د. دندشلي - العلمنة من منظور إسلامي- القاضي حسن القواص
ندوات /
دينية /
1990-01-06
كلمة التقديم
الدكتور مصطفى دندشلي
أيها السيدات والسادة
أيها الأصدقاء الأعزاء
أرحب بكم أحسن ترحيب وأشكر لكم حضوركم لهذه الندوة حول موضوع في غاية من الأهمية، خاصة في الظروف التي نمر فيها، أعني به "العلمنة من منظور إسلامي"… يحدثنا في هذه الندوة الصديق قاضي الشرع الجعفري في صيدا السيد محمد حسن الأمين، والقاضي الأستاذ حسن القواس، رئيس محكمة الجنايات العليا في لبنان..
أهمية الموضوع تأتي من صعوبته ومما يثير من حساسيّات وانفعالات وخلافات متنوعة حول الشكل والأسس التي ينبغي أن يقوم عليها نظامنا السياسي الجديد.. إننا نعيش لحظات تاريخية حاسمة. والسؤال لا يزال مطروحاً حول: هل يبقى لبنان دولة واحدة موحّدة، بحدودها الدولية المعترف بها، أم أن الظروف الدولية والإقليمية وخاصة التناقضات الداخلية السياسية والطائفية بلغت درجة عالية من التوتر قد تؤدي إلى زوال لبنان الموحّد وقيام على أنقاضه ربما كانتونات، دويلات سوف تأخذ حتماً الطابع الطائفي والمذهبي..
ونحن كوطنيين وكإسلاميين أعلنا ذلك ونعلن الآن برفضنا تقسيم هذا البلد وتشتيته، لأسباب عديدة داخلية وخارجية.. وإن المستفيد الوحيد من تقسيم لبنان سوف يكون حتماً إسرائيل وسيخدم استراتيجيتها في المنطقة ككل وليس فقط في لبنان.. لذلك أعلنا وأعلنت القوى الوطنية والإسلامية تبنيها للنظام الديمقراطي اللاطائفي المستقل والعربي..
النظام اللاطائفي، لماذا لا يكون هذا النظام علماني؟ وماذا تعني كلمة "علمانية" أو علمنة؟ لماذا لا تسير في الشوط حتى النهاية ونعلنها صراحة خاصة في ظروفنا نحن في لبنان؟ ثم ماذا تعني كلمة علمنة فاصطلاح، أو علمانية كاصطلاح أجنبي معرب؟ ولهذه الكلمة كما نعلم تاريخ طويل في الغرب. وله شقان أو جانبان: الجانب السياسي وهو فصل الكنيسة والدين عن الدولة، والجانب التربوي، عدم تدخل الكنيسة في النظام التربوي.. ونحن لا نعرف، أو على الأقل أنا شخصياً لا أعرف، متى استعملنا هذا المصطلح بمعناه الحديث: متى استعملنا كلمة العلمنة، في لغتنا العربية ومن الذي نحت هذا الاصطلاح وعرّبه واختار هذا التعبير؟
على أي حال، حول هذا الموضوع "العلمنة" هناك آراء عديدة، وهناك وجهات متنوعة يضاف إلى ذلك كله أن هذا الاصطلاح غير واضح وغير مفهوم ويحيط به الغير من الالتباس في أذهان الكثيرين… والعلمنة بمعناها الحديث: هل نحن مضطرون فعلاً أن نتبناها كما هي مفهومة ومطبقة في الغرب؟ ألا نستطيع نحن أن ننحت اصطلاحاً جديداً له مضمون وله محتوى وشكل، يناسب ويتلاءم مع أوضاعنا وظروفنا الخاصة ويكون تعبيراً عن ثقافتنا وحضارتنا وتاريخنا ويتلاءم مع بيئتنا الاجتماعية والتربوية والثقافية.. إن لبنان كما نعلم مكون من طوائف متعددة.. ونحن أعلنا، والشعب اللبناني ككل، أعلنا بانتمائه النهائي إلى هذا الوطن، إلى لبنان.. ولبنان مكون من طوائف: فالسؤال يبقى مطروحاً: كيف يمكن أن نعمل على صهر هذه الطوائف وهذه المذاهب في قوقعة وطنية واحدة موحدة.. والنظر إلى المواطن اللبناني كإنسان له حقوقه الكاملة المعترف بها وكقيمة إنسانية، بغضّ النظر عن أي اعتبار لطائفة أو لمذهب أو لدين..
