شاكر النابلسي
شخصيات /
دينية /
2009-02-14
المصدر: google
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن - العدد: 2557 - 2009 / 2 / 14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
لكي نفهم ما يجري الآن
ــــــــــــــــ
علاقة "الناصرية" و"البعث" و"القوميين العرب" بالإسلام والدولة لفهم الحاضر لا بُدَّ لنا من إضاءة الماضي. فالماضي هو البوصلة التي سار على هديها الملاحون الذين وصلوا إلى شواطئنا. وكان علينا - وجدل الدين والدولة ما زال قائماً ومشتعلاً منذ بدايات القرن العشرين الماضي- أن نعود قليلاً إلى النصف الثاني من القرن العشرين، لنقرأ علاقة القوى الرئيسية في تلك الحقبة – وهي الناصرية وحزب البعث وحركة القوميين العرب - بالإسلام والدولة. وكيف تعاملت هذه الفئات الثلاث مع شعار "حركة الإخوان المسلمين" و"حزب التحرير الإسلامي" الفلسطيني، الذي تأسس في القدس عام 1952.
مواقف موحدة من علاقة الدين بالدولة
في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت حركات سياسية قومية رئيسية هي: "حزب البعث"، و"حركة القوميين العرب"، ثم الحركة الناصرية. وهذه الحركات الثلاث، كان لها مواقف موحدة تقريباً من علاقة الدين بالدولة. وقد دعا إلى هذه الوحدة في النظرة لعلاقة الدين بالدولة، الأسباب التالية:
1- إن موقف هذه الفئات الثلاث من علاقة الدين بالدولة كــان ردَّ فعل أو ردود أفعال، على دعوات التيار الإسلامي السياسي، وعلى دعوات التيار الماركسي العربي.
2- أن موقف "حركة القوميين العرب" طابق تماماً موقف الناصرية من علاقة الدين بالدولة لكون "حركة القوميين العرب" كانت في كافة نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعيـة متطابقة ومتماهية مع الفكر الناصري ، الذي كانت "حركة القوميين العـرب" تعتبر نفسهـا جزءاً منه. فقد تحالفت "حركة القوميين العرب" مع الناصرية تحالفا كلياً، واعتبرت هذه الحركة أن الناصرية هي القيادة الرسمية للنضال العربي، من أجل الوحدة، والتحرر، واسترجاع فلسطين.(أنظر: معن زيادة، "القومية العربية في الفكر والممارسة"، ص332).
3- أن فكر هذه الفئات الثلاث كان فكراً عَلْمانياً في معظم جوانبــه، وإن لم يتم تطبيق كافة جوانب وآليات هذه العَلْمانية على الواقع، حين سيطرت الناصرية وحزب البعث على مقاليد الحكم.
4- اتخذت هذه الفئات الثلاث موقفاً "تقديسياً" من الدين، ولم تتخذ من الدين موقفاً "تطبيقياً" .
5- أن هذه الفئات الثلاث – وخاصة الناصرية – التي اتخـذت موقفاً تقديسياً من الدين، تظاهرت بأنها سلطة دينية أيضاً، إضافـة إلى سلطتها المدنية، لكي تُمسك بزمام النشاط الديني، ولا تدعه مقصوراً على رجال الدين، أو على الأحزاب الدينية السياسية. ولكي لا يُستخدم الدين ضدها في يوم من الأيام من قبل خصومها.
مظاهر الموقف الموحد
وأما مظاهر الموقف الموحد لهذه الفئات الثلاث من علاقة الدين بالدولة فقد تجلّى في النقاط التالية:
1- أن الدين لله، والوطن للجميع.
2- أن الدين مظهر روحاني مهم، لإقامة مجتمع سوي.
3- أن الدين أساس قوي من أسس إقامة الدولة القومية.
4- أن العقوبات والحدود التي فرضها الدين قبل خمسة عشر قرناً، كانت لمجتمع ولزمان ومكان مختلف عمّا نحن فيه الآن. ومن المعروف، أن الأمويين أوقفوا العمل بالتشريع المعروف بإقامة الحدود، وذلك منذ أربعة عشر قرناً مضت.(أنظر: هشام جعيط، "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، ص115). لذا، فـلا عبد الناصر طبَّق الحدود الشرعية حين حكم، ولا حزب البعـث طبَّقها أيضاً. وتطبيق الحدود الشرعية هذا، هو أقصى ما تريد تحقيقه الأحزاب الدينية الإسلامية، وعلى رأسها "جماعة الإخوان المسلمين"، مقابل قبول آليات الديمقراطية الغربية. فنرى أن حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين – أكبر الأحزاب السياسية الإسلامية في المنطقة العربية – لم يعترض على الدستور المدني، أو على قيام الأحزاب، أو على قيام المعارضة، أو على البرلمانات المنتخبة (وهو الذي رشح نفسه للانتخابات التشريعية في مصر عام 1942، ولكنه انسحب بضغط من النحاس باشا، ضمن صفقة سياسية) ولم يعترض على منظمة حقوق الإنسان، ولا على عمل المرأة .. الخ. وكلها آليات ديمقراطية غربية. وكان تركيزه على تطبيق الحدود الشرعية من جَلْد، وقطع رقبة، وتعزير، وخلاف ذلك(أنظر: محمد الغزالي، "مائة سؤال في الإسلام"، ص277-286).
