النهار - موقع المسيحيين في "الوطن الغامض"- ميشال أبو نجم
إعلام وصحافة /
إدارية- وطنية - طائفية /
2010-11-10
الأربعاء 10-11-2010
موقع المسيحيين في "الوطن الغامض"
بقلم ميشال أبو نجم
من الظلم تعميم النظرة الى المسيحيين على أنَّهم "اكتفوا بالمجد الذي أُعطيَ لهم بتأسيسهم لبنان الكبير، وأنَّ همهم صارَ الحفاظ على هذا المجد الذي لن يدوم عند زوال لبنان أو فقدانه روحَه" (•) لم تتعطَّل لديهِم بعد القدرة على مواجهة المخاطر التي تهدِّدُ فعلاً الكيان اللبناني الذي أنشأوه في مطلع القرن العشرين "ومن دونهم لم يكن لينوجد بشكله الحالي"(1). لم يرفعوا الراية البيضاء، وإن غابَ المشروع الواضح المُفصَّل المكتوب -على ما فعل الحزبان القياديان لدى السُنَّة والشيعة- وشابت الضبابية بعضَ استراتيجياتِهم وأهداف تحالفاتهم وتخبطوا في النقاش والإقتراحات والأفكار، واستمرت الإنقسامات التقليدية بين قواهم السياسية ومرجعياتهم. ولا يغيبُ عن المسيحيين وقواهم الفاعلة أنَّ تفاعل ديناميكيات الصراع الإقليمي – المذهبي وفالق الصدع السُنّي الشيعي الذي تفجَّر بعد اجتياح العراق وبالتالي تداعيات "الولادة المتشنِّجة للشرق الأوسط الجديد"(2) الحافلة بالآلام والدماء، تكادُ تطحنُ البلد الذي أرادوه يوماً وطناً للمساواة والحداثة والتعدد واحترام الحريات، لا حديقةً خلفيّةً لتصفية الحسابات.
العقبات
لم يُلقِ المسيحيون سلاحهم بعد 13 تشرين الأول 1990، ولم تهدأ مقاومتهم حتى في أشدِّ الفترات سوءاً. ومنذ فجر انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005 والأمل في إخراج الوطن من بؤرة النزاعات الإقليمية وإعادة صوغ التوازنات الداخلية المختلَّة في عهد الوصاية، تصدَّر المسيحيون الحركة الشعبية والسياسية حالمين ب"استعادة المبادرة"(3)، بعدما تحرَّر زعماؤهم من المنفى والسجن. لكنَّ الصفعة كانت في انتظارهم!
لم تترك لهم القوى السُنّية والدرزية والشيعية الممسِكة بكعكة السلطة، الفرصةَ لالتقاط الأنفاس. ارتكب وليد جنبلاط وسعد الحريري "الخطيئة الأصلية" في لحظةٍ تأسيسية في عمر الكيان اللبناني، بعدما اعتمدا سياسات النفوذ نفسها في العصر السوري ونسجا "التحالف الرباعي" مع "الثنائية الشيعية"، بتغطية معظم شخصيات "قرنة شهوان"، وذلك في إطار التنافس على "تركة المارونية السياسية في لبنان والمجموعات المسيحية استطراداً"(4). لكن المسيحيين، أو غالبيتهم الساحقة، واجهوا وفرضوا أمراً واقعاً بمباركة الكنيسة المارونية. نجحَ ميشال عون الذي شاركَ في انتخابات 2005 على قاعدةِ تحالفاتٍ متحركة، في الحؤول "دون تمادي سياسات التصرف بالتمثيل المسيحي"(5)، وما زال حتى الساعة، بما يمثِّل من أكثريةٍ مسيحية ولو بسيطة، رقماً صعباً في معادلةٍ غير ثابتة وغير مستقرّة حتى الآن. وفي مشوارها على طريق استعادة الدور المسيحي، حققت الأطراف المسيحية، أو ذات الغالبية المسيحية، على تنوعها واختلافها بين بعضها البعض، خطواتٍ ولو متفرِّقة، في ظلِّ الصراع الحاد الذي يشهده لبنان منذ ال2005.
اختلاف على الأساليب
لا على الأهداف
هذا العرض الإنتقائي والمتعسّف ربما لسلوك القوى السياسية الفاعلة في الوسط المسيحي إزاء واقع تصادم مشروعي "تيار المستقبل" و"حزب الله"، لا يهدف إلى منح هذه القوى أسباباً تخفيفية لأي تقصير أو تنصل في تصوراتها للدور الوطني التاريخي للمسيحيين، بل إلى قراءة هادئة لإمكاناتها وقدراتها وواقع التجاذب الداخلي.