لا شك، وكما نعلم ذلك، في أن هناك طروحات عديدة هناك طروحات في الساحة اللبنانية تزداد وتنتشر أكثر فأكثر وتدعو إلى قيام "مجتمع مسيحي" تحت أي شكل من الأشكال ويعلن ذلك صراحة أم ضمناً.. كما أن هناك اتجاهات أخرى أعلنت وتعلن عن دعوتها لقيام جمهورية إسلامية في لبنان.. هذه الطروحات: ما موقفنا نحن منها؟ المواضيع الحساسة يجب أن نطرحها للمناقشة والحوار ويجب أن نعالجها بمنتهى الحرية والديمقراطية.. واختيارنا موضوع ندوتنا لهذه الأمسية عن "العلمنة من منظور إسلامي" يدخل في هذا النطاق، بالرغم كما قلت مما يثير كثيراً من الحساسيات…
ومهما يكن، فإنني أنتهز هذه المناسبة لأشكر المحاضرين الكريمين لتلبيتهما دعوتنا ولقبولهما مناقشة هذا الموضوع المهم والذي سنعمل نحن من جهتنا على متابعة النقاش لاحقاً.
كلمة
القاضي حسن القواس
يواجه الإسلام اليوم تحديات كبرى، هي على اختلافها لا تقل خطورة عن الأحداث الجاهلية التي واجهها في العهد الأول من الرسالة، وظل يواجهها على مدى التاريخ وكل العصور. إذ كان النبي (ص) قد خاض ثورة على الكفر والتعصب والقبلية والعشائرية، فقلب الأوضاع الاجتماعية السيئة وطوّرها، وانقلب على الجشع الاقتصادي الاحتكاري وعلى أكل الربا والمال الحرام. فكرمت الرسالة الإنسان، ورفعت شأن المرأة، وحاربت الظلم، وانتصرت على العنصرية والاستبداد، وأسقطت حكم الأباطرة والقياصرة، وتغلبت على الملكية المستبدة، ونشرت مبادئ العدالة والحرية والمساواة على العالمين، فكانت الأحكام الإسلامية كسائر الرسالات السماوية شاملة أمور الدين والدنيا، من العبادات إلى أصول الحكم والسياسة والأحكام الاجتماعية والإنسانية.
وقد اتبع الخلفاء الراشدون كتاب الله وسنة رسوله، وما برح الوضع هكذا حتى عاد وانقلب من حكم الشورى والعدالة والحرية والمساواة إلى جاهلية أسوأ من الأولى. فتطاحن المسلمون قروناً طوال تتجاذبهم الأفكار بين الثورة الإنسانية والاجتهادية والعقلانية والروحية والحق الإلهي. وهم اليوم في صراع وحوار دائم لاكتشاف الحقيقة الروحية التي جعلت من الإنسان الوحدة الإنسانية السياسية، التي تتكامل بالتجارب مع الأحكام الوضعية، الدائمة الحركة والتطور، والتي تعتبر أن الإنسان في طبيعته اجتماعي سياسي، عملاً بالمبدأ القائل أن لا مجتمع بدون قانون.
وكما نحن كذلك عرف الغرب ثورة كبرى، بعد خضوع طويل لحكم القرون الوسطى، وبعد أجيال من الحروب الدينية الدامية، حتى استطاع أن يتحرر من قيود المَلَكية التي حكمت أجيالاً طويلة باسم الحق الإلهي. لكن شطراً من الغرب سقط في هوة الالحاد، واستطاع أن يجمع الشطر الآخر بين الإيمان والعلمنة.
