صلاح طه البابا - الدكتور مصطفى الدندشلي
شخصيات /
تربوية /
0000-00-00
مقابلة مع
الأستاذ صلاح طه البابا
التاريخ: 30 نيسان 1984
الموضوع: جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
د. مصطفى دندشلي: أستاذ صلاح، نود لو تعطينا صورة عن وضع المقاصد من الناحية التربوية ومن الناحية الإدارية من خلال تجربتك الشخصية الخاصة؟
الأستاذ صلاح طه البابا: مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا، وهذا هو الاسم الذي اشتهرت به أيام كنت في الطفولة، كانت قبلة الذين ينشدون التعلم من أبناء صيدا، إذ إنها كانت تعلم بالمجان، وتُعنى باللغة العربية وبالتعليم الديني الإسلامي عناية فائقة. دخلت المدرسة في تشرين الأول 1920 حيث بدأت في تعلم الأبجدية وقراءة الأحرف، ثمَّ الكلمات، ثمَّ الجمل.
في تلك السنة بالذات، انتدب لإدارة المدرسة الأستاذ عبد الرحمن البزري الذي كان من خيرة الشباب ومن أنشطهم وأخلصهم وأكثرهم اندفاعاً. سِرْت في مرحلة التعليم الابتدائية من الروضة إلى الابتدائي الأول، إلى الثاني، إلى الثالث، فالرابع ثمَّ انقطعت عن المتابعة بعد ذلك، قبل أن أنال السرتفيكا، وانتقلت إلى مدرسة أخرى. إلى مدرسة الفنون الإنجيلية (الأميركان) في صيدا. الأساتذة الذين مارسوا مهنة التعليم في مدرسة المقاصد الخيرية في ذلك الوقت كانوا بأكثريتهم على جانب محترم من الإخلاص والفهم والعطاء، أذكر منهم المرحومين داوود الديماسي، محمد المغربي، علي جلال الدين، محمد بربر، خليل متى، إدمون رزق الله، وتوفيق الزهار.
خرجت من المدرسة وكانت لا تزال مدرسة ابتدائية عادية، تقوم بواجب التعليم على أحسن وجه، وأعرف الكثيرين من الذين تخرَّجوا منها في مرحلتها الابتدائية، كانوا على جانب من الفهم والمعرفة نتيجة التربية الصحيحة. بعد ذلك انتقلت إلى مدرسة الفنون الإنجيلية في صيدا وكنت أقوم بزيارة للمقاصد بين الحين والحين، مستأنسا بالأساتذة الذين عشت معهم سنوات طفولتي.
وبعد ذلك، حدث تطور في المدرسة بجهود المرحوم محمود الشماع. أما قصة محمود الشماع كاملة فواجب أن أسجلها وفاءً للراحل وإحقاقاً للحق. في ذلك الوقت، كانت هنالك تذمرات من الممارسات التي كانت تقوم بها المدارس الأجنبية، وبخاصة مدرسة الفنون الإنجيلية الأميركية ومدرسة الفرير حيث إن التعليم الديني كان إجباريتاً، وصيدا كانت تكره هذه الممارسة لأنه لا يروق لها أن يُفرض على أبنائها أن يتعلَّموا بالإكراه ديناً يُحسب مادة أساسية، يتوقف عليها النجاح أو السقوط. وحدثت انتفاضات طلابية في تلك المدارس أثارت في صيدا ضجة، إنما لعدم وجود البديل، كانت تنتهي تلك الضجة بهدوء اضطراري، إنما كان يحمل في طيَّاته سخطاً عميقاً على هذه المؤسسات. وكان الموضوع: تدريس مادة الدين بشكل إجباري يتداولها الناس في سهراتهم ويتحمَّسوا كثيراً للخلاص منها إلا أنهم لم يجدوا سبيلاً.