إنَّ غيابَ مشروعٍ واحدٍ وواضحٍ ومكتوب تلتفُّ خلفَه معظم القوى والمرجعيات المسيحية، لا يعني بالضرورة غياب مشاريع أو استراتيجيات أو اتجاهات مسيحية للتعاملِ مع الوضعِ القائم وتحقيق أهدافٍ تلتقي عليها الغالبية الساحقة للمسيحيين. يتمسكُ المسيحيون بالحفاظ على التعددية والتنوع في لبنان، وعلى المساواة التامة في النظام السياسي بغضِّ النظر عن العدد، وعلى النظام الديموقراطي والحريات الفردية والجماعية. وهم لا يختلفون على بقاء لبنان سيداً حراً مستقلاً، أو على تحقيق اللامركزية الإدارية ووضع قانون انتخابٍ عادل، ورفض إجراءات التجنيس غير الدستورية، أو حتى على التوصل إلى حلٍّ لمعضلة سلاح "حزب الله".
وشكَّل التقاطعُ الظرفي مطلع هذا العام على رفض طرح إلغاء الطائفية السياسية وتأكيد حق المغتربين في المشاركة في الإنتخابات النيابية، مثلاً على الدفاع عن مطالب مسيحية مفهومة. الإختلاف إذاً، ولو كان حاداً، هو على أساليب التوصل إلى هذه الأهداف، وبالتالي على كيفية التعاطي مع الأفرقاء الداخليين والقوى الخارجية. ينتهج مسيحيو الأكثرية النيابية الذين تتصدَّرُهم القوات اللبنانية، ومعهم البطريركية المارونية إلى حدٍ كبير، سياسةً مسيحية تقليدية تعتبر أنَّ الكيان اللبناني لا يزالُ مهدداً من سياسات النفوذ السورية والإيرانية التي تستخدمه كورقةً في الصراع مع إسرائيل وواشنطن، وأنَّ الخطرَ الأساسيّ يمثِّله "حزبُ الله" والشيعة المسلّحون، وبالتالي يجب الحفاظ على حلفٍ وثيق مع الغرب ومع قوى "الإعتدال العربي" السُّنّية ذات السياسة المحافظة المستقرّة (مصر، الأردن، السعوديّة)، ولبنانياً الوقوف وراء تيار الحريري لأنَّه الأقرب بمواقفه من عناوين المسيحيّة السياسيّة التقليدية، ومن ثقافةِ المسيحيين اجتماعياً. ويقول هذا الفريق إن مشروعه هو "الدولة" كما يراها من منطلق الإعتراض على سلاحِ "حزب الله"، ويرى أن هذا هو المشروع الذي يجب أن يلتف حوله المسيحيون.
في المقابل، يقاربُ التيارُ الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون وحلفاؤه المسيحيون، الوضع المحلي والإقليمي من وجهة نظرٍ مختلفة. انطلاقاً من الدروس القاسية التي حصلت في العام 2005، وفي طليعتها صدمة التحالف الرباعي، والإندفاع المحموم لتيار المستقبل بعد اغتيال زعيمه للإطباق على مفاصل الحكم وتهميش الآخرين والذهاب حتى النهاية في الصراع مع سوريا واعتبارِ إسقاطِ نظامها مصدراً للإستقرار في لبنان، بادرَ عون إلى التفاهم مع الشريك الشيعي الذي لم يعد بالإمكان تجاهله في أي معادلة مستقبلية، تحت عنوان "الشراكة" و"إعادة التوازن". تحسَّس عون من المخاطر التي يمكنُ أن يخلقها عزلُ الشيعة، الطائفة المقموعة تاريخياً في العالم العربي الإسلامي السُنّي، والمُهمشة في صيغة 1943، رافضاً إعادة إنتاج الثنائية المارونية – السنيّة التي باتت غريبةً على الوقائع والمتغيرات المستجدة. كذلك نأى بنفسه عن السياسة الغربية وخاصةً الأميركية، (مع حرصه على تأكيد العلاقة الحضارية والثقافية مع الغرب وقيمه الإنسانية العالمية) على اعتبار أنَّ المسيحيين سيُستَخدَمون كأداةٍ في النزاع مع القوى الإقليمية الصاعدة، قبل أن تعودَ واشنطن إلى التفاهم معها، على ما أظهرته سياسة ما بعد تقرير بايكر – هاميلتون و"الإنخراط" Engagement مع سوريا والسعي لـ"تغيير سلوكها" وليس تغيير النظام فيها، سابقاً بذلك خلاصات وليد جنبلاط الجديدة بأعوامٍ عدّة. وقد لا تكون دوافع السلوك العوني بعيدةً من المصلحة السياسية المحضّ، غير أنَّها مبنيةٌ على نتائجَ تجارب سياسيةٍ كثيرةٍ مع الولايات المتحدة التي تنظرُ دائماً إلى المسيحيين في لبنان والشرق من زاوية مصالحِها الشرق الأوسطية (إنزال المارينز في العام 1958 بعدَ انقلاب عبد الكريم قاسم في العراق، انسحاب المارينز في العام 1984 بعدَ استهدافِهم، تسليم لبنان إلى سوريا في صفقة 1990، عدم القدرة على حماية الدكتور سمير جعجع من السجن في العام 1994...). ويشهرُ التيار الوطني الحر مشروع بناء "الدولة" انطلاقاً من مواجهة النهج الحريري في الإدارة الإقتصادية والمالية، ومحاربة الفساد وتحقيق "المشروع الإصلاحي الذي يؤسس لدولة المؤسسات والقانون"(6).
