د.دندشلي - حزب البعث العربي - مقابلـة مـع السيـد هشـام زمرلـي
مقابلات /
سياسية /
2010-10-10
مقابلـة مـع
السيـد هشـام زمرلـي
التاريخ: صباح يوم الأحد الواقع فيه 10 تشرين الأول 2010
الموضوع: محاولة تأريخ حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة،
التسجيل والتحرير: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: ... أستاذ هشام (زمرلي)، إن لك تجربة غنية في حزب البعث العربي الاشتراكي منذ البدايات الأولى في مدينة طرابلس واستمرت بعد ذلك لفترة طويلة، فأودُّ أن تحدثني وبالتفصيل إن أمكن، عن هذه التجربة. فسؤالي الأول أطرحه عليك كي تحدثني عن نشوء حزب البعث العربي في المدينة، كيف كان ذلك، وكيف تمَّ انتسابك إلى الحزب، وما هي ظروف معرفتك إلى الحزب ومَن هم رفاقك الأوائل في تلك الفترة؟!...()
الأستاذ هشام زمرلي:... لقد انتسبتُ إلى الحزب البعث العربي الاشتراكي سنة 1952 ـ ولا أذكر تماماً في أيِّ شهر بالتحديد. وكانت معرفتي أنا شخصياً إلى حزب البعث عن طريق أحمد بارودي. وأحمد بارودي، كان له أقرباء في مدينة حمص في سورية، ويبدو أنهم كانوا على صلة أو على علاقة حزبية بحزب البعث. فعن طريقهم كان يستحصل على منشورات حزبية، وأنا أطّلع عليها وأقرؤها. وهو بالمناسبة لم يكن حزبياً، بمعنى منتسباً رسمياً إلى حزب البعث. فقد أُعجبتُ أنا من جهتي بهذه الكتابات والأفكار الواردة في هذه المنشورات، ولا سيما الجوّ العام في تلك الفترة في طرابلس جوٌّ عروبيّ نضاليّ قوميّ. وهذا ما جعلنا جميعاً ـ أنا ورفاقي ـ أن نتقبل فكرة البعث القومية العربية بسرعة ودون تردُّد. فإذن، إن اتصالي المباشَر بعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي قد كان عن طريق أحمد بارودي.
وكان معنا في تلك الفترة، عام 1952 ، المرحوم سعدي الأدهمي وهو أستاذٌ حديثاً في المدرسة، ومعنا أيضاً حسّان مولوي الذي جرى أول اتصالٍ له بحزب البعث في مصر وتعرَّف عليه عن طريق طلاب أردنيين وفلسطينيين، يدرسون معه في كلية الهندسة. ولم يتابع حسّان الدراسة في مصر فعاد إلى طرابلس حاملاً معه فكرة حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان معنا في البدايات الأولى حسين حيدر من بعلبك وهو أستاذ نُقل حديثاً للتدريس في طرابلس. فإذن، الأوائل في طرابلس: أحمد بارودي وسعدي الأدهمي وحسين حيدر وحسّان مولوي وأنا، خمسة أشخاص، لم نكن بعدُ حزبيّين رسمياً وإنما في أجواء البعث وأفكاره. ولم يكن وقتذاك أيُّ تنظيم للحزب، بل هناك منشورات للبعث بين أيدينا نتداولها فيما بيننا. منشورات عديدة كنا نقرؤها ونناقشها فيما بيننا، أبرزها، إذا لم تخنِّي الذاكرة، بعد هذه الفترة الطويلة التي تفصلني عنها، هي: كتيّب "ذكرى الرسول العربي"، و "القومية العربية وموقفها من الشيوعية"، و "البعث هو الانقلاب"، وغيرها من منشورات البعث المتداولة آنذاك.
وأذكر أننا ذهبنا نحن الأربعة: سعدي الأدهمي وحسّان مولوي وأحمد بارودي وأنا ـ أما حسين حيدر فكان حزبياً وأقسم اليمين الحزبي قبلنا ـ إلى بيروت، وفي شقة في منطقة الحمراء، وكان ميشال عفلق وصلاح البيطار وأكرم الحوراني في تلك الفترة قد هربوا من سوريا في عهد أديب الشيشكلي ولجؤوا إلى لبنان عام 1953، واجتمعنا مع الأستاذ ميشال عفلق منفرداً ومع محمد عطالله، يسجّل ما يقوله. وكنت أنا فيما أذكر ما أزال في صف البريفيه، فأقسمنا اليمين الحزبي نحن الأربعة أمام ميشال عفلق.
وبعد ذلك، بعد أن أقسمنا اليمين الحزبي، عدنا وبتنا نقيم الاجتماعات الحزبية الرسمية نحن الخمسة. حسّان مولوي كان يدرس الهندسة في الجامعة اليسوعية في بيروت، فيأتي في عطلة الأسبوع ويجتمع معنا في الحلقة الحزبية. وبعدها بقليل سافر أحمد البارودي إلى باريس لمتابعة الدراسة. فكنت أنا إذن الطالب الوحيد في طرابلس في تلك الفترة. ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى أصبح طلاب مدرستي وهي مدرسة حكومية: "النموذجية" إما بعثيون وإما أصدقاء للبعث وإما في أجواء حزب البعث. ثم انتقلتُ إلى كلية التربية والتعليم لمتابعة دراستي في صف البكالوريا، لأن شهادتها النهائية مقبولة في الجامعات المصرية.
والأستاذ سعدي الأدهمي، مدرِّس في مدرسة الجديدة الرسمية، وهي مدرسة تكميلية، كان يحدِّث تلاميذه عن حزب البعث ومبادئه وأفكاره ويشرح لهم فكره القومي العربي. وأنا كنت طالباً وعضواً في الهيئة الإدراية للَجنة الطلبة. وكان هناك اللجنة الطلابية لاتحاد طلاب المعارف وكنت أنا أمين السر للاتحاد. من هذا الموقع، وبما أن اتصالي بجميع المدارس الرسمية، كنت أقوم بتوزيع منشورات حزب البعث على الطلاب الراغبين والناشطين في العمل الوطني والقومي. وكنت أعقد الاجتماعات الحزبية الأولى في بيتنا القديم في حيّ الرمَّانة، منطقة شعبية في طرابلس، وكان أول مكتب للحزب في المدينة.
س:... يعني، بكلام آخر، فقد كان عملكم في البدايات الأولى عملاً طوعياً، عفوياً تلقائياً...
ج:... صحيح، عملنا في البداية كان يقوم على أساس التطوُّع، وهو عمل تلقائي وعفوي وحماسي واندفاعي. لقد كانت فكرة البعث جديدة علينا، جاذبة ومقبولة للناس والبيئة مهيأة للتجاوب معها. ومدينة طرابلس معروفة بوطنيتها وبانتمائها للقومية العربية وللوحدة العربية. وهي تتأثر بالأحداث التي تجري في المنطقة العربية. فعندما نحكي عن فكر البعث ونتحدث عنه، كنا نجد تجاوباً وترحيباً. مثلاً، أنا كنت أدعو إلى عقد الاجتماعات الحزبية في بيتي، في غرفتي، وهي الاجتماعات التي نسمّيها "حلقات الأنصار"، وكذلك سعدي الأدهمي كان يعقد الاجتماعات الحزبية في بيته والكل كان يفعل ذلك. وهكذا، كانت الحلقات تتوسَّع بكثرة والاجتماعات تزداد والحلقات الحزبية تُعقد في البيوت، حتى أنه بوقت وجيز انتقلنا إلى مدرسة الزهرية ومدرسة الحدادين وغيرهما، إلى أن أصبح لدينا حلقات حزبية منتشرة في جميع المدارس الرسمية في طرابلس.