أخيراً تصدَّى للعلاج المرحوم محمود الشماع في سنة 1933/1934 الدراسية، اختمر في رأسه مشروع وحاول أن يخرجه إلى حيِّز التنفيذ، ووفِّق في إخراجه كل التوفيق. وضع تصميماً لرفع مستوى المدرسة من ابتدائية إلى ثانوية. وباشر بمشروع الفرش. فكان قد طبع دفاتر، كل ورقة من الدفتر "بقرش"، يفرض على جميع الموظفين في المؤسسة أن يطوفوا يوماً واحداً في الأسبوع ويجمعوا هذا "القرش" من أجل بناء مؤسسة ضخمة لينتقل بالمؤسسة إلى ثانوية. استمر في هذا المشروع حتى أواخر سنة 1935 وجمع من "القرش" هذا مبلغاً تمكن أن يبدأ به بناءَ أقسامٍ في المدرسة وإحداث تغييرات في البناء القديم، وأعلنها في مطلع سنة 1936 مدرسة ثانوية باسم كلية المقاصد الخيرية الإسلامية.
ولما كان حريصاً على هذا المولود العزيز على قبله، فقد ترك مهنة المحاماة التي كان يعيش منها وأقفل مكتبه وأقام في المقاصد إقامة دائمة، مقابل تعويض فرضه لنفسه من صندوق المقاصد، 250 ليرة لبنانية في الشهر. وتسلَّم إدارتها لكي يرى بأم العين كيفية مسيرها وليَرْعاها حتى تحتل المكانة التي كان يتطلع إليها.
بقي على هذه الحال، وهو يشعر بالحرمان وهو لا يكاد يجلب إلى بيته قوت العيال، يسهر حتى التاسعة أو العاشرة ليلاً، ينظِّم ويبحث ويخطط من أجل أن تسير هذه الكلية في الطريق السليم. وسارت الكلية في طريقها السليم حتى كانت سنة 1939، أبت السياسة الضيِّقة سياسة العائلات إلا أن تفسد ما بناه أو أن تعكر صفو العيش في كلية المقاصد، لتنفيذ بعض الرغبات ولإظهار سيطرة العائلات إبرازاً دقيقاً واضحاً بحيث إنها تعرَّضت لمحمود الشماع وخلقت له إزعاجات لم يكن له قِبَلَ بتلاقيها. فكان أن نُحِّيَ عن المقاصد بالقوة وبالتهديد وتسليم الزعامات مقاليد المقاصد. وبقيت منذ ذلك التاريخ، تتلاعب بها أيدي الزعامات المحلية بين حين وحين، تنفيذاً وتنفيساً لما يعتمر في صدورهم من حب السيطرة.
فمحمود الشماع، في هذا المجال بالذات، يُعتبر الأب المادي والروحي لكلية المقاصد بأنه أنشاها بدمه بتعبه بسهره بتضحيته، أنشاها وكانت له ما أراد. وأنا لا أتحـدث عـن محمود الشماع كصديق أو أن حديثي من قبيل التعصب لشخص كان قريباً منِّي وكنت قريباً منه، بل على العكس من ذلك، فأنا مررت بفترات خصام مع محمود الشماع، لا تقل عن سبع سنوات من تلك الفترة. ولكن لا أنكر عليه بادرته تلك ولا أبخسه حقه لأن الحق أحقَّ أن يقال. فهو بطل من أبطال الريادة في صيدا، إلا أنه ظُلم بطمس تاريخه وتجنُّب الحديث عن حياته وعمَّا قدَّمه للمقاصد.
س: أستاذ صلاح، هل من الممكن أن تحدثنا مثلاً عن الانجازات العملية الأخرى التي قام بها الأستاذ محمود الشماع في المقاصد، عدا تطوير المقاصد من ابتدائي إلى متوسط إلى ثانوي، هل هناك إنجازات أخرى على صعيد التربية، على صعيد الإنشاءات إلى أخره؟... ثمَّ ما هي الأسباب التي جعلت بعض الأشخاص خصوم الشماع يعملون على إبعاده عن المقاصد سنة 1939، فهل هناك من أسباب معيَّنة لذلك؟؟
ج: أولاً بالنسبة للإنجازات، أستطيع أن أقول لك أن جميع الأبنية التي تشهدها الآن في المقاصد، هي من إنتاج محمود الشماع، لأن البناء القديم التي كنا ندرس فيه أيام الطفولة، لم يعد له أيَّ أثر في المقاصد، فمحاه بمجمله، وأقام على أنقاضه أبنية جديدة بكل معنى الكلمة، من هذا القرش الذي كان يجبيه أسبوعياً.
