النهارـ قراءة في أفكار شيخ الأزهر بقلم الشيخ جابر مسلماني
إعلام وصحافة /
فكرية /
2010-10-27
قراءة في أفكار شيخ الأزهر
بقلم الشيخ جابر مسلماني
لم اعرف افكار ورؤى امام الازهر الشريف الدكتور الشيخ احمد الطيب - الذي شغل موقعه الكبير بعد رحيل الشيخ طنطاوي رحمه الله- في أبعادها المعرفية والثقافية والسياسية،إلا عندما قرأت الحوار المكثف الذي أجراه الاستاذ جهاد الزين معه في جريدة "النهار"(•)
وجدتني عندها امام شخصية استثنائية في المكانة فضلا عن المكان والزمان وخصوصا من يشغل سدة الهرم الديني والمعقل الروحي لطائفة اسلامية كريمة. قرأت الحوار بعطش وشغف كبيرين. في الشكل والمضمون. ووقفت طويلا امام ايحاءاته ومراميه العريضة. وما يمكن ان يبنى عليه في مدَيات الواقع الاسلامي الشائك والمعقد.
مجموعة كبيرة من الأسئلة اجاب عنها سماحته وهي تمثل الاسئلة العريضة التي يسأل عنها الواقع الإسلامي برمته. يعرف سماحته تماما مكانته ورمزيته وتأثيره الكبير. ويعرف تماما موقع الازهر اسماً ومؤسسة وتاريخا في العالمين العربي والاسلامي وبسائر تجلياته وتمظهراته ومكوناته خصوصا ان الواقع الاسلامي مذهبيا وسياسيا يمر بأصعب الظروف واعقدها نظرا للاشتباك الحاد الذي يثيره بعض الاطراف من هنا وهناك، بعيدا عن الموضوعية وطرائق مقاربة المواضيع العقَدية، والتي لا تنفك تفرز اصطفافا سياسيا نظرا للتداخل العميق بين السياسي والديني في مجتمعاتنا المشرقية.
من هنا جاء التأكيد المباشر منه على ضرورة مراجعة التراث الاسلامي بعرضه العريض خلافا لمن يرى بأن الاستقرار الموضوعي في الاجتماع العربي والاسلامي يرتكز على ضرورة القطيعة معه –التراث- بما يؤدي الى تشابه كبير مع محو الذاكرة الجمعية للعقل المكون. يرى امام الازهر الشريف ان مكمن الخلل الاساسي هو في عدم قراءة التراث او في بعض القراءات المستدامة التكرارية واجتزائه بعيدا عن طبيعته المفتوحة وكليته خصوصا عندما يكون هذا الاجتزاء من اجل توظيف التراث وخلع المشروعية الدينية والمشروعية التراثية وجاذبية التاريخ المكثف على رؤى تفتقد للاطلاقية وتفتقد للمشروعية نفسها ايضا.
وذلك ككل حركات الاقصاء والإلغاء والإبعاد في كل تقسيم فكري ديني سياسي يقنن لأصل فكرة المواطن الاول بما يستتبعه ويلازمه ويبنى عليه من جدولة مواطنية في سياق نزولي. اجتزاء أليم للتراث وصل بالامام علي بن ابي طالب الى قرار صعب في حادثة تاريخية عندما كان يواجه حركة مسلحة في تاريخ حكمه وخلافته. حيث قال للمفاوض الصعب عبد الله بن عباس" لا تخاصمهم بالقرآن فإنه حمّال ذو وجوه."... في اشارة الى سد ذريعة وخطر الاجتزاء حتى في الاطار القرآني والنصوصي. من هنا نجد سيد الازهر يرى بأن الافتقار والتصحر او القراءة للتراث في بعض نصوصه دون سائر النصوص الأخرى هو الذي يؤدي الى نظرات مجتزئة وناقصة في المحمولات الثانية اي البنائية التي تشكل الفهم الراديكالي والمتشدد للاسلام وتمظهراته في بعض حركات الاسلام السياسي، و نراه يركز على القراءة الشاملة للتراث بما يتيح التوصل الى رؤية دينية متماسكة تمكننا من إعادة فرز الافكار التي بنيت في اصل تكونها على عناصر محض تاريخية او مواقف كان الظرف الماضوي هو الذي يستدعيها ويملي نشوءها او عناصر أضيفت للتراث من دون اصل وجودها مما نتج عن التفسير والصراع السياسي المجتمعي في التاريخ الاسلامي.