أما المصائب التي نواجهها اليوم فإنها تستهدف كل الأديان، لأنها تستخدم الخلافات السياسية الدينية المذهبية الطائفية لإثارة النعرات والفتن بين أبناء الصف الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد. فاحتدم الصراع وتفجر حروباً دينية سياسية، وسقط وتدنى إلى مستوى التقهقر والتقوقع من أجل اغتصاب السلطة أو اكتساب المزيد من التسلط لإشباع شهوة الحكم والهوى.
فالتحدي قائم بين العلم والجهل، وبين القوة والضعف، وبين الإيمان والتعصب وبين التطور والانحطاط، وهذا التحدي هو مظهر من مظاهر الاستعمار، استعمار الإنسان لذاته، واستعلاء القوي على الضعيف.
والهجمة التي فتتت الهند وبلقنت البلقان وفنلدت فنلندا وقبرصت قبرص وأسقطت القدس، هي نفسها التي أشعلت الحرب والعصيان داخل المسجد الحرام، ودنست المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وهي التي فجرت الحرب بين مسلمي النفط في العراق وإيران. وهي التي كانت وراء الفتن والحروب الداخلية والخارجية في لبنان. وهي الآن في موقع الشماتة، تشمت باندلاع الحرب بين المسلمين في إقليم التفاح، وبين المسيحيين في الشرقية، كما شمتت من قبل باقتتال الأخوة وأبناء الصف الواحد من المسلمين والمسيحيين.
إن الخطر الذي يتربص بنا ويهددنا اليوم أكثر من أي يوم مضى، هو محاربة الشورى والحرية والمساواة، والتعرض للشرعية وللقانونية وللسيادة، وطعن السلطة والمناداة بالتقسيم والشرذمة، شرذمة الأديان والمذاهب والطوائف، وإنشاء دويلات لكل دين أو مذهب أو طائفة، أو لبعض هذه الأديان والمذاهب والطوائف، تجمع بينها ربما الفدرالية. وأن هذا الخطر الذي خطط له الغرب لتعمل على تنفيذه إسرائيل، قد أغنى إسرائيل والغرب عن التنفيذ لأن في صفوفنا عملاء يتولون التنفيذ صاغرين كانوا، أو غير مبالين، أو متآمرين، ما الفرق، فالخطر يقترب، والناس في اختلاف واقتتال وحيرة وضياع وخوف ووجوم.
لقد رُبطت قضية لبنان بوضع المنطقة، واستحكمت به الطائفية حتى نخرت قوامه وأصبحت أحزابه مبنية على الدين والطائفية، شيعاً وفرقاً فتحارب فيما بينها حرب فناء.
ويبقى الحل في الخروج من العشائرية والقبلية والقوقعة الطائفية، إلى الروح الوطنية والقومية، حتى ينتقل الصراع من عقدة الأديان إلى الانتماء السياسي.
ولم يبق لنا من رحمة وعزاء وفخر واعتزاز إلاّ في التطلع إلى مجد الانتفاضة على الأرض المقدسة وإلى المقاومة الباسلة الشريفة على أرض الجنوب، لتكون العبرة الصالحة في التحرير واستعادة السيادة.
وأمام هذه الأخطار التي دخلت إلى عمق البنية الدينية وتعرضت لأصول الحكم، كيف تكون ردة الفعل عليها؟ وما هي الوسائل التي تحمي الوطن والإنسان وتحفظ الأديان، وتقف بوجه التحديات المتربصة والمحدقة؟
لقد طرحت المواضيع الكثيرة، ومنهم من طالب بإقرار الواقع اللبناني الديني والطائفي الراهن، دون الفصل بين الزمني والروحي.
ومنهم من طرح العلمنة كحل،
ومنهم من يصر على تطوير النظام اللبناني والانتقال به إلى حد إلغاء الطائفية السياسية إلغاءاً شاملاً.
أما السؤال الذي يهمنا أن نطرحه فهو معرفة نظرة الدين إلى العلمنة وكيف استطاع الإسلام أن يتعايش مع الآخرين في الشرق والغرب، فنصل إلى موضوعنا الذي يدور حول "العلمنة من منظور إسلامي"، مما يدعو إلى تحديد مفهوم العلمنة من جهة، وتحديد موقعها من موضوع إلغاء الطائفية السياسية، ثم البحث في النظرة الإسلامية للعلمنة.
