مداخلة- الكاتب والصحافيّ نصري الصايغ
ندوات /
أدبية /
2011-02-01
مداخلة(*) :
الكاتب والصحافيّ نصري الصايغ
رئيس تحرير جريدة "نداء الوطن
أستميحكم عذراً، لأنّني سأستقيل من سلطة الثّقافة قليلاً، لأتكلّم بشيء من الصّراحة والودّ. فالجوّ مفعمٌ بالفلسفة، والمُناخ أصبح ثقيلاً بمفردات وكلمات لها عمقها وبعدها. ولكن لا بدّ من التّبسيط. والتّبسيط يبدأ من حكايتي مع "سارتر".
لقد كنت سارترياً. هكذا بدأت حياتي الثقافيّة: منذ الثانويّة حتى التّخرّج في ميدان الفلسفة وعلم الاجتماع… كنت سارترياً، وسارترياً ملتزماً بـ "سارتر". ولقد بقي عندي، فيما بعد، من "سارتر" أمورٌ كثيرةٌ أهمّها: الرَّفض الدّائم. والرَّفض للسّلطة دائماً، أيّاً تكن هذه السّلطة. ثانياً، بقي لديّ أيضاً أنّ المثقف هو مشروعُ مستقبل.
ولكن، إذاً سئلت اليوم: هل أنت مثقّف؟!. فأقول: لا !!.. أنا اليوم لست مثقّفاً. أنا مفعمٌ بالماضي ومثقل بدّ أيضاً. إنّني مجذّرٌ في هذا الماضي. أمّا الثّقافة ، فهي دائماُ مشروعُ مستقبلٍ. فلذلك يقول المثقّف دائماً: لا!…
أشكر، كما شكر زملائي، الدّاعين لهذه النّدوة الجميلة. ولربّما هنا سأغْمِسُ "خارج الصّحن"، كما نقول، حتى في الفلسفة، مع أنّ هذا ممنوعٌ.
لقد جاء في "سِفْر التّكوين" ما يلي: "وأمرَ الربُّ الإلهُ الإنسانَ قائلاً: مِن جميع شجر الجنّة تأكل. أمّا شجرة معرفة الخير والشّرّ، فلا تأكل منها. فإنّك يوم تأكل منها، تموت موتان". وجاء أيضاً: "ثمّ بَنَى الربُّ اللهُ الضِّلعَ التي أخذها من آدم، إمرأةً، فأتى بها آدم. قال آدم: هذه تُسمّى امرأة، لأنّها من امرئٍ أُخذت".
وفي الفصل الثالث من سِفْر التكوين، جاء أيضاً ما يلي: "قالت الحيّة للمرأة: لن تموتا، إنّما الله عالمٌ أنّكما في يوم تأكلان منها ـ أي من ثمرة شجرة المعرفة ـ تنفتح أعينكُما وتصيران كآلهة، عارفيّ الخير والشّرّ. ورأت المرأة أنّ الشجرة طيّبةٌ المأكل، وشهيّةٌ للعيون. وأنَّ الشّجرةَ مُُنْيَةٌ للعقل. فأخذت من ثمرها وأكلت. وأعطت بعلها أيضاً منها، فأكل. فعرفا. فالنِّساء، إذن، أوّلُ العارفات، كما تقول الرواية في سِفْر التكوين. وكان القصاص: ملعونةٌ الأرضُ بسبَبِك، بمشقّةٍ تأكلُ منها طول أيام حياتك. شوكاً وحَسَكاً تُنبت لك. تأكل عشب الصّحراء. ولأنّك تراب، إلى التّراب تعود. وقال لحوّاء: بالألم تلدين البنين…
ثمّ رأسّ آدمَ عليها. ومنذ ذلك اليوم، من تلك الأسطورة، الرّجلُ رأسُ المرأة، لأنّها هي التي قادته إلى المعرفة. ثمّ قال الربّ ـ ولا أعرف لمَن قال ـ إنّهم صاروا كواحد منّا، يعرفان الخير والشّر. ولعلّ آدم الآن يمدّ يده، فيأخذ من شجرة الحياة، فيأكل، فيحيا إلى أبد الدّهر. فأخرجه الربّ من الجنّة.
شكراً لحوّا، لأنّها أخرجتنا من الجنّة، وما زلنا خارجها بسبب إصرارها على المعرفـة…
عذراً إن كنت بدأت من سِفْر التكوين، لأنّني أحببت أن أبدأ من المنطقة الخَطِرة للثّقافة، وبوظيفة المثقّف؛ من الممنوع الإلهيّ. ونحن في منطقة تختلف كلياً عمّا كانه "سارتر"، وعقل "سارتر"، وتاريخ "سارتر".
