د. دندشلي - مرور ثلاث وعشرين سنة على استشهاد معروف سعد
ندوات /
فكرية /
1998-02-28
بمناسبة مرور ثلاث وعشرين سنة على استشهاد
ابن صيدا الوطنيّ المناضل الكبير معروف سعد
ندوة سياسيّة ـ فكريّة تحت عنوان :
الملامح البارزة في شخصيّة معروف سعد
الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة ـ الشعبيّة
مـداخـلـة
الدكتور مصطفى دندشلي
... في الحقيقة ، أجد نفسي بشيء من الحرج في أن أتحدث ( ) ، بعدما سمعت من الصديقين العزيزين ، المداخلتين القيّمتين عن معروف سعد ، وبعد هذا العرض التفصيليّ الذي ألقى أضواءً كاشفة وواضحة حول شخصيّة معروف سعد وملامحه البارزة في النضال الوطنيّ والعمل السياسيّ والاجتماعيّ والشعبيّ .
فمن أين أبدأ ، إذن ، أنا ، في الحديث عن هذه الشخصيّة الوطنيّة النضاليّة ، التي كانت ولا تزال تهمّني شخصياً ، منذ زمن بعيد ، كما تهمّ كلّ الوطنيّين المناضلين الديمقراطيّين الأحرار في مجتمعنا ؟!... وكنت دائماً أطرح على نفسي ، كما أطرح الآن ، هذا السؤال : لماذا أهتمّ هذا الاهتمام الكلّيّ والمتواصل والدؤوب والمتابع ، بشخصيّة معروف سعد الوطنيّة والنضاليّة والسياسيّة ، وذلك عن طريق جمع الوثائق والمعلومات وحتى التفصيليّة ، وإجراء المقابلات وأتابعها ، مع أشخاص عايشوه عن قرب واحتكوا به في مختلف المناسبات والمراحل النضاليّة والوطنيّة والسياسيّة التي مرّ بها ؟!... ولقد توافر لي ، بالفعل ، أن أنشر بعض الكتابات والوثائق التاريخيّة والمعلومات أو كنت أشجع ( طلابي مثلاً : نزيه حسنى ) على الكتابة عن هذه الشخصيّة التي كنت قد تناولتها لأهميتها من الجوانب التاريخيّة التفصيليّة ... وهنا ، فإنّ العرض بمحطاته التاريخيّة الذي قدَّماه لنا واستمعنا إليه من الدكتور باسل عطا الله والأستاذ توفيق عسيران، هو عرض جيّد وشامل ووافٍ لهذه الشخصيّة الوطنيّة الصيداويّة في ظروفها الاجتماعيّة والنضاليّة الخاصة .
ولكن ما أريد ، وهو هدفي الآن ، من بحث هذه الشخصيّة ودراستها ، هو أن أقوم بشيء من " التنظير " ، إذا أمكن القول ، وأن أقدّم صورة مجملة وشاملة ، ولكنها مكثة ومحدّدة في آن ، لا لشخص معروف سعد وحسب، وإنّما أيضاً لإيجاد هذه العلاقة الوثيقة ، التفاعليّة ، الجدليّة ما بين هذه الشخصيّة النضاليّة ـ السياسيّة والتاريخ الوطنيّ لصيدا . ذلك أنّ شخصيّة معروف سعد ، من كلّ الجزئيات النضاليّة والتفصيلات السياسيّة ، التي يمكن أن نتابعها في سيرة حياته التاريخيّة ، إنّما هي بمجملها تعبير عـن واقع معيّن . بمعنى أنّ معروف سعد كشخصيّة نضاليّة ـ سياسيّة ، لا يمكن أن يُفهم وأن يُدرس ، تاريخياً ، سياسياً ، فكرياً، بمعزل عن واقع اجتماعيّ ـ ثقافيّ عاش فيه وعبّر عنه وكان صدىً لـه . وهذا الواقع الاجتماعيّ ـ الثقافيّ إنّما هو مجتمع صيدا والجنوب اللبنانيّ بوجه خاص ، والمجتمع العربيّ بصورة عامة . فمعروف سعد هو ابن البيئة الاجتماعيّة ـ الثقافيّة ـ السياسيّة التي نشأ فيها ، وهو بالتالي تعبير عنها وعن تاريخيّة هذا الشعب الوطنيّ المناضل المكافح بكلّ ما يحمل من طموحات وآمال وذاكرة جماعيّة موروثة ودفينة في الوقت ذاته .
منذ ثلاثة أو أربعة أيام وأنا أحاول أن أكتب ما لديّ من معلومات عن هذه الشخصيّة التي قلت وأكرر القول إنني أهتمّ بها على صعيد البحث الاجتماعيّ والتاريخيّ والسياسيّ منذ زمن بعيد ، فوجدت نفسي منساقاً تلقائياً وذهبت بعيداً ، وبعيداً جداً ، حتى وصل عدد صفحات ملاحظاتي التفصيليّة عنها ( شخصيّة معروف سعد ) ما يقرب من أربعين أو خمسين صفحة ... لذلك أجد نفسي مضطراً أن أكثف ملاحظاتي النظريّة وأن أحدّدها بالنقاط التالية :
معروف سعد والقضية الفلسطينية :
كلنا يعلم تفصيلات هذه العلاقة وحيثياتها التاريخيّة وجزئياتها الوطنيّة في مختلف حياة معروف سعد النضاليّة . فأنا لا أريد هنا أن أعيد وأكرر الأشياء المعروفة والمتداولة . ولكن ، وفي الوقت نفسه ، اسمحوا لي أن أفتح هلالين لأشير إلى أنّ الأجيال الشابة ، وبكلّ أسف ، الأجيال الطالعة ، الصيداويّة أو الجنوبيّة أو غيرها ، لا تلمس ، لا تعرف الشيء الكثير ، أو لا تعرف شيئاً البتّة ، عن تاريخ معروف سعد النضاليّ والوطنيّ والسياسيّ ... وإذا استمرت الحالة على هذا المنوال ، فلسوف يأتي اليوم الذي يصبح فيه نضال معروف سعد الوطنيّ والسياسيّ في ذاكرة التاريخ فقط ، ويقبع على رفوف المكتبات أو حتى أنه يصبح نسياً منسياً بالنسبة إلى الرأي العام الواسع العريض ...
أما بالنسبة لي ، وفي ما يتعلق بعلاقة معروف سعد بالقضية الفلسطينيّة ـ دون أن أدخل في التفصيلات ـ فقد انتهيت إلى ناحية نظريّة ، برأيي مهمّة جداً ، وهي التي أعبّر عنها بـ" ترجمة القول بالفعل " وملازمته . هناك مفارقة عندنا بين ما نقوله وما نقوم به ، بين الشعارات التي نطلقها والممارسة العمليّة على الأرض ، في مجتمعاتنا وفي مجتمعات العالم الثالث عموماً ، هناك فارق ، فجوة ، هوّة أحياناً سحيقة بين النظريّة والتطبيق ، بين الفكر والسلوك الفعليّ ...
