حقوق الإنسان في لبنان
ندوات /
إجتماعية /
1990-12-11
المركـز الثقافـي
للبحوث والتوثيق
صيـدا
نـدوة
حقوق الإنسان في لبنان
المحاضرون : الدكتور روحي بعلبكي جمعية حقوق الإنسان + ندوة الدراسات+
أستاذ بكلية الحقوق.
القاضي حسن القواس رئيس محكمة الجنايات+ رئيس جمعيـة
السلم الأهلي الصادر عن الجمعية العامة
للأمم المتحدة.
الدكتور مصطفى دندشلي رئيس المركز الثقافي للبحوث والتوثيق
التقـديـم : أهمية الموضوع المطروح للنقاش
بمناسبة الذكرى السنوية لإعلان حقوق الإنسان
10 كانون الأول 1948
ـ أهمية الموضوع والتأكيد عليه بعد الحرب اللبنانية التي أمتهن الإنسان فيها…
ـ التذكير بحقوق الإنسان.
شكر الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان وللصديقين: الأستاذ مغيزل + د. بعلبكي
كنا نأمل أن يتم اللقاء سابقـاً.
الزمـان : الساعة الرابعة من بعد ظهر الثلاثاء، 11 كانون الأول 1990
المكـان : دار العناية ـ الصالحية.
* نظرة تاريخية حول حقوق الإنسان.
إعلان الاستقلال الأميركي 4 تموز 1776
* الفكرة ـ نظرية الحقوق الطبيعية للإنسان التي نادى بها لوك وروسو
* الثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان [وثيقة مهمة] 26 آب 1789. وضمنت هذه الوثيقة الدستور الفرنسي كمقدمة عام 1791.
* وثيقة تاريخية مهمة وهامة في تاريخ الدساتير الفرنسية. وضعها "سييس" Sayyes وافقت عليها الجمعية التأسيسية 26 آب 1789. وضمنت في دستور 1791 باعتبارها مقدمة له.. وهي مستمدة من نظريات روسو وإعلان الاستقلال الأميركي.
ونصّت على حقوق الفرد التي لا يجوز التصرف فيها وهي الحرية والملكية والأمن وأكدت المساواة وسيادة الشعب، مصدر السلطات.
ملاحظة: أغفلت الوثيقة ذكر الواجبات
17 مادة الحرية والمساواة والمحافظة على الحقوق الطبيعية للإنسان. وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الاستعباد سيادة الأمة والشعب..
الحرية مسموحة في حدود عدم إذاء الآخرين والإضرار بهم والمتهم برئ حتى تثبت إدانته.
حرية الآراء والمعتقدات السياسية والدينية حرية الكتابة والقول ونقل الآراء.
الإعـلان العالمي لحقـوق الإنسـان الصادر عـن الجمعيـة العامـة للأمم المتحـدة 10 كانون الأول 1948.
ثلاثون مادة
4 صكوك قانونية رئيسية للأمم المتحدة تتعلق بتحديد وضمان وحماية حقوق الإنسان.
1 ـ الإعـلان.
2 ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية + الاجتماعية والثقافية (1966).
3 ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966).
4 ـ والبروتوكول الاختياري للعهد الأخير..
لجميع أعضاء الأسرة البشرية، حقوق غير قابلة للتعرف ولها حرمتها.
العهــدان: الحماية لحقوق وحريات الإنسان والشعوب وحقها في تقرير مصيرها ومنع جميع أشكال التمييز في ممارسة حقوق الإنسان.
العهد الأول: الحق في العمل وحرية اختياره، وفي الأجور العادلة وتكوين النقابات والضمان الاجتماعي، وفي مستوى من المعيشة كريم، والتحرر من الجوع والمرض والحق في الصحة والتعليم.