5- لا دور لرجال الدين في السياسة. فلا دين في السياسة، ولا سياسـة في الدين.
6- اعتبار البعثيين والناصريين، أن الثورة البعثية، والثورة الناصريـة، هما امتداد لثورة الإسلام.
ضبابية علاقة الدين بالدولة في فكر البعث
من ناحية أخرى، فقد شغل محور الدين والدولة في فكر الأحزاب القومية وعلى رأسها "حزب البعث العربي الاشتراكي" حيزاً فكرياً ملحوظاً، وخاصة في فكر المؤسس الأول ميشيل عفلق. إلا أن طرح علاقة الدين بالدولة ظل طرحـاً غامضاً ملتبساً ومتناقضاً – كما هي معظم أفكار عفلق - ويتّصف بإنشائية وخطابية وحماسية ملموسة، دون أن يكون واضحاً قاطعاً. وجاء، وكأنه ردُّ فعل، أو أفعال، قام بها الآخرون، من أعداء وخصوم حزب البعث، من الماركسيين، والتيارات الإسلامية المختلفة.
فعفلق، كان يعتبر مسألة الدين والدولـة، قضية رئيسية، وليست قضية هامشية لا تستحق النقاش، كما كان يظن البعض، وكما كانـوا يطرحونهـا. وأن القومية مثل الدين، تنبع من معين القلب، وتُصدر إرادة الله. وأن فلسفة البعث، تعتبر العامل الفكري والروحي، عاملاً عظيماً في تطور التاريخ، وتقدم الإنسانية. وأن الروح هي الأصل في كل شيء. وأن الدافع الروحي، لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وإنما يخلقها أيضاً.
لماذا اهتم عفلق بعلاقة الدين بالدولة؟
ولعل مصدر اهتمام عفلق بعلاقة الدين بالدولة، يعود إلى اعتباره الإسلام الأساس الروحي والحقوقي، الذي تقوم عليه القومية العربية، في المستقبل. وقــال في كتابه "في سبيل البعث" : "إن قضية علاقة الدين بالدولة، تشمل شيئاً أوسع، وهو علاقة الأمة بماضيها، وموقفها، ومستقبلها، كما تعني الأسس الروحية والحقوقية، التي تقوم عليها القومية العربية، في المستقبل" (ص 83). ولكن عفلق من ناحية أخرى، لا يشرح لنا علمياً، كيف يمكن للدين أن يكون الأساس الروحي والحقوقي، الذي تقوم عليه القومية العربية. وظلت مثل هذه العبارات، مجرد شعارات، يطلقها القوميون من حين لآخر، لصد أي هجوم فكري ماركسي عليهم، أو لصد أي هجوم من التيارات الإسلامية عليهم، والتي كانت تعتبر الدعوة القومية من البعثيين وغيرهم من الأحزاب العربية القومية دعوات جاهلية.
العلمانية البعثية الخجولة
وقد انتقد بعض المفكرين الفكر البعثي، لكونه يدعـو إلى العَلْمانيـة، ويتبنّاها في ممارساتـه، وتطبيقاتـه السياسيـة، في سوريـا، والعراق. وهو في الوقت نفسه، يدعو إلى أن يكون أساس القومية العربيـة الروحي والحقوقي، هو الدين. وقالوا إن عَلْمانية البعث على هذا الوجه، كانت "عَلْمانية خجولة". وأن ما يريده عفلق من عَلْمانية البعث، ليس فصل الدين عن الدولة، ولكن تخليص الدين من الشوائب التي علقت به ("في سبيل البعث"، ص 91). ولنلاحظ هنا، كيف أن عفلق، أصبح فقيهاً من فقهاء المسلمين بالدين الإسلامي، كما أصبح في موضع علمي فقهي رفيع، يسمح له بتخليص الدين من الشوائب، التي علقت به! وهذه الشوائب، هي تحرير الدين من السياسة وملابساتها، بحيث تسمح له، الانطلاق في مجاله الحر، في حياة الأفراد والمجتمـع، وبعث روحه العميقة الأصيلة في المجتمع، والتي هي شرط من شروط بعث الأمة (انظر: فهميّة شرف الدين وآخرون، "بحوث في الفكر القومي العربي"، مجلّد2، ص322).