س:... إذن، حركة البعث العربي منذ البدايات الأولى كانت حركة طلابية انتشرت في المدارس التكميلية والثانوية، وبخاصة المدارس الرسمية....
ج:... صحيح، صحيح، من هنا في الواقع كانت نقطة الانطلاق....
س:... وكلية التربية والتعليم في طرابلس، ما هو دورها، برأيك، في هذا المجال الذي نتحدث عنه؟!... ذلك أنه، كما نعلم، الطلاب فيها هم ممَّا يمكن أن نسميه، الطبقة أو الطبقات الوسطى.
ج:... أو الطبقة الأكثر ثراءً، وليس فيها طلبة من الطبقة الشعبية، لأن الانتساب إليها قد كان مقابل رسوم وأقساط مدرسية وهي مرتفعة نسبياً، في حين أن المدارس الرسمية مجانية، كما هو معلوم. هنا، أودُّ أن أشير إلى أن عملي الحزبي المتواصل أخذ مني جُلَّ وقتي وجهدي ولم يدع لي مجالاً للدرس أو للاهتمام بدراستي، لذلك لم أنجح في شهادة البريفيه. فانتقلت لمتابعة دراستي إلى كلية التربية والتعليم حتى الصفوف النهائية.
هنا، تحوّل نشاطي الحزبي ضمن إطار الكلية. والوضع الطلابي هنا مختلف عمَّا كان عليه الوضع في المدارس الرسمية: فقد كان الطلاب عموماً حياديين، مستقلين، يهتمون بدراستهم لا غير، أو يؤيِّدون سياسياً آل كرامي. وأذكر أنه كان معي أصدقاء للحزب: محمد وليّ الدين وسعيد عدرا ومنير منصور. كنا نقيم علاقات مع الطلاب على الصعيد الشخصي ونتحدث معهم عن حزب البعث ونوزّع منشوراته ونشراته.
وهنا أروي حادثة وهي أنه عندما جرت الانتخابات الطلابية لاختيار مندوب الصف، وأنا الحزبي البعثي الوحيد في الكلية، والذين ذكرت أسماءهم كانوا أصدقاء البعث ومؤيدين له، فترشّحت أنا وترشّح ضدّي الطالب عبدالحميد الصبَّاغ، وهو قد كان آنذاك من أنصار آل كرامي، فنجحت أنا وسقط هو. فأثار ذلك غضب الطلاب المؤيدين لآل كرامي: كيف يمكن أن ينجح طالب بعثي في هذه الكلية؟!... من هنا، ابتدأ نشاطنا الحزبي في الكلية يتوسّع. وعبدالحميد الصبَّاغ الذي ترشّح ضدي، أصبح فيما بعد حزبياً بعثياً.
س:... إذن، فقد كان الجوَّ العام في طرابلس، خصوصاً في أوساط الطلاب وهم عموماً من الطبقات الوسطى فما دون، مناسباً والبيئة الوطنية والعروبية مهيأة لانتشار أفكار ومبادئ حزب البعث. في تلك الفترة، ما هي التيارات والقوى الحزبية المنتشرة بين أوساط الطلاب في المدارس؟!..
ج:... كان هناك بعض الطلاب الشيوعيين في مدرسة الزهرية والبعض الآخر ينتمون إلى حركة القوميين العرب، وآخرون قليلون ينتسبون إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن المنافسة والمواجهة الحقيقية قد كانت مع حركة القوميين العرب الذين يعتبرون أن البعثيين مزاحميهم ومنافسيهم الأقوى. وقد صادف أن نشوء حركة القوميين العرب في الفترة نفسها التي نشأ فيها حزب البعث في طرابلس، وفي المرحلة ذاتها..
وحلقات البعث الأولى كانت حلقات أنصار، يديرها أحد الحزبيين. وهناك حلقات حزبية تُعقد أسبوعياً. تكوَّنت قيادة الفِرْقة، وهي تضمُّ ثلاث حلقات وأكثر. وبعدها أنشئت قيادة الشُّعبة، وهي تتكوَّن من ثلاث فِرق فما فوق، وهكذا... وكان عدد البعثيين حتى تاريخه، فيما أذكر، يقرب من الثلاثين عضواً. وهذا عدد يدلُّ على السرعة التي نما فيها حزب البعث الناشئ في تلك المرحلة.
وكان نشاطنا الحزبي في البدايات الأولى من أجل نشر أفكار ومبادئ حزب البعث، يتلخّص في توزيع منشورات وبيانات الحزب، وهي بيانات كانت توقَّع تحت اسم: القوميون العرب الأحرار، وكلمة الأحرار مضافة تعني تمييزاً لنا عن حركة القوميين العرب. وكنا نشارك في المظاهرات الطلابية والشعبية ونعمل على رفع شعارات حزب البعث فيها ونطلق هتافاتنا: أمة عربية واحدة / ذات رسالة خالدة. والشعار الآخر: وحدة وحرية واشتراكية.
وأذكر أنه عندما كان الحزب السوري القومي الاجتماعي يقوم بعقد اجتماعات طلابية أو شعبية عامة، كنا نحن المجموعة البعثية الصغيرة: أنا ومحمد ولي الدين وأحمد منصور ومنير منصور ولربما طارق زيادة، نعمل على عركلة والتشويش على هذه المهرجانات وأذكر أننا دخلنا مَرة إلى أحد تلك الاجتماعات الشعبية الحاشدة، وأخذنا عند البداية نهتف ونرفع شعارات حزب البعث: أمة عربية واحدة / ذات رسالة خالدة، والحضور يهتفون وراءنا. ونسعى إلى "عركلة" وتفشيل المهرجان، ونخرج نحن ويخرج معنا كثير من الحضور. فقد كانت المنافسة السياسية والمواجهة في المظاهرات شديدة وأحياناً حادة مع الحزب القومي السوري وحركة القوميين العرب.
وأذكر أيضاً في هذه المناسبة أننا أقمنا مهرجاناً شعبياً في مركز حزب النداء القومي الذي كنا على علاقة طيبة وتعاون معه في طرابلس، رفعنا فيه شعارات ضد الأحلاف العسكرية الغربية في المنطقة: مشروع النقطة الرابعة ومشروع الدفاع المشترك وضد الدكتاتوريات العسكرية. وكنا في حينه نتجنَّب ذكر في هتافاتنا حزب البعث، بل كان نشاطنا، كما قلت، يتم تحت اسم: القوميون العرب الأحرار. وقد دعونا مرة كلوفيس مقصود لإلقاء محاضرة، بعد أن اقترحه علينا المسؤولون في حزب النداء القومي.
وكانت صلتنا بالحزب في بيروت تتم عن طريق علي فخرو من دولة البحرين، وهو طالب في كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي كان يحضر إلى طرابلس أسبوعاً بعد أسبوع، ويجتمع معنا وينقل إلينا أخبار الحزب ونشراته وبياناته. وكذلك كان يحضر إلى طرابلس بصورة متواصلة ودائمة إنعام الجندي الذي يقوم بتنظيم حلقاتنا ويعقد حلقات حزبية تثقيفية للأعضاء والأنصار.