وبطبيعة الحال أيُّ مشروع كان، إذا لم يؤمَّن له المكان الصالح، فلا مجال لتحقيقه وإخراجه إلى حيِّز الوجود. فالمكان هو الإنجاز الضخم الذي كانت تعجز عنه ميزانية المقاصد. بل ميزانيات الجمعيات الخيريات كلّها في صيدا.
أما كيف حورب وكيف أقسي عن المقاصد فسأشير إلى هذا تلميحاً لا تصريحاً، لأنني لا أريد أن أسجل على نفسي هذه الغيبة عن أناس منهم الأموات ومنهم الأحياء. حدث في سنة 1939 أن بعض الطلاب من آل الصلح المقيمين في بيروت، كانوا طلاباً في المقاصد في صيدا، وكانوا يتصرفون على أساس أن لهم صلات بكثيرين من الوجوه الصيداوية. فتصرفاتهم المتكررة والمزعجة آلت بالنتيجة إلى أن حوكموا، وحكم عليهم بالطرد. فقامت قيامة أنصارهم وأقاربهم وأصحابهم، وراحوا يألبون أعضاء الجمعية كلهم الذين كانوا قد ناموا سنوات، يوم كان محمود الشماع يجمع القرش من أجل البناء.
استيقظوا، هناك مشكلة آل الصلح، طلاب من آل الصلح. واجتمعت الجمعية تلبيةً لرغبات بعض النَّافذين، كسروا قرار الطرد بأن اتخذوا قراراً بإعادتهم إلى المدرسة رغماً عن محمود الشماع. فاعتكف محمود الشماع في بيته وانتهزوها فرصة وعيَّنوا مكانهشخصاً آخر، واستغنيَ عن خدماته إلى مدى طويل.
هذه حلقة من حلقات السيطرة السياسية في مدينة صيدا، كان لها هذا الأثر السيء في مؤسسة، كان يجب أن تترفَّع عن كل هذه المداخلات وهذه الغطرسات العائلية التي لا يرجى منها أيُّ خير لمؤسسة كالمقاصد.
س: هل من الممكن أن ترويَ لنا حادثة معيَّنة؟!.. وبمعنى آخر، هل وقعت حادثة معينة في مدرسة الفرير أو مدرسة الأميركان، جعلت أو دفعت الجمعية وخاصة محمود الشماع للقيام بتجديد جمعية المقاصد وتطويرها؟
ج: حصلت حادثة كبرى وحوادث أخرى طفيفة، إنما الحادثة الكبرى، وكنت أحد أبطالها في مدرس الفنون الأميركية، كان التعليم الديني المسيحي إجبارياً. فكنا نتذمر في بعض الأحيان. وكان الردُّ أن هذه المؤسسة تابعة لجمعية تبشيرية، ومن الصعب التخلي عن هذا المبدأ. فكنا ندرس أحياناً بتسامح وأحياناً يعز علينا هذا الأمر، لأن وضع العلامة النهائية واعتبار مادة الدين المسيحي للطالب المسلم مادة أساسية، لا يستطيع أن يترفع من صفه، إذا لم ينجزها. كانت هذه الأشياء تعتمل في نفوسنا إلى حدِّ كبير. وحدث ذات يوم أن وفد إلى المدرسة قسيس أجنبي أمريكي، كان قد طاف في البلاد العربية: في العراق، في فلسطين، في سوريا، وحضر إلى لبنان، ودعي إلى صيدا لإلقاء محاضرة. فكانت محاضرته عبارة عن إبراز وتقييم دين وتفضيله على دين آخر، بمعنى أنه أخذ يروي حين أخذ يشرح تعاليم السيد المسيح، وفد عليه مسلمون وتنصَّروا.