1 ـ مفهوم العلمنة
العلمنة من العالم. والعلماني يعني العامي الذي ليس باكليركي , laicisme, laïque temporel أو الدنيوي séculier أو الزمني.
وقد نشأت فكرة العلمنة وانطلقت من فرنسا، بعد الثورة الفرنسية، لا سيما أيام حكم نابوليون بونابارت والصلح الذي عقده Concordat مع البابا بيوس السابع سنة 1801 ثم تمثلت العلمنة بأكثرية أعضاء المجلس النيابي على أثر إعلان الجمهورية الثالثة سنة 1879 وكان من دعاتها ومؤيديها رجالات من كبار السياسيين أمثال
G - Clémenceau - Jules Ferry - L'éon Gambetta Aristède Briand - Pierre Waldeck Rousseau إلى أن نقض الصلح البابوي سنة 1904 على أثر قطع العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا والفاتيكان وصدور قانون مؤرخ في 9/12/1905 الذي قضى بفصل الكنيسة عن الدولة.
وهكذا كانت العلمنة في البداية ردة فعل تجاه السلطة الاكليركية التي كانت ذات نفوذ سلطوي متحكم، منذ القرون الوسطى، والتي أصبحت تشكل مع اندلاع الثورة الفرنسية عائقاً للسلطة العامة وحائلاً ضد استقلالية الدولة الداخلية.
وقد أخذت العلمنة من ثم تحمل التسميات المختلفة مثل العقلانية rationalisme والوضعية positivisme والعلمية scientifisme والالحاد athéisme.
أما على الصعيد الفكري والعَقَدي، فقد اتخذت الفكرة العلمانية للجمهورية مفهوماً فلسفياً قوامه استقلال العقل واقتداره.
L'idée laïque renferme une conception philosophique qui porte sur l'indépendance et la capacete de la vaison.
G - Weill - Hist - de l'idée laïque en france - Eneyclop. Mniver. Laïce p. 744.
وإن الجمهورية تضمن حرية الضمائر وحرية ممارسة الشعائر الدينية وذلك مقابل أخذ الكنيسة على عاتقها عدم تطييف الدولة La non - confessionnalité de l'Etat.
ثم تكرست حرية الإنسان ومبادئ حماية حقوق الإنسان التي أعلنت في 10/12/1948 وقد تضمنت النصوص حرية الأديان، إلى أن اكتسب مبدأ علمنة الدولة حالة من القانونية التي اتخذت الصفة الدستورية في فرنسا مع دستور سنة 1946.
والعلمنة مرت بمراحل عرفت خلالها ردود فعل قاسية بسبب الأنظمة المتطرفة التي اعتمت الالحاد. لكن الاعتدال الفرنسي قد طور مفهوم العلمنة إلى حد التآخي والمصالحة مع الدين.
وفي دراسة منشورة في المجلة الفصلية للقانون المدني الفرنسي سنة 1956 ـ R.I.C. 1956 p1 يقول الأستاذ P.Coulombel عن موضوع فصل الكنيسة عن الدولة، أن الكنيسة لا تكون مفصولة عن الدولة التي تعيش فيها، والأمة التي تُنتقى منها، والمجتمع الذي تعمل فيه. وإن كلمة الفصل لا يقصد بها معنى الانفصال. وإن فكرة عقد صلح جديد أو معاهدات مع الكنيسة هو موضع اهتمام وبحث مستمر.
ويكون الاعتدال على أساس:
1) احترام الحرية الدينية والاعتراف بقانونية هذه الحرية الدينية وبأحوالها الخاصة من قبل الدولة.
Statut lègal de la libertê relizieuse.
2) وذلك لقاء التزام الكنيسة بعدم تطييف الدولة.
3) واعتماد فصل الروحي عن الزمني.
Séparation du spirituel et du temporel.
