الملامح البارزة في شخصيَّة معروف سعد الوطنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والأخلاقيَّة... - الكتور مصطفى دندشلي
شخصيات /
تاريخية /
1998-02-25
الملامح البارزة في شخصيَّة معروف سعد
الوطنيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة
والثقافيَّة والأخلاقيَّة...
الإربعاء في 25 شباط 1998
الدكتور مصطفى دندشلي
إن ما أودُّ أن أسعى إليه في هذا الظرف بالذات ـ ذكرى استشهاد معروف سعد ـ وما سأحاول أن أقوم به، هو بذل الجهد قدر المستطاع في رسمِ صورة ـ كما عايشتُها وعرفتُها عن قرب وسمعتُ عنها وأجريتُ المقابلات العديدة حولها ـ عن شخصية معروف سعد، وعن هذه الملامح البارزة والمميَّزة في هذه الشخصيَّة التاريخية النضالية الوطنية الصيداوية. وهنا لابد بادئ ذي بَدء من الإشارة، وكمدخل للبحث، إلى أنه يكون الآن قد مضى على استشهاد معروف سعد ثلاثٌ وعشرون سنة. فعندما يتذكَّر الواحد منا في وقتنا الحاضر ويراجع في ذاكرته وخواطره هذا الحدث المؤلم، يصابُ بشيء من الدهشة والذُّهول، وكأنها ذكرى غير منتظرة: ربع قرن من الزمن أو أقلَّ بقليل، يكون قد مضى فعلاً على إصابة معروف سعد في السادس والعشرين (26) من شهر شباط ووافته المنيَّة في السادس (6) من آذار عام 1975. وهي فترة زمنية طويلة، ولكنه يشعر الواحد منا فيها وكأنها البارحة ولم تفارق ذاكرتنا ولا تفكيرنا. ذلك أن الأيام كانت قد مرَّت بسرعة فائقة وتعاقبت خلالها أحداث جسام واضطرابات أمنية، داخلية وخارجية، بالغة الخطورة سواءٌ في صيدا بالذات أو في الجنوب اللبناني ولبنان على وجه العموم.
فليس والحالة هذه من قبيل المصادفة، عندما نحدِّد أو نشير إلى الشرارة الأولى لاندلاع "الأحداث الدامية". والتي نُطلق عليها "الحرب الأهلية" في لبنان، وانطلاقتها الأولى من تلك اللَّحظة التي أُصيب فيها معروف سعد أثناء تظاهرة الصيّادين المشهورة ووقوعه شهيداً على أثرها الدرامي ـ التراجيدي المؤسف، ومن ثمَّ كان قد تبعتها ـ كما نعلم ـ "حادثة البوسطة" في عين الرمانة في 13 نيسان من السنة ذاتها..
في هذه المناسبة، مناسبة ذكرى استشهاد معروف سعد، ومرور هذه الفترة الزمنية المديدة نسبياً، على وقوع ذلك الحدث المفجع المؤلم لنا جميعاً، فإنني أشعر أنه من الأهمية أن نسترجع الآن بذاكرتنا وما نعرفه، مع فارق الزمن وبعده، لا عن تلك الأحداث وتسلسلها الحدثيّ وأسبابها التاريخية وحيثياتها الخفيَّة أو العلنيَّة، وإنما عن تلك الصفات الذاتيَّة والملامح البارزة لشخصية صيداوية، شخصية معروف سعد، لعبت دوراً مهماً وأساسياً في تاريخ بلدنا على الصعيد الوطني والسياسي والنضالي والاجتماعي، مشهوداً له فيه ومعترفاً به من الجميع...
والواقع، أن شخصية معروف سعد ـ كما عرفناها وكما أراها أنا شخصياً، ولا أعتقد أن أحداً منّا يشكّ في ذلك ـ هذه الشخصية الصيداوية التاريخية، إنما تستأهل منَّا وقفات طويلة، تأمليَّة، اجتماعيَّة، سياسيَّة، وقفات تاريخيَّة ودراسيَّة ـ ولِمَ لا !! ـ لمحاولة رَسمِ أو إعادة رَسمِ هذه الصورة وملامح هذه الشخصية النضالية ـ الاجتماعية ـ السياسية التي لعبت دوراً ذا أهمية بالغة وتأثيراً كبيراً في تاريخ صيدا الوطني والاجتماعي والسياسي على السواء.
* * *
كثيراً ما يُطرح عليَّ هذا السؤال: لماذا هذا الاهتمام الدائم المستمر بشخصيَّة معروف سعد؟... هناك أسباب عديدة لهذه المتابعة ولهذا الاهتمام التاريخي، السياسي، الاجتماعي، بهذه الشخصيَّة الفريدة والمميَّزة، شخصيَّة معروف سعد، يأتي في مقدّمتها:
أولاً، هذه السِّمات البارزة التي نعرفها فيه وهذه الملامح الشخصيَّة التي تميِّزه في سلوكه وفي علاقاته مع الآخرين، وفي صدقه مع الذات في قوله وفي فعله. ثمّ هناك ثانياً، تلك الحالة التاريخية النضالية الجهادية، انطلاقاً من القضية الفلسطينية وما تبعها من نضالات سياسية استقلالية، لبنانياً وعربياً، حتى أنها غَدَت حالة فريدة من نوعها على الصعيد الوطني الصيداوي.