هذه القصة قد تكون حقيقية، وقد تكون من نسج خيالهم. وإنما أثارت فينا في ذلك الوقت وفيَّ أنا بنوع خاص، عاصفة من النقمة والثورة. فغادرنا القاعة مجتمعين وأضربنا عن تعلم مادة الدين. لم توافق المدرسة. أضربنا عن التعلُّم كافة، أضربنا عن الدراسة. وبقينا على ذلك أسبوعاً.. وفي ذلك الوقت وخلال هذا الأسبوع، كانت شخصيات صيداوية تتصل بالإدارة لمعالجة هذا الوضع وللتخفيف من وطاءة التعليم وإقصاء التعليم الديني عن ورقة العلامات حتى لا يكون لها تأثير لمستقبل الطالب ويترك كل طالب على حريته في ممارسة الدين الذي يشاء. ومن جملة الذين تدخلوا من أجل حل هذه المعضلة، كان المرحوم محمود الشماع والمرحوم شفيق لطفي، ولا أدري من كان يرافقهم أيضاً إنما بدرجة أولى هذان الشخصان، وكانت الردود دائماً من قبل المسؤولين في المدرسة أنهم لا يستطيعون إحداث تغييرات أو تبديلاً في هذه الناحية.
س: في أيِّ سنة؟
ج: كان هذا في سنة 1930-1931 الدراسية، وحتى تمادينا في العناد، وتمادت الإدارة في الضغط، ولم تجد الإدارة أخيراً بداً من أن تحسم الموضوع. فوجَّهت إلى أوليائنا كُتباً تطلب فيها منهم أن يعيدوا أولادهم إلى المدرسة والتقييد بأنظمتها، لأن المدرسة لا يمكن أن تغيِّر حرفاً من قانونها ومن لا يعجبه ذلك يستطيع أن يترك المدرسة إلى البيت. وهذه كانت، على ما اعتقد، العامل الأول الذي اختزن أو الذي خزَّنه المرحوم محمود الشماع في نفسه، وأخذ يعمل لتخليص النشء من هذه الأزمات أو تخليص من لا يستطيع أن يعيش في تلك البيئة.
س: كالمعتاد، أودُّ لو ترسم لنا صُوراً معنوية لشخصيات الأساتذة الذين لعبوا دوراً مهماً على صعيد التربية، ابتداءً بالأستاذ عبد الرحمن البزري، ما هي الصورة العالقة في ذهنك عن الأستاذ عبد الرحمن البزري، ما هـو دوره؟!... وكذلـك عـن داوود الديماسي، الأستاذ محمد المغربي، علي جلال الدين، إلى آخره؟
ج: في الحقيقة، إن هؤلاء الذين ذكرتهم والذين كانوا يدرِّسون في الفترة التي قضيتها طالباً في المدرسة الخيرية، لا أزال أكن لهم كل محبة واحترام، لأنهم كما اتضح لي وبالمقارنة في السنوات التي درّستها بعد ذلك أستطيع أن أقول إنهم كانوا من خيرة العاملين في الحقل التعليمي معرفةً وإخلاصاً. نبدأ بالأستاذ عبد الرحمن البزري. الأستاذ عبد الرحمن البزري كان منتدباً من قِبَل رئيس الجمعية في ذلك الوقت المرحوم الحاج مصباح البزري. وأعطيَ الصلاحية الكاملة لوضع البرامج والتصرف بالمدرسة على أساس أنها مرت في فترة الحرب العالمية الأولى في مرحلة صعبة، وكانت مهزوزة جداً لضعف الإدارة وضعف السلطة.