لذلك بعد المرحلة التي كنت فيها سارتريّاً، صرت، أنا نفسي، أبتعد رويداً رويداً، وأرى نفسي قريباً من علي عبد الرّازق، ومن كتابه: الإسلام وأصول الحكم. وأرى نفسي أكثر التصاقاً ببطرس البستاني الذي أنشأ، بعد فتنة عام 1860، مدرسةً وطنيّةً، تُعلّم الوطنيّة لا الطائفيّة. ووجدت نفسي قريباً من عبد الرحمن الكواكبي. ومن ثَمَّ من صادق جلال العظم ومن عبد الله القصيمي وأنطوان سعادة أيضاً وسواهم. فهؤلاء صرت قريباً منهم، وافترقت عن "سارتر". فإذا كنت قد ابتعدت قليلاً عن "سارتر"، فليس لأنّ لا قيمة كبيرة له، لا !… فله قيمة كبيرة.
أوّل الكلام، إذن، نبدأ بشكر منظّمي هذا اللّقاء الثّقافيّ الذي جمعنا حول طاولة حوارٍ بهدف نقاش ملتزم بالحريّة، وحق الاختلاف وضرورة احترام الآخر…
كتاب "جان ـ بول سارتر": "دفاعاً عن المثقّفيين"ـ للذي عرّبه وقدّم له مشكوراً الدكتور مصطفى دندشلي الذي يصحّ أن نطلق عليه صفة الالتزام، لأنّه لم يَرْكُن إلى النصّ. فأصبح عربياً بين يديه، فرغِبَ في أن يصبح النصّ الذي بين أيدينا، أداة حوار وانفتاح. وهذا اللّقاء، إنّما هو في هذا المُناخ، علّنا نكتشف القانون الضروري لاستمرار الحياة الفكريّة والثقافيّة التي تقلّصت مساحتها إلى حدود النُّدرة.
ولكن لا بدّ من استدراك: أولاً، جئنا لنختلف. فأساس الثّقافة الاختلاف. نحن اختلفنا مع الله بداية وقبل أيّ شيء آخر. وليس فقط في سِفْر التكوين، وإنّما حتى في الملاحم القديمة. فأوّل فعل إنسانيّ قد كان الخلاف مع الآلهة. ولعلّه من المستحسن أن نساهم في تحريك بَلْبَلَةٍ ضروريّة وإثارة حُشَريّة حادّة إلى درجة نصل فيها إلى اعتبار القلق والفوضى مفيديْن جداً. لأنّ الاستقرار في الحقائق السّاكنة، الطيّبة، الرَّخوة، اللّذيذة، "المسكينةُ، هو دليل استكانة للمثّقف، وتبرير لعجز الثّقافة وتشجيع للكسل والإحباط.
ألَيس لكلّ نكسة تبريرُها؟… ألا يبرّر اللبنانيون حروبهم بقولهم: "نحنا ما خصّنا"؟!… في حين أنّ هذه الحرب، نحن الذين خضناها. إنّني أفضّل الإقامة في فوضى مُقلقة فكرياً، على الرّكون الآسن للأفكار، وثقافات استنسخناها، ثمّ تَوَسّدناها، ونحن على زمن يعيش ضدنا. فعسى أن نخرج اللّيلة من هنا ونحن على اختلاف، تأتي ثمارُه بعد ممانعة وتفاعل.
ولا بدّ من استدراك ثالث: هذا الكتاب المطروح للنّقاش والحوار، كتاب مُزْمِنٌ، وَجَد فيه معرِّبُه باباً واسعاً لإعادة طرح مُعْضِلَةٍ قديمة حول المثقّف وتعريفه، والالتزام وضرورته وحدوده. ولكنّي أجد نفسي خارج النّقاش المباشر للنَّصّ، لأطرح مُعْضِلَةٍ المثقّف في مجتمعاتنا، وذلك لاختلاف طبيعيّ بين صورة المثقّف كنتاج لتراث وتطوّر أوروبييْن، ثمّ لإبداع مفكِّرٍ صاغَ صـورة المثقّف على قياس فلسفته. وسآتي على بعض نقاطها في ما بعد…
ثمّ صاغ صورة المثقّف في فترة ما بين الحربين وما بعدها. والحربان، هما الحرب العالميّة الأولى والحرب العالميّة الثانية، كانتا أداة تحوّل كبير في التيارات الفكريّة في أوروبا، بحيث نستطيع أن نفصل ونضع خطوطاً فاصلة تقريباً وحدوداً بين كلّ حقبة وحقبة.
