عوامل الربح والخسارة بموازين ضيّقة ، شفافة ، دقيقة .
وثمّة جانب في شخصيّة معروف سعد يبدو وكأنّ العمل الوطنيّ لكي يستمر ويتأجج يحتاج إلى الحماسة والاندفاع . والأمثلة على ذلك كثيرة ، وكثيرة جداً ، في حياته ومنعطفاتها السياسيّة . فحياة البطولة التي جسدها معروف لم تكن كذلك لو لم تحمل كثيراً من المخاطرة والجرأة والفروسيّة، ولو لم تحمل أيضاً وعلى الأخص معنى لكرامة الإنسان والوطن .
وهكذا فقد أصبحت شخصيّة معروف سعد رمزاً في وعي شعب صيدا والجنوب ، وهذا الرمز الوطنيّ يزداد تألقاً ووهجاً مع مرور الزمن والأحداث ، ممّا يزيد في وضوح معالم زعامته السياسيّة وغناها كتعبير عن تيار سياسيّ وطنيّ عام وعن منعطفات تاريخيّة لمدينة ومنطقة بأسرها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ[1] ) أنظر ، جريدة : السفير "، 15 نيسان 1984 .