د. دندشلي - مقوّمات الفكر الناصريّ والمستقبل العربيّ
ندوات /
فكرية /
1987-09-26
مقوّمات الفكر الناصريّ والمستقبل العربيّ (1)
إعداد
د. مصطفى دندشلي
يصادفَ الآن مرورُ سبعة عشرة عاماً على وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وخمسة وثلاثين عاماً على ثورة يوليو والتجربة الناصريّة ، أعني تجربة عبد الناصر في السلطة ، لا تتجاوز الثمانية عشر عاماً . وإنّه لمن نافلة القول التأكيد على أنّ هذه التجربة القوميّة العربيّة هي تجربة غنيّةٌ وغنيّة جداً بأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة ، القوميّة والوطنيّة ، الداخليّة والخارجيّة ، العربيّة والدوليّة . وهي مِن أيّ مِنظار نظرنا إليها ، ومن أيّ زاوية تأملناها ، تَزخرُ بالعِبَر والدروس . ولا أبالغ إذا قلت إنّ الحِقبة الزمنيّة الممتدّة ما بين 1952 ـ 1970، تمثل تاريخ منطقة بكاملها . وبغض النظر عن موقفنا منها ، سواءً كنّا ناصريّين أم غير ناصريّين ، لا بدّ من الاعتراف بأنّها أثّرت في المجتمع العربيّ تأثيراً عميقاً ، حتى أنّه يحق لنا أن نتحدّث عن مجتمع عربيّ قبل ثورة يوليو وعن مجتمع عربي بعد هذه الثورة ، وعن مجتمع عربيّ آخر بعد وفاة عبد الناصر .
ولكي أكون موضوعياً واضحاً في هذه الرؤية التاريخيّة ، لا بدّ من إدخال حركة قوميّة عربيّة أخرى في هذا المنظور ، أعني بها حركة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، هذه الحركة التي تفاعلت ، أثّرت وتأثّرت بمصر الناصريّة وبتجربة عبد الناصر ، سواء كان ذلك من خلال التحالفات واللقاءات أو من خلال الصراعات السياسيّة والقوميّة والأيديولوجيّة .
ولكن مع الأهميّة الكبرى للتجربة الناصريّة في مصر ، ومع غناها السياسيّ والاجتماعيّ ، القوميّ والفكريّ ، إلاّ أنّنا نجد أنّها لم تُدرس بعد الدراسة التفصيليّة ، والدراسة الشاملة التي تسحقها ، وإظهار مواطن القوة ومواطن الضعف في هذه التجربة بموضوعيّة وعلميّة … يضاف إلى ذلك أنّ الكتابة عن قائد هذه الثورة وعن شخصيته الفذّة ، الكتابة الهادفة إلى البحث عن الحقيقة التاريخيّة ، لا تزال قليلةً ونادرة الوجود خاصة باللغة العربيّة …
هذه ملاحظات سريعة أردت أن أبديها وكمقدمة لكلمتي حول مقوّمات شخصيّة عبد الناصر السياسيّة . ولا أدّعي طبعاً أنّني أستطيع الآن وفي الوقت المخصص لي أن أفي الموضوع حقّه ( من البحث والتنقيب )، غير أنّني سأحاول أن أشير سريعاً في كلمتي إلى جوانب ثلاثة أثارت اهتمامي الشخصيّ منذ مدّة طويلة ، وهي تُلقي بعض الضوء ، فيما أعتقد ، على جانب من جوانب شخصية عبد الناصر السياسيّة والقوميّة والأيديولوجيّة وهي :
1 ) الفكر الاستراتيجيّ في مواقف عبد الناصر السياسيّة والقوميّة .
2 ) جانب الاستقلال الوطنيّ في فكره .
3 ) أخيراً التحدّي الكبير الذي رفعه عبد الناصر في وجه الاستعمار الغربيّ .