العهد الثاني: (الحقوق المدنية والسياسية: حق كل إنسان في الحرية والحياة والأمن على شخصه وحياته، والتحرر من الظروف القاسية واللا إنسانية ومن الرق: للإنسان الحق في الحصانة من الاعتقال التعسفي وقر المحاكمة العادلة والاعتراف له بالشخصية القانونية وله الحق في حرية الفكر والعقيدة والدين وحرية الرأي ـ التعبير وحرية الانتقال والهجرة ووحرية تكون الجمعيات، إلخ…
الآن في ظروفنا
عصرنا عصر: التأكيد على حرية الإنسان، احترام شخصه حقه في الحياة والعيش والاعتقاد.
كيف يمكن تكريس هذه المبادئ:
1 ـ عملية التعقيم.
2 ـ السلطة السياسية.
3 ـ تحويل هذه المبادئ إلى قوانين وأنظمة تدخل إلى المدرسة + البيت+ المجتمع.
4 ـ كي نصبح جزءاً من شخصه وشخصيته.
أخيراً توصية ترفع إلى الجمعية اللبنانية لحقوق الإنسان:
1 ـ التواجد في المنطقة.
2 ـ عقد الندوات والمحاضرات.
3 ـ توزيع النشرات والمطبوعات.
الدكتور مصطفى دندشلي
المتحدث الثالث والأخيرة في هذه الندوة، الدكتور مصطفى دندشلي فأشار إلى المحطات التاريخية الرئيسية التي مرّ بها الإعلان لحقوق الإنسان منذ الثورة الفرنسية حتى يومنا الحاضر وأبرز أهمية مفاهيم الحرية والمساواة والحقوق الطبيعية للإنسان ومقاومة الاستعباد وحرية الرأي والمعتقد والاجتماع والقول والتنقل.. ثم قال: إننا نعيش الآن في عصر يزداد فيه التأكيد على حرية الإنسان وتحرر واحترام شخصه وحقه في الحياة والعيش الكريم ونسأل: كيف يمكن تكريس هذه المبادئ حتى تصبح جزءاً من شخصيته السياسية والاجتماعية والثقافية؟! فأجاب أهمية المبادئ العامة ليست في نصوصها إنما هي في تقيتها وممارستها العامة والخاصة لذلك ينبغي على السلطة السياسية من قمة هرمها حتى القاعدة أن تؤمن هي أولاً بهذه المبادئ، مبادئ الحرية والديمقراطية وأن تتقيد بها فعلاً لا قولاً وأن تحولها إلى أنظمة وتوافيق رادعة وتعمل على تطبيقها وممارستها في البيت والمدرسة والمجتمع.. فكيف يمكن للمواطن أن يؤمن بالحرية والنزاهة ويطبق في علاقات قواعد العدل والمساواة وحقوق الإنسان الآخر، إذا كان يرى بأم العين صباح مساء مبادئ القوانين تنتهك وعمليات القمع ترتكب والاستخفاف بأبسط مبادئ الإنسانية والحرية والعدالة تداس من قِبَل من هم في قمة السلطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو في أجهزتها.. الإصلاح يجب أن ينطلق من السلطة السياسية وفيها أولاً من أجهزتها المتنوعة وأنظمتها الموضوعة حتى تنقل بعد ذلك إلى المجتمع وإلى تكوين رأي عام يراقب ويحاسب.
موجز لكلمة الدكتور روحي البعلبكي
ألقيت في الندوة الفكرية بعنوان "لبنان وحقوق الإنسان"
بمناسبة اليوم العالمي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، صيدا
الثلاثاء 11/12/1990
رأى الدكتور روحي البعلبكي أن لبنان خطا خطوة واسعة حينما أقرّ في مقدمة التعديلات الدستورية الأخيرة التزام لبنان بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتفاءل بانبلاج فجر سلام مشرق بفضل اتفاق الطائف، يساعدنا على جعل يوم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان انطلاقة جديدة نحو تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي، ونحو تحرير الإنسان من قهر الإنسان في لبنان، ونحو تحرير المواطن من الفقر والجهل والتسلط، ونحو تحرير الفرد الضعيف من أسباب ضعفه، بقدر الإمكان، بإعطاء حماية خاصة للمستضعفين والعاجزين والمعوَّقين وللمَنْسِيِّين من نساء وأطفال.