وحتى في فكر "سارتر"، نستطيع أن نتابع ذلك التطوّر في تفكيره، إن كان على صعيده القَصصيّ أو على صعيده الفلسفيّ، من الفرديّة التي كانت سائدة ما بين الحرب العالميّة الأولى والحرب العالميّة الثانية، إلى الالتزام وضرورته فيما بعد.
لقد اُقتصرت مواقف "سارتر" على قضايا عادلة جداً، مستثنياً قضيّة فلسطين ومأساة شعبها. ولكنّه لم يتخلّف أبداً عن مساندة ثور الجزائر… كما قصّر أيضاً في تحليله وتعليله، بحيث فهم المثقّف في تطوّر اقتصاديّ في مجتمع متقدّم، دون أن يلحظ تطوّر المثقّف في مجتمعات أخرى. ولعلّه استدرك ذلك فيما بعد، عندما أدان المثقّف الأوروبيّ والعقل الأوروبيّ في معالجته لمعضلة من معضلات العالم الثالث ومثقّفي العالم الثّالث، في مقدّمته لكتاب "فرانز فانون"، "المعذَّبون في الأرض"، (Les domnées de la terre). وتُعتبر تلك المقدّمة إدانة ساحقة للفكر الأوروبيّ في التعامل مع الثقّافة السّائدة، أو الثقّافة الممكنة في العالم الثالث.
وهذان الأمران لا يبخسان "سارتر" حقّه كثيراً، لأنّه واحد من عمالقة الفلسفة والفكر والالتزام. فقامته الفلسفيّة أكبر بكثير من قامته الجسديّة. وسيبقى أثرُه كبيراً، وإن كان "سارتر"، كما قال أحد الزملاء، غير موجود كثيراً اليوم في أوروبا. وهذا شيء مفاجيء… في حين أنّ المثقّفين السّلطويّين، فهم أرغد عيشاً وأكثر رفاهيّة، منهم مثلاً "ريمون آرون " (Reymond Aron) … لقد انتصر هذا الأخير على "سارتر" في أوروبا، بحيث دخل "سارتر" في رقاد وغيبوبة، بينما حركيّة "ريمون آرون"، المتوافقة مع منطق التطوّر الأوروبي، ما زالت تحتلّ مكاناً بارزاً في إحداثيّات الفعل في أوروبا وتحديداً في فرنسا.
و"ريمون آرون"، هو يمينيّ، وليس نقديّاً، و"سارتر" مثقّف يساريّ. والسبب بسيط جداً، لأنّ طبيعة المجتمع هناك (في فرنسا) قد تحوّلت. فخسر اليسار وأخذ جناح الميمنة، بمعنى أنّ اليسار بات اليوم، في أوروبا، يميناً. ذلك أنّه لا خلاف الآن يُذكر بين الحزب الاشتراكيّ والحزب الديغوليّ بقيادة "جاك شيراك"، من حيث البرامج الانتخابيّة عموماً، وكذلك الحزب العماليّ البريطانيّ برئاسة "طوني بلير"… بينما اليمين الأوروبيّ استطاع أن يصبح نموذجاً جديداً للفكر الرأسماليّ في القرن التاسع عشر. وأحد أبرز نتاجه اليوم هو نظام العولمة المتوحش الذي له مثقّفوه، وهم مثقّفو السّلطة الحقيقيون: مثقّفون حقيقيون للسّلطة، وهم أدمغة كبيرة. والعولمة هي نتاج فكر اقتصاديّ وفلسفيّ واجتماعيّ…
بعد هذيْن الاستدراكيْن، فإنّني أعتذر منكم، لأنّنا تركنا قصّة حوّاء جانباً. وسأعود إليها… سوف أنتهز ـ وسأكون انتهازيّاً ـ مستفيداً من حضور "سارتر" إلى جانبنا، وحضوركم أنتم حيث للكلام الذي يخصّنا، فيه الكثير من الصّدق والإحراج.