الفكر الاستراتيجيّ في مواقـف
عبد الناصر السياسيّة والقوميّة :
الملامح الشخصيّة :
لا شكّ في أنّ الصفات الشخصيّة والفكريّة الأساسيّة لأيّ رجل دولة أو لأيّ زعيم سياسيّ ، سيكون لها انعكاساتٌ بارزةٌ في سياسة الدولة الداخليّة والخارجيّة ، وفي مواقفها وتطلعاتها . فلكلّ قائد ثورة أو رجل دولة أو رئيس حزب ، أسلوبٌ في التفكير وطريقة في العمل يطبعان ، بصورة شبه كاملة ، تحركاته في المجال السياسيّ . لذلك أرى إلقاء بعض الأضواء ولو سريعاً على الجوانب المهمّة في شخصيّة عبد الناصر ومقوّماتها الأساسيّة .
أولاً وقبل كلّ شيء ، هناك إجماع على أنّ عبد الناصر هو مؤسّس وقائد وعقل حركة الضباط الأحرار في مصر . هو قائدها من الألف إلى الياء ، كما يقول السادات إلى الصحافي المصريّ أحمد بهاء الدين . فقيادةٌ أو زعامة بهذا الشأن يجب أن يتوافر في صاحبها صفات أساسيّة وهي أنّ عبد الناصر كان بسيطاً في حياته الخاصة والعامة . هادئ الطباع لا تظهر على وجهه دلائل الانفعال أو الغضب بسهولة . بعيداً كلّ البعد عن مظاهر الترف والجاه والعظمة ، ولا يحتلّ المال أو الثراء في حياته وفي تفكيره أيّ اهتمام أو ميل . خلوق إلى أبعد حدود الخلق والأخلاق ، لم تستطع كلّ محاولات الإغراء أن تلوّثه . وهذه صفة ضروريّة وشرط أساسيّ من شروط الزعامة الجماهيريّة في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة . لقد كان منظِّماً من الدرجة الأولى ومنظِّماً في حياته الخاصة والعامة ، باذلاً جهده لتوظيف ذلك لزيادة الكفاءة وإنتاجيّة العمل . قارئ دون كلل أو تعب ، يعمل يومياً ثمانية عشرة ساعة ومتوّجاً ذلك كله بذاكرة غريبة ، ذاكرة فوتوغرافيّة ، كما يقول طبيبه الخاص .
ومن جهة أخرى ، عبد الناصر رجل عسكريّ وشخصيّة عسكريّة ، درس في الكليّة الحربيّة ودرَّس فيها مادة الاستراتيجيّة العسكريّة ، وعاش في صفوف الجيش مدّة ما يقرب من خمسة عشرة سنة ، قبل وصوله إلى السلطة . وهذا الجانب ، كما نعلم ، له أهميّة كبرى في فهم شخصيّة عبد الناصر ، ممّا طبع فكره بجانبين :
1) الجانب التاريخيّ ، بمعنى قراءة التاريخ بإمعان ، ودراسة الأحداث التاريخيّة الكبرى واستخلاص العِبَر من تجاربها . وقراءة التاريخ صفة نادرة الوجود عند معظم القيادات وحكام العرب .
2) والجانب الآخر هو الجانب الاستراتيجيّ والتكتيكيّ ، بمعنى أنّه في أيّ تحرك مهما كان ، خاصة في المجال العسكريّ وبالتالي السياسيّ ، ينبغي تحديد الهدف ، الهدف البعيد والهدف المرحليّ ، تحديداً دقيقاً ، واعياُ وواقعياً ، ومن ثمَّ تعيين الوسائل للوصول إلى الهدف ، بحسب الظروف وموازين القوى في الداخل والخارج .
هذا الجانب الاستراتيجيّ والتكتيكيّ يحتل أهميّة واضحة ، وحيّزاً مهماً في تفكير عبد الناصر وفي تحديد شخصيته السياسيّة وتوضيحها . وقد طبق هذه الاستراتيجيّة العسكريّة بذكاء وواقعيّة متناهيين في المجال السياسيّ .
ماذا يعني ذلك بصريح العبارة ؟؟.. يعني ببساطة عدم خوض المعارك مبدئياً على جبهات متعدّدة ، وبالتالي يجب تحديد الأولويات واختيارها ، والانطلاق من أن ما يقرر العلاقات السياسيّة بين القوى والدول هو القوة ، القوة الماديّة والقوة العسكريّة .
