الحياة التجارية العامة في مدينة صيدا- أمين يوسف بكّـار
مقابلة مع
السيد أمين يوسف بكّـار
بتاريخ 5 تشرين الأول 1984
الموضوع: الحياة التجارية العامة في مدينة صيدا
أجرى المقابلة: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
الدكتور مصطفى دندشلي: … هل يمكن أن تعطيني فكرة أو أن تقدم لي صورة عن الوضع التجاري بشكل عام في مطلع القرن الحالي (أي القرن العشرين) في مدينة صيدا، وذلك من خلال تجربتك الشخصية أو ممّا كنت قد سمعته من كبار السن، على سبيل المثال؟..
السيد أمين يوسف بكّار: … أولاً، أنا من مواليد صيدا عام 1918. وقد تابعت دراستي في مدرسة الكاثوليك في صيدا وتخرجت منها عام 1932. في ما يتعلق بالحالة التجارية في مدينة صيدا، فإنني أستطيع أن أقول عمّا كنت أسمعه من كبار السن هو أن التجارة كانت في السابق أوسع وأعمّ ممّا هي عليه الآن في الوقت الحاضر. ذلك أنه في الماضي، كان التجار يعتمدون على الاستيراد وكان هناك مثلاً عدد من المراكب الشراعية (المركب الواحد يتَّسع لـ 100 طن). ولقد كان الاستيراد والتصدير أكثر ما يتم مع مصر. فكان التجار يستوردون من مصر الرزّ والملح والبطيخ وبعض الجلود وأحياناً قليلاً من البلح. ويصدرون وبخاصة إلى الإسكندرية الحبوب على أنواعها: الذرة والعدس، إلخ… إلى التجار من آل العلايلي من صيدا.
وهذا الحديث يتعلق بالنشاط التجاري بالفترة الماضية، وتحديداً قبل عام 1900 بسنين معدودة. وينبغي أن أشير إلى أنه في القرن الماضي لم تكن التجارة ـ الاستيراد والتصدير ـ في ازدهار كبير وواسع. والسبب في ذلك أنه لم يكن في صيدا الميناء صالحاً للتشغيل والعمل طوال السنة، بل كان المرفأ لدينا إنما عمله ونشاطه تقريباً طوال الصيف. يضاف إلى ذلك أنه كان مهملاً بشكل عام ولم يلق من الجهات الرسمية الحكومية المسؤولة أيّ اهتمام للاعتناء به وتوسيعه وتطويره. بل بقي على حاله كما هو. وكانت الميناء في تلك الفترة صغيرة ومحدودة. والاستيراد كان يتمّ فقط، فيما أعلم، في موسم الصيف. هذا يعني بصورة واضحة وأكثر تحديداً، عندما تحصل خضّة في البحر، تتوقف عمليات الاستيراد والتصدير. بمعنى آخر أنه ما دام البحر رائق وهادئ، تجري الحركة التجارية من استيراد وتصدير على قدم وساق عن طريق المرفأ.
إن ما أقوله وما أحدثك عنه إنما هو ما كنت أسمعه من التجار كبار السن. كما أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، توقف المرفأ كلياً وانشلَّت الحركة التجارية تماماً. وكان التجار يعتمدون على الواردات محلياً، خصوصاً تلك التي تأتي من الجنوب اللبناني: مثلاً الحبوب على أنواعها، وأيضاً من سوريا، وبخاصة من منطقة القنيطرة وحوران.
هنا ينبغي لفت النظر إلى أن وسائل النقل قبل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) كانت تتمّ عن طريق الجمال والبغال والحمير والطنابر… وهذا مما يدل على أن وسائل النقل حتى وقتذاك ما زالت تقليدية، بدائية.
ولكن بعد الحرب العالمية الأولى، شاهدنا بداية نشاط الحركة التجارية ودبَّت فيها الحيوية أكثر فأكثر. من هنا بدأ استيراد الأرز والملح والبطيخ. وكان في صيدا عدد من التجار يقومون بعمليات الاستيراد من مصر بواسطة المراكب الشراعية في فترة زمنية غير طويلة. وكان الاستيراد في معظمه "ترانزيت" إلى الداخل السوري.
