د. دندشلي - مشاعر فرنسا نحو السياسة الديغوليّة عبَّرت عنه في وداع بطلها
دراسات /
سياسية /
2005-05-14
رسالة خاصة إلى " المحرر " من باريس ....
مشاعر فرنسا نحو السياسة الديغوليّة عبَّرت عنه في وداع بطلها . (1)
باريس : من د. مصطفى دندشلي .
تلقت " المحرر " رسالة جديدة من مراسلها في باريس مصطفى دندشلي تناول فيها التأثير الذي أحدثته وفاة الجنرال ديغول على الشعب الفرنسيّ وما يعنيه ذلك بالنسبة للسياسة الديغوليّة . وفيما يلي نصّ الرسالة :
" لقد فقدت فرنسا رجلها "، " أصبحت فرنسا بموته يتيمة "، " لقد كتب أسطع صفحات تاريخ فرنسا الحديث "، " في خلال ثلاثين سنة من النضال المتواصل أعاد إلى فرنسا وجودها ودورها في التاريخ "، إلخ … هذا هو شيء يسير من بعض ردات فعل الفرنسيين والفرنسيات على أثر وفاة الجنرال ديغول . ردات الفعل هذه ، في الحقيقة جاءت متأخرة بعض الشيء . فكأن الناس هنا لم يصدقوا الخبر أم أنّهم كانوا بحاجة إلى بعض الوقت ليدركوا وقع الكارثة .
لهذا السبب ، جاء اليوم الأول لصدور النبأ كالأيام العاديّة . كأنّ شيئاً لم يحدث . ولكن لم تمض الليلة الأولى حتى فعلت الإذاعة والتلفزيون والصحافة فعلها . فشعر الفرنسيون عندئذ بأنّ صفحة تاريخيّة من حياتهم قد انطوت بوفاة الجنرال ديغول . وشيئاً فشيئاً أخذت مظاهر الحزن العميق تظهر على الوجوه وفي الأحاديث والتصرفات !… الصمت ، الصمت الرهيب انتشر في النار كالهشيم حتى عمّ فرنسا كلّها . أدرك الفرنسيون فجأة بأنّهم قد فقدوا رجلهم التاريخيّ وأخر الكبار الأربعة ـ مع تشرشل وروزفلت وستالين ـ الذين قادوا الحرب العالميّة الثانية إلى النصر ضدّ النازيّة الهتلريّة . فأخذت عندئذ الوفود الكبيرة والحشود الغفيرة تتجه إلى " كولمبي " حيث يسكن ديغول لتودعه الوداع الأخير ولتعبّر بذلك عن اعترافها بجميله نحوها .
في هذا الجوّ ، يجب مشاهدة باريس في يوم تشييع الفقيد إلى مثواه الأخير ، يوم الخميس الماضي نادراً ما أصيب الناس هنا بهذا الوجوم الرهيب الذي أمتلكهم .. الشوارع الرئيسيّة والساحات العامة والحيّ اللاتينيّ كأنّها كلّها قد خلت من سكانها . الحشود الضخمة والوفود التي لا تحصى أخذت تتجمّع لتشارك في الساعة السادسة بعد الظهر في المسيرة الصامتة في شارع الشانزليزيه حتى قوس النصر . مع إقلاع الموكب ، ليس هناك من صوت ارتفع ولا من هتاف أطلق . الصمت ، الصمت كالشبح المخيف يخيّم فوق الجميع ، الكلّ بوقار واحتراماً لإرادة الراحل وبالرغم من انهمار المطر الغزير ، الكلّ يريد أن يعبّر عن حزنه وفي نفس الوقت عن تقديره للجنرال بوضع باقة من الزهور على نصب تمثال المجهول .
ولكن ، من هو ديغول ، وما هي الصورة التي انطبعت عنه في ذهن الفرنسيّ العادي !…
أوّل قبل كلّ شيء ، فإنّ ديغول بالنسبة للفرنسيين هو محرر فرنسا أثناء الحرب العالميّة الثانية ، هو رجل 18 حزيران سنة 1940 ، تاريخ إلقائه خطابه المشهور من لندن والذي يدعو فيه الشعب الفرنسيّ إلى مقاومة الاحتلال النازيّ ورفض التسليم ، وهو رجل استقلال فرنسا . وبالرّغم من الهزيمة التي منيت بها بلاده منذ اندلاع الحرب ، فقد دخل في صراع عنيف مع الحلفاء مدافعاً عن احتفاظ فرنسا بدورها القياديّ ، ومشاركتها في النصر ضدّ ألمانيا الهتلريّة كإحدى الدول الأربعة الكبرى ، واعتبارها عضواً أساسياً في مجلس الأمن الدوليّ . إنّ الصورة التي لا يمكن أن تمحى من ذهن كلّ فرنسيّ هي عندما دخل ديغول باريس في 24 آب سنة 1944 يوم تحريرها من الاحتلال الألمانيّ ، ومنذ ذلك التاريخ فهو يربط ربطاً وثيقاً بين شخصيته التاريخيّة وبين فرنسا : فرنسا هو وهو فرنسا . من هنا نأخذ جملته المشهورة كل معناها غداة التحرير : ( لقد دخلت فرنسا ( أي ديغول ) باريس ، أنّها في بيتها ).