وقد شرح الشرعة الدولية لحقوق الإنسان المكونة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافيـة، والعهد الدولي الخاص بالحقـوق المدنيـة والسياسيـة، مبيناً موقع كل منهما في مجال حماية حقوق الإنسان دولياً وداخلياً. ثم قال:
نحتفل هذا العام بالذكرى الثانية والأربعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونحن على عتبة تطورات هامة بدأنا نشهد بوادر بعض منها ونستشرف آفاق بعضها الآخر. ومهما كانت هذه التطورات الإقليمية والدولية خطيرة وعميقة الأثر، فإنه لا يسعنا في هذه الذكرى إلاّ أن نتفاءل بأن سياسة الوفاق والتعاون بدأت تطبع بوضوح مختلف مناحي العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة، وفي هذا ما يدعونا إلى أن نستبشر خيراً في يشأن تعزيز العلاقات الودية والسلمية بين الدول وتنشيط المؤسسات الدولية والمحلية وتفعيل دورها في حماية حقوق الإنسان والدول والشعوب.
لقد بذلت الأمم المتحدة جهوداً عظيمة لفرض احترام شامل لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. فالسلم والأمن يفترضان أكثر من مجرد غياب للنزاع المسلّح. إنهما يفترضان شعوراً عاماً بالرضى لا يتوفر إلاّ عن طريق تحقيق أمنيات الأفراد والشعوب وتطلعاتهم في مختلف أنحاء العالم. وإذا كان من الصعب أن نكفل السلم الأمني باستمرار، فإن الكثير يمكن فعله لترسيخ قواعد السلم الاجتماعي والاقتصادي والحياتي من خلال تعزيز حقوق الإنسان وإزالة الفقر والجهل والتعصب. فالسلم ينبغي أن يكون عملية ديناميكية ومستمرة في سبيل تحقيق العدالة والحرية والإنماء.
صيدا ـ المركز الثقافي للبحوث والتوثيق
لبنان وحقوق الإنسان
كلمة
القاضي حسن القواس
يحتفل العالم في مثل هذه الأيام من كل عام بإعلان حقوق الإنسان، ليخلق ثورة الإنسان على الظلم. وكفاح البشرية من أجل نشر العدالة وبسط مبادئ الحرية والمساواة والأخوة بين البشر.
أما الوازع، فلم يكن في البدء منصوصاً عليه في قوانين موضوعية تهيب بالإنسان وتخيفه وتردعه، بل إن الواجب الإنساني لاحترام حقوق الإنسان أزلي أبدي لا يتغير لارتباطه بالطبيعة البشرية، التي تحمل في ذاتها منذ الخليفة وازع الضمير الدائم الدؤوب اليقظ الذي يوخز صاحبه وينهشه فَيَهْديه إلى الخير وينهيه عن الشر، ويدلُّه على سواء السبيل.
وهذه الصفة الإنسانية أخصها الله بالبشر، وكرم بها الإنسان بين مخلوقاته.
"ولقد كَرَّمنا بني آدم… وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفصيلاً" (17 الإسراء 70).
وجعل منه خليفة في الأرض، ومخلوقاً إلهياً رفعه فوق بعض مخلوقاته، ونفخ فيه من روحه، وصوَّره وأحسن تصويره، واختصه وحده بالوعي دون سائر الكائنات المنظورة، وعلمه ما لا يعلم.
فتقول الآيات الكريمة: "…إني جاعل في الأرض خليفة…" (2 البقرة30).
"وهو الذي جعلكم خلائف الأرضِ ورفِع بَعْضَكَمْ فوق بعضٍ درجاتٍ (6 الأنعام 165).
"فإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (15 الحِجرْ 29).