وما يهمّنا هنا ، في هذه النقطة بالذات ، هو أن أشير فقط إلى أنّ معروف سعد ، من ناحية علاقته بالقضية العربيّة ومحورها المركزيّ القضيّة الفلسطينيّة ، ومنذ أن استعر أوارها في ما بين الحربين ، قد قَرَنَ هذا الشعور الصيداويّ الوطنيّ العام ومدى تأثير القضيّة الفلسطينيّة في أحاسيسنا القوميّة العربيّة ، بالترجمة الفعليّة ، بالممارسة العمليّة ... وما يُلفت النظر في هذا المجال ومنذ البدايات الأولى ، هو أنّ معروف سعد مع ثلّة قليلة العدد من المقاتلين الصيداويّين ، قد ذهب للقتال ولمواجهة العدوّ على أرض فلسطين . فعبّر عن هذه الشعارات والتظاهرات في المدينة أو في لبنان ، التظاهرات العارمة والحركات المعارضة والمعادية والرافضة للاستيطان الصهيونيّ العدوانيّ ، عبّر معروف عن ذلك بالممارسة العمليّة ، فذهب للقتال هناك وفي ساحة المعركة الحقيقيّة . وليست سهلاً على الإطلاق ـ كما قلت ـ هذه النقلةُ ، هذه الخطوةُ بين ما يُطلق كشعار قولاً ، ومواجهة التحدّي فعلاً . قد يتحدّث الواحد منا كثيراً ، لفظاً وحماسة ، عن ضرورة مواجهة العدوّ وقتاله ، ولكن عندما يمارس الشخص ذاتياً وينتقل عَبْر لحظة تاريخيّة ، ممّا هو نظريّ إلى ما هو عمليّ ، ويضع بذلك نفسَه في مواجهة الخطورة أو حتى الموت ، فهذا يحتاج إلى قناعة وصدق مع الذات وإلى إرادة ، وإلى شجاعة، وإلى قوّة وحزم وتصميم ...
والواقع أنّنا عندما نتحدث عن القضيّة الفلسطينيّة وموقعها في تاريخ صيدا الوطنيّ والنضاليّ ، يأتي هنا معروف سعد وشخصيته النضاليّة لتكون تجسيداً عملياً وتعبيراً في المنحى والسلوك ، وفي المعنى والمضمون ، عن ضمير الشعب الصيداويّ ، عن وجدانه الوطنيّ ومكنوناته في جذورها الأخلاقيّة وأبعادها التحرّريّة .
كذلك وفي هـذا النطاق أيضاً ، يمكننا أن نـفهم وأن نفسر اقتحامه للقشلة عام 1936 ورصاص جنود الانتداب الفرنسيّ في صيدا ، تنهمر من كلّ جانب وتنطلق . كلّنا يذكر هذا الحدث التاريخيّ الذي حيكت حوله رواياتٌ كثيرةٌ وأحاديثُ وصلت إلى حدّ الأساطير والتخيّلات الجماهيريّة التي كان يعبّر الشعب الصيداويّ من خلالها عن طموحاته الذاتيّة وعمّا يريد هو ذاته أن يكون عليه أو أن يقوم به . إنّ اقتحام معروف سعد للقشلة في تلك الظروف التي وقع فيها ، إنّما يمكن كذلك أن يُنظر إليه من هذا المنحى : أن تواجه الموت وتقتحم ، ليس الأمر سهلاً على الإطلاق ، ولا يمكن أن يقوم به إلاّ ذوو النفوس الكبيرة والإرادات الصلبة . أن يكون الواحد صادقاً مع نفسه وأن يكون في سلوكه الفعليّ هو هو ذاته في ما يفكر به وما يقوله ، فليس ذلك شيئاً شائعاً أو عادياً في حياتنا الفرديّة أو الجماعيّة . فكان في شخصيّة معروف سعد ، دون أن أدخل في التفصيل ، هذا الانسجام الكليّ ، هذا التوافق التكامليّ بين ما هو منطوق وما هو مفعول .
معروف سعد والسياسة :
النقطة الثانية التي أريد أن أتوقف عندها قليلاً هي علاقة معروف سعد بالسياسة . هنا أيضاً ما هو ملاحظ تمام الملاحظة أنّ عمل معروف سعد النضاليّ والكفاحيّ في فلسطين أو في لبنان ، أو سلوكه العمليّ كثائر وطنيّ والتضحية بالذات من أجل المبادئ والطموحات ، لم يكن ذلك كلّه من أجل احتلال مركز سياسيّ معيّن أو أيّ غاية أخرى في نفسه . أبداً على الإطلاق .
يبدو قبل اغتيال رياض الصلح ووفاته المأساويّ ، لم يكن ليخطر ببال معروف سعد أنّ هذا الانخراط في الحركات النضاليّة والثوريّة والتحركات الوطنيّة ، الغاية من ورائها هو الوصول في نهاية المطاف إلى موقع سياسيّ معيّن . لقد ابتدأ معروف سعد في إعارة الاهتمام بوضوح أكثر فأكثر إلى الشأن السياسيّ وإلى العمل السياسيّ المعتاد في نظامنا البرلمانيّ : انتخابات بلديّة أو نيابيّة، بعد وفـاة المغفور لـه رياض الصلح الذي كان معروف ينتسب إليه وينتمي ، سياسياً ووطنياً ، ومن ركائزه الأساسيّة على الصعيد الصيداويّ المحليّ .
وهـنا يبرز جانب مهـمّ في شخصيّة معروف سعد وهـو جانب الوفاء ، المصداقيّة لمن صادقـه ، الإخلاص لمن أخلص لـه . وتلك عِمْلة إجمالاً نادرة ، هذا إذا لم تكن أبداً موجودة عند السياسيّين . معروف سعد يتصف ، وبنظر جميع الذين عرفوه عن قرب وعلى مختلف المستويات ، بصفة الوفاء والصدق في القول والسلوك ، والأخلاقية والشجاعة في قول الحقّ والالتزام به ، والابتعاد عن الرياء والنميمة والكذب والخداع ، وعمّا هو مسيء من وجهة نظره للمصلحة العامة . من هنا نلاحظ ، على صعيد السياسة ، إذا اقتصر حديثنا في نطاق السياسة، وفاءه لرياض الصلح ومن بعده انتخابياً لكاظم الصلح ، وتقيّ الدين الصلح ، وكذلك لفؤاد شهاب وعبد الناصر ...
إذن ، بعد وفاة رياض الصلح والمحاولات الانتخابيّة النيابيّة الفاشلة مع كاظم وتقيّ الدين الصلح ، وبعد تجاوز المرحلة السابقة ، وجد معروف سعد أنّ من الطبيعيّ الآن أن ينخرط في العمل السياسيّ المحليّ وأن يكون هو اللاعب الأول في الساحة السياسيّة الصيداويّة والوجه البارز وفي مقدّمة التيار الوطنيّ ـ الاجتماعيّ ـ السياسيّ ـ التعبيريّ فيها ...
معروف سعد والجماهير الشعبية :
إلى هنا ، يمكننا الآن أن ننتقل ، حتى نتابع هذا التسلسل التحليليّ ، إلى مستوى آخر وهو علاقة معروف سعد بالجماهير الشعبيّة . وهو جانب بالغ الأهميّة في تكوين شخصيته الوطنيّة والسياسيّة وفي إبـراز ملامحها ونكهـتها الخاصة ، ويعبّر بالتالي عن توجهات شخصيّة معيّـنة والتصاقها بالفئات الشعبيّة ، بالناس ، وبالناس الطيّبين ، الشرفاء ، العفويّين الذين يجد معروف سعد صورته أو حقيقته فيهم ومن خلالهم ويلتقي بنفسه ، كشخصيّة وكإنسان ، ضمن هذه الفئات الشعبيّة . وهو لا يقوم بذلك أبداً ولا يفتعله بشيء ولو قليل من التكلف أو فيه اصطناع أو تملق ورياء ... فكانت جميع مواقفه بالنظر إلى الآخرين ولا سيما الفئات الشعبيّة إنّما هي مواقف تلقائيّة ، عفويّة ، ويعبّر من خلالها عن انتمائه إليها وتجاوبه معها وملامسة ذاته بها ...