الناصرية والعلاقة بين الدين والدولة
أما الناصرية، فقد نفت منذ الأساس العلاقة العضويـة بين الدين بالدولة. رغم أن عبد الناصر ومجموعة كبيرة من "الضباط الأحرار"، كانوا ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين.
ولكنهم كانوا ينتمون إلى جناح ما سُمّي بـ "الإصلاحيـة الإسلامية الراديكالية"، كما يؤكد المفكر المصري أنور عبد الملك في كتابه ( "المجتمع المصري والجيش"، ص 217) وقد تجلّى هذا النفي في المبادئ الستة للثورة المصريـة عند قيامها، والتي لم يكن للدين فيها أي ذكر، أو أي دور. وكانت هذه المبادئ تقول فقط:
1. القضاء على الاستعمار، وأعوانه، من الخونة المصريين.
2. القضاء على الإقطاع.
3. القضاء على الاحتكار، وسيطرة رأس المال على الحكم.
4. إقامة عدالة اجتماعية.
5. إقامة جيش وطني.
6. إقامة حياة ديمقراطية سليمة.
الإسلام في الدساتير العربية
وما كان نص الدستور المصري الناصري في العام 1956، على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة إلا تقليداً شكلياً للدساتير السابقة، التي صدرت في العهد الملكي. وكان أول نص دستوري يقول "أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة" قد ظهر في الدستور المصري، في عهد آخر خديوي حكم مصر والسودان (1892-1914)، وهو الخديوي عباس حلمي (1874-1944)، الذي وعده الإنجليز بالخلافة الإسلامية. وأشار عليه رجال المؤسسة الدينية، أن يضع هذه المادة في الدستور المصري، إشارة لاستعداده، لأن يكون خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين المقبـل. ثم أصبحت هذه العبارة تقليداً، في كل الدساتير العربية الحديثة، ما عدا الدستور اللبناني. وقد هُوجمت هذا العبارة، واعتبرها بعض الباحثين العرب المعاصرين تقييداً لحريـة العقيدة، وتقييداً لحرية التفكير. وقال الباحث المصري محي الدين محمد "إن الدولة تُخطىء مرتين، إذا نصَّت في دستورها على ديانتها الرسمية. المرة الأولى، في حق حرية الفكر وحرية العقيدة. والمرة الثانية، في حق وجودها نفسه كإرادة واعية، لروح كل فرد من أفراد الشعب، واستجابةً لدوافع التقدم فيه" ("ثورة على الفكر العربي المعاصر"، ص 38).
وكان نصُّ الدساتير العربية، على أن "دين الدولة هو الإسلام"، وفي الدستور المصري الناصري في العام 1956، نصاً تشريعياً تزويقيـاً، من باب ذر الرماد في عيون خصوم الناصرية، كالإخوان المسلمين خاصةً، وسدِّ الباب الذي كانت تهب منه ريح حركة الإخوان المسلمين.
عَلْمانية الناصرية
والدليل على ما سبق، أن الجمهوريين المصريين في هذه الأثناء، اتخذوا خطوات عملية، نحو عَلْمانيـة الدولة والمجتمع، بعيداً عن تطبيقات الدولة الدينية وممارساتها. ومن هذه الخطوات العَلْمانية:
1- اعتبار الدائرة العربية القومية، أقرب الدوائر إلى مصر، وأن الدائرة الإسلامية، هي أوسع الدوائر، كما جاء في فلسفة الثورة.
2- إقرار حرية العقيدة، وعدم التمييز بين المواطنين على أساس ديني.
3- عدم التفريق بين دين وآخر.
4- إلغاء المحاكم الشرعية.
5- عدم بناء المساجد، ما لم يُتخذ بشأنها قرار رئاسي.
6- وضع معظم المساجد، تحت الإدارة المالية الحكومية.
7- السماح بممارسة شعائر الدين فقط، دون التدخل في السياسة.
8- اعتماد الحل الاشتراكي في المجال الاقتصادي، دون اللجوء إلى الحل الاقتصادي الإسلامي.
9- اعتبار رئيس الجمهورية، هو صاحب القرار والمرجع الديني الأعلى، في البلاد، خاصة بعد أن أصبح تعيين شيخ الأزهر، والمفتي العام للجمهورية، من شؤون رئيس الجمهورية.