ويبدو هذا الجانب بوضوح في تنظيم حركة الضباط الأحرار وبدايات ثورة يوليو 1952. إنّنا نعلم أنّ حركة الضباط تضمّ اتجاهات سياسيّة وأيديولوجيّة متنوّعة ، حتى لا نقول متناقضة . فلا بدّ إذن من وجود صفة القيادة والموهبة التكتيكيّة في شخصيّة عبد الناصر وفكره ، حتى يستطيع أن يدمج ويبلور هذه التيارات المختلفة في بوتقة واحدة محدّدة الهدف والغاية . ويشير في هذا المجال أحد الضباط الأحرار أحمد حمروش إلى أنّه لم يكن هناك في صفوف الحركة " من وحدة فكريّة ووعي ثقافيّ مشترك لهؤلاء الضباط القادمين من مدارس فكريّة مختلفة وتنظيمات سياسيّة متباينة .. وقد كانت الأفكار الوطنيّة العامة والنقمة على الاستعمار هي الدافع الرئيسيّ لتحرك الضباط . ولكن تفاصيل الأمور كانت متباينة في عقولهم وصورة المستقبل غير واضحة أمامهم ". ويقول حمروش واصفاً شخصيّة عبد الناصر بأنّه كان أرصن زملائه شخصيّة ، وأقلّهم كلاماً وأحسنهم استماعاً وأقدرهم على حلّ المشاكل بمهارة تكتيكيّة ملحوظة ".
بمعنى آخر ، فقد كان قائد الثورة المصريّة يعرف تماماً كيف يوحِّد بين النتفرقات وكان يعرف أيضاً متى يجب أن يتقدم ومتى يجب على العكس من ذلك أن يخطو خطوتين إلى الوراء ". ومن ناحية التحالفات ، فقد مدّت الجسور وفتحت القنوات المختلفة مع أطراف سياسيّة متشعبة [من حزب الوفد إلى بعض التيارات الماركسيّة الحليفة مروراً بجمعية الأخوان المسلمين ] من أجل إنجاح حركة الجيش والإطاحة بالملكيّة المصريّة .
وبعد نجاح حركة الجيش ، تحدّد هدف مجلس قيادة الثورة بالسيطرة على قيادات الجيش على مختلف المستويات ، بعد تصفيته من عناصره الموالية للعهد البائد ومن ثمّ التوجّه نحو الإعلام والصحافة . وفي الوقت نفسه إنشاء حركة سياسيّة تحت اسم " هيئة التحرير ". وعندما استتب الوضع السياسيّ نسبياً وتمّت السيطرة لمجلس قيادة الثورة داخل الجيش ، أصبح من السهولة التخلص من حلفاء الأمس ، وبالدرجة الأولى من جزب الوفد والأخوان المسلمين والتيارات الماركسيّة الموالية للثورة .
وفيما يتعلق بالتحالفات الخارجيّة ، فقد كان من الأهميّة بمكان ، حتى تستطيع الثورة الإطاحة بالعائلة المالكة وتحقيق لحركتها سُبُل النجاح ، كان من الضرورة التكتيكيّة مهادنة الاحتلال البريطانيّ وشلّ أيّ موقف معادٍ للثورة ، وذلك عن طريق استخدام الورقة الأميركيّة كورقة ضاغطة، بمعنى آخر للتخلص من قوة الاحتلال البريطانيّ الجاثمة على صدر مصر منذ عام 1882 ، كان على مجلس قيادة الثورة أن يعتمد على قوة أخرى موازية للقوة البريطانيّة ، من أجل التخلص من قوة الاحتلال ، أي الاعتماد على الضغط الأميركيّ من أجل الحصول على تنازلات من جانب الاحتلال البريطانيّ .
وبعد أن تمّ توقيع المعاهدة المصريّة البريطانيّة في أكتوبر 1954 ، وبعد تثبيت السلطة في الجيش وفي الشارع لصالح مجلس قيادة الثورة برئاسة عبد الناصر ، انطلقت الثورة إلى مرحلة جديدة لمواجهة الأحلاف العسكريّة الغربيّة والأميركيّة تحديداً، في مصر وفي منطقة الشرق الأوسط.