وفي هذا السياق أيضاً ، فإنّنا نجد جانباً مهماً آخر ومميّزاً في شخصيّة معروف سعد ، التقى عليه ووافق جميع الذين أجريت حوله أحاديث ومقابلات عديدة ، مع الذين عرفوه عن قرب في مختلف المراحل من حياته . وهذا الجانب المميّز كان قد رافق شخصيّة معروف ولازمه منذ شبابه اليافع حتى سقط شهيداً ، وهو الذي يمكنني أن أعبّر عنه بكون معروف المحور في الجماعة ، في الوسط الاجتماعيّ الذي يوجد فيه . وهناك في هذا المجال شواهد عديدة حول هذا الموضوع ، حتى مثلاً في " الشلل " الرفاقيّة من رياضيّة أو شبابيّة أو مدرسيّة أو وطنيّة أو سياسيّة ، إلخ ... كان معروف سعد في جميع ذلك وفي مختلف المراحل من حياته ، هو المحور ، بمعنى آخر هو " القائد." وإذا أردنا أكثر توضيحاً فإننا نقول بأنّ صفات القيادة قد كانت متوافرة في شخصيته . وهذه الصفات القياديّة من شرطها أنها تجمع ولا تفرق ، تقرّب ولا تُبعد : وسواء كان ذلك في نشاط رياضيّ أو عمل اجتماعيّ أو تحرك سياسيّ .
ومن ثمّ ، هناك جانب آخر بالغ الأهميّة هو أيضاً في شخصيّة معروف سعد ، ويحتاج كذلك إلى تحليل وتوقف قليل ، وهو أنّ معروف سعد ابتدأ حياته ، كما رأينا ، مناضلاً ثائراً ، وبعدها انتقل إلى العمل السياسيّ الوطنيّ . ولكننا نجد أنّ اهتمامه أو ميله الطبيعيّ ، وهذا ما كان نادراً في تلك الفترة في توجهات أيّ شخصيّة سياسيّة لبنانيّة وبخاصة صيداوية ، إنّما هو اقتران العمل السياسيّ بالمنحى الاجتماعيّ . لا افتراق أو عزلة أو تعارض بين ما هو سياسيّ وما هو اجتماعيّ، بين أن تكون رجلاً سياسياً وطنياً وأن تكون مناضلاً اجتماعياً . فلذلك ، ومنذ البداية ، نجد اتجاهاً في شخصيّة معروف سعد النضاليّة والسياسيّة ، ونلاحظ بوضوح تام ، اتجاهاً تلقائياً ، عفوياً ، نحو ما يمكن أن نسميَه : العدالة الاجتماعيّة ، هذا إذا لم نرد أن نطلق عليه تسمية : الاشتراكيّة .
طبعاً، نحن نعلم، ومعروف سعد لا يدّعي أبداً أنه منظّر أو مفكّر سياسيّ على الإطلاق ... معروف سعد إنسان عمليّ . وعلى صعيد النضال الوطنيّ والسياسيّ ، ذو حسّ داخليّ إنسانيّ ـ اجتماعيّ ـ تلقائيّ أو طبيعيّ في نطاق الممارسة العمليّة أو العلاقات الخاصة والعامة ... وهنا أيضاً لا دخل لعوامل الاصطناع أو لحركات التكلف من أيّ صنف كان . لذا فاقتران العامل السياسيّ بالعامل الاجتماعيّ إنّما هو في شخصيته اقتران فطريّ ، إذا صحّ التعبير ، أو طبيعيّ ـ ذاتيّ .
وهنا ، فقد عبّرت عن هذه الجوانب المتنوّعة والمتكاملة في شخصيّة معروف سعد بترابط الحلقات الثلاث ... ذلك أنّه لا يمكن أن تكون ، في مجتمعاتنا المحليّة ، وطنياً حقيقياً ومن " قماشة " معروف سعد ونسيجه ، دون أن تكون مناضلاً اجتماعياً أيضاً وفي الآن الواحد معاً ، وأن تكون كذلك مناضلاً وطنياً سياسياً واجتماعياً في المجتمع الأعمّ أي لبنانياً أو عربياً . ولا يمكن أن تكون مناضلاً وطنياً في المجتمع الصيداويّ أو الجنوبيّ أو اللبنانيّ ، دون أن تُقرن هذا العمل النضاليّ الوطنيّ الاجتماعيّ بمثيله وبعمل سياسيّ مكمل له ومتمّم ، أو بحلقة أوسع منه على المستوى العربيّ أو حتى العالميّ ...
وفي هذا النطاق أيضاً ، يمكننا أن نضيف جانباً آخر وهو أنّنا نجد منذ البدايات ، وفي أواخر الأربعينات ، أنّ عمل معروف سعد وتحركه كان يتجه بصورة أو بأخرى ، نحو " العمل السريّ " ، من أجل تصفية " العملاء " المرتبطين بالقوى الاستعماريّة أو السفارات الأجنبيّة في بيروت. هناك بعض الحوادث أو الإشارات حول هذا الجانب الذي لا يزال حتى الآن في طيّ الكتمان أو الغموض، والحديث عنه يبقى خافتاً وشحّيحاً. وهنا المقارنة يمكن أن تقوم بين عبد الناصر، قبل قيامه بثورة يوليو وتوجهه نحو العمل على اغتيال الشخصيات المعادية والمناوئة للاستقلال ، وبين معروف سعد في محاولاته بالتنسيق مع بعض المنظمات السريّة في دمشق بهدف اغتيال شخصيات مرتبطة بالقوى الاستعماريّة .
هناك ، إذن ، حلقات مترابطة بعضها مع البعض الآخر : عمل نضاليّ كفاحيّ وبالتالي عمل وطنيّ سياسيّ وتتويجه بتوجه اجتماعيّ إنسانيّ أمميّ ... كما كان يدرك معروف سعد ، من جانب آخر ، بحسّه التنظيميّ أنّ العمل الفرديّ غير مجدٍ أو غير فاعل أو غير منتج على المدى البعيد ... فلذلك كان يؤمن إيماناً واضحاً لكلّ من اقترب منه سياسياً ، بالعمل المنظّم والتحرك التنظيميّ ، بما كان متوافر لديه حينذاك . بل أكثر من ذلك كان يؤمن بالعمل الحزبيّ ... فكان يجهد ويسعى دائماً ، قبل أيّ تحرك سياسيّ ، مهما كان شأنه ، على الصعيد المحليّ الصيداويّ أو اللبنانيّ، إلى جمع القوى السياسية والشخصيات الاجتماعيّة المحيطة به أو أحياناً حتى البعيدة عنه ، والتشاور معها والاستماع إلى رأيها في هذه القضية أو تلك ، وكان بالتالي يحبّذ ويشجع على قيام الجبهات ذات التسميات المتنوّعة : الوطنيّة، أو الشعبيّة، والمكوّنة من القوى الحزبيّة في المدينة أو المستقلة، إلخ... هذا الجانب كان بارزاً بوضوح في نشاطات وتحركات معروف سعد السياسيّة أو الاجتماعيّة أو في أيّ شأن من شؤون الحياة المحليّة أو العامة .