وفي الانتخابات النيابية لعام 1957، كان لنا عدد من الحلقات الحزبية في التبّانة وفي القبَّة وغيرهما، فكنا نتردَّد بصورة دائمة إلى هذه المناطق الشعبية للاجتماعات الحزبية. وصادف أن كنت أنا مسؤولاً عن حلقة في التبَّانة. وكان من ضمن أعضاء الحلقة أحمد الريفي (والد اللواء أشرف الريفي) وأحمد ضابط (وهو أحد المصورين في المدينة). بعد الاجتماع قال لي أحمد ضابط أدعوك أن تأتي معي إلى البيت، أريد أن أعرِّفك على شخص، وهو طبيب، سيحضر لمعاينة أحد المرضى عندنا. وهو شاب جيد لطيف اسمه عبدالمجيد الرافعي. وأنا وإن كنت أسمع عنه بعض الشيء، لكنني لا أعرفه شخصياً. فذهبت معه، وأنا كنت وحدي. وأخذنا نتحدث في مواضيع شتى. فلفت نظري أنه شاب جذاب ومتعلّم ومتكلّم وحديثه منطقي وقريب من الفكر القومي. فانتهى اللقاء عند هذا الحد تاركاً فكرة حسنة نتيجة هذا اللقاء.
وعند اقتراب الانتخابات النيابية، كان حزب البعث يضمُّ مجموعة من الشباب أكثر من ثلاثين رفيقاً جلُّهم من الطلاب ولهم أصدقاء كُثُر. فطُرح موضوع الانتخابات المقبلة وما هو الموقف الذي ينبغي أن يتخذه الحزب؟!.. فكان الرأي، قبل اتخاذ أي موقف، أن نتصل بالمرشحين لهذه الانتخابات. فذهبنا والتقينا رشيد أفندي كرامي. فطرحنا عليه فيما أذكر السؤال التالي: ما هو موقفك من الأحلاف العسكرية الغربية، ومن حلف بغداد ومشروع أيزنهاور على وجه الخصوص؟!. فغضب غضباً شديداً وقال لنا: أنا لا أُسْأل هذا السؤال: أنا ابن عبدالحميد الكرامي، وأُسْأل هذا السؤال؟! فلم يُجِبْ البتَّة ونرفز وانتهى الأمر عند هذا الحد. لماذا هذا الغضب الشديد وهذه النرفزة؟!.. ما يعني أنه قد "شَرِب الوطنية والعروبة ورضعهما مع حليب أمه". هذا ما كان يعتقده، ولا يرضى بأيِّ شكل أن يشكِّك أحد بموقفه الوطني والقومي.
بعد ذلك اتصلنا بالأستاذ قبولي الذوق وهو من أوائل الأعضاء المؤسسين لحزب النداء القومي في طرابلس. وطرحنا عليه الأسئلة السائدة آنذاك حول الأحلاف العسكرية الغربية. ولكننا لم نتبنَّ قبولي الذوق لسبب بسيط وهو أنه وحزب النداء القومي، حسب فكرة منتشرة آنذاك يسايرون ويميلون إلى تأييد حلف بغداد. ولست أدري من أين أتت هذه الشائعة أو الفكرة السائدة في حينه، فأنا لا أعرف؟!. فلربما الشائعة قد تأتت وانتشرت من كون رئيس حزب النداء هو كاظم الصلح، وكان يُشاع أنه بشكل أو بآخر على علاقة مع القيادات السياسية والحكومية في العراق.
بعد أن أجرينا هذه الاتصالات وناقشنا الموقف من الانتخابات، فقلت لهم في أحد الاجتماعات الحزبية: لديّ أنا اسم للترشيح لهذه الانتخابات باسم الحزب. في تلك الأثناء كان قد صدر قرارٌ من الحزب في المركز، بيروت، عدم الترشيح وعدم الاقتراع في هذه الانتخابات. ولكن، مع كل ذلك، طرحت رأيي في الاجتماع وقلت إنني أنا كنت قد تعرَّفت على الدكتور عبدالمجيد الرافعي وهو شاب جيد وابن عائلة، وهي عائلة كريمة ومعروفة ولها امتدادات وهو مثقف.
وقد صادف أن حسّان المولوي كان على معرفة به، وإن كانت معرفة عامة. وحسّان عضو في القيادة القطرية، فقال إنه بالفعل شخص مناسب ومعقول، ولكن الحزب اتخذ قراراً بعدم الترشيح والاقتراع في طرابلس. وكان رأيي أنا الشخصي بأن هذه فرصة لا يجوز أن تفوَّت. فاتخذت قيادة الشعبة توصية بترشيح الدكتور عبدالمجيد الرافعي ورفعها إلى القيادة القُطرية، وكان ذلك قبل إجراء أي مقابلة معه وطرح الموضوع على القيادة في بيروت.
في القيادة القطرية استطاع حسّان مولوي أن يقنع الأعضاء بأن الأجواء في مدينة طرابلس الآن مناسبة لكي يخوض الحزب المعركة الانتخابية بشخص الدكتور عبدالمجيد الرافعي وهو شخص جيد وهي فرصة سانحة الآن للحزب لكي يطلّ على الجماهير في طرابلس والشمال. فاقتنعوا أخيراً بعد مناقشة طويلة وأوفدوا لمقابلته فيما أذكر: جبران مجدلاني وحسّان مولوي (وعلي فخرو والصحافي موريس صقر). بعد هذه المقابلة أُلغِيَ القرار السابق واتُخذ القرار بترشيح عبدالمجيد الرافعي في انتخابات عام 1957. وهنا لابد من إبداء هذه الملاحظة وهي أن جميع أعضاء حزب البعث في حينه، هم من الطلاب، ولا يحق لهم الانتخاب لأنهم لم يبلغوا بعدُ السن القانونية سوى حسّان مولوي وأنا وشخص آخر، أي ثلاثة أعضاء من الحزب الذين انتخبوا فقط.
توضيح من المحامي حسين ضناوي (الذي كان يشاركنا في هذه الجلسة ويشترك معنا من حين لآخر في المناقشة وتوضيح وتفسير بعض النقاط أثناء الحديث...).
هنا أريد أن أوضِّح شيئاً وأضعه بين قوسين لأقول: فقد كان الدكتور عبدالمجيد الرافعي قد برز على الصعيد الطبِّي والصحّي والاجتماعي العام وبخاصة عندما أخذ يشتغل في عملية الإنقاذ عند فيضان نهر أبو علي عام 1955، ويقوم بالمساعدات الطبيَّة والاجتماعية وكان في الوقت ذاته طبيباً في المستشفى الإسلامي، فكانت علاقته بالناس علاقة جيدة كذلك من الناحية الطبيَّة والاجتماعية والإنسانية، وهو بطبيعته إنسان ودود وخلوق وخدوم. هذه الأعمال وهذه الاهتمامات الصحبة العامة والاجتماعية والقرب من الناس، هيّأت له سمعة طيِّبة وحسنة. فجاء حزب البعث العربي وطرحه كمرشح له في الانتخابات النيابية لعام 1957.
ففي الحقيقة، لولا الحزب لما كان الدكتور عبدالمجيد الرافعي يمكنه أن يلعب دوراً سياسياً وبالتالي دوراً قومياً على صعيد الوطن العربي. لأنه في ذلك الوقت وعند خوض المعركة الانتخابية لم يكن حزبياً بعدُ...