من هنا أبدأ إذن: الله في الأسطورة، أو الربّ خالق العالم، كما جاء في سِفْرالتكوين، مالك المعارف وبخاصة معرفـة الخير والشّرّ ومحدّد الممنوعات. حوّاء، قد تحدّت الممنوع واكتشفت طيبته، فصارت تعرف. أمّا آدم، فقد اقتنع بأنّ الممنوع طيّب ولذيذ، بعدما ثاقفته حوّاء: أي أقنعته، فصار يعرف هو أيضاً. فبالمعرفة أصبح الإثنان إنساناً. وكانت العقوبة بالموت.
فأين المثقّفون اليوم من ثقافة حوّاء التي قبلت أن تموت؟…حواء قامت بأوّل فعلٍ ثقافيّ، عندما خالفت الأمر اللاعقلانيّ. فهناك أمرٌ لا عقلانيّ. وقرّرت أن تعرف. فكان فعل الاكتشاف وتخطّي المحظور، أوّل فعل إنسانيّ، انطلاقاً من هذه الأسطورة، أو قصّة التتّكوين..
وعلماء الأنتروبولوجيا متّفقون على أنّ الإنسان صار إنساناً عندما تَعَقْلَنَ. وليس قبل ذلك. مأساتنا الحقيقيّة أنّنا عقلانيّون اليوم. ولكنّنا نعيـش في وسط وفي محيط جهلانيّ. حوّاء التي عرفت، كانت الرّمز في التخطّي وفي المعرفة. ودفعت الثّمن آمالاً وموتاً، وهي ورَّثَتْهما لذُرَِّريّتها، كما جاء في النصّ.
أما نحن، أيّها السّادة، وإذا بدأنا من واقعنا، فنطرح ما هو موقف المثقّف من العقل. فنحن ما زلنا هنا ـ د. مصطفى (دندشلي) ـ في الصّف الابتدائي من الثّقافة. لأنّ العقل في أوروبا كان قد تحرّر من القيود الميتافيزيقيّة. أمّا نحن، فما زلنا نبحث عن موقع العقل، من أمام العقل. أين يضع المثقّف العقل؟.. وبالتالي، السؤال الذي يليه: ما موقف المثقّف من النَّقل، أي من الدّين؟… بصراحة، فإنّ هذا الأمر غير محسوم عندنا.
من هنا أقول: إنّني قد ابتعدّت عن "سارتر"، لا كُرهاً، وإنّما لأنّه لا يعالج مشكلتي! بمعنى أنّ لنا مشكلة مختلفة. نحن حتى الآن لا نعرف هُويّتنا. حتى في أوساط مثقّفة، فهم يريدون أن يصنِّفوك على قاعدة أنك طائفيّ. فكأنّنا ما زلنا في هذا المجتمع لا نعرف هُويّتنا، ولا نعرف حدود عقلنا، حتى نستطيع أن نحرّر عقلنا بأدوات عقلنا، وإنّما نحتاج دائماً إلى تفسيرات أو اجتهادات أخرى. فأنا لا أتحدّث عن الإلحاد: فليس هذا هو الموضوع. ليست المسألة مسألة إلحاد، أو أنّ "نيتشه" قتل الله في أوروبا، ليست هذه هي المشكلة عندنا، وإنّما كان قد سبق ذلك على الأقل مرحلة تنوير. فقد حصلت في أوروبا عمليّة تنوير.
المثقّف عندنا، حتى الآن، ليس ل موقف من العقل، وليس له موقف أيضاً من النّقل. لذلك فإنّنا نجد مجموعة من المثقّفين، عندما طُرد الدكتور صادق جلال العظم من الجامعة الأميركية في بيروت وحوكم، لم يقف معه إلاّ قلّة غير جبانة من المثقّفين. فالمسألة ليست مسألة شخصيّة، بل لأنّها كانت قد حَسَمت مسالة الموقف من العقل والموقف من النّقل… تماماً كما هو فِلْم "المصير" اليوم، الذي يبحث مسألة أساسيّة في مجتمعنا، ذلك بأنّنا نعيش في المجتمع النقليّ والعقل.
من هنا ربّما تكون المعتزل من أهمّ إبداعات هذا الفكر الفلسفيّ في مجتمعنا، فهي من أهمّ إبداعات الفكر، مع أنّها توفيقيّة، لأنّها أجابت عن هذا التحدّي في حدود النِّقليّ وإطلاقيّة العقل.