معروف سعد ورئاسة البلدية
طبعاً ، يبقى هناك أشياء كثيرة في هذا المجال ، لها علاقة بإلقاء ضوء على الملامح البارزة في شخصيّة معروف سعد ، يمكننا أن نتحدّث عنها وأن نشير إليها ، ولكن ضيق الوقت لا يسمح لنا بذلك ، فنأتي إذن إلى التطرق والوقوف سريعاً في الفترة الزمنيّة التي مارس فيها رئاسة البلدية في صيدا ، من العام 1963 إلى العام 1972 وهي مدة تسع سنوات حافلة بالأحداث المتعاقبة السياسيّة أو الاجتماعيّة . هنا في الواقع مرحلة جديدة كلّ الجدّة بالنسبة لنشاطات معروف سعد السياسيّة ، تبرز فيها أكثر ما تبرز النواحي الاجتماعيّة والثقافيّة في توجّهاته .
أولاً ، في تلك الفترة ، انتقال مبنى بلدية صيدا من بناية الصعيدي إلى القصر البلدي في ساحة النجمة أو ما سمَّيَ فيما بعد " ساحة جمال عبد الناصر ." وتحوّل البلدية طوال تلك المرحلة من مؤسّسة تقليديّة ، العلاقات فيها علاقات عائليّة ، غير انضباطيّة ، استنسابيّة ، إلى مؤسّسة نوعاً ما حديثة ، أو بالأحرى والأصح ، إلى محاولة إنشاء مؤسّسة حديثة لبلدية صيدا تعتمد نسبياً المواصفات والشروط الحديثة الضروريّة ... فأُحدثت ، على سبيل المثال لا الحصر ، " إطفائية بلدية صيدا " وذلك لأول مرة في تاريخها ، وتنظيم الحراسة واللجان الإداريّة الفرعيّة المتخصّصة المتنوّعة على أسس جديدة ... وكذلك وبوجه خاص إقامة مكتبة أو نواة مكتبة بلدية صيدا العامة . وأهميّة ذلك هو أنّه حتى الآن لا وجود لمكتبة عامة للمدينة . فكانت أول محاولة لبلدية صيدا برئاسة معروف سعد هو تأسيس نواة لمكتبة عامة في البلد ، وهذا ما كانت ولا تزال حتى الآن تفتقده صيدا ، وهي بأشدّ الحاجة إليه . فإلى أيّ مدى ، هنا ، يحقّ لنا ـ ويحقّ لنا برأيي ـ أن نعير أهميّة لتوجه معروف سعد وقناعته الشخصيّة ، بدور الثقافة والتربية والتعليم والرياضة ، إلخ ... وإنّنا نلاحظ ، طوال هذه المرحلة بالذات ، كيف كان الاهتمام منصباً ويحتل جانباً كبيراً من اهتمامات ونشاطات معروف سعد، نحو دعم التعليم الرسميّ وفتح المدارس الرسميّة، الثانويّة والمتوسطة على حدّ سواء في مدينة صيدا. مثلاً في عهد معروف سعد ، أُنشئت الثانويتان الرسميتان للصبيان والثانويتان الرسميتان للبنات .
فهذا الاهتمام بنشر التعليم الرسميّ ودعمه ، يضاف إليه أيضاً اهتمام آخر بالرياضة على أنواعها ومواسم الربيع السياحيّة ، فكان ذلك كلّه في أوج الازدهار ، لذلك فقد سميت تلك المرحلة بعصر بلدية صيدا الذهبيّ آنذاك ... فقامت في مدينة صيدا نشاطات ومهرجانات رياضيّة وثقافيّة وسياحيّة بالتعاون بين بلدية صيدا والمحافظة وعلى رأسها المحافظ النشيط والرياضيّ هو أيضاً المغفور لـه غالب الترك ، فكانت البرامج والمهرجانات السياحيّة المكثفة تُقام تحت اسم مهرجانات الربيع السياحيّة: من "المسرح العائم" الذي كان يُقام في ميناء صيدا القديم، والمباريات الرياضيّة على أنواعها بين الأندية والجمعيات والمدارس ، واستعراضات الرقص الشعبيّ وحضور أشهر الفنانين اللبنانيين : صباح ، نصري شمس الدين وغيرهما ، ومباريات السباق في عرض البحر بين القلعة والزيرة ، للمراكب الشراعيّة ، التي تنظّمها نقابة الصيّادين في صيدا ، إلى آخر ماهنالك من النشاطات التي أعطت بها بلدية صيدا والمحافظة ، حيويّة وحياة ثقافيّة جديدة ، لم تكن تعرفها المدينة من قبل ... وأنا أذكر والصيداويون يذكرون أيضاً أنّ صيدا خلال شهر الربيع هذا ( نيسان ، أيار ) وروائح زهر الليمون تعمّها من الجهات الأربع ، كانت في حركة وحيوية ونشاط غاية في الأهميّة ، أعادت إليها على قِدَمِها، شبابَها الرائع وجمالها الفتّان.. بعد ذلك لم يحصل أيّ شيء من هذا القبيل... فدخل لبنان ومعه مدينة صيدا في خضمّ الأحداث السياسيّة والعسكريّة واستمرت الأوضاع على ما هي عليه حتى يومنا هذا، ولم نخرج منها كلياً حتى الآن ، على الرغم من حركة الإعمار والإنشاءات والأوتوسترادات التي ملأت غبارها الفضاءات جميعها ...
هناك أشياء كثيرة ، وكثيرة جداً يمكن قولها والتوقف أمامها في هذا المجال ، ولكن لا المناسبة ولا الوقت يسمح لي بذلك وإنّما سأعمد إلى نشرها كاملة في ظرف لاحق ... وإذا أردت أن أختم هذه الملاحظات السريعة التي حاولت أن أرسم من خلالها بعض الملامح البارزة المقتضبة في شخصيّة معروف سعد ، فإنني أقول بكلّ صدق وصراحة إنّنا ، نحن الصيداويين عموماً ، وأصدقائه وتلاميذه الوطنيّين الديمقراطيّين الحقيقيّين بوجه خاص ، لم نوفِّ معروف سعد حقّه من تسليط الأضواء على هـذه الشخصيّة ، ولم نعـطِ لدوره الوطنيّ والنضاليّ ، السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ والشعبيّ ما يستحقه من الاهتمام في التاريخ الوطنيّ العام لمدينة صيدا ... بل وأكثر من ذلك ، فإنني أشير هـنا وبالنسبة لي شخصياً ، إلى أنّ اهتمامي الشخصي بمعروف سعد ، ينطلق ـ وأقـول ذلك بمنتهى الصراحة والموضوعيّة الواقعيّة ـ على الأقل بالنسبة إلى الوسط الاجتماعيّ والسياسيّ الذي أنا فيه وأعرفه، ينطلق هذا الاهتمام الشخصيّ على الصعيد الوطنيّ من اعتباره مقياساً ، في الحقيقة. معروف سعد، نضالياً وطنياً سياسياً، هو بنظري "معيار"، معيار نقيس به الشخصيات السياسيّة، جميع الشخصيات السياسيّة كافة ، قبل معروف سعد ، وبعد معروف سعد ، من حيث التوجّهات والعلاقات والأخلاقيات والسلوكيّات السياسيّة والوطنيّة عامة ... ولقد تحاورت وتناقشت في هذا الموضوع مع الكثيرين الذين عرفوا معروف سعد عن كثب وعايشوه عن قرب في فترات زمنيّة طويلة ، فجميعهم وافقوا أو أقرّوا أو اعترفوا بصحة ذلك . فقد كانت لـه " نكهة " وطنية وسياسية ونضالية مميّزة ، فَحْواها هذه السلوكية الصادقة مع الذات ومع الآخرين. ثمة صدق في هذه الشخصية ، ثمة إخلاص، ثمة وفاء ... فهذه الصفات والخصائص المميّزة في العمل السياسيّ ليست مهمة أو ضروريّة فقط ، وإنما هي نادرة أو تكاد أن تكون مفقودة في حياتنا السياسيّة .