هشام زمرلي:... في الواقع، إن اسم الدكتور عبدالمجيد الرافعي كان قد لاقى قبولاً لدى الناس، فقد كان معروفاً على صعيد الخدمات الطبيَّة والاجتماعية والإنسانية. وهنا، لابد من الإشارة إلى أن الحزب، حزب البعث العربي، في تلك الفترة، قبلها وبعدها بقليل، بقي نشاطه وعمله فقط على صعيد الطلاب والمعلمين في المدارس. وكان يوجد عدد قليل جداً لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من الحِرفيين، على سبيل المثال كان هناك عضو حزبي حِرَفي من آل الدَّنون، توفي رحمه الله، ومحاسب في أحد المحلات في التبانة وأحمد الريفي (والد اللواء أشرف الريفي) صاحب مطحنة... ولكن الأكثرية الساحقة هم من الطلاب والمعلمين وبعض الموظفين الصغار.
س:... بمعنى آخر إننا نستطيع أن نقول إن حزب البعث قد كان في البدايات الأولى حزب الطلاب والمعلمين. هنا لابد من طرح السؤال التالي: ما مدى اهتمامكم في تلك الفترة وفي مرحلة نشوء الحزب، في الجانب الثقافي والتثقيفي بصورة عامة وفي الجانب الثقافي الحزبي بصورة خاصة: الجانب مثلاً القومي، العروبي، والوحدة العربية، والاشتراكية. ما هي الكتب التي كنتم تقرأونها خارج كتابات الحزب وكتابات ميشال عفلق، مع قلَّتها في تلك الفترة؟!...
ج:... كنا نقرأ، خارج كتابات الحزب، كُتب ساطع الحُصْري.
س:... وكُتب قسطنطين زريق....
المحامي حسين ضناوي:... لم يكن معروفاً في تلك الفترة قسطنطين زريق، وبالتالي لم يكن مقروءاً....
ج:... والد أحمد بارودي، كان عضواً في عصبة العمل القومي. وكان عدد قليل من الأشخاص ينتمون إلى العصبة فقط، ولكنها تلاشت بسرعة. ولم يكن معروفاً لدينا مثلاً علي ناصرالدين، ككاتب وكمفكّر قومي عربي. ولم يكن من الأحزاب القويَّة في طرابلس، سوى الحزب الشيوعي، فكان يتمتع بقوة شعبية جيدة. وكان إلى جانبه حزب النداء القومي، وهو يضمُّ النُّخب المثقفة في المدينة ولكنه غير منظّم في حلقات أو خلايا. فهو أقرب إلى كونه تجمعاً سياسياً وملتقى الشخصيات السياسية المثقفة.
الأستاذ حسين ضناوي:... الحزب الشيوعي، كان يعتمد على الفئات العمالية في المدينة، وهي قوته الجماهيرية الأساسية وكان يسيطر على ثلاث أو أربع نقابات عمالية مهمة: مثلاً نقابة عمال المطابع، نقابة عمال النجارين وقوته الشعبية في "المينة" في الدرجة الأولى، وأعضاؤه هم خليط، حرفيين وعمال ومثقفين، ويضم كثيراً من المسيحيين وخصوصاً في قياداته، الذين لعبوا دوراً في إنشائه. والمينة مختلطة سكانياً: عمال البحر وعمال من مختلف المهن.
فكان الحزب الشيوعي من هذه الناحية قوياً ويتمتع بقوة شعبية كبيرة، خصوصاً أنه كان من المعارضين وضد السلطة وضد سياستها وضد المشاريع العسكرية الغربية بقوة في المنطقة من مشروع الدفاع المشترك إلى مشروع حلف بغداد إلى مشروع أيزنهاور. فقد كان نضال الحزب الشيوعي هو نضال سياسي أكثر منه نضال اجتماعي (طبقي).
س:... طيّب، ولنعد إلى حزب البعث، ما مدى تواصل هذا الحزب ـ أو الحركة القومية العربية بشكل عام ـ مع المحيط السكاني والاجتماعي لمدينة طرابلس: أي منطقة عكار أو المناطق الشرقية للمدينة وهي مناطق مسيحية، هل كان ثمة تواصل على الصعيد السياسي وتواصل فكري قومي عربي؟!... وهل الطلاب الذين هم من المناطق المحيطة كانوا قد تجاوبوا فكرياً وسياسياً وقومياً مع حزب البعث؟!.. هذا جانب والجانب الآخر، هل يمكننا أن نتحدث عن تنوُّع طائفي داخل حزب البعث وبين أصدقائه وأنصاره أم أنّ أعضاءه كانوا من لون طائفي واحد؟!.
هشام زمرلي وحسين ضناوي:... على سبيل المثال، من عكار، كان عضواً في حزب البعث الأستاذ خالد العلي. وقد انتسب إلى الحزب وهو طالب في كلية الحقوق في دمشق. وعندما أنهى دراسته، انضمَّ إلينا وشارك في نشاطاتنا الحزبية. ولابد أن يكون هناك بعض الطلاب الحزبيين من عكار، ولكنني أنا لم أعد أتذكر الأسماء.
ولكن الحزب، حزب البعث، يبدو أنه لم يكن له أيُّ انتشار في منطقة عكار (السبب؟؟.). ذلك أن الأستاذ خالد العلي كانت إقامته الدائمة في طرابلس. أما على الصعيد الطائفي، فكنا من الطائفة الإسلامية سوى اثنين أو ثلاثة من الطائفة المسيحية فيما أذكر: وليد البيطار وهو من عكار (ومنصور هنود وفيروز ديب وهناك بعض الأسماء أيضاً). ومن الطائفة العلوية، من جبل محسن، هناك عدد كبير هم أعضاء في حزب البعث.
وفي الإجمال، كان سكان جبل محسن، الكثيرون منهم يتعاطفون معنا منذ البدايات الأولى. والتعاطف كان يأتي من كون ثمة حركة سياسية قومية ناشطة تمتد على طول الساحل البحري من اللاذقية طرطوس وجَبْلة، فكان في هذه المناطق حضور للبعث. فقد كان هناك نوع من الامتداد السياسي والقومي، ذلك أن معظم العلويين هنا في طرابلس هم في الأصل من سورية. ونحن في الحقيقة نشعر بهذا الامتداد القومي والسياسي مع اللاذقية والمدن الساحلية أكثر من مدينة حمص مع كون حمص أقرب إلينا من اللاذقية. ولكن، ينبغي التأكيد والتوضيح أنه في تلك الفترة لم يخطر ببال أحدنا أنّ هذا مسيحي أو عَلَوي أو مسلم سنّي أو غير ذلك، لم يرد ذلك في تفكيرنا على الإطلاق. (كنا عَلمانيين دون أن نستخدم هذا التعبير، ونعتقد أن الدين لله والوطن للجميع).
س:... لم يعد لديَّ الشيء الكثير من الأسئلة، فقد ألممنا وأحطنا بجميع الجوانب الأساسية والأجواء العامة لنشوء وتطور حزب البعث في مراحله الأولى الأساسية، كما لا تزال تحتضنها الذاكرة من أحداث....
فسؤالي هنا حول التنظيم الداخلي في البدايات والانضباط الحزبي والتقيد بأنظمة الحزب من حيث الاجتماعات وجمع الاشتراكات والتقيد بقرارات القيادة الحزبية...