وإذا كان الإنسان، أيُّ إنسان، بحاجة دائماً إلى مَثَلٍ يُحتذى به وإلى نموذج يتمثَّله ويتماهى به، فقد كانت شخصيَّة معروف سعد النضالية هي نَموذجٌ لجيلنا الشبابي، على الصعيد الوطني والسياسي والاجتماعي. فقد غدا معروف سعد في فترة من الفترات، وفي مرحلة من المراحل، ولجيل كامل من الشباب كان قد اتّخذ درب العمل الوطني والاجتماعي والنضالي سبيلاً له، هو "المثل الأعلى"، هو المقياس، هو المعيار، تُقاس عليه وتُقارن به، "الزعامات" أو القيادات السياسية الأخرى، السابقة عليه أو اللاَّحقة به. فقد كانت تُعقد دائماً هذه المقارنة التي تَرِد في أذهان الكثيرين: كيف كانت تتصرّف الزعامات السياسية أو شبه الزعامات السياسية السابقة قبل معروف سعد، وكيف كان هو يتصرّف مع الآخرين فيما بعد؟!!... من هنا، كان قد أصبح معروف سعد حقيقة، في ذهن الكثيرين، مِمَّن عرفوه، نموذجاً فريداً لن يتكرَّر أبداً ومَثَلاً صعب المنال للنضال الوطني الحقيقي، السياسي والاجتماعي في آن.
بالإضافة إلى ذلك، أو فوق ذلك كلِّه، فإن شخصية معروف سعد، إنما هي شخصية منفتحة على الآفاق الخارجية أو المستقبلية، عربياً أو دولياً، ولكنها أيضاً وعلى الأخص ملتصقة بالواقع الاجتماعي المحلّي وقريبة من الناس الآخرين فيه، ولا سيما من الطبقات الشعبية، وهي شخصية على سجيّتها دون تكلُّف أو تصنُّع، دون عنجهية أو اعتداد فارغ بالنفس. لقد كان معروف سعد شديد الثقة بنفسه وكبير الاعتداد بها، وإنما كان يبدو ذلك دون تكبُّراً أو تمظهر، بل على العكس يوحي لك الشيء كثير من التواضع والحياء البادي في محياه وسلوكه. فهو لمن يعرفه عن قرب، متواضع جداً ويظهر ذلك، قبل أيَّ شيء آخر في ملبسه ومشيته ومأكله. فلا يشعرك على الإطلاق بتلك الثقة الكامنة بالنفس والاعتداد بها، التي تصل عند الزعامات السياسية التقليدية والحديثة، إلى درجة الغرور والاستعلاء على الآخرين ومحو شخصيتهم أو الاستخفاف بهم. وبكلمة واحدة حتى أنهي هذا الجانب: فقد سقطت الحواجز، منذ البدايات الأولى لزعامة معروف سعد الوطنية والسياسية بينه وبين الجماهير الشعبية والتيارات الشبابية الصاعدة: فقد كنتَ تلتقيه في أيِّ مكان: في الطريق، في بيته، في غرفة نومه، في مكتبه. فهو وكأنه لا يستطيع أن يعيش إلاّ بين الناس، ومع الناس، ووَسَط الناس، وفي قلب الناس.
* * *
إلى هنا، وفي هذه المقدِّمات قبل الدخول في صلب موضوعنا، لا بد من إبداء هذه الملاحظة السريعة وهي أنه، ولحسن حظ معروف سعد، وُجدت الآن قلة قليلة جداً من الأصدقاء، وفي مقدّمهم شفيق الأرناؤوط ونحن، قد أخذوا يهتمون منذ البداية بشخصيته النضالية وبمسيرة حياته الكفاحية، بالدراسات التاريخية العلمية، اجتماعياً ووطنياً وسياسياً. وهم لا يزالون يذكرون تاريخ معروف سعد السياسي والوطني ويكتبون عنه وعن شخصيته الاجتماعية ويعملون بقدر ما هو ممكن ومُتاح، على تخليد ذكراه عن طريق الكتابة العلمية والاجتماعية والوطنية وتأريخ سيرة حياته، وجمع شتات المعلومات المتفرِّقة وإجراء المقابلات العديدة حوله، خوفاً من أن تُهمل في مجملها هذه المعلومات الواقعية التاريخية وتضيع ولا تُذكر وتصبح نسياً منسياً. ويبدو في الواقع وكأن حياة معروف سعد الوطنية ومسيرتها النضالية الحقيقية، لم تُعطَ بعدُ حقَّها العلمي والتأريخي الحقيقي على الصعيد الوطني والاجتماعي والسياسي الصيداوي على الخصوص، ولا حتى على الصعيد الجنوب اللبناني ولبنان عموماً. وكانت تُقتصر الذكرى التاريخية في المناسبات السنوية على الشعارات والخطابات المكرورة والمُعادة والمُملّة في كل الأحيان وأمام جمهور هو نفسه يتكرَّر كل عام، وكأننا نريد أن نرفع معنوياته ونقوّي ترابطه ونقنعه بما هو مقتنع به سلفاً. من هنا، كانت الانتقادات في الغالب تُوجَّه إلينا من كل جانب لاهتمامنا بتأريخ مسيرة حياة معروف سعد النضالية. لماذا؟.. ذلك أن الكثيرين يربطون الماضي السياسي والوطني بالحاضر الماثل أمامنا. وموقفهم من هذا الماضي، إنما يُحكم عليه ويتحدَّد النَّظر إليه انطلاقاً من الحاضر. وبما أن هذا الحاضر الراهن، كان قد تدنّى كثيراً عن "النَّموذج" و "المثال"، ووصل إلى الانهيار وأدنى المستويات كافة: السياسية والوطنية والأخلاقية، فلا بد من أن ينعكس هذا الموقف القِيَمي والتقويمي على النَّظرة إلى معروف سعد وتاريخه، في أذهان الناس وذاكرتهم وتاريخ صيدا الوطني. بصورة عامة...
* * *