تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي - جورج صدِّقني (2)
المقابلة الثانية
مع الأستاذ جورج صدِّقني
بتاريخ 22 تشرين الأول 1989 ـ دمشق
الموضوع: تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي
من خلال التجربة الشخصية
أجرى المقابلة: د. مصطفى دندشلي
* * *
د. مصطفى دندشلي: أستاذ جورج (صدِّقني)، تكتب في مجلة "المناضل"، وهي مجلة حزبية داخلية، سلسلة من الأبحاث حول "مجالس الحزب" الأولى، وحول قضايا تنظيمية في الحزب منذ نشوء حزب البعث العربي حتى تاريخ عام 1957، كما أذكر. وأعتقد صدقاً بأن ما تكتبه حول هذه الناحية التنظيمية ومجالس الحزب وتسلسلها وتطورها تدريجاً، هي في رأيي، من أهمّ ما كُتب عن حزب البعث في هذا الموضوع وهو يُلقي أضواء أرى أنها في غاية من الأهمية لكشف جانب كان غائباً عن الأنظار، جانب مهم في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي. فسؤالي المحدَّد في هذا الصَّدد: يتحدَّث حزب البعث دائماً، من خلال نشراته وبياناته الداخلية الرسمية، عن أَزْمة تنظيمية داخلية قديمة، أنت كمؤرخ وكباحث، إلى ماذا تعزو أسباب هذه الأَزْمة التنظيمية الداخلية في حزب البعث العربي الاشتراكي؟!…
الأستاذ جورج صدِّقني: … هذا سؤال لا يعادل صعبوته إلاّ أهميَّته. وهو سؤال هام فعلاً، وقد يكون من الصعب أن يعطيَ الإنسان جواباً عنه دقيقاً ومحكماً (وقاطعاً). لكن سأحاول أن أبديَ رأيي في هذا المجال، قد أخطىء وقد أصيب. يبدو لي أو يخيِّل إليّ أن الأسباب راجعة إلى ظروف نشأة الحزب تاريخياً في القطر العربي السوري، لأن الظروف التي نشأ فيها الحزب في سورية، كانت ظروفاً مفتوحة وتسودها الحريات العامة إلى حدٍّ كبير، أو فلنقل إن الديمقراطية بالمعنى التقليدي للكلمة، كانت تسود حياة المواطنين وعلاقات المواطنين بالحكم وبالدولة. طبعاً، أنا لا أريد أن يُفهم من هذا الكلام بأن عهود الاستقلال الأولى لم تكن تمارس أيَّ أعمال ظلم أو اضطهاد أو قمع للحريات. أنا لا أقصد هذا، ولكن، من جهة عامة، نسبياً، كانت الظروف مفتوحة. هذه الظروف جعلت نشأة الحزب مفتوحة أيضاً. وأقصد بأنها مفتوحة بمعنى "آخذة حريَّتها" وليست منضبطة بنظام قاسٍ، دقيق، صارم، ذلك أن مثل هذا النظام الصارم والدقيق قد تقتضي الظروف عملاً سرِّياً. ففي ظروف العمل العلني المفتوح، أتاح للبارزين الذين شكلوا الجيل الأول من روّاد البعث ومن مؤسسي البعث، أتاح لهم الفرصة كي يستقطبوا المريدين من حولهم. فصار ارتباط الأعضاء البعثيين بأشخاص وبأفكار هؤلاء الأشخاص، فجاء النظام في الدرجة الثانية، هذا إذا لم نقل في الدرجة الثالثة أو الرابعة.