كذلك ولهذا السّبب، لم يقف المثقّفون أيضاً إلى جانب عبد الله القصيمي، عندما طُرد من لبنان وأُسكِت في مصر حتى وفاته. إنّ هذا يستتبع موقفاً نقديّاً إبداعيّاً من لا محدوديّة العقل في المجال الاجتماعيّ. كما يستتبّع بالضرورة موقفاً من الممنوعات الدينيّة والأوامر والنّواهي. فنحن لسنا في مجتمع أوروبا العَلمانيّ. و"سارتر" جاء فيما بعد الثّورة العَلمانيّة. نحن نعيش في بيئة لها خصوصيّتها من الإيمان وقِيَمها الدينيّ. وبالتالي لا بدّ من الحوار مع هذه الخصوصيّ، وليس النِّقار بها…
والمثقّف السارتريّ ـ ولا بدّ من العودة إليه، وهو موضوع نَدوتنا اليوم ـ إنّما هو نتاج بناء فلسفيّ عميـق، كرّس "سارتر" حياته في صياغته، وهو الموجوديّة. لا نستطيع أن نفهم موقفه خارج الوجوديّة. والوجوديّـة فيها ما سمّى بـ "الدياليكتيك" والماركسيّة. ولكن ليس عندها خصوصيّات محدّدة، ذات بِنية خاصة بـ "سارتر" وحده.
المثقّف السارتريّ يقوم أولاً على مقولة الوعي. أولاً وقبل أي شيء، الوعي. ينتقد "سارتر" الميتافيزيقا ويرفض أن يتصوّر أنّ خلف الوعي روحاً تعطينا الوعي. فالوعي هو تنبّه لوجود، تنبّه لشيء ما، موجود في هذا العالم. يقول في "المتخيّل" (l’imaginaire): إنّ كلّ وعي هو وعي شيء ما، والوعي يولد، وهو موجّه إلى كائن، إلى موجود. أي أنّ الوعي لا يوجد إلاّ بقدر ما يرتبط بأشياء خارجيّة، وهو بحاجة إليها لكي يوجد. فلا وجود لوعي من دون وجود، ولا وجود للوجود من دون وعي. الوجود، الأشياء: الوعي هو الذي يخلق إذن معناها. فالوجود بلا وعي رُكام. لنتذكر الحرب اللبنانيّة، هذا الرّكام الشعبيّ! القتل، الضّرب، القصف، كلّ ذلك وغيره الذي طال كلّ لبنان، رُكام… أين كان الوعي؟!… إذن، الوجود والأشياء، يُخلق معناها في الوعي. والوجود بلا وعي رُكام. والمادة نقيض ضروريّ للوعي، ولا معنى لها، إنّ لم يعقلها العقل ويعطيها معناها.
ولكن ذلك يستتبّع مفهوماً آخر وهو الحريّة. إذا كان الوعي هو فعل إعطاء معنىً لشيء ما، فإذن هو حرّ. ولا يمكن أن نعطيَ معنىً، إذا كنّا مقيّدين، لما هو سَلَف. كلّ أيديولوجيا هي سَلَفيّة. كلّ ما هو ماضٍ، معناه في ماضيـه، سابق عليه. إنّما الوعـي هو خلق متجدّد فـي الذات، في الإنسان. والإنسان، بما أنّه كذلك، فهو فعل حرّ.
فهنا نصل إلى الالتزام، إلى صورة المثقّف الملتزم. لقد أعطت حوّاء معنىً لجدّتها، قرأتها جميلة في العقل، متعة للعقل، وليس للجسد، كما تُفسّر على أنّها عمليّة جنسيّة! بل متعة للعقل.
فالوعي، إنّما هو وحيدٌ وفارغٌ، إن لم تكن لدينا الجرأة على إحيائه ووضعه في مشروع. ولكنّ الحريّة صراعٌ، لأنّها لو كانت كما تكون الأشياء من دون صراع، لكانت وجوداً جامداً ومُسمَّراً. والمثقّف دون وعي ودون حريّة، هو لا شيء. ولكي يكون، عليه أن يصنع نفسه. لذلك يقول "سارتر" في كتابه "مع وقف التنفيذ": "أنا محكومٌ بأن أكون حرّاً".
النقطة الثانية، وهي نقطة المسؤوليّة. ثمّة وعي أولاً، ثم حريّة ثانياً، ومسؤوليّة ثالثاً. ولكن ما جدوى الحريّة، إن لم تكن للالتزام؟!… في كتابه "سنّ الرشد"، يحمّل "سارتر" الإنسان هِبَة "فظيعة" ومؤلمةً جداً، وهي الحريّة التي بواسطتها يستطيع أن يستردّ ما فَقَد. فعلى الإنسان أن يستعمل هذه الحريّة في أوسع الحدود، ذلك أنّ التفكير في العالم وتكوينه يعنيان أن نجعل أنفسنا مسؤولين.