ولكن محرر فرنسا لم يدم في الحكم طويلاً ، فقد غادره لأول مرة في كانون الثاني سنة 1946 ، أخذ بذلك طريق منفاه الاختياريّ وحياته التأمليّة وكتابة مذكراته عن الحرب العالميّة . يقال عن ديغول بأنّه رجل أزمات وأنّ عبقريته تؤخذ كلّ مداها في الفترات القلقة والهزّات الخطيرة . وبالفعل ففي جوّ احتمال حدوث انقلاب عسكريّ نتيجة للحرب الجزائريّة الفرنسيّة يعود الجنرال ثانية ليتسلم الحكم في أيار سنة 1958 .
فرنسا تتخبط في حرب استعماريّة خاسرة في الجزائر منذ ما يقرب من أربع سنوات ، بعد أن فشلت في حربها الأولى في الهند الصينيّة سمعتها الدوليّة في الحضيض بعد اعتدائها الوحشيّ على مصر سنة 1956 وكنتيجة لذلك ، فإنّ وضعها الاقتصاديّ قد وصل إلى درجة من السوء كبيرة ، والأزمات السياسيّة والاجتماعيّة الداخليّة كانت تتوالى بسرعة مبشرة بانهيار فرنسا كلياً في هذا الجوّ بالذات عاد ديغول إلى الحكم ليعيد إلى فرنسا ما كانت بأمس الحاجة إليه !.. الاستقرار السياسيّ في الداخل ثم الظهور على المسرح الدوليّ كدولة كبرى .
إنّ السياسة الديغوليّة على الصعيد العالميّ كانت تنطلق ، كما هو معروف ، من هذه القاعدة الأساسيّة التي رسمها لها ديغول نفسه !.. الدولة العظمى ليس لها أصدقاء ، وإنّما لها مصالح، وإنّ الاستقلال السياسيّ غير ممكن في عصرنا الحاضر إذا لم يعتمد ليس فقط على استقلال عسكريّ وإنّما أيضاً على قوة عسكريّة مستقلة ضارية . لهذه الأسباب جميعها ، اهتمّ ديغول منذ مجيئه إلى الحكم في المرة الثانية بأن يسلح فرنسا بقنبلتها الذريّة ، مع ما يكلف ذلك من أموال طائلة ليس باستطاعتها أن تتحملها .
وإذا أردنا أن نبسط الأمور قليلاً ، فإنّنا نقول بأنّ العهد الديغوليّ يمثل إلى حد كبير جداً مصالح جانب مهمّ وكبير من " الرأسماليّة الجديدة " في فرنسا . إنّ هذه الرأسماليّة الجديدة قد أدركت بالفعل وبوضوح ـ وعلى الأخص بعد مؤتمر باندونغ ـ بأنّ مصالحها الأساسيّة لا يمكنها أن تدافع عنها بنفس الأساليب الاستعماريّة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر أو في النصف الأول من القرن العشرين . فأول شيء يجل عليها أن تقوم به إذن هو أن تتخلى عن بعض المصالح وأن تتخلص من السيطرة الأميركيّة دون أن تخرج كلياً ونهائياً من المعسكر الغربيّ .
ولكي يأخذ هذا الاستقلال الفرنسيّ في عهد ديغول كلّ مداه ، وقوته وتأثيره في المجال الدوليّ ، يجب أول بأول إنهاء الحرب الاستعماريّة التي تشنها فرنسا في الجزائر وإعطاء الدول الأفريقيّة التي تقع تحت سيطرتها استقلالها وما أن انتهت هاتان المشكلتان حتى ظهرت فرنسا الديغوليّة بوجه جديد . وفي هذا المجال ، أول ضربة وجهت إلى أميركا هو اعترافها بالصين الشعبيّة في أوائل سنة 1964 ، والتقرب من المعسكر الاشتراكيّ وعلى رأسه الاتحاد السوفياتي ، هذا بالإضافة إلى الزيارات العديدة التي قام بها ديغول إلى أميركا اللاتينيّة ( خريف 1964 ) أو إلى أوروبا الشرقيّة .
إنّ هذه السياسة الفرنسيّة الاستقلاليّة عن الولايات المتحدة الأميركيّة والتي تدعو إلى انتهاج سياسة الحياد بين الدولتين الكبيرتين العالميتين وذلك ببناء الوحدة الأوروبيّة العريضة ، إنّ هذه السياسة الديغوليّة كان مقدراً لها طبيعياً أن تلاقي صدى واسعاً وعميقاً على الصعيد الدوليّ بشكل عام وفي العالم الثالث بشكل أخص . وأولى النتائج الواضحة لهذه السياسة هي رفع أسهم فرنسا وتطلع الأنظار إليها والتقرب منها وبطبيعة الحال فتح الأسواق أمامها ابتداء بالثقافة للوصول إلى الاقتصاد والمال والصناعة .
على هذا الأساس بالدرجة الأولى يجب فهم والاستفادة من السياسة الفرنسيّة التي رسمها وسار عليها ديغول والديغوليون من بعده في العالم العربيّ والشرق الأوسط .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) أنظر ، جريدة " المحرر "، 17 تشرين الثاني 1970 .