الاستقلال الوطنيّ
في فكر عبد الناصر :
إنّ حركة الضباط الأحرار في تموز 1952، إذا لم تكن ثورة شعبيّة ، بمعنى أنّه قام بها الشعب عَبْر منظماته السياسيّة والاجتماعيّة ، إلاّ أنّها انتقلت مباشرة إلى السير في طريق ثوريّ ، أداته الجيش وأحدثت تغييراً جذرياً في بناء المجتمع المصريّ من جوانبه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة . فالجيش كأداة ماديّة وتنظيميّة هو المهيأ في تلك الظروف للقيام بهذه الحركة. فهو يستمتع بسبب تكوينه ، بتنظيم متين بالنسبة للقوى الأخرى وهو على التصاق بمشاعر الناس وأحاسيسهم الوطنيّة وانتماءاتهم الاجتماعيّة ، وهو بالتالي تعبير عن آمال وطموحات الشعب المصريّ. وهذه الطموحات بعيدة الجذور في التاريخ المصريّ الحديث ، طموحات الاستقلال والتحرر، وهي أبعد من الحوادث الآنيّة التي أحاطت بظروف تكوين حركة يوليو وتطوّرها ونجاحها. فحركة يوليو التي قام بها الجيش تكمن ، كما يقول عبد الناصر ، في ضمير الشعب المصريّ ، الطامح إلى حكم نفسه بنفسه ، وتحقيق استقلاله وحريته وهي محطة تاريخيّة وتتويج للحركة الوطنيّة الاستقلاليّة في تاريخ مصر الحديث .
إنّ شعار الاستقلال الوطنيّ والتحرر من الاحتلال البريطاني كان شعار الحركة الوطنيّة المصريّة منذ حركة الجيش المصريّ الأولى بقيادة أحمد عرابي . لقد كانت مصر واقعة تحت كابوسين منذ مطلع القرن التاسع عشر : 1 ) كابوس سيطرة الأجانب على جميع مرافق الدولة والمجتمع المصريّ . فقد تفاقم الاستبداد وتزايد عدد الأجانب ، خاصة من يونانيين وإيطاليين وبريطانيين ، تزايداً كبيراً حتى أنّهم وصلوا في بداية القرن الحالي إلى السيطرة على المرافق الحيويّة في مصر . ولم يتغيّر الحال قبل 1952 على ما كان عليه من قبل . وإذا أردنا أن نعطي بعض الأرقام السريعة لنظهر مدى تغلغل النفوذ الماليّ والسياسيّ للأجانب نتيجة للامتيازات الأجنبيّة ، فإنّنا نرى مثلاً أنّه في القرن الثامن عشر ، كان بضع مئات من الأجانب في مصر وفي عهد محمد علي وصلوا إلى عشرة آلاف وقبيل حركة أحمد عرابي ، بلغوا في عام 1878، ما يقرب من 169 ألف أجنبيّ ، عدا الأتراك والمماليك .. وبعد فتح قناة السويس ، على سبيل المثال لا الحصر ، وقعت مصر تحت إرهاق ماليّ كبير فوقعت بالتالي تحت سيطرة الأجانب حتى أصبح مبدأ : مصر للمصريين ، وهو شعار حركة عرابي ، مطلباً وطنياً مصرياً عاماً .
2 ) أما الكابوس الثاني الذي كانت ترزح تحته مصر طوال المدة التي سبقت حركة يوليو، فهو يتلخص في هذا الأخطبوط الاستعماريّ المتمثل بالاحتلال البريطانيّ . إثر فشل حركة عرابي ، اتبعت بريطانيا سياستها المشهورة : العقول بريطانيّة والأيدي مصريّة . في مقابل ذلك ، كان من الطبيعيّ أن يُصبح شعار الاستقلال من الاحتلال البريطانيّ مطلباً مصرياً عاماً رفعه الحزب الوطنيّ بقيادة مصطفى كامل ، باعث النهضة الوطنيّة الحديثة ، ومطلب الحركة الشعبيّة الاستقلاليّة بقيادة سعد زغلول عام 1919 .