ولا اقل من ذلك رفض امام الأزهر الشريف الاحتباس الجمعي في الماضي التاريخي مع سد المنافذ الى المعاصرة والحدثية الراهنة. أليس هناك دعوات تصر على بقائها في التاريخ؟ أليس هناك من نحسب بمجرد ان ننظر إليه انه كائن وافد من التاريخ؟ ان الاحتباس الكلي في التاريخ لا يقل في مأزقه عن الانبتار الكلي عنه وهذا ما يعنيه سماحته بتعبير رائع جدا "علينا ان ننظر الى التاريخ بعين والى الحاضر والمستقبل بالعين الاخرى". وهذه النظرة والرؤية المتكاملة تدل على الاعتدال الذي يمثله. والاعتدال هو ما تحتاجه وتفتقده الكثير من نظراتنا الدينية والسياسية والاجتماعية. هذه النظرة القويمة لدى سماحته تنسحب على كافة الموضوعات التي طرحها الحوار الشهي. فموضوع الحجاب ينظر اليه نظرة متوازنة وتحصينية لناحية فريضيته وإلزاميته في التشريع الاسلامي من ناحية ولكونه يدخل في اطار الحرية المطلقة للمرأة المسلمة بمعنى انه لا يستطيع احد اجبارها على نزعه فتلك حرية شخصية تكفلها القوانين الكونية وهذا من بديهيات الديموقراطية من ناحية اخرى.
موضوعة التستر تطرح اليوم في اكثر من فضاء وفي اكثر من سياق وفي اكثر من مكان على اختلاف في درجات المساحة التي يغطيها -حجابا اونقابا – وعلى اختلاف الدوافع الاشكالية. ففي مسألة طرح قضية النقاب تحديدا؛ ما يرتكز منها على بعد أمني او ما يرتكز على فكرة التخطيط لصهر المجتمعات في المدى البعيد في بعض دول الغرب العلماني المتشكل ديموقراطيا او لمآرب آخر بعيدا عن نظرية المؤامرة وديمومة استحضارها. لقد اعطى شيخ الازهر حصانته – من موقعه - للحجاب بما يجعل المرأة مطمئنة على خصوصياتها الدينية ومن دون اي صخب اشكالي وبطريقة موضوعية لا تستفز المختلف في الرأي او الموقف - على خلافنا مع المختلف وبالطريقة العقلانية نفسها. ان اهم ما طرحه إمام الازهر الشريف في سياق جوابه على الاستاذ الزين هو ما اعتبره في قمة ورأس أولوياته الحرص على المسيحيين كمكون اساسي من مكونات الشرق وجمال الشرق. ان التنوع في كل مظاهر وتجليات الحياة مثراة لها، مثراة لجدلها الايجابي وقيامة مجدها. يجب ان يكون في رأس أولوياتنا السلام الداخلي، السلام الديني، السلام المذهبي، السلام الوطني الحقيقي وصولا الى السلام العالمي. لا يمكن ان نتصور لبنان الرسالة من دون المسيحيين اللبنانيين ولا من دون مسلميه. لا يمكن تصور مصر من دون الأقباط المصريين ولا من دون المسلمين المصريين. وهكذا في كل مشهدية دينية أصيلة متنوعة في عالمنا العربي. يجب تصعيد ذلك والارتقاء به الى مستوى الثوابت التي لا تفترض جدلا مضادا. اننا مدعوون الى اتمام وانجاز قراءتنا للآخر. قراءته كما هو وبأدواته المعبرة عن هويته هو. لا للقراءة الناقصة لا للقراءة القبْلية بما تحمل من مسبقات قارّة في مخيالنا. قراءة الأنا في الآخر ومعرفة ان الآخر يثبت الأنا فينا، "أنانا" نحن "وأناه" هو فينا وصولا الى خطاب وطني ننتهي فيه وبه واليه من استعمال كلمة آخر.
مع شيخٍ للازهر يرفض مصافحة اي زعيم اسرائيلي طالما ان الحقوق العربية لم ترجع لاهلها. مع شيخ للازهر يقرر زيارة العراق كله بكل اطيافه، وزيارة النجف بما تمثله من مكانة عريقة فيها مرقد الامام علي بن ابي طالب الذي يرجع شيخ الازهر بنسبه اليه وفيها الحوزة العلمية التاريخية للشيعة. ان زيارات ممثلي الاديان والمذاهب والطوائف وتلاقيهم من الازهر الى قم الى العراق الى الفاتيكان بإمكانها ان تقرب المسافة للتلاقي الكبير والصادق والمثمر بين كل الطوائف والمذاهب لان لكاريزما الرموز الدينية في تأثيرها ما للنصوص الدينية نفسها او اقل بقليل.
اختم برأي سماحته من قضية ادغام المؤسسة الدينية مع الموقف الرسمي للسلطة السياسة -بصرف النظر عن اية سلطة - ولن ازيد على موقفه الواضح من ان اعتبارات المؤسسة الدينية تختلف عن اعتبارات السلطة السياسية ومعنى ذلك ان على المؤسسة الدينية ان تكون حصنا منيعا وموئلا حرا بحيث تستطيع ان تعبر عن موقفها من دون الخضوع لما تستطيع او لا تستطيع اي سلطة سياسية ان تتجاوزه لأكثر من اعتبار وسبب وبما لا يجعل من المؤسسة الدينية غير قادرة على النطق الا بمرسوم أعلى والحديث بالمطلق.
(بيروت)
• جهاد الزين:
1- شيخ الازهر يجيب على اسئلة آتية من بلد الفتنتين، لبنان – "قضايا النهار" – 15/10/2010.
2- صحوة الازهر بين فقه البادية والتشيّع "الامني" – "قضايا النهار" – 19/10/2010.
(رجل دين لبناني)