فكان من الواجب على من يتسلَّم إدارة المدرسة في ذلك الوقت أن يتصف أولاً وقبل كل شيء بالحزم والإدارة السليمة والدعم الكامل، لأن أكثر الطلاب كانوا كبار السن، خرجوا من الحرب العالمية الأولى حيث شُرَّدوا من المدارس: فحياتهم في الشوارع، غياب الأهل في الحرب، الضائقة المالية، كل هذا كان من شأنه أن يخلق جيلاً فوضوياً، جيلاً ناقماً، جيلاً عاش فترة دون رعاية، لأنه من المعلوم أن الآباء كلهم كانوا مجنَّدين في الجيش التركي والأبناء متروكون لأمهاتهم يرسلونهم ليعملوا، ليشتغلوا، ليحصِّلوا لهم بعض الأرغفة لتناول الطعام.
لذلك كانت أصعب مرحلة تواجه جمعية المقاصد هي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، لأن الطلاب في الصفوف الابتدائية، كانوا كبار السن، فأستطيع أن أقول مثلاً أنا دخلت ابن ست سنوات على المدرسة، وكان في صفِّي بالذات ابن عشر سنوات و11 سنة، كان عدد الطلاب كبيراً جداً والفرق بالسن بيني وبينهم لا يقل عن أربع سنوات ولا يزيد عن 6 أو 7 سنوات. فهذا الحشد من الأعمار المختلفة والأعمار التي تجاوزت مرحلة التعليم الابتدائي، كان لا بد لها من حزم وإدارة صارمة حتى تحسن التصرف في تسيير المدرسة بالوجه الصحيح.
ويشهد الله أن الأستاذ عبد الرحمن البزري، كان كفؤاً لذلك المنصب. وقد صنع المعجزات من أجل أن يضبط النظام إلى حدٍ بعيد ووفق 90% من الضبط، لأن الأمر لا يخلوا من بعض المخالفات أو من بعض الشواذات. لكن على الأجمال كان عهده ازدهار بالنسبة لمدرسة المقاصد الخيرية. وقد ضحَّى وسهر. فكان يطوف الليل، يبحث في الأزِّقة عن الطلاب، يرشدهم إلى أن يلتزموا بيوتهم لأن الطواف فعلاً في الليل بالنسبة للطالب كان في ذلك الوقت خطراً، لأنه يصرفه عن دراسته ويعرضه أو يفتح عينيه على مفاسد لا تليق بطالب في الصفوف الابتدائية بنوعٍ خاص.
فإذا انتقلنا إلى الهيئة التعليمية، فداود الديماسي معروفٌ عنه أنه أبرع الناس في الرياضيات: الحساب، الجبر، والهندسة والمحاسبة. وقد علمنا بإتقان كامل. وكثيرون خرجوا في المرحلة الابتدائية من تعليم داود الديماسي نصف محاسبين. الأستاذ محمد المغربي يُعتبر من أقرب الأساتذة إلى قلوب الطلاب، كان يُدرِّس الرسم، كان فنَّاناً واستطاع أن يُأخي الطلاب وأن يكسب محبتهم ويرعاهم ويساعدهم في أزماتهم. ننتقل إلى محمد بربر، كان رؤوفاً عطوفاً. كان يُدرِّس اللغة العربية للأول وثاني ابتدائي. وكذلك علي جلال الدين (وهو أخو مفتي صيدا حالياً الشيخ حمد سليم جلال الدين، أخوه من أبيه)، كان يدرِّس القرآن الكريم والدين الإسلامي. واللغة الفرنسية كانت تعلم على أحسن وجه، كان يعلِّمها ثلاثة أساتذة: إدمون رزق الله، توفيق الزهار، خليل متى. إنما، كما قلت لكَ، تعلمت الفرنسية حتى الرابع ابتدائي، ومع ذلك ما زلت أقرؤها وأفهمها وأتحدث بها ولو ببطء، وذلك من مدخرات تلك السنوات التي قضيتها مع أولئك الأساتذة الأبرار. إجمالاً وكان التعليم في المقاصد، إذا أردت أن أقيِّمه الآن، التعليم الابتدائي يقارب من التعليم الثانوي في هذه الأيام التي لا يعنى الطالب العناية الكافية بتهيئة نفسه وانسجامه مع أستاذه والقيام بواجبه الدراسي.