ج:... طبعاً، طبعاً، كان الانضباط صارماً والتقيد بأوامر الحزب السياسية والأخلاقية والتقيُّد بالسريَّة الحزبية المطلقة.
س:... من هي الوجوه والكادرات البارزة في حزب البعث في طرابلس؟...
ج:... إذا كان لابد من ذكر الأسماء كما ترد على الذاكرة فهم على سبيل المثال، الذين تناوبوا في البدايات على قيادة الشعبة في فترات متعاقبة: أحمد منصور، عبدالرحمن المولوي، هشام زمرلي. وغيرهم وهناك أيضاً القيادات الحزبية البارزة في طرابلس: أحمد بارودي، سعدي الأدهمي، حسين ضناوي، عبدالله الشهّال، خالد العلي، عبدالحميد الصبّاغ...
س:... إنني استغرب كثيراً عندما تتردَّد كثيراً في ذكر أسماء الأعضاء والقيادات الذين لعبوا في مرحلة ما، دوراً في نشاط حزب البعث العربي الاشتراكي. فأنا في منهجي، عندما نتحدث عن حركة سياسية، أنا ضد أن تُسلط الأضواء فقط على شخص القائد أو على قلة قليلة من القادة الحزبيين. مثلاً أن يجري التركيز فقط على دور وقيادة ميشال عفلق وينسب إليه كل شيء وكل صغيرة وكبيرة، فلا يجوز ذلك من وجهة نظري. مع أهمية دوره، لا شك في ذلك، إلا أنه كان يحيط به "رعيل" من الحزبيين القياديين يجب أيضاً الإشارة إلى دورهم والوقوف على ما أدّوه من أعمال لخدمة الحركة، وعفلق مع أهميته الكبرى وغيره، ولكن لولاهم لما استطاع لا هو ولا غيره أن يقوم بتنفيذ أي عمل قام به...
ج:... أكثر من ذلك أذكر أنني عندما عدتُّ من مصر عام 1963- 1964، كنت أنا والدكتور عبدالمجيد الرافعي عضوين في قيادة الشعبة وأنا أمين السرّ. هذا يعني أنه مع كون الدكتور عبدالمجيد الرافعي الوجه البارز للحزب بعد ترشيحه للانتخابات وأكبرنا سناً وعلماً وثقافة، إلاَّ أنه كان عضواً أسوة بباقي الأعضاء الآخرين، وليس له أيُّ امتياز علينا أو أنه هو المسيطر في الحزب ـ ربما يكون قد ابتدأ يظهر ذلك فيما بعد. إنما طوال المرحلة الأولى، فقد كان عضواً حزبياً كالآخرين...
المحامي حسين الضناوي:.. هنا أذكر أنه عام 1960، كنا قد أسقطناه في إحدى الانتخابات الحزبية وفشل فيها، وذلك بعد ما أحرز نجاحاً باهراً في الانتخابات النيابية، وذلك خوفاً من أن يظهر علينا كقائد وإسقاط نظرية أن يصبح زعيم الحزب، وهذه نظرية القائد لم تكن لدينا مقبولة. تلك هي الفكرة قد كانت في البدايات الأولى. بمعنى أنه كان لدينا قيادة جَماعية حقيقية، وكنا نؤمن بذلك.
س:... هنا، في هذا السياق، وكما أعلم ما كان يحصل في بعض المناطق، وخصوصاً عندنا في صيدا، فقد كان يقع بعض الحساسيات الشخصية والخلافات الحزبية أحياناً شديدة مُربكة، أنهكت الحزب كثيراً، هل كان يحصل عندكم داخل الحزب، خلافات حزبية شخصية، أدت إلى انعكاسات داخلية مسيئة للحزب؟
ج:... في البدايات الأولى وطوال المرحلة التي أنا أعرفها لم يحصل شيء من ذلك. ولكن أخذ يبرز أشياء من هذا النوع فيما بعد، في المراحل التالية.
المحامي حسين ضناوي:... لا، لم يحصل أيُّ خلافات شخصية داخلية طوال المراحل الأولى. فأنا منذ عام 1962، لم أعد حزبياً، فقد تركت الحزب. ففي المرحلة التي كنت فيها حزبياً أي حتى 1962، لم يقع أيُّ نوع من الخلافات أو الصراعات الحزبية الداخلية من أيّ نوع كان. ولكن فيما بعد...
س:... طبعاً، فيما بعد، حصلت انشقاقات حزبية بين القيادات والكادرات وصراعات داخلية كانت قد ظهرت إلى العلن، وهي معروفة.
المحامي حسين ضناوي:... في الحقيقة، الذين كانوا حزبيين بعثيين في السابق، بقوْا حتى الآن على علاقة صداقة متينة: مثلاً، هشام، عبدالمجيد، عبدالحميد الصبّاغ، حسين ضناوي وآخرون كُثُر لا يزالون على صداقة متينة وعلى علاقة جيدة...
س:... سؤال أخير حول المرحلة الأولى لحزب البعث في طرابلس، يتعلق بشخصية الدكتور عبدالمجيد الرافعي: ما هو تقويمك لشخصيته، الشخصية السياسية والشخصية الحزبية بحسب معرفتك له، وهذا الجانب ليس للنشر، وإنما خاص بي؟!... فهل يتمتع بشخصية القائد الحزبي المناضل، أم أنه يتمتع بشخصيته الإنسان اللطيف المهذب الديمقراطي...
ج:... له صفتَيْن: لقد صقلته التجارب السياسية والحزبية التي مرَّ بها وأصبح قائداً شعبياً، واستحوذ على تقدير الناس وتقدِّر مواقفه وتكنُّ له كل محبَّة واحترام. في البداية، طبعاً، لم يكن الأمر كذلك... ولكن التجارب الحزبية فيما بعد صقلته. في بادئ الأمر لم تكن حتى كتاباته جيدة، بل عادية. في حين أنه الآن تمرَّس في الكتابة السياسية والقومية وغدا كاتباً حزبياً...
المحامي حسين ضناوي:... عبدالمجيد الرافعي يتمتع بكارسما شعبية، وسهولة الحديث والتواصل مع الناس، وقريب من الناس، متواضع، كسب محبة الناس، إنما العمل الحزبي، التنظيمي، ليس لديه هذه القدرة على القيام بكل ذلك ولا على المتابعة الدؤوبة.
هشام زمرلي:... وهو لم يكن مهيأ لذلك، ولم يمارسه قط. نحن، كنا نمارس العمل الحزبي التنظيمي والمتابعة والملاحقة لكثير من القضايا الحزب وشؤونه المختلفة. الدكتور عبدالمجيد (الرافعي) لم يفعل ذلك... (هو قال ذلك، لهذا حول شؤون الحزب في طرابلس في البدايات، لم يكن لديه فكرة تفصيلية في كل ذلك).
حسين ضناوي:.. عندما كنا حزبيين، أنا أذكر أننا كنا نشتغل في عملية التنظيم ونقوم بإدارة الحلقات الحزبية هنا وهناك وفي كل مكان. فكنت أنا مسؤولاً عن عشر حلقات داخل البلدة... فكنا نعمل في الحزب عملاً تنظيمياً. لكن عبدالمجيد الرافعي، قد كان منذ البداية رجلاً سياسياً، محبوباً، متواضعاً، (من هنا كانت نقطة الانطلاق واستمر حتى النهاية)، في حين أنه على صعيد التنظيم الحزبي لم يكن له أيُّ دراية أو دور. فقد كان لا يتحمّل مسؤولية أيِّ شيء ليس له علاقة به، وفي الوقت نفسه لا يُشعر أحداً أن هذا التنظيم الحزبي خاضعاً له، لا، أبداً!!.. هاتان هما الصفتان البارزتان في شخصية الدكتور عبدالمجيد الرافعي طوال عمله الحزبي في لبنان في المرحلة السابقة.