يضاف إلى ذلك أنّه عندما كان معروف سعد نائباً ، وهو يتمتّع بعلاقات سياسيّة واسعة : لبنانياً وعربياً ودولياً ، لم يكن ليطمح لأن يكون وزيراً على الإطلاق . وأذكر هنا عندما كنّا ندخل معه في شيء من المزاح وفي شيء من الجدّية أيضاً ونقول له : " الآن الوزارة ، أستاذ معروف ، ومن بعدها، الرقم الثالث..." ، كان يأخذ ذلك على محمل اللامبالاة أو الاستخفاف أو حتى السخريّة... يبدو ، صدقاً ، لم تكن لتعني لـه شيئاً المناصب الرسميّة ، لا الوزاريّة ولا غيرها أو مظاهر الأبهة والفخامة ولم يطمح إلى أيّ شيء من هذا القبيل ، وذلك في الوقت الذي كنّا نرى فيه وزراء أو حتى رؤساء حكومة ، أقلّ من معروف سعد أهلية أو إمكانية أو ثقافة أو علماً ، همّهم الأول والأخير تبوّؤ هذه المناصب وبأيّ طريقة كانت . فلم تبد أيّ بادرة لتظهر طموح معروف سعد ـ وهو طموح مشروع في النهاية ـ للوصول إلى هذه المناصب . لماذا ؟!.. إنّ أول ما يتبادر إلى الذهن هو أنّ معروف في شخصيته وفي تكوينه الخلقيّ ، كان يميل إلى التواضع ، وهذا ما هو ملفت للنظر في علاقاته مع الآخرين وفي صفاته المميّزة . وقد يكون السبب ، بالإضافة إلى ذلك ، وحتى تصل إلى هذه المراكز السياسيّة الرسميّة ، وزاريّة أو غير وزاريّة ، هو أنّه يحتاج الواحد في الغالب الأعمّ إلى أن يتنازل ، في قليل أم كثير ، عن مبادئه السياسيّة وقِيَمه الوطنيّة أو الفكريّة أو حتى أحياناً عن عزّة نفسه أو بعضٍ من أخلاقيته . وبالنسبة إلى معروف سعد ، فلربما أيضاً يجد نفسه " مكبلاً " بمعنى من المعاني، فاقداً لحريته الشخصيّة أو لعفويته وتلقائيته الطبيعية ، ذلك أنّ هذه المراكز الرسمية لها ثمن، وقد يكون هذا الثمن ، في أحيان كثيرة في مجتمعاتنا ، باهظاً يجب أن يدفعه السياسيّ إما على حساب قِيَمه ومبادئه وأخلاقيته وإما من حريته الشخصيّة وصدقه مع نفسه . ولربما ، أخيراً وليس آخراً ، يجد معروف سعد ذاته، بتواضعه الفطريّ ، وحتى يكون هو هو على حقيقته ، بين الأوساط الشعبيّة. هذا تفسير ، وقد يكون ثمة تفسيرات أخرى ...
وهنا اسمحوا لي أن أذكر أمامكم ما قاله لي الرئيس حسين الحسيني ، عندما التقيته منذ يومين وقدّمت لـه كتابي عن أحداث صيدا 1975 : إنه التقى معروف سعد وتعرّف عليه في أواسط الستينات في أحد المؤتمرات لرؤساء البلديات العرب ، فأحبّه كثيراً ، بعدما كان يسمع عنه من والده الشيء الكثير ، وأعجب به إعجاباً كبيراً وأنّ ما لفت نظره في هذه الشخصيّة المحببة التي لا يمكن إلاّ وأن تحبها ، هو عفويتها وصدقها وخصوصاً تواضعها الجمّ ، وعدم تكلفّها ... مما جعله أن يتحدث باسمه . ويضيف الرئيس الحسيني إنّ معروف سعد في نقاشه وطرحه للأمور ومعالجتها كان عملياً ، بعيداً عن " التنظير " ـ كما قال ـ أو لم يكن غيبياً مجرداً ...
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإنّ الحديث عن الملامح البارزة في شخصيّة معروف سعد ، وما هو معروف عنه ، أنّ طوال رئاسته لبلدية صيدا ، كما قال أحد أعضاء المجلس البلديّ آنذاك وأكده لي ، لم يقبض قرشاً واحداً من راتبه الشهريّ الذي كان في حينه 500 ل ل ، ويضعه في جيبه الخاص . فكان يوزّعه شهرياً عن طريق محاسب البلدية ، على أبناء شعب صيدا المحتاجين من نساء وأرامل وشيوخ ومعوزين .
وهناك أخيراً أشياء وأشياء كثيرة لا يمكننا طبعاً في هذه العجالة أن نتحدث عنها ونتوقف الآن عندها . ولكن ما أريد أن أقوله حتى أُنهي حديثي بكلمتين هو أنّ " ظاهرة " معروف سعد ، بملامحها الشخصيّة المميّزة وخصائصها الذاتية الفذّة ، هي ظاهرة فريدة في تاريخنا السياسيّ والوطنيّ الحديث ولن تتكرر أبداً بنوعيتها وبواقعيتها وبظروفها الخاصة . لقد انتهت في مرحلتها وفي زمانها . معروف سعد يعبّر عن واقع اجتماعيّ ، عن بيئة سياسية ، عن تاريخ وطنيّ ونضاليّ تعبيراً صادقاً ، مبدعاً ... ولكن الآن ، ولربما كان معروف سعد يوحي في أعماقه بذلك ، لا يلعب الفرد ، إذا كان يريد وهو مؤهل لأن يلعب دوراً سياسياً وطنياً نضالياً ، إلاّ من خلال الحزب ، وضمن تكتل أو تيار سياسيّ معيّن . ولكن في ظروفنا الحالية ، فإنّ العمل الحزبيّ ، للأسف ، في أزمة ، في مأزق ، في تقهقر وتعثّر . فأيّ عودة لعمل نضاليّ وطنيّ ديمقراطيّ حقيقيّ ، فينبغي أن ينطلق من عمل جماعيّ ، من منطلق مؤسّساتيّ ، مستوعباً المرحلة السابقة بكلّ نجاحاتها وكلّ إخفاقاتها ... ومعروف سعد ، في ممارساته السياسيّة العمليّة ، كان يدرك ذلك ويعيه تماماً ، انطلاقاً ربما من شخصه ومن نقده الذاتيّ ومن أهمية العمل السياسيّ التنظيميّ ، وهذا ما كان يلمسه مَن يحيط به ، في مختلف مراحل حياته ... لذلك ففي أيّ تحرك سياسيّ أو اجتماعيّ ، كان دائماً يستشير ويعمل على التنسيق الكليّ مع القوى السياسيّة والحزبيّة المحيطة به ، ضمن إطار جبهويّ تنظيميّ معيّن ...