س: وشخصية محمود الشماع، هذه الشخصية الريادية؟
ج: إذا أردنا أن نحلِّل شخصية محمود الشماع، وهذا ما كنت أتحاشـاه دائمـاً، أقـول: محمود الشماع، عملت فيه الوراثة عملاً عميقاً. والدتـه من آل أباظه. وآل أباظه مشهورون بحدة الطبع والغطرسة والتعالي في بعض الأحيان مع التَّمتُّع بجانب كبيـر من الذكاء. فمحمود الشماع لا أشك مطلقاً أنه ورث عن خاله المرحوم صبحي بك أباظه ذكاءً فذا، لأنه كان ألمع محامٍ شهدته صيدا. وكان مرجعاً للقضاة وللمحامين على السواء، إذا غابت عنهم قضية لجؤوا إليه. فأرشدهم إلى طريقة حلَّها وإلى مراجعها في الكتب وفي الصفحات.
كان يريد أو نشأته الطبيعية كانت تفرض عليه أن يأمر ويطاع. هذه صفة قياديَّة ولكنه لم يكن يتمتَّع بالصفات الأخرى للقيادة. بمعنى أن الأمر والطاعة، قد يردان عند الكثيرين من الذين يتصدَّرون للأعمال الضخمة ولكن إلى جانب الأمر والطاعة هنالك دماثة الخلق وحسن معاملة وملاطفة ومداعبة. هذه الأمور، لم يكن يألفها محمود الشماع، كان جِدِّياً إلى أقصى درجات الجد. كان يطلب فما على المطلوب منه ألا أن يُلبِّي. فإذا لم يلبِّ، فهو عدو. هذه صفات أقولها للتاريخ، ولكن هي صفات أثمرت وأعطت النتيجة التي لم تستطع أن تعطيها صفات المتأنين اللطفاء، المسايرين. فإذا كانت هذه الصفات التي تمتَّع بها محمود الشماع وراثة، إذا كانت لها سيئاتها فبما أنتجت وبما أثمرت، فهي نعم الصفات.
س: طيِّب، سؤال أستاذ صلاح حول جانب من هذا الموضوع، مثلاً: لعبت العائلات الصيداوية في فترات التأسيس السابقة وبعدها دوراً أساسياً في إنشاء المقاصد وتطويرها، وكانوا هم البارزون في مختلف الجمعيات ولكن من الجانب الآخر، نجد أن معظم هذه العائلات ترسل أولادها لمتابعة تعليمهم الابتدائي والثانوي في مدارس "تبشيرية" في مدارس الأميركان في الدرجة الأولى وفي الفرير في الدرجة الثانية. مثل علـى ذلك وعلـى ذكـر آل الشماع، لمست أخيراً بأن معظم شباب آل الشماع، قد درسوا في مدرسة الأميركان. هذا نموذج، وهناك نماذج أخرى: آل أبو ظهر، آل البزري، أبناء المقاصدي الأستاذ شفيق لطفي. هذا شيء يثير الانتباه، بل الاستغراب، مثلاً: أبناء شفيق لطفي جميعهم كانوا قد درسوا في مدرسة الأميركان، فما هو تفسيرك لهذه الظاهرة؟
ج: إنك تحرجني كثيراً، ومع ذلك فسأجيب. قبل كل شيء، محمود الشماع لم يدع طالباً من عائلته خارج المقاصد أثناء وجوده في المقاصد. وأكاد أقول إنه الوحيد من بين جميع الذين تولوا الإشراف على المقاصد الذي كان حريصاً على أن يطبَّق القول بالعمل. ففرض على عمِّه أبو رامز الشماع أن يرسل أولاده إلى المقاصد، فأرسلهم وتعلَّموا فيها، عاطف الشماع، سعد الدين الشماع، بعد منه أخواته، فهؤلاء كلُّهم تعلَّموا في المقاصد في أيام محمود الشماع.