"وصَوَّركم فَأَحْسن صُوَركم" (40 غافر 64)
(64 التغابن 3)
"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" (95 التين 4)
"علم الإنسان ما لم يعلم" (96 العلق 5)
ولكن إذا كان الإنسان قد اصطفاه الله وخلقه في أحسن تقويم، وجعله خليفة في الأرض، فلما الظلم، ولما الحروب، ولماذا الاستغلال وكبتُ الحريات والخطفِ والقتل والتعصب والحقد بين الناس؟
أهكذا نَرُدُّ إلى الله العبادة والشكر، صلاة مغمسة بالدماء وشعارات مزيفة بالتعصب والبدع والحقد والجهل؟
أين شعار الحرية ودستورها؟
أين وازع الضمير والدين؟
أين هيبة القانون؟
لما سقطنا في الحرب اللبنانية إلى أسفل سافلين؟ بعدما كان لبنان يتألق بين الدول بالحضارة والرقي والحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان، وبنظام التسامح والمحبة بين مختلف الأديان والطوائف والفرق والأحزاب، حتى صار مضرب الأمثال وقدوة يُحتذى بها بين دساتير الدول التي كانت تتخبط بمشاكل طائفية وعنصرية منذ زمن بعيد؟ ماذا حل بنا؟
هلا تذكرنا اضطهاد اليهود وشتاتهـم من الظلـم منذ أيام موسى عليه السلام إلى أيام النازيـة؟
وعذاب السيد المسيح لخلاص الإنسانية بالإيمان والحرية والمحبة والإخاء؟
وهجرة النبي مع المؤمنين الأوائل هرباً من الظلم والعذاب؟
فحروب الدول الطاغية والكبرى منذ فجر التاريخ إلى اليوم في سبيل الاستعباد والاستثمار والاستعمار؟
هل أن ظلم الآخرين في الغرب، يبرر غزو الأرض المقدسة وطرد أهلها وتهجيرهم وإبادة الإنسان فيها؟ وخلق إسرائيل ممسوخة ودعمها ومساعدتها وتقويتها واستكبارها؟ وهدم لبنان واحتلال أرضه وإذلال الإنسان وإفقاره وتهجيره وقتل الأبرياء فيه؟
وأخيراً احتلال صحراء النفط. ثم بزغ وجه لبنان الجديد من تحت الركام والانقاض، وكأنه حلم لفاجعة دامت أكثر من خمس عشرة سنة.
وهكذا نرى أن الضمير والأديان والقوانين كلها التي تنذر الإنسان وتردعه لتهديه إلى الخير إن كانت لم تنجح في هديه وردعه، فلانة قد سقط بملىء إرادته في الخطيئة وخرق حقوق الإنسان وخالف كلام الله على مشيئته. ويكون قد اختار لنفسه طريق الشر وابتعد عن الخير. ولا جدوى في التذرع والقول إن المسؤولية الكبرى تقع على الغير، على الصغار دون الكبار أو على فريق دون الآخر. فالمسؤولية يجب أن تطال الجميع دون استثناء، والعقوبـة هي خير رادع لاستعادة الاطمئنـان والحرية والعدالة.
وإلاّ كيف يطمئن الإنسان إلى أن الحرية عادت إلى النفوس، وأن العدالة أخذت مجراها الطبيعي، وأن الدولة أصبح في مقدورها أن تبسط الأمن وترفع الظلم، إن لم تُقمع كل الجرائم التي وقعت وتُكشَف إلى العلن، من جريمة اغتيال معروف سعد إلى جريمة اغتيال رينه معوض، ثم تلاحق كل الجرائم التي وقعت على أمن الدولة الخارجي والداخلي، من الخيانة إلى التجسس والصلات بالعدو والتي تمس بالقانون الدولي، والجرائم التي نالت من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، والجرائم التي وقعت على الدستور وأدت إلى اغتصاب سلطات سياسية أو مدنية أو عسكرية، وأعمال الفتنة والإرهاب، والجرائم التي نالت من الوحدة الوطنية، أو عكرت الصفاء بين عناصر الأمة، أو نالت من مكانة الدولة المالية والثقة العملة الوطنية، والجرائم التي وقعت على السلامة العامة، وعلى الإنسان وحريته وكرامته وماله، وغيرها الكثير من الجرائم المقترفة بحق الوطن وأبنائه.