ولا بد من لفت النظر في هذا المجال إلى أن التاجر الصيداوي بطبيعته طموح. فإن عدم توسيع الميناء وإصلاحها باستمرار، بل وإهمالها بصورة دائمة، أدى إلى بطء الحركة التجارية في صيدا بعد الحرب العالمية الأولى، مما حدا بالتاجر الصيداوي ـ أي ببعض التجار الصيداويين ـ أن ينتقل بعمله وتجارته إلى العاصمة بيروت وذلك في أواخر الأربعينات (من القرن العشرين). أما الذين انتقلوا إلى بيروت، فهم تجار الجملة أو تجار "مال قبّان"، إذ إن التجارة في بيروت قد كانت أنشط وأوسع بكثير. ولم تمض فترة زمنية بسيطة حتى أصبحوا ذات شهرة واسعة وسمعة طيِّبة في عالم التجارة في بيروت ولبنان، على سبيل المثال: قاسم، شماع، البساط (مصطفى، عبد الله، يوسف)، براج، بعاصيري، وغيرهم…
س: … ما هو وضع التجارة في صيدا ونوعها فيما بين الحزبين؟
ج: … أولاً، ليس هناك في صيدا تجارة كبيرة بالمعنى الحقيقي. فقد كانت التجارة مقتصرة عندنا على تأمين الاستهلاك المحلي لا أكثر ولا أقل. مثلاً، لقد كان يتم استيراد الطحين والقمح من سوريا لتأمين الاستهلال المحلي لمدينة صيدا والمنطقة المتاخمة لها. بل أكثر من ذلك، يمكننا أن نؤكد أنه ليس هناك من تجارة ناشطة بالمعنى الصحيح، طالما لا يوجد في صيدا ميناء صالح للاستيراد. فبوجود الميناء المتطور والمؤهل للحركة التجارية، تتحسن هذه الحركة التجارية على جميع مستوياتها وتنشط. إذن القاعدة: "إذا ما في ميناء، ما في تجارة". وإنني أقصد هنا بالتجارة إنما التجارة الكبيرة. فلا يمكن أن يحصل الازدهار التجاري الحقيقي، دون وجود مرفأ صالح ومتطور ومؤهل للعمل التجاري.
س: … إذن، في هذه الحالة، ما هو نوع التجارة المعروفة في صيدا؟
ج: … تجارة للاستهلاك المحلي فقط. وأودّ هنا أن ألفتُ نظرك في هذا المجال إلى ناحية مهمة وهي أن التجارة في صيدا في أواخر السبعينات (من القرن العشرين) كانت قد تحسنت ونشطت بصورة واضحة، وذلك يعود إلى عوامل سياسية عديدة، منها مثلاً: ضرب الأسواق التجارية في بيروت، مما دفـع بيوت تجاريـة ومصرفيـة ـ أعداد كبيرة من المصارف ـ ومؤسسات ودخول أموال من منطقة الخليج إلى صيدا، مما حرك الوضع الاقتصادي العام. لقد تحسن الوضع التجاري والاقتصادي منذ أواخر السبعينـات (من القرن العشريـن) حتى قبـل الاحتلال الإسرائيلي للبنان عـام 1982.
والتجارة في صيدا إنما هي على ثلاثة أنواع:
1 ـ تجارة الجملة، وهي تقوم على أساس الاستيراد، وبيع البضائع بكميات كبيرة تزيد عن الخمسة أطنان وما فوق.
2 ـ نصف جملة، تأمين الاستهلاك المحلي بالشوال أو بالطرد (كيس رز، تنكة سمنة، إلخ). يضاف إلى ذلك تأمين بيع كميات أكبر من ذلك…
3 ـ تجارة المفرق: وهي التي تتم بين تاجر يشتري من تاجر آخر نصف جملة، والذي يؤمن الاستهلاك الفردي العائلي…
في الواقع، ليس هناك من تجارة كبيرة في صيدا، ذلك أن التاجر النشيط والطموح والذي يتعاطى تجارة الجملة، كان قد ترك ويترك صيدا ويذهب إلى بيروت.
وهنا لا بد من توضيح بعض التعبيرات المستعملة في التجارة:
مال قبّـان: كل ما يُباع ويوزن بواسطة القبان، كل شئ يوزن على القبان من سكر، رز، قمح، طحين، سمنة، إلخ…
سمّان أو بقّال
تاجر بقالـة : تاجر مفرق للاستهلاك الفردي ـ العائلي…
س: … هل هناك تجار من خارج مدينة صيدا؟
ج: … هناك ما يقرب من ثلاثة أو أربعة تجار نصف جملة. أما تجار المفرَّق، فيصل عدد محلاتهم إلى عشرة محلات.