* * *
د. مصطفى دندشلي : لم أرد أن أتطرق إلى جانب أو إلى جوانب عديدة لها أهميتها من الناحية التاريخيّة السياسيّة في حياة معروف سعد ، وذلك خوفاً من أن تثير كثيراً من الخلافات والحساسيات ليس الآن وفي هـذا الظرف بالذات وقـتها أو مجالهـا ، وهي أحـداث عام 1970 والصدامات السياسيّة والعسكريّة التي وقعت آنذاك بين معروف سعد والتنظيم الناصريّ من جهة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة بجميع فصائلها ومعها الحركة الوطنيّة اللبنانيّة بمختلف أحزابها من جهة أخرى ... ولديّ حول هذه الأحداث معلومات ووثائق وأجريت مقابلات مع الذين عايشوها وكانوا في صميمها . بالإضافة إلى ذلك أنني أعرف هذه الفترة الزمنيّة معرفة جيدة ، إذ أنني كنت هنا وعايشتها عن قرب ، وما حصل بعد هزيمة عام 1967 ، وقبول جمال عبد الناصر مشروع " روجرز " في صيف 1970 ، والتظاهرات التي أعقبت ذلك وكانت تنطلق من عين الحلوة إلى صيدا تحيّى ياسر عرفات قائد الثورة وترفع شعارات : "وثورة حتى النصر " ، وتهاجم " الخائن " عبد الناصر ، وكذلك اليافطات التي كانت تعلق في الساحات العامة ، خصوصاً في داخل المدينة صيدا ، ساحة " باب السراي " وساحة " ضهر المير "، ضد مشروع " روجرز " والناصرية التي كان ينتمي إليها معروف سعد. هذه المواقف وغيرها أدّت جميعها في حينه إلى توترات سياسيّة عامة في لبنان ، وفي مدينة صيدا تحديداً ... وكان موقف أحزاب الحركة الوطنيّة محلياً يخضع دائماً ، في الماضي أو في الحاضر ، لإستراتيجية عامة ، دولياً أو ، كما نعبّر عنها الآن ، إقليمياً ، أكثر بكثير مما هو ينطلق من ظروف وأوضاع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ المحليّ ... ولكن لم أحبّ أن أدخل في هذا النقاش أو إثارة الآن هذا الموضوع الذي يحتاج لوحده إلى وقفات طويلة .
ولو أردنا أن نعود ونرجع إلى تلك المرحلة ، حقيقة ، وأن نعيشها من جديد ، وإنّما بذهنيّة الوقت الراهن وعقلية التجربة السياسيّة والوطنيّة والقوميّة العربيّة والقضيّة الفلسطينيّة في ظرفنا الحالي، لوجدنا أنّ معروف سعد هو الذي كان على حقّ ، والقوى السياسيّة والحزبيّة الأخرى ، اللبنانيّة أو الفلسطينيّة هي التي كانت على خطأ وتركت العنان لعواطفها وانفعالاتها الذاتية أن تنطلق.. ونقدها الذاتيّ في هذا الموضوع وفي غيره كثير من المواقف الأخرى ، بات لدينا معروفاً ، ولات ساعة مندم ...
أولاً ، لا أحد يشكّ على الإطلاق بصدق علاقة معروف سعد بالقضيّة الفلسطينيّة والنضال من أجلها، وهذا أمر معروف، منذ بداياتها الأولى وفي مختلف مراحل تطوّرها وإلى ساعة استشهاده. ولكن كانت وجهة نظره وقناعاته السياسيّة في تلك الفترة ، أن لا يكون ذلك كلّه على حساب القضيّة اللبنانيّة ، القضيّة الوطنيّة والعربيّة اللبنانيّة في مدينة صيدا .
وأخيراً ، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ معروف سعد كان عضواً بارزاً ووجهاً يُشار إليه في جمعية أنصار السلم في لبنان وهي من المنظمات الفرعيّة للحزب الشيوعي اللبنانيّ ... بل أكثر من ذلك ، في ما أرى ، أنّ ميوله الاشتراكية واضحة ولم يكن ليخفيها ... فحينما يقع الصدام ، وكان يقع الخلاف باستمرار وعلى فترات متعاقبة زمنياً ، بين التيارات القوميّة العربيّة ومعها أو في مقدمتها التيّارات الناصريّة من جهة ، والأحزاب الشيوعيّة في المنطقة العربيّة ومنها لبنان ، من جهة أخرى، فمن الملاحظ أنّ معروف سعد لم يكن عنيفاً قاسياً أو لم يطعن ولا مرة بالحزب الشيوعيّ ، أو على الأقل بالصيغة واللهجة العنيفة التي كانت تستعملها الأحزاب القوميّة العربيّة آنذاك . بل ، أكثر من ذلك، كان يسعى دائماً، كما قيل لي ، خصوصاً في مرحلة 1959 وما بعدها ، وفي مرحلة الانفصال السوري 1961 ـ 1963، إلى حماية العناصر القياديّة الشيوعيّة في مدينة صيدا من أن يقوم أحد من أوساطه الشعبيّة بالإساءة إليها أو بالاعتداء عليها . مع أنّ معروف سعد ، سياسياً وقومياً ، بما أنه ناصريّ " ملتزم " ، قد كان في معارضة ومواجهة الخط السياسي للحزب الشيوعيّ في لبنان وأسلوبه العنيف آنذاك ، كما نعلم ، ضد عبد الناصر في سوريا أو في مصر أو ضد سياسته في المنطقة العربيّة ... وإنّما من الملاحظ أن معروف سعد كان معتدلاً في لهجته وفي مواقفه الشخصيّة في تصدّيه لهذه الأحداث . فكان يراعي ، ويحافظ ويحمي ... لماذا ؟!... لماذا لم يجار أجواء العنف المتبادلة أثناء ذلك ؟... فلربما كان يعتقد في داخله أنّ الأحزاب الشيوعية العربية ، وفي لبنان تحديداً، لم تكن كثيراً على خطأ ، كما صُوّرت ... يدلّ ، في الحقيقة ، هذا الجانب الصادق و" الوفيّ " والعقلانيّ في آن معاً ، على ملمح من ملامح شخصيّة معروف سعد الوطنيّة .
* * *
د. مصطفى دندشلي : ... في الواقع ، أبا معروف ، لقد جاءت كلمات المحاضرين في هذه النّدوة عن الملامح البارزة في شخصيّة معروف سعد ، متكاملة بعضها مع بعض . وكلّ واحد منّا نحن الثلاثة قد ألقى ضوءاً على جانب مهمّ من هذه الشخصيّة النضاليّة ، ومن جهة التسلسل التاريخيّ أيضاً ... ولقد ورد في مداخلاتنا أنّ كلّ جانب من هذه الجوانب يحتاج لوحده إلى دراسات معمّقة . وبالفعل فإنّ هذه الشخصيّة الوطنيّة النضاليّة في صيدا ، إنما هي تخصّ ليس فقط المجتمع الصيداويّ أو التاريخ الصيداويّ ، أو شعب صيدا ، ولكن تخصّ كذلك كلّ المجتمع اللبنانيّ الوطنيّ النضاليّ الديمقراطيّ . فيجب أن يكون هناك استمرارية في بحث هذا الموضوع .
هذا جانب ، الجانب الآخر ، كما أبدى كثيرون ملاحظات حوله ، هنا ، أبا معروف ، قد يكون عليكم أنتم مسؤوليّة في هذا الموضوع أكثر من غيركم ، وهو أنّ الأجيال الجديدة الآن لا تعي وعياً حقيقياً هذه الشخصيّة ، شخصيّة معروف سعد ، النضاليّة والوطنيّة ، والتي هي في الواقع تعبّر عن تاريخنا في مرحلة زمنيّة لا يمكن أن ننكرها . هي مرحلة ، كما قلنا وكررنا ذلك ، عندما نريد أن نتحدث عن تاريخ صيدا الوطنيّ ، النضاليّ ، يكون معروف سعد في صميمها ، وأحد العوامل الأساسيّة في هذا التاريخ النضاليّ والوطنيّ . لا يمكن إلاّ وأن يكون هو في المركز . فإذن ، السؤال يُطرح علينا ، ويُطرح عليكم من باب أَوْلى : وهو كيف العمل حتى الأجيال الصاعدة تبقى على وعي تام بمقومات هذه الشخصيّة ، شخصيّة معروف سعد، ومكوناتها النضاليّة والوطنيّة ، وهي شخصيّة مهمّة ، كما قلت ، والتي تعبّر عن تاريخنا السياسيّ الحديث .