إنها العبرة، والعبرة لمن يعتبر. فالعبرة اختبرناها وعشناها مع الحرب. والحرية، حرية الإيمان والعقيدة والأديان هي التي كانت مستهدفة في الأصل لتكون وسيلة للطعن والاختراق. وهي التي كانت مادة للتفجير، فاستخدمت ستار التمرير المؤامرة، وإحداث الفتنة، وإشعال نار الحرب وإضرامها طوال عقد ونيف.
وإننا إذ نتناول في موضوعنا جانباً من هذه الحرية ونحصره في العقيدة والإيمان، فلأننا نجد أن الحرب اللبنانية التي انتهت منذ أيام، قد تركت في نفوسنا حسرة ولوعة، وقد آن للمؤمنين الصالحين الصابرين الصادقين أن ينظروا إلى الحقيقة نظرة ثاقبة، وأن يتبينوا الحق من الباطل، فتبطش الدولة بحق وعدالة وحزم، دون حق وانتقام، فالناس تنتظر هذه الخطوة الحاسمة الفاصلة بحذر ولهفة وخوف وشوق إلى حرية الرأي والفكر والكلام، فتبايع وتبارك وتستعيد الثقة أو تنشد مع أقران ميرابو: أيتها الحرية! كم من الجرائم اقترفت باسمك.
إن حقوق الإنسان مبتذلة في كثير من الدول التي تدعي التقدمية والتطور، حيث تكم الأفواه وتقيد الحريات، وتكبت الأفكار، وتغل الكرامة، وتكبل التصرفات، وتهتك الحرمات، وتصادر الأموال. وقد عرفنا في حربنا المريرة كل أنواع العذاب هذه، ولكننا أبينا أن نركع أو نستسلم. فآن لنا أن ننعم بنعمة الحرية، وأن ننبذ الجدل العقيم والحقد الأليم، والجهل المطبق. والظلم والانتقام، لأن الحرية باب إلى السلام ومدخل إلى الوفاق والعيش الكريم وبناء المجتمع الصالح في ظل القوة والقدرة والسلطة.
1 ـ الجدل والحرية:
يقول بعض العلماء إن الجدل الطائفي التعصبي والقبلي العشائري يستعر ويتصاعد ويشتد ويقوى ويصل إلى حدود التنازع والتصارع والتقاتل المرير في زمن الثورات والحروب والأزمات الاجتماعية، لأن سلطة الدولة تضعف، وتقوى أعمال الشغب والفوضى، فيستباح الحرام وتستخدم كل وسائل الشر للضرر والإيذاء والانتقام. وتنتهك الحريات، ويسقط التفكير من منزلة الحرية والرقي والسمو إلى مستوى الابتذال والجدل العقيم والحقد والتعصب والنفور والاستفزاز والتناحر والتقاتل.
أما في أيام السلم، فتصفي القلوب، وتستكن النفوس، ويهدأ البال، ويعود الصواب إلى نصابه، والرأي الراجح الحر إلى أصحابه، فيعي المرء مسؤوليته، ويتقيد في حدود حريته، فلا يحاول الجدل العقيم، ولا يبتدع البدع البالية، ولا يختلق الأكاذيب المثيرة، ولا يمارس العادات والتقاليد الجاهلية، ولا يدبر تدابير الشر والسوء، ولا يفتعل الفتن والمؤامرات. فيعود المرء إلى أصالته، ويُحكم العقل والفكر بحرية وإيمان، ويحتكم الإنسان إلى الضمير والقانون، فيرضخ الكبير والصغير إلى حكم العدالة، ويتساوى الناس جميعاً أمام سلطانها، فلا كبير ولا قوي ولا ضعيف ولا فقير. فالجميع سواسية أحرار أمام سلطة القانون. فالغالب هو الحق والمغلوب هو الظالم والمفتري. فإذا استتب الأمن وانتصر القانون يستعيد المرء حرية الضمير، وينتصر الحق على الباطل، ويخاف الإنسان من السقوط في الخطيئة، ويصبح مبدأ العقاب والثواب هو الرادع الأمثل لحفظ كرامة الإنسان وحريته.