أما الذين سبقوا ذلك العهد، فقد تعلَّوا في مدارس أخرى غير المقاصد. الآن قضية التدريس أو تعليم الأولاد في المقاصد أو في غير المقاصد، هذه قضية عامة لا فضل لأحد على أحد فيها إطلاقاً. الجميع يعتبرون أن من عوامل الأبهة، ومن تتمة الأرستقراطية وخصوصاً لدى العائلات التي درَّجنا على تسميتها "عائلات" والتي اغتنت بعد فترة والتحقت بالعائلات، كل أولئك يعتبرون إن عنصرهم يفوق عنصر البشر.
ولما كانت المدارس التي تحمل الطابع الأجنبي لها "الميزات الأجنبية"، فهي المفضلة وهي التي تحفظ لهم مكانتهم في المجتمعات، لأنهم وأقول هذا وأنا قد لمسته لمساً أكيداً، إذا دخلت أي بيت من تلك البيوت في سهرة أو في زيارة رأساً تسمع الحديث: "والله أبني بالفرير، وضعت له معلم خصوصي في البيت، ويكلفني كذا وكذا، أو أبني بالأميركان".
هذه الأمور مركَّب نقص يخيَّل إلى الكثيرين أنهم يرتفعون اجتماعياً وثقافياً كثيراً بتعليم أولادهم في مدرسة أجنبية. وحسب ظنيِّ أن العاجزين مالياً عن تسجيل أولادهم في مدرسة أجنبية، يتمنَّون في قرارات أنفسهم أن يصبح لديهم المال الكافي ليرسلوهم إلى مدرسة أجنبية، لأننا نحن من الدول أو من الشعوب المتخلِّفة، مع الأسف الشديد، لا وطنية لنا. نحن ننظر إلى الأجنبي نظرة خاصة، ونعامله معاملة خاصة، ونتطلع إليه على أنه المثل الأعلى.
خذ، على سبيل المثل ما نسبة الذين يدخنون دخاناً لبنانياً، إلى الذين يدخنون دخاناً أميركياً أو إنكليزياً، لا أظن عشرة بالمِائة من اللبنانيين يدخنون دخاناً لبنانياً وأنا منهم. لماذا؟.. لأن الدخان الأميركاني أطيب والإنكليزي أطيب، خذ جميع ممارساتنا اليومية، جميع تعاملنا اليومي، نتطلع إلى القميص الأجنبي البدلة الأجنبية، الحذاء الأجنبي، كل ما هو أجنبي. فليس من المستبعد على هذا الشعب المسكين إذا تطلَّع إلى من يعلِّم أولاده في مدرسة أجنبية.
أظن هذا مرض عام لا يستثنى منه إنسان. فإذا كان هنالك مدارس غير أجنبية لا تزال تعيش، فهي تعيش من الطبقة التي حُرمت من المادة الكافية. أقول هذا عن تجربة، لأنه من مجرد ما يرتفع الدخل، يتم الانتقال إلى "المدرسة الأرقى" فعلى هذا الأساس إن اللوم الذي يتوجه إلى تلك العائلات لوم بسيط. إنما أنا أعتب على الذين يتناحرون من أجل الوصول إلى عضوية الجمعية، أولئك بنظري لا عذر لهم إطلاقاً بنقل أولادهم من المقاصد إلى مدرسة أجنبية أو إلى مدرسة أخرى، بل على العكس، إذا كان أولاده في مدرسة أجنبية، عليهم بمجرد أن يصبحوا مسؤولين في المقاصد، أن ينقلوا أولادهم إليها، لأن عدم نقلهم إليها يعتبر سبَّة عار تلزمهم إلى الأبد أو تعتبر دعاية عكسية للمؤسسة التي يحرصون على رفعتها ويحرصون على دوام سيرها.