ويمكن أن نضرب على ذلك أمثلة، إذا سمحت لنفسي أن أستخدم بعض الأسماء كأمثلة، نقول بأن البعث قد انطلق في دمشق إلى حدٍّ كبير بشخص ميشال عفلق أولاً وبأفكار ميشال عفلق، ومن ثمَّ بأيِّ نظام داخلي يمكن أن يوجد. والنظام الداخلي في أذهان البعثيين الأوائل، كان يأتي في الدرجة الثالثة أو الرابعة من الأهمية. وفرع الحزب الذي تأسس في اللاذقية، أسَّسه الدكتور وهيب الغانم. والبعثيون الأوائل الذين كانوا أول مَن انتسبوا إلى حزب البعث في اللاذقية، كان الحزب بالنسبة إليهم هو وهيب الغانم، وسواءٌ هو كان يشعر بذلك أو لا يشعر بذلك، ولم يكن يقيم لأيِّ نظام حزبي أيَّ وزن، لأنه ربما كان في طبيعته أن يتصرَّف بصورة عفوية. وكان كل شىء يتعلق بالحزب في اللاذقية مرتبطاً بشخص وهيب الغانم، بالأفكار التي ينشرها وهيب الغانم، وبالآراء التي يقولها وبعد ذلك يأتي النظام (أو الشكل التنظيمي) في الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة. وإن الناس كانوا يشعرون إلى حدٍّ ما بأنهم يعملون علناً ويشعرون بالحرية (أي بحرية العمل). البعثيون في بلدة السلميَّة ومنطقتها مرتبطون بسامي الجندي، لا نقاش في ذلك، وبشخص سامي الجندي. وفي دير الزور في البداية بشخص جلال السيد، حلال السيد، كان يعتبر نفسه في دير الزور هو البعث. هكذا كان الأمر في البدايات.
وقد أستطيع أن آتي بدليل على وجهة نظري، إذا انتقلنا إلى فترة لاحقة. عندما جاء أول انقلاب عسكري في سورية، حسني الزعيم وجَّه ضربة شبه قاضية لحزب البعث، وبعدما اعتقل عدداً كبيراً من أعضائه، وَجَد الحزب نفسه أنه لا يستطيع المقاومة، لأنه تقريباً لم يكن لديه أيّ نظام محدَّد للعمل السرّي، أو للعمل "تحت الأرض". فالحزب قد تعلَّم من هذا الدَّرس. فلما جاء انقلاب الشيشكلي وفي عهده، عندما أراد الحزب أن يناضل ضد حكمه، وجد بالفعل، في ظل عهد الشيشكلي، أنه لا بد أن يكون نظام الحزب الداخلي نظاماً حديدياً. وكان قد احتل اهتمام إقامة نظام حزبي قويَّ المرتبة الأولى وهنا تقلَّص عدد أعضاء الحزب الفاعلين حقيقة، فأصبح عبارة عن حلقات ضيِّقة من المناضلين الصامدين الحقيقيين الذين يملكون الاستعداد لبذل حياتهم في سبيل تحقيق هدف من أهداف الحزب.
قد أستطيع أن أعطيَ مثالاً آخر ليثبت وجهة النَّظر هذه. الحزب انتشر في الأقطار العربية الأخرى، كان مركزه في البداية في سورية، ثم انتشر.. ومن أوائل الأقطار العربية التي انتشر فيها الحزب: الأردن، لبنان، العراق… في لبنان، أعتقد أن التفسير الذي قدمته آنفاً يصلح للبنان، الساحة السياسية مفتوحة في لبنان من ناحية الحريات، وأعتقد أن النظام الحزبي الداخلي في لبنان لم يكن له هذه الأهمية الكبرى بين البعثيين في البدايات . ولكن إذا انتقلنا إلى العراق، في ظل حكم نوري السعيد وبطش النظام الملكي البائد أو حتى في ظل نظام عبد الكريم قاسم فيما بعد، البعثيون العراقيون في أيام نوري السعيد وعبد الكريم قاسم، كان للنظام الحزبي الداخلي الدقيق والصارم، المرتبة الأولى والمكانة الأولى. وكل شىء آخر يأتي فيما بعد. أما النظام الداخلي ـ والنظام الداخلي السرّي ـ فهو يسبق الأفكار والأشخاص معاً.
وفي مناسبة هذا السؤال الذي طرحته، فإن الأزْمة التنظيمية استمرت فيما بعد حول الأشخاص بالذات. فالأشخاص، عندما "تضخَّموا أو كبروا على النظام، أو تعوَّد الحزب منذ البدايات أن يكون الشخص أكبر من النظام، كان هذا سبب من الأسباب الذي ولَّد أَزْمة تنظيمية في تاريخ الحزب في الماضي. ومن أشهر هذه الأزمات من حول الأشخاص الأَزمة القيادية المستمرة والتي تمثَّلت بشكل واضح جداً في الاستقطاب الذي كان بين ميشال عفلق وأكرم الحوراني في الخمسينات، بعد دمج حزب البعث العربي والحزب العربي الاشتراكي.