س:... طيِّب، هذه هي الأشياء التي مازلت تذكرها عن تجربتك الحزبية في مدينتك طرابلس. ومنها انتقلت لمتابعة الدراسة في الجامعة في القاهرة، هنا أودّ أن تحدثني عن تجربتك الحزبية في القاهرة أثناء الدراسة...
ج:... في الحقيقة، إن تجربتنا في مصر كانت محدودة في النهاية، ومقتصرة فقط إلى حد كبير على الطلاب اللبنانيين ونوعاً ما على الطلاب العرب في القاهرة. وكان يتمحور جلُّ نشاطنا حول رابطة الطلاب اللبنانيين ومحاولتنا السيطرة عليها وتوجيهها وُجهة سياسية وقومية معيَّنة. لقد كان مسيطراً على الرابطة في البداية عناصر مستقلة غير حزبية. والحزبيون السابقون علينا كان معظمهم من الجنوب اللبناني وبشكل خاص من صيدا، منهم كما أذكر غسان شرارة، وهشام البساط، ومحمود دندشلي وغيرهم. فقد كانوا أقلية. ولكن عندما جئنا نحن بكثرة من طرابلس، أصبح البعثيون وأصدقاؤهم هم الأكثرية، فاستطعنا أن نغيِّر الموازين وأن نسيطر على الرابطة بشخص غسان شرارة، ذلك أننا أصبحنا نحن الأغلبية. ومن رابطة الطلاب اللبنانيين انطلقنا بواسطة غسان شرارة إلى رابطة الطلاب العرب.
وكنا نتحرك بنشاط بين الطلاب العرب من كل الأقطار ونعمل على نشر فكرة حزب البعث بينهم. وكان هناك أيضاً أناس معروفون على الصعيد الحزبي سواء بين الطلاب العرب أو بين الطلاب المصريين: بين المصريين مثلاً الدكتور علي مختار، وجلال أمين، وأحمد عبدالمعطي حجازي، وهو شاعر في بداياته الأولى. كان يأتي إلى بيتنا سيراً على الأقدام، فلم يكن معه ثمن تذكرة المواصلات، ويتغدى عندنا، وكنا نسمِّيه "صعلوك الحزب".
وقد تعرفنا على كثير من الطلاب الأردنيين البعثيين، وهم كُثُر، وكان بعض الطلاب البعثيين الجزائريين والسعوديين ومن المغرب العربي ومن ليبيا ومن البحرين ومن اليمن. لقد كان الطلاب البعثيون في القاهرة من جميع الدول العربية أكاد أقول دون استثناء، وبخاصة الطلاب البعثيون الفلسطينيون، وهم الأكثر عدداً. وهذا ما جعل حزب البعث أن يوسّع نشاطه الحزبي والتنظيمي إلى أبعد الحدود في جميع الأقطار العربية. القاهرة في تلك الفترة أصبحت عاصمة الفكرة القومية العربية وكانت نقطة الانطلاق ووسيلة لانتشار حزب البعث في جميع أرجاء الوطن العربي.
حسين ضناوي:... في تلك الفترة، عام 1962، كان يوجد في قيادة تنظيم الحزب في القاهرة: عبدالقادر النيّال، حسين ضناوي، هشام زمرلي، صدام التكريتي ـ هذا هو اسمه آنذاك ـ عبدالكريم الشيخلي. وكنت أنا (حسين ضناوي) أمين السر. ملاحظة: مع حدوث الانفصال توقفت الاجتماعات الحزبية، وأصبح الاتصال يتم على الصعيد الفردي، واجتماعات الحلقات كذلك فردية. وكلّفت أنا من قِبل القيادة أن أكون أمين سر تنظيم لبنان.. فكنت اتصل بهم فرادى.... أخيراً، وخوفاً من الأمن واحتياطاً، أصبح هناك فرقة حزبية لبنانية، فرقة عراقية، وهكذا تفرّق الحزب...
هشام زمرلي:... لقد بقيت في الحزب، بعد ما ذهبت إلى سورية، حتى عام 1966، أي حتى حركة 23 شباط. فتركت حينها الحزب، عندما وجدتهم يتقاتلون والصراع العنيف فيما بينهم ومن أجل الوصول إلى السلطة (يعني بعد حدوث الانفصال، تفرَّق في واقع الأمر أعضاء حزب البعث، فلم بعد هناك حزب موحَّد ووجود لأيّ استقرار أو وضوح من حيث مصير الحركة البعثية بمجملها...).
س:... إذا لم يكن لدينا أي شيء نضيفه، ما هي خلاصة تجربتك الحزبية، وخصوصاً تلك التجربة الحزبية التي كنت فيها أمين سر مكتب القيادة القومية والأمين العام ميشال عفلق، وبعده الدكتور منيف الرزّاز.. حدّثني عن ملخص تلك التجربة الحزبية المهمة هي أيضاً...
ج:... هناك ذكريات عامة، ولكن طبعاً، ليس بينها الرابط التاريخي أو التسلسل واضحاً في ذهني. فقد كنت في وقت من الأوقات سكرتير الأمين العام الأستاذ ميشال عفلق ومسؤول مكتب الأمانة العامة: أنّ ملفات الحزب أنا المسؤول عنها وأنا الذي أدعو إلى اجتماعات القيادة القومية. وكان ذلك ما بين 1965 ـ 1966. أذكر مرة أنني كنت أتصل بأعضاء القيادة القومية لدعوتهم إلى الاجتماع. فاتصلت بزوجة اللواء محمد عمران، فقلت لها: الرفيق أبو ناجح موجود؟!.. فقالت لي: مَن يريده؟ فقلت لها: فلان من القيادة القومية. فقالت: "يلعن أبوك على أبو القيادة القومية" وأقفلت الخط. فقلت للأستاذ شبلي العيسمي، نائب الأمين العام، ما حصل معي وأنها سبّتني وسبَّت الحزب. فاستغرب الأستاذ العيسمي، وبعد أن أجرى بعض الاتصالات اتضح أن الَّلجنة العسكرية كانت قد اجتمعت مساءً واتخذت القرار بسفر محمد عمران فوراً، بعد محاكمته في الليلة نفسها واتهامه بأعمال انفرادية وقالوا له: لقد خنت رفاقك وعملت على جرّ القطاعات العسكرية إلى الشحن الطائفي والمذهبي وإلى غير ما هنالك، وبناء على كل ذلك فاتخذنا القرار بترحيلك فوراً، وذلك بعد تقبيله واصطحابه إلى المطار. لقد تمَّ ترحيل محمد عمران فوراً، دون علم القيادة القومية. وهي أعلى سلطة في الحزب وهو عضو فيها. هذا مثل بسيط جداً، يدل على كيف كانت تُدار الأمور.
س:... هذا الحدث من الأهمية أن تحدثني عنه. فأنا لم أخبرك أن اهتمامي الكبير والأساسي هو الكتابة عن حزب البعث وتاريخه العام على الصعيد القومي سواء في سوريا أو في العراق أو في أيِّ قُطر عربي آخر.