إنّه لشيء مخيف أن نكون أحراراً!!.. عندما قرّرت حوّاء ـ وعندما قال لها الربّ: مَوْتاً تموتين ـ اختارت فعل الوعي وفعل الحريّة. إنّه لأمرٌ من الربّ يدعو إلى الهروب من الحريّة والمسؤوليّة، لأنّ ثمن استخدامهما، إلى جانب الوعي، سيكون باهظاً جداً.
هنا يجد المثقّف السارتريّ رفْضِيَّته. إنّه، في الأساس، واعٍ، حرّ، مسؤول. ومسؤوليته تتأتّى من التزامه. هذا هو البُعد الفلسفيّ للمثقّف السارتريّ. فهو يؤسِّسه بهذا المعنى ضدّ الكسل واللامسؤوليّة التي تُفضي إلى اعتبار الحياة قد صنعت، كما صُنعت هكذا… "فنحن ما خَصْنا. هذا هو لبنان الذي صنعوه لنا، ونحن مجبورون على أن نعيش فيه وأن نقتل…".
كذلك صُنعت لنا الحياة. عندما تقرأ "سارتر" بعمق، فإنّنا نجد أنّه يتكلّم عنّا، ليس فقط أنّه يحكي عن أوروبا، رُغم أنّه نتاج أوروبيّ. من هنا إنسانيته… علينا أن نستقيل من همومها (الحياة). ونحن نقول بالمثل الشعبيّ: "زيح عن ضهري".
"سارتر" ضدّ الجثث البشريّة السائرة على قدميها، على ما يقول "مالرو". "سارتر" ضدّ الذين تحوّلوا إلى حيوانات جامدة، يعترف بها الآخرون، ويحترمها الناس، كقِيَم مطمئنّة لا تُناقش، مَثَلُها كمَثَل السّلطة، أيّ سلطة، "سارتر" ضدّ مَن يُؤْثِرون الكسل، لأنّهم اعتبروا أنّهم صنعوا أنفسهم بشكل نهائيّ: "خِلِصْنا، ألله خلقنا وكَسَر القالب وظَبّطنا". أليْست هذه هي الأحزاب أيضاً.. "سارتر" ضدّ المثقّف الذي يُقنع نفسَه أنّه مقتنع… هذا إنسان لا يؤمن بأنّ التاريخ هو المستقبل، وليس الماضي. إنّ هذا المثقّف إنّما هو إنسان جبان…
هنا أوجز إذن! المثقّف هو مشروعُ وعيٍ، متجدّد، وحريّة، لا خيار له إلاّ بقبولها، وممارسة منفتحة على الالتزام بالإنسان.
نقطة رابعة: يمكن أن تكون هذه الفكرة نوعاً ما طوباويّة، ولكن لها علاقة بحياتنا. في البداية لم أكن لأفهمها. ولكن عندما قرأتها مراراً، وجدّتها فكرةً لا تهمّ فقط المثقّفين ـ أنا مع كلّ ما قيل عن المثقّفين ـ ولكن لا يجوز أن نجلد المثقّفين عشوائياً. يجب أن لا نجلدهم! ذلك أنّ المثقّف هو أيضاً إنسان. "لا تلمني إن ضعفت". لهذا أنا قد استقلت من الثقّافة، حتى لا تلقوا اللّوم عليّ… لأن ما عندي، أنا، من الجبن لا يوصف. (حتى تتحرّر!!..) لا، هناك كذلك الحقّ على الناس… هذا ما يريد أن يقوله هنا "سارتر".
إنّ الالتزام لدى "سارتر"، ليس من أجل أن يعطيَ الإنسانَ هدفاً لذاته أو لنفسه. هذا منتهى الأنانيّة والانتهازيّة. بمعنى أنّني، أنا، وجدت نفسي، وهذا هو هدفي، وانتهى الأمر، "خلاص". إنّه لأمرٌ لا أخلاقيّ، وضدّ الضمير، كما يقول "سارتر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*) ـ النصّ الحرفيّ للكلمة، كما ألقيت، مع المحافظة على صياغتها اللغويّة وأسلوبها الأقرب إلى اللغة الفُصحى المحكيّة مع بعض التعديلات والإضافات والتنقيحات الطفيفة…