وقد أضيف إلى ما قدَّمته شيئاً آخر، كنتيجة للتفسير الذي قلته وكدليل إضافي إليه، هو أن الحزب ظلَّ ـ إذا بقينا في المرحلة التاريخية نفسها، أي منذ البدايات حتى عام 1957 ـ ظلَّ يعاني في كل وقت أَزْمة داخلية في قيادته، (وفي مختلف مراحله الأولى). والأَزْمة في القيادة سببها الأشخاص، والأشخاص القياديون كانوا أكبر من النظام (الحزبي الداخلي). والنظام الداخلي يأتي في المرتبة الثانية. ذلك أنهم كانوا يضعون أنفسهم فوق النظام الداخلي للحرب. وبالمناسبة أقول: إن أهمية المؤتمر التنظيمي الذي عقده الحزب في تموز عام 1957، وهو الموضوع الذي أكتبه الآن، أهميته أنه كان بداية الانتصار على الأشخاص القياديين، والانتصار للنظام الداخلي على حساب القيادة.
س: … كما لاحظت من هذا التحليل الجيِّد لمشكلة تنظيمية مزمنة في حزب البعث في سورية، أرى وكأنك تعطي أهمية لهذه العلاقة بين النظام السياسي في البلد والتنظيم الحزبي الداخلي. فهناك، كما يبدو، علاقة بين التنظيم الحزبي الداخلي ونظام الحكم السائد في البلد. فإذا كان نظام الحكم، كما أفهم، قوياً دكتاتورياً، فلا بد للحزب من أن يقوّي تنظيمه الداخلي ويجعل منه تنظيماً حديدياً حتى يستطيع أن يجابه هذه السلطة القوية وأن يستمر في ممارسة نشاطه السياسي بشكل أو بآخر..
ج: … في الحقيقة أنا لم أُرد أن أجعل من هذا قانوناً أو قاعدة يمكن أن تنسحب على الفترات التالية أو على المستقبل، وإنما جعلته نوعاً من التفسير على وقائع نعرفها في التاريخ الماضي القريب إلينا واقتصرت على ذلك. وبكلام آخر، لقد شعرت أن المُناخ السياسي السائد في القطر العربي السوري آنذاك أو أسلوب نظام الحكم في التعامل مع المواطنين أو مع المنظمات السياسية، هو السبب في هذه المشكلة المحدَّدة. في المرات التي كان فيها نظام الحكم يمارس القمع الشديد ضد الحزب، سواءٌ في سورية أو في العراق أو في الأردن أو في أيِّ مكان آخر، كان التنظيم الحزبي الداخلي قوياً نسبياً وإلى حدٍّ كبير. لكن أنا لم أقصد أن أجعل من هذا التفسير قانوناً عاماً (ينطبق في كل الحالات والظروف الحزبية على حدٍّ سواء).
س: … في هذا المجال، كيف ترى أنت إلى العلاقة بين الأيديولوجيا، وأيديولوجية الحزب والجانب التنظيمي الحزبي الداخلي؟
ج: … لا ريب في ذلك من أن هذه العلاقة واضحة. فإن المنظمات السياسية، من المفروض أن يكون عندها نظرية تنظيمية. والنظرية التنظيمية هي الأسلوب الذي يحاول به كل منظمة سياسية أن تصل بأيديولوجيتها، في الواقع والممارسة، إلى تحقيق هذه الأيديولوجية وإلى تحقيق هذه الأفكار. إذا بقينا ضمن الوقائع التاريخية، من الواضح تماماً أن حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، وقبل ذلك حزب البعث العربي، لم يكن ـ طوال فترة زمنية طويلة ـ أو لم يحاول أن يُعطيَ أهمية كبيرة لتنظير التنظيم الحزبي الداخلي. وعندما اندمج الحزب العربي الاشتراكي في حزب البعث العربي، لم يأت بفائدة على هذا الصعيد، بل ربما بالعكس، لأن الحزب العربي الاشتراكي كان أكثر ـ دعنا نقول ـ تسيُّباً أو أكثر انفتاحية أو أكثر انفلاشية من الناحية التنظيمية الحزبية من حزب البعث العربي. ولربما كانت الفائدة من الناحية التنظيمية الحزبية التي أتى بها اندماج الحزب العربي الاشتراكي بحزب البعث العربي، أنه سلَّط أضواءً ساطعة جداً على المشكلة التنظيمية، لأن أعضاء البعث العربي لم يكونوا متعوِّدين على هذا القدر من الفوضى التنظيمية