س: اريد أن أطرح سؤالاً أخيراً، ونعود إلى المقاصد، إلى مرحلة أعتقد أنك عاصرتها جيداً، وأنا كنت واعٍ هذه المرحلة... هي مرحلة شفيق النقاش: هل من الممكن أن تعطينا نظرة تقييمية حول هذه المرحلة؟ يقال بأن مرحلة شفيق النقاش تعتبر انطلاقة أخرى لكلية المقاصد، يقال أيضاً بأن المرحوم الأستاذ شفيق النقاش كان يتمتع بديناميكية وشخصية قوية. وفي زمانه أصبحت شهادة المقاصد مقبولة لدى الجامعات المصرية، فهل من الممكن أن تعطينا صورة عن هذه المرحلة؟
ج: المرحوم شفيق النقاش استلم إدارة المقاصد سنة 1944-1945، وكانت المقاصد قبل شفيق النقاش تتداولها أيدٍ كثيرة، وتعاقبت عليها إدارات متعددة ومختلفة. فكان عهده مميَّزاً بأنه عهد استقرار إذ إن الجمعية، جمعية المقاصد الإسلامية، لأسباب داخلية، أرادت أن يتفرد شخص واحد بالإشراف عليها. فعهدوا إلى الدكتور رياض شهاب أن يكون هو وحده المسؤول الأول والأخير نيابةً عن جمعية المقاصد الإسلامية.
وهنا بيت القصيد، لأنني أعتقد أن مجتمعنا عاجز في المجموع حسن الإدارة العامة، فعهدوا إلى فرد واحد عبقري في الانفراد، يعني أن تعدد الرؤوس وتعدد الآراء في جمعية ضخمة قد يحدث تعثراً في سير المؤسسة التي يريدون إدارتها. وحين يتسلم المسؤولية فرد واحد، ولو أنه يخطئ في بعض الأحيان، إلا أن خطأه وصوابه مراقب ويعطي بالنسبة للمؤسسة ثماراً طبياً. فحصر المسؤولية بالدكتور رياض شهاب وهو المرافق لتسلم شفيق النقاش الإدارة، كان دافعاً للمؤسسة كي تسير سيراً مضطرداً، لأن الربان واحد، وشفيق النقاش يتميز بنشاط مشكور يستطيع أن يخلق، أن يعطي وعنده إمكانية العطاء وعنده إمكانية الاستمرار لمتابعة العمل الذي انتدب له.
كان يسهر، يعمل بجد، يتعاون، كان تعاونياً إلى أقصى الدرجات. يضاف إلى ذلك أنه استمر في الإدارة ست سنوات كاملة دون تغيير ودون خضَّات، لا انتخابات جمعية ولا تغيير مسؤولين. الدكتور رياض شهاب هو المسؤول الأول والأخير، المسؤول الأوحد. وقد رافق ذلك الاتجاه الذي اتجهته مصر حينئذٍ في تقريب المؤسسات الإسلامية أو في التقرب من المؤسسات الإسلامية، فأعطت هذه الامتيازات. طبعاً، نحن لا نحرم شفيق النقاش من الجهد، ولكننا لا نستطيع أن نسند إليه كل المهمة. لقد كانت رغبة مصرية، رافقها مراجعات من صيدا ومن بيروت ومن طرابلس، لمحاولة الأخذ بيد هذه المؤسسات وإنعاشها. فكان أن تجاوبت مصر في ذلك الوقت وأعطت هذه الامتيازات لكلية المقاصد في صيدا وكلية المقاصد في بيروت وكلية التربية والتعليم في طرابلس، بأن يُقبل طلابها بشهادتها النهائية في الجامعات المصرية. فكان هذا عاملاً مهماً جداً في ازدحام الصفوف الثانوية بالطلاب الذين يرغبون في نيل شهادة كلية المقاصد والانتقال بها إلى مصر من أجل متابعة التعليم الجامعي. وكان يؤمها الطلاب من جميع الجهات: من جنوب لبنان، من شمال لبنان، من البقاع، من الشام، من حلب، من حماه، من حمص، من كل سوريا ولبنان، كان يؤمها الطلاب، لأن شهادتها مقبولة في الجامعات المصرية، وشهدت كلية المقاصد انتعاشاً لا بأس به.