في الأربعينات (من القرن العشرين) كان يعتمد الجنوب على بعض أصناف زراعية كالفول الأخضر الذي كان يصدَّر إلى سوريا. موسم الفول يستمر ما يقرب من شهرَيْن ويصدر بمعظمه إلى سوريا، أي ما يقرب من 5 أو 6 سيارات شحن يومياً. بالإضافة إلى ذلك، كان يُرسل ويشحن إلى فلسطين كميات كبيرة من الفاكهة والمشمش والخوخ والدريق والتفاح ومن الخضار على أنواعها، ما يقرب من 10 ـ 15 سيارة شحن يومياً. من صيدا لوحدها، ما يقرب من 5 سيارات في اليوم الواحد.
كل ذلك كان يجري في الفترة التي تقع قبل عام 1948. من هنا، فإننا نلاحظ مجيئ أعداد كبيرة من الأفراد وسكنوا صيدا، كما أن أسعار الأراضي قد ارتفع، مما أدّى إلى نموّ السكان بشكل ملحوظ إلى 3 أو 4 أضعاف.. وكما قلت سابقاً، فقد ظهرت حركة تجارية ناشطة أثناء الحرب الأهلية، ولكنها انهارت مع دخول الاحتلال الإسرائيلي إلى لبنان.
وبعد أن يشير السيد أمين يوسف بكّار إلى أن والده وهو أيضاً، تاجر أباً عن جَدّ، يعود ويقول بأن استيراد الرّز كان يتمّ من مصر وهذه التجارة ـ تجارة الرّز ـ محصورة بـ "خان الرّز" المحاذي شرقاً للميناء. والتجار الذين يتعاطون هذا النوع من التجارة، سُمّوا "تجار الرُّز"، لأنهم يقتصرون على بيع هذه الكميات المستوردة من الرُّز. وكل تجارة صيدا كانت تجري في داخله منذ 100 أو 150 سنة. لقد كان المركز التجاري الأول والأساسي هو "خان الرُّز" والمحلات التجارية تنتشر حوله. كما أنها تنتشر حول الخانات جميعها. مثلاً، حول "خان الإفرنج"، (وساحة "باب الخان") حيث وجود المحلات التي تقوم بخدمات الصيادين والمراكب الشراعية. (هنا لا بد من إبداء ملاحظة مهمة في هذا المجال وهي الأسواق التجارية المهمة كانت تحيط شمالاً، شرقاً، جنوباً بالميناء المخصص للصيادين وهو في الوقت نفسه المرفأ التجاري الصيداوي: من الشمال سوق "مال قبان" وسوق "البازركان" الذي ينتهي بـ "سوق الخضار" الذي يتقاطع معه: سوق اللحامين وسوق النجارين وسوق الكندرجية الذي ينتهي إلى ساحة باب السراي. وجميع هذه الأسواق تحيط بـ "جامع البحر" و"خان الإفرنج". هذه هي صيدا القديمة التجارية المحاذية للبحر من الجهة الغربية. بعد ذلك، توسعت الحركة التجارية نسبياً وانتشرت إلى أماكن أخرى، حتى شملت ما كان يُعرف بـ "ساحة ضهر المير" و"مقهى الإزاز" و"ساحة باب السراي" وهي ساحات رئيسة تاريخية تراثية في صيدا القديمة وفي قلبها المصلبية ومتفرِّعاتها من الشوارع الضيقة…).
ومن أشهر التجار الصيداويين في ذلك الزمان، يمكن أن نشير إلى أبرز العائلات التجارية: شماع، زنتوت، بكار، بعاصيري، جبيلي، قاسم، بساط، عسيران، كشتبان، وفيما بعد حشيشو، السيِّد، وغيرهم…. وهناك تجار بالأمانة (قومسيون) الحاج عبد المنعم عسيران والحاج أحمد عسيران.