تعددية للتعميم
إنَّ مشروعاً مسيحياً موحِّداً يقومُ على التفافِ القوى والشرائح والمرجعيات المسيحية خلفه، على افتراضِ وجودِه أو العملِ عليه، يجب أنْ يقترنَ بوقوف المسيحيين في الوسط بين الفريقين اللذين يتجاذبا لبنان، وتالياً العمل على الجمع بينهما (مقولة الـHonest Broker). لأن توحدهم واصطفافهم خلفَ فريقٍ واحد، أياً يَكُن، سيؤدي حُكْماً إلى تسعيرِ النزاع والإبتعاد عن أهدافِ الدورِ الوطنيّ التاريخيّ للمسيحيين في هذه المرحلة. وفي مطلقِ الأحوال، فإنَّ عدداً من المراقبين يعتبر أنه لحسنِ الحظ توجد تعدديةٍ سياسية في الوسط المسيحي وأنَّ المطلوب هو تعميم هذا النموذج على الطوائف الأخرى وليس العكس. إذ من "شأن هذا التنافس أن يشكِّل منطلقاً ولو بعد حين من أجل الإستفادة من هذه التجربة المتميزة ونقلها إلى الطوائف الإسلامية منعاً للأحادية وبالتالي التأزّم في النظامِ السياسيّ اللبناني، خاصةً أنها تعكسُ تمسكاً بالديموقراطية وثقافتها وآلياتها"(7).
الصراعات الداخلية
من جهةٍ أخرى، لعبِتْ صراعاتُ النفوذ المسيحية الداخلية دوراً في تقويضِ إنتاجِ مشروع موحَّد، وأيضاً في عدم تكريس قواعد للُعبَة داخلِ الطائفة. ففي نظامٍ طائفيّ وفي سياقٍ استوجبَ الإلتزام بمبدأ الأكثرية والأقلية للتعاطي بنديّةٍ مع الطوائف الأخرى، شهدنا قلباً لهذا الواقع وتكريساً للتعاطي مع الأقلية المسيحية – بين العام 2005 و2009- في مقابلِ تهميشِ غالبيةِ 70 في المئة من المسيحيين في ذلك الحين. إلى ذلك، ضُربِت أهدافٌ مسيحيّة أساسيّة وتاريخية بسبب التنافس المسيحي الداخلي. المثل الأبرز على ذلك رفضُ الثلث المعطِّل أو الضامن، وهو حقّ الفيتو الضامن للمجموعات بغضِّ النظر عن عددها، والتمسك بفكرة الديموقراطية التنافسية الأكثرية في ظل واقع الطوائف الإسلامية المُقفلة. وإذا كان مفهوماً حذرُ القوى المسيحية المتحالفة مع "تيار المستقبل" من سياساتِ "حزب الله" الذي تمسَّك بالديموقراطيةِ التوافقية عنواناً للمشاركة، فإنَّ تساؤلاتٍ عديدة تُطرح حول جدوى استعمالِ سلاحٍ ذي حدّين وضربِ مبادئ تاريخية للمسيحية السياسية التي لطالما رفضت فكرةَ الأكثرية والأقلية ورفعت شعاراتٍ تدعو إلى حقوقٍ متساوية للمجموعات اللبنانية.