فقانون الضمير من نفحة الروح التي نفخر بالله عزّ وجلّ في نفس الإنسان. وقانون المجتمع يستلهم الضمائر جميعها ويسكبها في نصوص تصلح لحل مشاكل الناس ونزاعاتهم، وتجعلهم يحتمون بظلها لصيانة المعتقد والارتقاء في سمو التفكير في القناعة والمناقشة والممارسة. فيكتسب المرء العيش الكريم في حمى القانون، ويقوم الإنسان بواجبه مع ربه وموجباته مع مجتمعه بحرية وأمان. فالنص الوضعي، ونفحة الروح في ضمير الإنسان ونفسه، يتكاملان في صنع هذا الإنسان ليكون خليفة صالحة بين البشر، يُرضي ربه، ويتحاور مع أخيه الإنسان ويتجادل معه بالتي هي أحسن، ليبني المجتمع الصالح المتحرر من عقد التعصب ورواسب التاريخ العشائرية والقبلية. فالجدل يفتح الآفاق، ويعطي الفكر الاشراق، ويهدي الإنسان إلى الحقيقة، وينير الطريق. فالطريق إلى الإيمان هي طريق الحرية والصدق التي ينيرها العلم. يقول الإمام علي رضي الله عنه: "علاقة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك وأن لا يكون لك فضل على علمك".
فالجدل هو علاقة الإيمان بين المسلم والمسلم، وبين المسيحي والمسيحي، واليهودي واليهودي، ثم بين أبناء الإنسانية جميعاً. ولا سيما بين أبناء الوطن الواحد.
ولكن ماذا علمتنا الأحداث التي طواها الزمن بسحر ساحر، بومضة عين، بيوم وليلة، حتى غدت الحرب وذيولها بعد أيام من ذكريات التاريخ القذرة الموصومة بالعار؟
لقد علمتنا الأحداث أن الحرب في لبنان كانت مفتعلة ومستوردة ولم تكن في مصلحة أي فريق من الفرقاء، إنها خيانة عظمى وجريمة كبرى لمخطط جهنمي غريب. فالحرب لم تكن حرب طوائف ولا حرب أديان، إنها كانت خيانة للوطن، ولعبة الكبار مع الضعفاء والصغار الذين انقسموا في اللعبة حتى خرجت عن سيطرتهم وطاقاتهم وقدراتهم، فلعبوا لعبة الدمية الطائفية الذليلة هناك، ولعبة القبائلية والعشائرية والزعامة هنا. وكانت هذه اللعبة تخفي وراء ستائرها بذور التعصب الأعمى والإجرام ليس في سبيل قضية عامة أو مبدأ وطني ولكن لكسب المغانم والهيمنة والتسلط، فكانت الطائفية رداء والعصبية ستاراً وكانت العقيدة قناعاً يخفي المطامع السياسية والأهواء الشخصية وشهوة الحكم والسلطة.
وإلاّ كيف نفسر قتال المسيحي مع المسيحي والمسلم مع المسلم ثم انتهاء الحرب فجأة وفتح المعابر وعناق المواطنين مسيحيين ومسلمين وكأن غمامة سوداء انقشعت وعادت الحرية ترفرف من جديد وكأنه يوم القيامة من الطوفان أو من الزلازل.
لا! لا! إن الحرب لم تكن حرباً وطنية يفاخر بها التاريخ والأجيال الطالعة مثل ثورة الجزائر ومصر الناصرية وثورة مصدق والجماهيرية. وليست حرب تحرير مثل المقاومة الفلسطينية وانتفاضة الحجارة والمقاومة الوطنية في الجنوب، إن حرب لبنان فخ ووحلة سقط فيها الساقطون والمستفيد الأكبر إسرائيل ومن معها.