والاعتدال في العلمنة هو تدرج نحو الدولة اللاطائفية وتطور في مفهومها.
Non - cafessionnalité de l'Etat.
فالدولة اللاطائفية تختلف عن العلمنة الملحدة واللادينية. لأن نظام اللاطائفية يعني أن الدولة لا تنتمي إلى دين معين، ولا تعتمد أية كنيسة، بل تعترف بحرية الأديان ولا تدعو إلى اللادين. ولا ترفض التعاطي مع المراجع الدينية مثل العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان. فالدين مصلحة فردية تخضع أموره للقانون الخاص Droit Privé وليس للقانون العام Droit Public والحرية الدينية هي بمثابة الحق الشخصي Droit subjectif مما يجعل الدولة غير صالحة للنظر بالنطاق الديني somaine relèzieux لأن الحرية الفلسفية تختلف عن الحرية القانونية. والحقيقة الروحية شخصية وذاتية ودائمة البقاء في الإنسان. وهذه الحقيقة الإنسانية هي كالقناعة والعقيدة، وهي تتطلب الاحترام والحماية من قبل الدولة.
وأما فصل الروحي spirituel عن الزمني temporel فيستتبع عدم صلاحية الكنيسة للنظر بالأمور المدنية الزمنية، لقاء عدم صلاحية الدولة للتدخل في الأمور الدينية.
فالحضارة تلتقي مع الأديان في تكريم الإنسـان ولا يكون ذلك إلاّ ضمن احترام النظام العام.
2 ـ النظرة الإسلامية إلى العلمنة
الإسلام دين يحرر الإنسان في عقله ونفسه، وينهض بالأمم والشعوب على أساس دولة العدالة والحرية والإيمان. ورسالته شاسعة لا حدود لها، تعم الأرض والعالمين والناس أجمعين. وقد انتشر في مشرق الأرض ومغربها، رافعاً راية العدالة والإيمان.
وفي مجتمع المدينة الذي أسسه النبي (ص) نموذج لدولة جديدة، قوامها الشورى، لها دستور يعرف بالصحيفة أو الكتاب. وهو تعاقد بين أطراف عدة متنوعة الانتماء تضم أهل الكتاب. وقد ورد في هذا الدستور ما يلي:
"هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين… من قريش ويثرب… إنهم أمة واحدة…" ويتضمن الدستور ذكر ليهود المدينة من ضمن الجماعة الجديدة، منهم يهود بني النجار والحارث وساعدة وغيرهم.
ثم دخل الإسلام إسبانيا بمدة سنتين. لكن أهلها لم يتمكنوا من تحريرها إلاّ بعد سبع قرون. كيف كان التعايش؟ وكيف استطاع الإسلام أن يستمر بقاؤه أجيالاً طويلة؟ يقول المستشرق دوزى الذي ورد ذكره في كتاب روجيه كارودي، وعود الإسـلام Promesses l'Islam على صفحة 38 ما معناه:
إن انتشار الإسلام لم يكن احتلالاً. لأنه أوجد مجتمعاً جديداً وترك جذوراً قوية. فمبدأ الحرية والضمير كان حجر الزاوية الذي ترتكز عليه عظمة الدول الحقيقية. لقد ارتضوا وهم الأسياد كنيسة المسيحي وكنيس اليهودي. أما الحرب فلم تكن غزوا بالسلاح، بل ثورة اقتصادية سياسية اجتماعية، حملت معها ثقافة جديدة هي إيمان الأمة الجديدة.
والإسلام يُعتبـر اليوم الدين الثاني في فرنسا، ويشكل ثلث عدد سكان الاتحاد السوفياتي.
كيف استطاع الدين أن يتعايش مع العلمنة المتطرفة في البلاد الشيوعية والاشتراكية؟ وكيف يتعايش مع العلمنة المعتدلة في أوروبا ولا سيما في فرنسا؟
إن الإحصاءات تدل على أن نسبة 94% من الفرنسيين مؤمنون ويتعمدون وفقاً للدين المسيحي الكاثوليكي. أما التعايش فقد أعطتنا الحكومة الفرنسية منذ فترة قريبة شهادة عن التعايش بواسطة الإعلام حددت فيه موقفها الرسمي من قضية الحجاب، الذي أثار ردود فعل قوية في المجتمع الفرنسي ضد الحجاب. ففصلت الحكومة الموضوع بإعلانها أن الدستور الفرنسي يحمي حرية المعتقد.