والتسيُّب. لقد حفَّزتهم هذه الفوضى وهذا التسيُّب إلى البحث في طريقة لحل المشكلة التنظيمية في الحزب، ولا سيما أن الحزب كان خارجاً لتوِّه من عهد نظام حكم دكتاتوري وهو عهد العقيد أديب الشيشكلي. وكان البعثيون قد ذاقوا طعم النظام الدقيق والصارم والعلاقات الحزبية الموضوعية بين المناضلين. وكان البعثيون قد عرفوا بالممارسة أن القياديين الكبار، عند الاقتضاء، لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون. فكانوا قد عرفوا بالممارسة أن ميشال عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار غابوا في لبنان ثم سافروا إلى إيطاليا وظلوا غائبين لفترة طويلة وازداد النضال ضد عهد الشيشكلي عنفاً وتنظيماً في غيابهم. وأنا هنا أذكر، ذكريات شخصية، أنني، بعد عودتهم من روما، التقيت لأول مرة بميشال عفلق الذي أعطاني تعليمات أدَّت لي بمشاكل، من ناحية عملية نضالية في عهد أديب الشيشكلي. وأذكر لأول مرة في حياتي اصطدمت معه كان ذلك في كانون الأول 1953، لأنه أعطاني تعليمات ونحن غير معتادين على ذلك. ولكنه هو معتاد على الفوضى التنظيمية الحزبية وعلى الرومانسية، في حين نحن كنا قد تعوَّدنا وتربينا في ظل دكتاتورية أديب الشيشكلي على العلاقات الموضوعية والدقيقة والصارمة. طبعاً، لا مجال الآن لنحكي عن النضال في عهد أديب الشيشكلي، فهذا موضوع آخر…
س: … لقد لاحظت، وهذه ناحية مهمة، أنك تعطي أهمية للرابطة ما بين التنظيم الحزبي وما يمكن أن أسميه بـ "الشِّلَلِيَّة الشخصية"، بمعنى آخر، أن علاقة القيادات مباشرة بالحزبيين كتكتلات أو كمجموعات، كانت تأخذ الأهمية الأكبر وفي الدرجة الأولى بالنسبة إلى العلاقات التنظيمية. وعلاقات الحزبيين بالقيادات. فإذن، كان قد تكوَّن في الحزب نوع ـ إذا صح التعبير ـ من الشِّلَلِيَّة: شلَّة عفلق، شلَّة البيطار، شلَّة جلال السيد إلى حدِّ ما، وشلَّة أكرم الحوراني، فتأتي هنا الناحية التنظيمية في الدرجة الثالثة أو الرابعة كما تقول، ولم تُعِرْ آنذاك القيادات أهمية كبرى للنواحي التنظيمية.
هذا جانب والجانب الآخر الذي أودّ أن أستوضح رأيك بشأنه، هو التالي: ألا يمكن أن نقول بأن أيديولوجية الحزب القومية آنذاك، كانت كذلك أيديولوجية "انفلاشية، ليبيرالية"، غير محدَّدة!. لنأخذ مثلاً مفهوم القومية العربية، الوحدة العربية، مفاهيم الحرية والاشتراكية.
ج: … لا شك في أن فكر حزب البعث قد نما وتطوَّر بمرور الزمان، وهذا أمر طبيعي. لكن لا أعتقد بأن عدم وضوح فكر الحزب في المراحل الأولى كان ذا أثر كبير في عدم الاهتمام بالتنظيم الداخلي أو بالنظام الحزبي الداخلي. أنا أعتقد أن المسؤولية الأساسية تقع على كبار المؤسِّسين الأوائل كأشخاص. والظاهرة كانت طبيعية إلى حدٍّ كبير. ليست القضية قضية لوم، ولكن تقرير واقع. هم أسَّسوا الحزب أو كانوا من كبار المؤسِّسين الأوائل وكانوا يشعرون دائماً بأن هذا الحزب هو "حزبهم". أنا مثلاً، أحسّ أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزبي، ولكنه ليس مِلكي. أما هؤلاء المؤسِّسون القدامى فهم كانوا يشعرون بأن هذا الحزب حزبهم، بمعنى مِلكهم، (أو هم أوصياء عليه). لقد بقي هذا الشعور عند ميشال عفلق وظل طوال السنين التي عرفته فيها وحتى عام 1958، وهي آخر مرة رأيته فيها. فطول عمر ميشال عفلق كان يشعر بأن هذا الحزب هو حزبه، بمعنى هو الذي "عمله". هذا الحزب من خلق يديه، هو لوحة رسمها أو آلة صنعها أو شىء من هذا النوع.