لذلك فإنّ حركة يوليو هي تتويج للحركة الاستقلاليّة وللحركة النضاليّة الطويلة ضدّ السيطرة ، سيطرة الأجانب وسيطرة الاحتلال البريطانيّ . ومن الطبيعيّ أن يكون الهدف الأوّل لثورة يوليو تحقيق الاستقلال الوطنيّ وتحرير مصر من الاحتلال البريطانيّ . وفي هذا السياق نبرز كلّ معاني الشعار الذي رفعته الثورة منذ بداياتها الأولى وهو : ارفع رأسك يا أخي ، فقد مضى عهد الاستعمار أو عهد الاستعباد والاستغلال في صياغات أخرى . يعني أنّ الشعب المصريّ عموماً والفلاح المصريّ بالذات كان مطأطأ الرأس طوال عصور التبعيّة ونتيجة الخضوع السياسيّ والاجتماعيّ والاستغلال الاقتصاديّ . حتى أنّ الشعب المصريّ كان يشعر أن بلده ليست له : الأجنبيّ احتل العرش وامتلك الأرض . فالثورة تدعوه بقوة وحزم بأن يرفع رأسه وأن ينفض عنه غبار الذل وأن يتمسك بأهداب العزّة والكرامة . كلّ خطابات رجال الثورة وكلّ خطابات عبد الناصر ومواقفه وتصريحاته السياسيّة في بدايات الثورة تحديداً ، كانت تركز حول هذا الجانب وتتمحور حول شعار الاستقلال الوطنيّ وتحرير مصر من الاحتلال الأجنبيّ .
وبالفعل فقد أخذت المحادثات التي أجراها مجلس قيادة الثورة مع القوات البريطانيّة ، الجهد الأكبر في تلك المرحلة ، حتى تمّ أخيراً التوقيع على الاتفاقيّة المصريّة البريطانيّة في أكتوبر 1954، والحصول من المحتل ما يمكن حصوله من مكاسب استقلاليّة في تلك الظروف الداخليّة والدوليّة .
التحدّي الكبير
إنّ أوّل تحدٍ واجهته حركة يوليو يمكن صياغته بهذا السؤال : كيف يمكن تحقيق الهدف الاستراتيجيّ للحركة وهو الاستقلال الوطنيّ في وجه الاحتلال الأجنبيّ من جهة ، وتحقيق التحرر الاجتماعيّ في الداخل من جهة أخرى . بمعنى آخر ، كيف يمكن تحقيق ثورتين في آن معاً : الثورة السياسيّة والثورة الاجتماعيّة . إذ أنّ الثورة السياسيّة تتطلّب جمع الصفوف ورصّها لمواجهة العدو الخارجيّ والعدو المشترك وهو الاستعمار ، في حين أنّ الثورة الاجتماعيّة تؤدّي بطبيعتها إلى الصراعات الاجتماعيّة بين الطبقات . هذه إحدى الصعوبات التي واجهتها الثورة المصريّة . ولكنّها لم تتردّد كثيراً في هذا الموضوع ، ذلك أنّ فشل جميع الحركات الوطنيّة السابقة على حركة يوليو أنّها كانت تريد أن تحقّق الاستقلال الوطنيّ عن طريق قيادات ملاكي الأراضي الكبار والبرجوازيّة الماليّة والزراعيّة . من هنا اختيار الحركة السير في الطريقين وفي تحقيق الثورتين معاً . ففي الوقت الذي تخلصت فيه من سلطة العائلة المالكة وأتباعها وخاضت معركة الاستقلال الوطنيّ ضدّ الاحتلال البريطانيّ ، أعلنت في الشهر الثالث للثورة ـ أيلول 1952 ـ تطبيق الإصلاح الزراعيّ في مصر ومحاربة الإقطاع ورأس المال المحتكر .