نعود قليلاً إلى الوراء، إلى قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها، ودخول لبنان تحت الانتداب الفرنسي، فإننا نلاحظ بأن صيدا كانت قد دخلت في حالة من الشلل والاضطرابات السياسية والأمنية المتلاحقة. وغدت الحركة التجارية في حالة من الركود والنشاط التجاري البسيط. ففي المراحل المتعاقبة منذ العشرينات، إلى الثلاثينات، إلى الأربعينات، حصلت الأزمة الاقتصادية الشاملة، مما دعت الدولة القائمة آنذاك إلى أن تعمد إلى تقسيط الديون الزراعية، وذلك بسبب تحسن أسعار الليرة الذهبية. وقد تمّ تقسيط الديون الزراعية على خمس سنوات، والتي استردتها الدولة مما أدى إلى أزمة مالية عامة شملت الاقتصاد والتجارة على وجه الخصوص.
هذا من جانب، ومن الجانب الآخر، فإن الحركة التجارية شئ، والازدهار التجاري شئ آخر. ذلك أن الازدهار التجاري إنما يستدعي وجود ـ وهنا أكرر ـ مرفأ ناشط، كبير وواسع، ووجود مستودعات كافية. أما مجيئ مركب شراعي (مثلاً رز) من وقت لآخر، أو مركب شراعي يحمل كميات من الملح أو أي صنف تجاري آخر، فهذا لا يُسمَّى ازدهاراً، فهي في الواقع نوع من التجارة المحدودة. فأنا لا أعتقد أنه كان قد حصل نوع من الازدهار التجاري، أو فترة ازدهار تجاري في صيدا إلا في أواخر السبعينات (من القرن العشرين).
لقد وجد الجمرك بالقرب من الميناء في زمن الانتداب الفرنسي. وهو عبارة عن طابق أرضي وطابق علوي للموظفين، ويحتوي على مستودع يتَّسع إلى ما يقرب من 600 ـ 700 طن، أي ما يقرب من 2000 شوال. وفي النتيجة ما هو حاصل: ميناء صغير، وجمرك صغير ومستودع متواضع. إننا لا نشدِّد كثيراً على أهمية المستودعات الكبيرة لوجود حركة تجارية ناشطة ومزدهرة…
وهنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى نوعين من التجارة الموجودة في صيدا: تجارة الأقمشة وهي التي تُسمى "مال فاتورة"، وتجارة الأسماك، وهي تجارة في الحقيقة محدودة. وأودّ أن أبديَ رأياً شخصياً وهو أن الاقتصاد في صيدا ـ قديماً وإلى وقت قريب ـ كان يقوم على الزراعة في المرتبة الأولى، ومن ثمّ تأتي التجارة. فكل واحد من أهالي صيدا، كان يملك قطعة أرض، فقد كان يعتمد عليها في عمله واهتمامه أكثر من اهتمامه بالتجارة.
س: … ما هو عدد سكان صيدا في السابق وفي الفترة التي تتحدث عنها؟..
ج: … كنت أسمع من كبار السن أن عدد سكان صيدا أثناء الحرب العالمية الأولى يبلغ حوالي 6000 نسمة. ولكن يبدو الآن، في العام 1980، قد وصل إلى نحو 75 ألف نسمة.. لقد ضربت الكوليرا سكان صيدا أثناء الحرب العالمية الأولى. ويروى لنا ـ ربما بشئ من المبالغة ـ أنه كان يقام 24 جنازة في اليوم الواحد.
وأشير هنا أيضاً من حيث الملكيـة الزراعيـة إلى أن شركة شماع وبكار، كانت قد امتدت إلى الملكيـة الزراعية عن طريق التجـارة. هذا، وكانت الملكية الزراعية كبيرة نسبياً وواسعـة في منطقـة صيـدا. وفي الماضي، فإن أهالـي صيـدا الأغنياء (عن طريق التجارة) لا يرغبون عموماً الاستملاك خارج صيدا. فقد كانوا يطبقـون المثل القائل: "الرِّزْق يلِّي ما ببلدك، لا إلَك ولا لولدك".
وفي ختام هذه المقابلة يؤكد السيد أمين يوسف بكار قائلاً: قيل بأن هناك شركة أجنبية كانت قد جاءت إلى صيدا، وأرادت أن تُنشئ ميناءً (مرفأ) حديثاً وجمركاً في المدينة. وذلك بعد أن رأت أن صيدا ومنطقتها ووضعها الجغرافي هو الأنسب لإقامة هذا الميناء: ولكن الصيداويين لأسباب كثيرة معروفة عارضوا فكرة إنشاء "بور" (مرفأ) بصيدا، ووقفوا جميعاً رافضين هذا المشروع في حينه وفي كل حين…