إن الإيجابية هنا ليست فقط من طرف واحد لنجاح التعايش، ولكنه يعود أيضاً إلى قدرة الإسلام في التعايش مع الآخرين، واحترام قوانين الغير، فالإسلام متسامح "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر". "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن". "والإسلام يحترم المواثيق والعهود". "وإن استنصروكم بالدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق".
إن مبادئ الحرية والعدالة والرأي التي يأمر بها الإسلام لا تتناقض مع أحكام الديمقراطية التي يطبقها النظام العلماني المعتدل أو أي نظام ديمقراطي متطور. تقول الآية الكريمة: "وأمرهم شورى بينهم" "وشاورهم في الأمر" والأمر هو أمر الحل والربط والفصل والعقد كما يقول ابن خلدون. والحكم في الإسلام مبني على العدالة. "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" (النساء 58).
وينصّ القرآن الكريم على حكم التوراة والإنجيل فيقول: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى" (ص 26) "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه". "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً" "(المائدة 48) "أفحكم الجاهلية ييفون" (المائدة 50).
فالمسلم يحترم حكم الآخرين أكان ذلك في التوراة أو الإنجيل، أو في أية شرعة أو ميثاق أو منهاج أو دستور، شرط أن يتوافق مع العدالة وأن لا يكون حكماً جاهلياً.
إن هذه المرونة في الإسلام بالنسبة للانفتاح على العالم والتعايش مع الناس والتعارف عليهم مطلب إنساني إسلامي إذ تقول الآية: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتتعارفوا." (الحجرات 13).
وكما أنه لا إكراه في الدين فلا إكراه في الحياة والتعايش على أساس الطاعة واحترام العقيدة. فتقول الآية: "أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم".
يتبين من هذه النصوص وغيرها الكثير، إن الإسلام يستطيع أن يتآخى مع الأمم والشعوب لأنه يهدي الناس إلى الحقيقة وإلى سواء السبيل، ولأن سياسة الحكم في الإسلام تقوم على أساس العدل من الحكام، والطاعة من المحكومين، والشورى بين الحاكم والمحكوم. وليس للحاكم أية سلطة دينية كالسلطة التيوقراطية التي كان يمارسها حكام القرون الوسطى في أوروبا، حتى ثار عليها الإنسان وجاء بالعلمنة لتفصل بين حكم قيصر وبين حكم الله. هذا مع العلم بأن الإنجيل المقدس يعتبر أن للكنيسة هيكلية تسلسلية وسلطة دينية ذاتية ترفض سلطة الغير.
أما الإسلام فهو لا يعرف الكهنوت ولا التسلسلية الأكليركية. وهو يكرم الإنسان في عقله وإيمانه، ويعززه ويرفع من شأنه في الحرية والاختيار والشورى والإيمان.
ونظام الحكم في معظم الدول العربية هو مدني. ولكن بعض هذه الدول تعلن الإسلام كدين للدولة. أما في سوريا فإن الدستور يعتبر أن الإسلام هو دين رئيس الدولة. لكن هذه الدول تطبق قانوناً خاصاً للأحوال الشخصية إلى جانب القوانين الوضعية العامة. وأن بعض الدول العربية والإسلامية تطبق نظام العلمنة مثل العراق وجمهورية اليمن الديمقراطية وتركيا. أما إيران فتطبق الشريعة الإسلامية في الحكم وفقاً لنظام ولاية الفقيه. ويطبق الباكستان الشريعة الإسلامية أيضاً. وفي أندونيسيا نظام يعترف بخمس ديانات، والدستور الإندونيسي يقرّ في أحد أحكامه بالإيمان بالله عزّ وجلّ. والعلمنة مطبقة أيضاً في السنغال ومالي والنيجر حيث أكثرية السكان هم من المسلمين. لكن هذه الدول الإفريقية تقرّ حرية المعتقد وتحمي الممارسات الدينية.