التحدّي الثاني الذي واجهته الثورة هو التالي : لا يمكن تحقيق الاستقلال الوطنيّ لأيّ دولة والمحافظة عليه ، طالما أنّ الدول المجاورة لها فاقدة لهذا الاستقلال . انطلاقاً من هذا المبدأ الاستراتيجيّ الهام وانسجاماً مع خطّها القوميّ التحرريّ ، وفي الوقت الذي ثبتت فيه الثورة أوضاعها الداخليّة وأرست أسس استقلالها الوطنيّ الداخليّ ، انتقلت إلى محاربة الأحلاف العسكريّة الغربيّة في المنطقة العربيّة وفي القارة الأفريقيّة ومنطقة الشرق الأوسط . فلم ترفض فقط مصر الناصريّة ، رغم الضغوط الدوليّة عليها والأميركيّة بوجه خاص ، الدخول في مشاريع الأحلاف الغربيّة ، وإنّما عملت بقوة وبأسلوب سياسيّ وإعلاميّ غير مألوف آنذاك ، لمنع الدول العربيّة ودول الشرق الأوسط من الدخول في هذه الأحلاف .
والتحدّي الثالث والأهمّ هو ما أُطلق عليه " اتفاقيّة الأسلحة التشيكيّة "، أيلول 1955، هذا التحدّي زجهه عبد الناصر إلى الاستعمار الغربيّ وإلى الإمبرياليّة الأميركيّة ، ذلك أنّ منطقة الشرق الأوسط كانت تُعتبر حتى ذلك الحين ، منطقة نفوذ غربيّة ، لا تزاحم عليها أو تنافس ، خاصة من قِبَل الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكيّة . وإنّنا نعلم ، كمثل بسيط على ذلك ، أن المواطن العربيّ كان محظوراً عليه قانوناً أن يقوم بزيارة أحد البلاد الاشتراكيّة وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي ، فكانت تُعتبر آنذاك هذه الزيارة جريمة لا تغتفر . ولا نزال نذكر ما كان يشار مثلاً على جواز سفر أيّ لبنانيّ أنّه يسمح لحامله دخول جميع البلاد عدا الاتحاد السوفياتي والدول الشيوعيّة . من هنا ، أهميّة هذا التحدّي التاريخيّ لعبد الناصر . لذلك فقد استقبلت الجماهير العربيّة هذا التحدّي الموجّه ضدّ الغرب ، بتأييد وحماس شديدين . كما تلقت الحركات القوميّة والتقدميّة إعلان الاتفاق العسكريّ مع دولة اشتراكيّة ، كشيء من الدهشة ، أنّها لم تكن لتنتظر ذلك وأنّ ثورة يوليو قد فاجأتها بهذه الخطوة بعد أن كانت تنتظر منها عكس ذلك . وأخذت أصداء ضَحكة عبد الناصر عند إعلان الاتفاق فس ساحة المنشية في الإسكندرية ، ضحكة تحمل معاني السخرية والتحدّي للغرب كلّه ، أخذت أصداؤها تتردّد في جميع أرجاء الوطن العربيّ .
ولكن التحدّي الرابع والتاريخيّ الذي رفعه عبد الناصر في وجه الغرب والاستراتيجيّة الأميركيّة في المنطقة هو تأميم شركة قناة السويس ، وما نتج عن ذلك فقدان الغرب لأعصابه وعقله، فقام بمغامرته المجنونة بشنّ اعتداء على مصر بالتواطئ مع الدولة الصهيونيّة . فهنا لا بدّ من إبداء بعض الملاحظات :
الملاحظة الأولى أظهرت إدارة معركة التأميم وإدارة معركة السويس ، كلّ مواهب عبد الناصر التكتيكيّة .
الملاحظة الثانية ظهور قيادة جديدة في المنطقة العربيّة وزعامة جديدة التفت حولها الجماهير العربيّة بشكل منقطع النظير ، وانعقدت منذ ذلك الحين صلات حميمة لا انفصام بعدها بين جماهير الوطن العربيّ وزعامة عبد الناصر .
الملاحظة الثالثة عبد الناصر نفسه أدرك ما لمعركة السويس من أهميّة تاريخيّة ومن أهميّة قوميّة وشعبيّة ، فكان يأتي على ذكرها والتذكير بها في جميع خطبه اللاحقة .