وقد أضفنا إلى ذلك أيضاً أنّ هذه الشخصيّة الوطنيّة ، مع أهميتها ، هي تعبير عن مرحلة معيّنة قد انتهت بظروفها وخصائصها ... والآن يجب أن تتبعها مرحلة أخرى هي مرحلة إعطاء الأهميّة الكبرى فيها للتنظيم الجماهيريّ ، للتنظيم الحزبيّ خصوصاً في أوضاعنا الراهنة . فلا يجوز أن نبقى في عملنا السياسيّ أقله على الصعيد المحليّ الصيداويّ، نعتمد الأسلوب التلقانيّ أو العفويّ...
بمناسبة مرور ثلاث وعشرين سنة على استشهاد
ابن صيدا الوطنيّ المناضل الكبير معروف سعد
ندوة سياسيّة ـ فكريّة تحت عنوان :
الملامح البارزة في شخصيّة معروف سعد
الوطنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة ـ الشعبيّة
مـداخـلـة
الدكتور مصطفى دندشلي
... في الحقيقة ، أجد نفسي بشيء من الحرج في أن أتحدث ( ) ، بعدما سمعت من الصديقين العزيزين ، المداخلتين القيّمتين عن معروف سعد ، وبعد هذا العرض التفصيليّ الذي ألقى أضواءً كاشفة وواضحة حول شخصيّة معروف سعد وملامحه البارزة في النضال الوطنيّ والعمل السياسيّ والاجتماعيّ والشعبيّ .
فمن أين أبدأ ، إذن ، أنا ، في الحديث عن هذه الشخصيّة الوطنيّة النضاليّة ، التي كانت ولا تزال تهمّني شخصياً ، منذ زمن بعيد ، كما تهمّ كلّ الوطنيّين المناضلين الديمقراطيّين الأحرار في مجتمعنا ؟!... وكنت دائماً أطرح على نفسي ، كما أطرح الآن ، هذا السؤال : لماذا أهتمّ هذا الاهتمام الكلّيّ والمتواصل والدؤوب والمتابع ، بشخصيّة معروف سعد الوطنيّة والنضاليّة والسياسيّة ، وذلك عن طريق جمع الوثائق والمعلومات وحتى التفصيليّة ، وإجراء المقابلات وأتابعها ، مع أشخاص عايشوه عن قرب واحتكوا به في مختلف المناسبات والمراحل النضاليّة والوطنيّة والسياسيّة التي مرّ بها ؟!... ولقد توافر لي ، بالفعل ، أن أنشر بعض الكتابات والوثائق التاريخيّة والمعلومات أو كنت أشجع ( طلابي مثلاً : نزيه حسنى ) على الكتابة عن هذه الشخصيّة التي كنت قد تناولتها لأهميتها من الجوانب التاريخيّة التفصيليّة ... وهنا ، فإنّ العرض بمحطاته التاريخيّة الذي قدَّماه لنا واستمعنا إليه من الدكتور باسل عطا الله والأستاذ توفيق عسيران، هو عرض جيّد وشامل ووافٍ لهذه الشخصيّة الوطنيّة الصيداويّة في ظروفها الاجتماعيّة والنضاليّة الخاصة .
ولكن ما أريد ، وهو هدفي الآن ، من بحث هذه الشخصيّة ودراستها ، هو أن أقوم بشيء من " التنظير " ، إذا أمكن القول ، وأن أقدّم صورة مجملة وشاملة ، ولكنها مكثة ومحدّدة في آن ، لا لشخص معروف سعد وحسب، وإنّما أيضاً لإيجاد هذه العلاقة الوثيقة ، التفاعليّة ، الجدليّة ما بين هذه الشخصيّة النضاليّة ـ السياسيّة والتاريخ الوطنيّ لصيدا . ذلك أنّ شخصيّة معروف سعد ، من كلّ الجزئيات النضاليّة والتفصيلات السياسيّة ، التي يمكن أن نتابعها في سيرة حياته التاريخيّة ، إنّما هي بمجملها تعبير عـن واقع معيّن . بمعنى أنّ معروف سعد كشخصيّة نضاليّة ـ سياسيّة ، لا يمكن أن يُفهم وأن يُدرس ، تاريخياً ، سياسياً ، فكرياً، بمعزل عن واقع اجتماعيّ ـ ثقافيّ عاش فيه وعبّر عنه وكان صدىً لـه . وهذا الواقع الاجتماعيّ ـ الثقافيّ إنّما هو مجتمع صيدا والجنوب اللبنانيّ بوجه خاص ، والمجتمع العربيّ بصورة عامة . فمعروف سعد هو ابن البيئة الاجتماعيّة ـ الثقافيّة ـ السياسيّة التي نشأ فيها ، وهو بالتالي تعبير عنها وعن تاريخيّة هذا الشعب الوطنيّ المناضل المكافح بكلّ ما يحمل من طموحات وآمال وذاكرة جماعيّة موروثة ودفينة في الوقت ذاته .
منذ ثلاثة أو أربعة أيام وأنا أحاول أن أكتب ما لديّ من معلومات عن هذه الشخصيّة التي قلت وأكرر القول إنني أهتمّ بها على صعيد البحث الاجتماعيّ والتاريخيّ والسياسيّ منذ زمن بعيد ، فوجدت نفسي منساقاً تلقائياً وذهبت بعيداً ، وبعيداً جداً ، حتى وصل عدد صفحات ملاحظاتي التفصيليّة عنها ( شخصيّة معروف سعد ) ما يقرب من أربعين أو خمسين صفحة ... لذلك أجد نفسي مضطراً أن أكثف ملاحظاتي النظريّة وأن أحدّدها بالنقاط التالية :
معروف سعد والقضية الفلسطينية :
كلنا يعلم تفصيلات هذه العلاقة وحيثياتها التاريخيّة وجزئياتها الوطنيّة في مختلف حياة معروف سعد النضاليّة . فأنا لا أريد هنا أن أعيد وأكرر الأشياء المعروفة والمتداولة . ولكن ، وفي الوقت نفسه ، اسمحوا لي أن أفتح هلالين لأشير إلى أنّ الأجيال الشابة ، وبكلّ أسف ، الأجيال الطالعة ، الصيداويّة أو الجنوبيّة أو غيرها ، لا تلمس ، لا تعرف الشيء الكثير ، أو لا تعرف شيئاً البتّة ، عن تاريخ معروف سعد النضاليّ والوطنيّ والسياسيّ ... وإذا استمرت الحالة على هذا المنوال ، فلسوف يأتي اليوم الذي يصبح فيه نضال معروف سعد الوطنيّ والسياسيّ في ذاكرة التاريخ فقط ، ويقبع على رفوف المكتبات أو حتى أنه يصبح نسياً منسياً بالنسبة إلى الرأي العام الواسع العريض ...
أما بالنسبة لي ، وفي ما يتعلق بعلاقة معروف سعد بالقضية الفلسطينيّة ـ دون أن أدخل في التفصيلات ـ فقد انتهيت إلى ناحية نظريّة ، برأيي مهمّة جداً ، وهي التي أعبّر عنها بـ" ترجمة القول بالفعل " وملازمته . هناك مفارقة عندنا بين ما نقوله وما نقوم به ، بين الشعارات التي نطلقها والممارسة العمليّة على الأرض ، في مجتمعاتنا وفي مجتمعات العالم الثالث عموماً ، هناك فارق ، فجوة ، هوّة أحياناً سحيقة بين النظريّة والتطبيق ، بين الفكر والسلوك الفعليّ ...