ج:... في أحد الاجتماعات تطلب مني القيادة القومية ملفات معينة وإحضارها إلى الاجتماع، فحملتها وعند وصولي إلى الباب يفاجئني محمد عمران خارجاً غاضباً، يسب ويشتم، ويصدمني بصورة عفوية، فتقع الملفات على الأرض. فأُصدم أنا. وأتساءل ما الخبر؟... إنهم يدرسون في الاجتماع ترقية حافظ الأسد من مقدَّم إلى لواء. وكان قد اعترض على ذلك محمد عمران، وحجته في ذلك أن هذه الترقية لابد من أنها سوف تخلق حساسيات في الجيش وفي صفوف الضباط: ترقية ضابط من مقدَّم إلى لواء، وكيف ستكون علاقته مع من هم أعلى منه رتبة حقيقة؟ فعارض محمد عمران معارضة شديدة. فعُرض الأمر على التصويت، فكانت النتيجة عكس ما كان يريدها محمد عمران.
من الأشياء الطريفة التي لها علاقة أيضاً بالحزب، أذكر أنه عندما استلم الأمانة العامة للحزب منيف الرزّاز، كان راتب أعضاء القيادة القومية 1000 ليرة سورية، بما فيهم ميشال عفلق الأمين العام والأعضاء الآخرون. الأمين العام الجديد، منيف الرزّاز، أبدى رأيه أن الألف ليرة سورية لا تكفي، لأن لديه مسؤوليات كبيرة من حيث السكن والأولاد والمعيشة والزوجة في عمان، وبعد البحث والتداول، حسمها هو نفسه قائلاً بأن راتب الأمين العام يجب أن يكون هو نفسه راتب رئيس الدولة، أي ما يقرب من 6000 ليرة سورية. فاتخذ هذا القرار.
فأنا كنت في مكتب الأمانة العامة ومساعد منصور الأطرش في المكتب المالي. وأنا الذي كنت أوزِّع رواتب الأعضاء.. فأخذت راتب ميشال عفلق، وهو 6000 ليرة سورية باعتباره أمين عام سابق والقائد المؤسس للحزب. وقلت هذا هو راتبك الجديد، بعد أن أخذت القيادة القومية هذا القرار الجديد. فما كان من ميشال عفلق إلاّ أن رفض هذا المبلغ ورماه بيده وقال لي: أنا لا أُرتشى. إذهب وقل لهم إن ميشال عفلق يرفض أن يُرتشى!!. أعطني من المبلغ ألف ليرة فقط... فقلت لهم ذلك، فسكتوا جميعاً ولم ينطقوا بكلمة.. علماً أن ميشال عفلق كان يدفع شهرياً 400 ليرة سورية ديناً عليه من أحد الأشخاص.
في الحقيقة، لقد كان في هذه الأمور، زاهداً ومترفِّعاً إلى أقصى حد. وحادثة أخرى، أخو زوجته، فقير درويش، تقاعد، وله قضية عالقة مع المؤسسة الإدارية التي كان يعمل فيها، فاتصل بالأستاذ ميشال عفلق كي يساعده وألحّ في طلبه، فأجابه بأنه لا يتدخّل أبداً في هذه الأمور. وبعد إلحاحه الكبير، اتصل بي الأستاذ عفلق وقال لي: أنا لا أتدخّل ولا أريد أن يسمىَّ عليّ أنني طلبت خدمة من أحد، شوف أنت كيف يمكن أن تساعده، إذا كان بحاجة إلى مساعدة. وهكذا كان...
س:... في هذا النطاق، لديَّ أسئلة بالغة الأهمية بالنسبة إليَّ أنا شخصياً، وتفيدني وتوضِّح لي جوانب لا تزال خافية عليَّ، أودُّ منك أن تصف لي شخصية الدكتور منيف الرزّاز بكل موضوعية ونزاهة وأنت كنت في فترة معيَّنة على معرفة قريبة منه، بما أنك كنت سكرتير الأمانة العامة لحزب البعث في أعوام 1964- 1966، أي حتى قيام حركة 23 شباط، كيف كنت ترى هذه الشخصية الحزبية القيادية، في فترة حرجة ومضطربة في سورية؟.
ج:... دعني أشير في البداية إلى أنه عندما ألَّف الأستاذ صلاح البيطار حكومته الأخيرة (قبل أحداث 23 شباط)، وقبل وقوع الانقلاب، لم يكن الأستاذ ميشال عفلق موافقاً على أن يؤلف هذه الحكومة وتكون برئاسة صلاح البيطار. وبعد التدخلات من قِبَل القيادات الحزبية العليا من هنا ومن هناك والمشاورات الطويلة وافق الأستاذ عفلق ولكنه وضع شروطاً لذلك: أولاً إعطاء هذه الحكومة مهلة شهرين من أجل تعديل النّسَب القيادية في الجيش من حيث الانتماءات الطائفية: تقليل نِسَب الضباط العلويين وزيادة نِسَب ضباط بقية الطوائف الأخرى. وهناك شرط آخر وهو عدم تدخّل اللَّجنة العسكرية في شؤون الحكم والحزب وشروط أخرى وضعها لم أعد أذكرها تماماً. فإذا لم تنفَّذ هذه الشروط في الفترة المعيّنة، تستقيل الحكومة. وقد تمَّ الاتفاق بين الأستاذَيْن ميشال عفلق وصلاح البيطار على إجراء هذه الخطوات. لقد وافق صلاح البيطار، وكذلك الأمر طُرح الموضوع على الأمين العام للحزب الدكتور منيف الرزّاز، الذي هو أيضاً بدوره وافق.
بعد مضي شهرَيْن أو أكثر، ذَكَّر ميشال عفلق رئيس الحكومة صلاح البيطار بالاتفاق الذي تمّ بينهما، بعد أن لم يتم أيٌّ من الشروط التي على أساسها وافق ميشال عفلق على تأليف حكومة البيطار. فكان صلاح البيطار يراوغ ويماطل في الإجابة وإنه يجري الاتصالات اللازمة ويقوم بما يجب عليه أن يقوم به من إجراءات. وأن هناك عراقيل كثيرة يجب تذليلها في بداية الأمر. وكان يتذرَّع بأشياء لم تعجب ميشال عفلق، فزعل وغضب ولم يعد يجتمع معه. والشيء نفسه كان موقف منيف الرزّاز، فلم يكن موقفه موقفاً يقوِّي وضع الحزب في السلطة. بل تُركت الأمور تجري كما في السابق. وكان موقفه داعماً لموقف صلاح البيطار.
من هنا، فإن منيف الرزّاز كان يبدو وكأنه يساير نوعاً ما اللَّجنة العسكرية ويتجنَّب مواجهتها مباشرة. فلم يكن الرزّاز ذلك القيادي الحازم، صاحب الموقف الحاسم أو الصارم. فقد كان يعرف معرفة تامة عيوب ضباط اللَّجنة العسكرية وتدخلاتهم وألاعيبهم، وهو يعرف في الوقت نفسه الحلول التي ينبغي إجراؤها. ولكنه لم يكن يتصدّى لهم (ولم تكن لديه الجرأة لكي يتصدّى لتدخلات اللَّجنة العسكرية في الشؤون السياسية وشؤون الحكم، وهي أمور لا تخصُّها ولا تدخل ضمن اختصاصها الفعلي لحماية سلطة حكم حزب البعث). ولم يكن حازماً في وجه تدخّل القيادات العسكرية في شؤون نظام الحكم. بينما ميشال عفلق، قد كانت له مواقف في السابق فيها كثير من التصدّي والحزم. (وإن بطريقته الخاصة)، وبالمناسبة، كان أعضاء اللَّجنة العسكرية يهابونه ولا يواجهونه بشكل مباشر.