رئاسة الجمهورية
تطرحُ في النقاش حول "مشروعٍ مسيحي" مسألةُ دور رئيس الجمهورية المسيحي الساهر على الدستور. فمن الواضح أنَّ رئاسةَ الجمهورية، هي من يُفترض أنْ تعبِّر عن الدور المسيحي الوطني التاريخي في تشكيلِ قوّةِ جمعٍ حقيقية بين المشروعين السُني والشيعي المتجهَين نحو التصادم، وأنْ تطلقَ مبادراتٍ في العمق لتحقيقِ هذا الهدف ومحاولة إنضاجٍ حلٍ لبنانيٍّ داخليّ للأزمة، بدلَ اللجوء إلى عواصمِ الخارج. لكن بعيداً من محدودية دور رئاسة الجمهورية في ظلِّ الهوّة الكبيرة بين الفريقين، فإن مظاهر أخرى تحد من فاعلية هذا الدور. إذْ إنَّ انخراطَ رئاسةِ الجمهورية في صراعٍ عبثيّ على الزعامة المسيحية، واعتبار أنَّ الفوز بمعارك ذات طابع محليّ(8) كبلدية جبيل وبضع مقاعد نيابية في انتخابات 2013 - إن حصلَ ذلك - هو تعزيز لموقع الرئاسة، لن يقودَ سوى إلى القضاءِ على آخر مصادر لقوّةِ رئيس الجمهورية وإضعافه واستنزافه في "الجبهة الخطأ"، وإلى المزيد من الشرذمة في صفوف المسيحيين بدل جمعهم (وهذه قاعدة تسري على جميع رؤساء الجمهورية وليس على الرئيس سليمان فحسب).
مشاريع وأفكار متقدمة
إنَّ الحل للأزمة اللبنانية الحالية قد لا يكون في متناول المسيحيين وقدرتهم، صحيح. لا مشروع واحداً متفقاً عليه مسيحياً، صحيح أيضاً. لكن الوسط المسيحي السياسي والنخبوي، على تنوعه واختلافه، لا يزال ينبضُ بالحياة والرؤى والمشاريع والأفكار المتقدمة العصريّة، على الرغم من النكسات وتغير لبنان الحلم الذي تصوروه، وهذا ما لا يحبِطُ الآمال بنهضةٍ مسيحية ومبادرات لحماية بلدهم والتخفيف من وطأة التناقضات الخارجة أساساً على سيطرتهم، والسعي لأن يكون اللبنانيون "بعداً لبنانياً في الخارج، لا بعداً خارجياً في لبنان". ويبقى التحدي الأساسي في إنتاج مشاريع واضحة وفعلية للدولة المدنية التي يطمح المسيحيون، مع شركاء مسلمين وعلمانيين، إلى تحقيقها، بالتوازي مع توسيع الحيّز الخاص للطوائف لإراحتها والتخفيف من وطأة الصراع على السلطة المركزية، على ما تدعو إليه نخبٌ مسيحية عدة(9).
المسيحيون لم يرفعوا الراية البيضاء بعد...
(•) امين الياس – قراءة في وثيقتي "تيار المستقبل" و"حزب الله": الوطن الغامض - “قضايا النهار" 25/10/2010
(1) العماد ميشال عون، "رؤيتي للبنان" ص 37، فريدريك دومون، مكتبة صادر، 2007.
(2) وليّ نصر، "صحوة الشيعة – الصراعات داخل الإسلام وكيف سترسم مستقبل الشرق الأوسط"، ص 17، دار العماد ميشال عون، "رؤيتي للبنان" ص 37، فريدريك دومون، مكتبة صادر، 2007.
(3) سليمان تقي الدين، "الموارنة: استعادة المبادرة"، سلسلة مقالات تحت عنوان "مشروع الدولة وملوك الطوائف"، "السفير" 10/10/2005.
(4) سجعان قزي، "أوقفوا معاملات حصر إرث المارونية السياسية"، "النهار"، 12 حزيران 2006.
(5) شارل شرتوني، "لبنان من النزاعات المديدة إلى دولة القانون"، ص 62، دار النهار، 2006.
(6) سليمان تقي الدين، "الموارنة: استعادة المبادرة"، مصدر سبق ذكره.
(7) عبد الله بو حبيب، "أزمات النظام السياسي والوضع المسيحي في لبنان"، كتاب "عام الأزمات والتغيير – منبر الحوار 2009”، ص 146، مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية، 2010.
(8) للإضاءة على دخول رئاسة الجمهورية التنافس على الزعامة المسيحية وتداعياتها السلبية راجع مقال جهاد الزين "عجائز عمشيت"، "قضايا النهار"، 19/5/2009.
(9) روجيه ديب، "دور الجماعة المسيحية المشرقية هو الألتفاف حول النخب الحاكمة"، "النهار"، 20/10/2010.
(مساعد مدير مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية - عضو لجنة الدراسات في التيار
الوطني الحر)