وما يهمّنا هنا ، في هذه النقطة بالذات ، هو أن أشير فقط إلى أنّ معروف سعد ، من ناحية علاقته بالقضية العربيّة ومحورها المركزيّ القضيّة الفلسطينيّة ، ومنذ أن استعر أوارها في ما بين الحربين ، قد قَرَنَ هذا الشعور الصيداويّ الوطنيّ العام ومدى تأثير القضيّة الفلسطينيّة في أحاسيسنا القوميّة العربيّة ، بالترجمة الفعليّة ، بالممارسة العمليّة ... وما يُلفت النظر في هذا المجال ومنذ البدايات الأولى ، هو أنّ معروف سعد مع ثلّة قليلة العدد من المقاتلين الصيداويّين ، قد ذهب للقتال ولمواجهة العدوّ على أرض فلسطين . فعبّر عن هذه الشعارات والتظاهرات في المدينة أو في لبنان ، التظاهرات العارمة والحركات المعارضة والمعادية والرافضة للاستيطان الصهيونيّ العدوانيّ ، عبّر معروف عن ذلك بالممارسة العمليّة ، فذهب للقتال هناك وفي ساحة المعركة الحقيقيّة . وليست سهلاً على الإطلاق ـ كما قلت ـ هذه النقلةُ ، هذه الخطوةُ بين ما يُطلق كشعار قولاً ، ومواجهة التحدّي فعلاً . قد يتحدّث الواحد منا كثيراً ، لفظاً وحماسة ، عن ضرورة مواجهة العدوّ وقتاله ، ولكن عندما يمارس الشخص ذاتياً وينتقل عَبْر لحظة تاريخيّة ، ممّا هو نظريّ إلى ما هو عمليّ ، ويضع بذلك نفسَه في مواجهة الخطورة أو حتى الموت ، فهذا يحتاج إلى قناعة وصدق مع الذات وإلى إرادة ، وإلى شجاعة، وإلى قوّة وحزم وتصميم ...
والواقع أنّنا عندما نتحدث عن القضيّة الفلسطينيّة وموقعها في تاريخ صيدا الوطنيّ والنضاليّ ، يأتي هنا معروف سعد وشخصيته النضاليّة لتكون تجسيداً عملياً وتعبيراً في المنحى والسلوك ، وفي المعنى والمضمون ، عن ضمير الشعب الصيداويّ ، عن وجدانه الوطنيّ ومكنوناته في جذورها الأخلاقيّة وأبعادها التحرّريّة .
كذلك وفي هـذا النطاق أيضاً ، يمكننا أن نـفهم وأن نفسر اقتحامه للقشلة عام 1936 ورصاص جنود الانتداب الفرنسيّ في صيدا ، تنهمر من كلّ جانب وتنطلق . كلّنا يذكر هذا الحدث التاريخيّ الذي حيكت حوله رواياتٌ كثيرةٌ وأحاديثُ وصلت إلى حدّ الأساطير والتخيّلات الجماهيريّة التي كان يعبّر الشعب الصيداويّ من خلالها عن طموحاته الذاتيّة وعمّا يريد هو ذاته أن يكون عليه أو أن يقوم به . إنّ اقتحام معروف سعد للقشلة في تلك الظروف التي وقع فيها ، إنّما يمكن كذلك أن يُنظر إليه من هذا المنحى : أن تواجه الموت وتقتحم ، ليس الأمر سهلاً على الإطلاق ، ولا يمكن أن يقوم به إلاّ ذوو النفوس الكبيرة والإرادات الصلبة . أن يكون الواحد صادقاً مع نفسه وأن يكون في سلوكه الفعليّ هو هو ذاته في ما يفكر به وما يقوله ، فليس ذلك شيئاً شائعاً أو عادياً في حياتنا الفرديّة أو الجماعيّة . فكان في شخصيّة معروف سعد ، دون أن أدخل في التفصيل ، هذا الانسجام الكليّ ، هذا التوافق التكامليّ بين ما هو منطوق وما هو مفعول .
معروف سعد والسياسة :
النقطة الثانية التي أريد أن أتوقف عندها قليلاً هي علاقة معروف سعد بالسياسة . هنا أيضاً ما هو ملاحظ تمام الملاحظة أنّ عمل معروف سعد النضاليّ والكفاحيّ في فلسطين أو في لبنان ، أو سلوكه العمليّ كثائر وطنيّ والتضحية بالذات من أجل المبادئ والطموحات ، لم يكن ذلك كلّه من أجل احتلال مركز سياسيّ معيّن أو أيّ غاية أخرى في نفسه . أبداً على الإطلاق .
يبدو قبل اغتيال رياض الصلح ووفاته المأساويّ ، لم يكن ليخطر ببال معروف سعد أنّ هذا الانخراط في الحركات النضاليّة والثوريّة والتحركات الوطنيّة ، الغاية من ورائها هو الوصول في نهاية المطاف إلى موقع سياسيّ معيّن . لقد ابتدأ معروف سعد في إعارة الاهتمام بوضوح أكثر فأكثر إلى الشأن السياسيّ وإلى العمل السياسيّ المعتاد في نظامنا البرلمانيّ : انتخابات بلديّة أو نيابيّة، بعد وفـاة المغفور لـه رياض الصلح الذي كان معروف ينتسب إليه وينتمي ، سياسياً ووطنياً ، ومن ركائزه الأساسيّة على الصعيد الصيداويّ المحليّ .
وهـنا يبرز جانب مهـمّ في شخصيّة معروف سعد وهـو جانب الوفاء ، المصداقيّة لمن صادقـه ، الإخلاص لمن أخلص لـه . وتلك عِمْلة إجمالاً نادرة ، هذا إذا لم تكن أبداً موجودة عند السياسيّين . معروف سعد يتصف ، وبنظر جميع الذين عرفوه عن قرب وعلى مختلف المستويات ، بصفة الوفاء والصدق في القول والسلوك ، والأخلاقية والشجاعة في قول الحقّ والالتزام به ، والابتعاد عن الرياء والنميمة والكذب والخداع ، وعمّا هو مسيء من وجهة نظره للمصلحة العامة . من هنا نلاحظ ، على صعيد السياسة ، إذا اقتصر حديثنا في نطاق السياسة، وفاءه لرياض الصلح ومن بعده انتخابياً لكاظم الصلح ، وتقيّ الدين الصلح ، وكذلك لفؤاد شهاب وعبد الناصر ...
إذن ، بعد وفاة رياض الصلح والمحاولات الانتخابيّة النيابيّة الفاشلة مع كاظم وتقيّ الدين الصلح ، وبعد تجاوز المرحلة السابقة ، وجد معروف سعد أنّ من الطبيعيّ الآن أن ينخرط في العمل السياسيّ المحليّ وأن يكون هو اللاعب الأول في الساحة السياسيّة الصيداويّة والوجه البارز وفي مقدّمة التيار الوطنيّ ـ الاجتماعيّ ـ السياسيّ ـ التعبيريّ فيها ...
معروف سعد والجماهير الشعبية :
إلى هنا ، يمكننا الآن أن ننتقل ، حتى نتابع هذا التسلسل التحليليّ ، إلى مستوى آخر وهو علاقة معروف سعد بالجماهير الشعبيّة . وهو جانب بالغ الأهميّة في تكوين شخصيته الوطنيّة والسياسيّة وفي إبـراز ملامحها ونكهـتها الخاصة ، ويعبّر بالتالي عن توجهات شخصيّة معيّـنة والتصاقها بالفئات الشعبيّة ، بالناس ، وبالناس