وكانت مواقف القيادة القومية في عهد ميشال عفلق، مواقف حاسمة إلى حد ما، وصلبة وعنيدة، في مواجهة ضباط اللَّجنة العسكرية. أما منيف الرزّاز، كأمين عام، فقد كان يعمل على تسيير الأمور ومماشاة الأمور الصعبة دون أن يتَّخذ أيَّ موقف يشتم منه أنه موقف فيه شيء من الحزم أو التصدّي للمشاكل الطارئة.
لقد قلت فيما سبق إن اللَّجنة العسكرية رحَّلت محمد عمران واصطحبته إلى المطار وودّعته، وهو الرزّاز كأمين عام آخر من يعلم، والقيادة القومية لا علم لها بكل ذلك ومحمد عمران عضو فيها. هذا مثل بسيط على كيف كانت تجري الأمور في تلك المرحلة. محمد عمران، عضو في القيادة القومية، توجَّه إليه اتهامات من قِبَل اللَّجنة العسكرية ويحاكم من قِبلها ويُرحَّل إلى الخارج، ويُعتدى على منصبه الحزبي والعسكري، كل ذلك والقيادة القومية وأمينها العام لا علم لهم بكل ذلك.
ومن جهة أخرى، يجب التنويه بأن منيف الرزّاز إنسان مثقف وأديب، وقارئ وهاوٍ موسيقى، ويضرب على العود ويغني وهو جميل الصوت وظريف وحسن الحديث وجلسته فيها شيء من الطرافة المُمتعة. ولكنه غير حازم، ولو كان لديه شيء من الصلابة، فلربما كان قد استطاع منذ البداية أن يُحدَّ ولو قليلاً من نفوذ العسكر في شؤون الحكم والحزب. وقد يكون السبب في ذلك كله أنه لم يكن له جذورٌ سورية وبالتالي أيُّ نفوذ شخصي بين العسكر والقيادات البعثية في دمشق، فليس له تلك الجذور العائلية أو السياسية القومية في المحيط الجديد الذي وُجد فيه، فهو قد بدأ في رأس قمة هرم القيادة كغريب في موقع لم يُصنع له.
س:... صلاح البيطار؟
ج:... صلاح البيطار إنسان مثقف ثقافة عالية، ومطّلع على تطور الأفكار وشؤون الحزب وما يجري في العالم وله تجربة غنية في الإدارة والسلطة ومعرفة في شؤون الحكم والحكومة. ولكن، كانت مرتبطة به فئة داخل الحزب، بمعنى كان يبدو وكأنه رئيس كتلة حزبية، مما أدَّي إلى أن ذلك لا يساعده لكي يكون حَكَماً بين الجميع، أي بين مختلف الكتل الحزبية الموجودة بينما آنذاك، ميشال عفلق لم يحاول أن يكون له كتلة معيَّنة أو محدَّدة ضمن الحزب،(الجميع يحيطون به ويلتقونه وهو يعتبرهم سواسية، وتقرُّبه إلى هذا أو ذاك، بقدر ما يكون قريباً هو ومخلصاً لحزب البعث.) ولا يريد فيما يبدو أن يكون له كتلة ولا يسعى إلى أن يجمع حوله هذه الفئة أو تلك. بمعنى آخر، ميشال عفلق كان يسعى إلى أن يكون أكثر استقلالية، أو أب أي فوق الجميع. صلاح البيطار، كان حوله كتلة حزبية أو له أصدقاء داخل الحزب. فإذا كان في الحكم، تأتي معه وتلتفّ حوله، ويكون منها وزراء. فإذا ترَك الحكم تستقيل معه. وهي تسمَّى كتلة الشوام (ربما على خطأ)، وجميعهم من أساتذة الجامعة ومثقفين وأصحاب مهن حرة مثلاً: شاكر الفحّام وعبدالله عبدالدايم. وغيرهما من قدامى الحزب، فقد كان ارتباطهم بصلاح البيطار أكثر من ارتباطهم بميشال عفلق.
س:... هل كنت تشعر، وأنت سكرتير الأمانة العامة للقيادة القومية وتلتقي بهم جميعاً بحكم وظيفتك، هل كنت ترى أن صلاح البيطار كان محبوباً، كشخص وكقائد حزبي، من الحزبيين، مدنيين وعسكريين؟ لماذا كانت الشائعة سارية بأن صلاح البيطار لم يكن مقبولاً كشخصية قيادية، على صعيد الحزب بصورة عامة سوى من قلة من الشخصيات الحزبية المحيطة به في الماضي والحاضر: وذلك من حيث طلَّته، قساوة ملامح وجهه، أسلوبه الإداري أو التنظيمي الصارم، إلخ... يُقال ذلك وغيره أيضاً. مثلاً، هل كان مقبولاً من جهة العسكريين؟!...
ج:... لا، أبداً، لأنه كان دائماً يتصدّى لهم، ويواجه العسكريين كلما سنحت له الفرصة والمناسبة. مثلاً، مشروع من المشاريع، يطرحه العسكريون كان يقف في وجهه ويسعى إلى إسقاطه. فكان معروفاً عنه أنه كان دائماً معارضاً للعسكريين في الحكم، ويقف في مواجهتهم وضد تدخلاتهم في شؤون الحكم وسلطة الحكم.. صحيح أنه كان قد وَعَد ميشال عفلق أنه سيعمل على منع تدخلات العسكريين وتنفيذ ما كان قد اتفق عليه، ولكن من وجهة نظره إنما يتم ذلك ويتحقق بالتدريج وليس دفعة واحدة (أو عن طريق انقلاب ما)، ولا يريد أن يتصدى لهم مواجهة، بل باعتماد الأساليب القانونية والتنظيمية سارية المفعول.
هناك أيضاً مسألة مهمة، بالنسبة إلى العلاقة بين صلاح البيطار وميشال عفلق، في الفترة الأخيرة انقطع حبل الودِّ بينهما ولم يعد يتحدث الواحد مع الآخر، أو يتواصل معه. وجاءت القطيعة من جهة ميشال عفلق الذي كان يرفض أن يجتمع به. هنا أذكر شيئاً أيضاً أنّ أخا ميشال عفلق كان قنصلاً في السفارة السورية في ألمانيا، فجاء واتصل بالأستاذ صلاح البيطار، وهو رئيس الحكومة في حينه، وقال له: أنا حزبي قديم، ولم أنصف بتاتاً في كل العهود المتعاقبة لأنني حزبي بعثي ـ وهو أخو ميشال عفلق ـ والآن وأنت رئيس حكومة ووزير الخارجية، فمن حقي أن أنصف وأحصل على ما لي من حقوق. فقال له صلاح البيطار: لك الحق، وكل الحق معك، فأصدر قراراً بتعيينه برتبة سفير. فعرف بالأمر ميشال عفلق، فرفض رفضاً قاطعاً هذا القرار وهذا التعيين، و