التحدّي الخامس
هو قيام الجمهوريّة العربيّة المتحدة بوحدة مصر وسوريا عام 1958. هذا التحدّي التاريخيّ أطلق العواطف المكبوتة للجماهير العربيّة وخلّد في ذاكرة التاريخ مظاهرات الابتهاج والتأييد والتي لا يمكن أن نفهمها عن طريق العقل وحده .
فنحن شعوب مقهورة على أمرها وقد مورس علينا شتّى أنواع الاضطهاد والاستبداد والاستغلال في عهود طويلة . وفي ضمير شعوبنا وعقولها ووعيها أن مشكلتنا الأساسيّة والرئيسة هي مع الغرب الاستعماريّ والإمبرياليّ ، غرب معاهدة سايكس ـ بيكو التقسيميّة للمنطقة العربيّة ، غرب سياسة " فرق تسدّ " ووعد بلفور وقياك دولة إسرائيل في قلب الأمة العربيّة .. فكان شعبنا العربيّ الذي يشعر في أعماقه بعزّته وكرامته وعظمة تاريخه الماضي من جهة ، وانحطاط حاضره الراهن من جهة أخرى ، فكان ينتظر قيادة جديدة تواجه تحديات الغرب ، فكانت قيادة عبد الناصر . وبالرغم من النكسات والأخطاء التي وقعت فيها ، بقيت هذه القيادة وهذه الزعامة الناصريّة تستحوذ على ثقة الجماهير والتفافها حولها وتأييدهم لها ، جماهير أعوام 55 / 56 / 58 / 67 من واقع الهزيمة وجماهير 1970 .
هذه هي بنظري مقوّمات زعامة عبد الناصر في حُقبة زمنيّة مهمّة وخطيرة من تاريخنا ، حاولت سريعاً أن أستعرض محطاتها الرئيسة : إنّ الموضوع غني وغني جداً وهو يحتاج إلى وقفات أطول وتأملات أعمق .
المستقبل العربي ؟
والآن ما العمل ؟.. هل يجب أن نبقى أسيري التشرذم والتجزئة ، أم أنّه يجب أن ننطلق من جديد لنكوّن رؤية جديدة لمستقبلنا العربيّ ، تقوم على استقراء تاريخنا المعاصر واستخلاص العِبَر من نكساتنا الماضية ؟!.. إنّ نظرة تأمليّة للتاريخ ، ولتاريخ العرب الحديث ، تُظهر لنا بصورة تشبه اليقين أنّ فكرة العروبة تبقى ، بالرغم من الهزائم والأخطاء ـ وهي كثيرة وليكن لدينا الجرأة والشجاعة للاعتراف بذلك ـ أقول تبقى فكرة العروبة هي الجامع المشترك لسكان هذه المنطقة الناطقة بالضاد .
ولطن فكرة العروبة هذه فكرة جديدة بمفهومها ومضمونها ، جديدة بمنطلقاتها وأبعادها ، جديدة بنظرتها إلى المجتمع وإلى الإنسان العربيّ . وفكرة العروبة هي لا أرى سبيلاً إلى اكتشافها والاهتداء إليها من جديد إلاّ عِبْر نقد التجارب السابقة ، نقد التجربة القوميّة التقدميّة نقداً تاريخياً موضوعياً لا لُبْس فيه ولا موالاة ، انطلاقاً من نقد التجربة الناصريّة وتجربة حركة البعث العربيّ الاشتراكيّ ونقد تجربة حركة القوميين العرب وحركات التحرر العربيّة كافة ومنها حركة المقاومة الفلسطينيّة ، حتى نصل بعد الجهد العقليّ والعلميّ ومن خلال النقد ونقد النقد إلى هذا المفهوم الجديد للعروبة الجديدة ، وهي عروبة مضمونها حضاريّ ومقوّماتها اجتماعيّة ديمقراطيّة وأبعادها المستقبليّة ومحورُ كلّ ذلك هو الإنسان .
___________________________________________________________________________________
1) كلمة الدكتور مصطفى دندشلي ، في النّدوة الفكريّة ، بتاريخ 26 أيلول 1987 .