إن الأديان السماوية انتشرت بالإيمان والعقيدة والحرية، وليس الحروب بالظلم والإكراه، تقول الآية الكريمة: "لا إكراه في الدين قد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ من الضَيّ". (2 البقرة 256)
وتقول أيضاً:
"إن الله لا يَظْلِمُ الناسَ شيئاً ولكنَّ الناسَ أنفُسَهُم يَظلِمون" (10 يونس 44).
فلا ظلم ولا إكراه حيث يكون الإيمان. ولا يحـل الظلـم إلاّ إذا افتقـد الإنسـان حريته فـي الفكـر والـرأي والإيمـان والعبـادات والمعامـلات والممـارسـات فـي الديـن والدنيـا.
فخطيئة الإنسان مصدرها الشيطان. إذ تقول الآية الكريمة: "إن الشيطان للإنسان عدوٌ مبينٌ" (12 يوسف 5).
"إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً". (17 الإسراء 53).
وإن حقوق الإنسان تهدر وتنتهك كلما سقط الإنسان مع الخطيئة وتعامل مع الشيطان. فمن صفات الإنسان إنه يُطْغَى لأنه كما تذكر الآيات الكريمة: ضعيف وظالم، هلوع عجول قتور جزوع كنود جحود. (4 النساء 28) (14 إبراهيم 32 ـ 34) (17 الإسراء 11 ـ 100) (43 الزخرف 15) (70 المعارج 19 ـ 23) (100 العبادات 6).
فإن تخلى الإنسان عن الصالحات والإيمان برد أسفل سافلين.
"ثم رددناه أسفل سافلين إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات". (95 التين 6).
ولا يكون العمل الصالح إلاّ في حرية العقيدة والحوار الصادق.
2 ـ الحرية والحوار
إن الحوار يبدأ في البيت بين الآباء والأمهات والأبناء، فيتشرب الإنسان مع الرضاع الولاء للوطن ومحبة الآخرين، ويتحرر منذ الطفولة من آفة التعصب. وهذا الحوار هو تطهير للنفس من التشنج والرواسب والعقد التي خلقها الجهل. فيبدأ الحوار بين أبناء المذهب الواحد، ثم بين أبناء الدين الواحد، ثم بين سائر الأديان.
فلنتذكر مواقف الأزهر والفاتيكان حول التقارب المسيحي الإسلامي عن طريق الحوار، ومدرسة التوحيد الإسلامية التي دعا إليها كبار العلماء للتقريب بين المذاهب مثل الشيخ محمد عبدو ومفتي الأزهر الشيخ شلتوت والسيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ محمد جواد مغنية وعلي شريعني وغيرهم الكثير من العلماء الذين دعوا إلى التقارب والألفة والحوار البناء.
إن حرية العقيدة كسائر الحريات ليست مطلقة بل مقيدة بحرية الآخرين وبالمصلحة العامة. وهي من أهم مواهب فكر الإنسان. ومظهر من مظاهر حضارته ورقيه. متصلة ومرتبطة بصلب كرامته وإيمانه وضميره. وقد كرس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في المادة 18 هذا الحق.
وإن هذا الإعلان يتوافق مع المادة التاسعة من الدستور اللبناني التي تنص أن حرية الاعتقاد مطلقة. والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام. وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية.
إن الحرية هي أكثر حقوق الإنسان أهمية، لكن الحرية لا تقبل الفوضوية حرصاً على حقوق الغير واحتراماً للنظام العام. فلا يجوز في ممارسة الحرية التعدي على حقوق الآخرين ولا مجاوزة القانون والاستبداد والطغيان. فالقانون العادل يحمي حرية الفرد والمجتمع.
فلبنان الجديد ينشد الحرية ويتعطش إلى تكريسها. لكن الحرية المثلى لا تتحقق كاملة إلاّ عندما يتحرر الجنوب. وحقوق الإنسان لا تسلم إلاّ إذا انتصرت قضية العرب في فلسطين. وفي كل قطر عربي شقيق، وإذا رفع الظلم عن شعب مقهور في العالم الحر.