ما هو موقع العلمنة من إلغاء الطائفية التي يطرحها الكثيرون من رجال الفكر والسياسة في لبنان؟ يقول سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابه عن العلمانية أن هوية الدولة اللبنانية علمانية، وأن النظام علماني لأن الدستور اللبناني لا ينص على هُوية دينية للدولة، كما لا ينص على هُوية دينية للنظام. وبالفعل فإن الدستور اللبناني في مادته التاسعة ينص أيضاً على اعتبار أن "حرية الاعتقاد مطلقة… والدولة… تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألاّ يكون في ذلك إخلال في النظام العام…."
ثم يضيف سماحة الشيخ ما يلي:
"من هنا نستطيع أن نقول عن الدولة اللبنانية أنها دولة مؤمنة، أي أنها تعترف بمبدأ الإيمان الديني…"
وينتهي سماحة الشيخ بعد تحليل دستوري وتشريعي وقانوني وإيماني ديني تناول بحث الطائفية السياسية والتفريق بينها وبين الطائفية الدينية وذلك بأسلوبه العلمي المجرد العميق إلى نبذ الطائفية السياسية وضرورة إلغائها لتفادي أخطارها المستقبلية والتخلص من أخطارها الفعليـة.
إن الحقبة التاريخية التي رافقت تطور الحضارة الغربية للنهوض بها، بعد قرون من الحروب الدينية الدامية، ومن الاختبار والتجارب، كانت مرحلة انتصار للعلم على الجهل وللإيمان على الكفر. ولكن إذا كانت الكنيسة الغربية قد عانت أجيالاً طوال في التصدي للحؤول دون الفصل بين الحق الإلهي والسياسة وبين ما هو لقيصر وما هو لله، فإن حالة الشرق تختلف، لأن الإسلام لا يتنافس مع السياسة ما دام الأمر شورى والعدل أساس الحكم.
وفي الختام نقول إن الإنسان هو النواة الاجتماعية السياسية وهو مصدر السيادة والسلطة. وهو العقل الذي كرمه الله على العالمين. وفي العقل الحقيقة ومن العقل التجربة، وهو صاحب الأمانة المسؤول عن حفظها واستمرارية الإنسانية وبقائها. وهو صاحب الشورى الذي على أساسها يختار ويتعاطى مع الآخرين. فلا يجوز لنا أن نسيء الأمانة بالاستبداد والظلم، إذ تقول الآية الكريمة: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فابين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان".
فلنحفظ الأمانة ولنعد إلى ضمائرنا لأن حفظ الأمانة هو حفظ للأوطان.
فالأديان السماوية التي استقبلها العالم شعلة الشرق إلى الغرب، منارة وهدى يردها اليوم إلينا استشراقاً وإشعاعاً وحضارة وثقافة واكتشافاً للأرض والبحار والسماء والنجوم والطاقة والعلوم، ويضعها جميعها في خدمة الإنسانية لتعزيز الإنسان وتكريم بني آدم. أنه يعيدها إلينا ويردها إلى جذورها وأصولها وكأنه يقول لنا: هاذي دياناتكم عودوا إلى أصلها، أبعدوا عن الفتن والمغالاة والبدع، ارجعوا إليها، اكتشفوها على حقيقتها، خذوها فنحن قد اهتدينا، أما أنتم فما زلتم أحوج إلى الهداية واليقظة والارتقاء والنهوض من الكبوة والانحطاط. هذا هو التحدي، تحدي الإنسان للإنسان في الحضارة والإيمان. وهذا التحدي يتطلب الجرأة في مواجهة الحقيقة وأخذ القرار. والحقيقة تقول بأن إلغاء الطائفية السياسية خطوة نحو العلمنة المعتدلة. فلنسمي الأشياء بأسمائها لأن إلغاء الطائفية السياسية تدرج نحو العلمنة العادلة.