هذه النفسية عند القياديين كانت تجعل الأعضاء مرتبطين بأشخاصهم لا بالحزب (كمؤسَّسة أو كمنظمة سياسية). لم يكن ميشال عفلق وحده بهذه النفسية، بل كان الكثيرون من القادة الأوائل يتصرفون هكذا (على هذا الأساس وعلى هذا النمط من العلاقات). لكن هذه النفسية كانت بارزة أكثر بكثير عند ميشال عفلق. وهيب الغانم كان هكذا أيضاً، حتى لو ذهبنا أو لو عدنا إلى ما قبل ذلك بكثير، أي إلى أوائل الأربعينات، إلى تشكيل زكي الأرسوزي، فإن تشكيل زكي الأرسوزي لم يكن يختلف من الناحية التنظيمية عمّا ذكرت. زكي الأرسوزي كان يعتبر نفسه أكثر من قائد، فهو لم يكن ليتنازل للاهتمام بالأمور الصغيرة والقيادة والتنظيم. والقيادة عمل تنظيمي. وكان يَعدُّ نفسه زعيم الأمة العربية. فهو الزعيم، أما التنظيمات والتنفيذ كله فيقوم به الأعضاء الصغار، وهم يجب أن يرتبطوا به كزعيم للأمة العربية، ارتباطاً شخصياً وليس ارتباطاً موضوعياً.
هذه الظاهرة هي السبب للأَزْمة التنظيمية التي دامت فترة طويلة في تاريخ الحزب. وأعود وأقول بأن الخروج من عهد أديب الشيشكلي هو الذي سلَّط أضواءً واضحة على الأَزْمة التنظيمية ودفع الحزبيين إلى معالجتها أو إلى محاولة معالجتها. وقد أُغامر برأيي هنا فأقول بأن بدايات نجاح الصف الثاني من قياديي الحزب في تنظيم الحزب وإبعاد القيادة الثلاثية عن الشؤون التنظيمية في عام 1957، كان هذا عاملاً من العوامل التي جعلت هؤلاء القياديين الثلاثة يسلِّمون بحلِّ الحزب مع قيام الوحدة بين سورية ومصر، لأنهم بدأوا يشعرون بأن هذا الحزب (لم يعد حزبهم الشخصي)، بدأ يهرب من بين أصابعهم ولم يعد مِلكاً لهم، وإنما بدأ التنظيم يسري في صفوف الحزب.
س: … من هنا أرى أهمية مؤتمر 9 تموز 1957 الذي عقده فرع الحزب في دمشق…
ج: … صحيح، وهذه هي أهميته الكبرى. وهو أول مؤتمر في تاريخ حزب البعث العربي الاشتراكي استطاع أن ينجح بإبعاد ميشال عفلق وأكرم الحوراني وصلاح الدين البيطار عن عضوية القيادة القطرية. وقد نجح المؤتمر في إبعادهم عن عضوية القيادة في سورية.
س: … جيدة جداً هذه الايضاحات،…. أستاذ جورج (صدِّقني)، كذلك وفي الوقت ذاته فإنه لمن الملاحظ أن أَزمة الحزب التنظيمية لم تكن خافية على القيادة القومية أو على القيادة القطرية في سورية، وبحسب اطلاعي على الوثائق الداخلية للحزب، كانوا يشعرون بهذه الأَزْمة ويحاولون مرة تلو المرة أن يضعوا لها حلولاً تنظيمية وإقامة أنظمة داخلية جديدة، إلخ… لماذا، في رأيك، لم ينجحوا في هذا المجال، مع معرفتهم الكلية الواعية بعمق هذه الأَزْمة؟!…
ج: … فقد كانت الأزمة التنظيمية على مستوى القيادة القومية وبالتالي على مستوى القيادة القطرية في الدرجة الأولى. فإذا عدنا إلى المثال الذي ذكرته سابقاً، كان في أواسط الخمسينات ميشال عفلق يتصدَّر كتلة في الحزب وكان أكرم الحوراني يتصدَّر كتلة أخرى. فكان الانشقاق أو الخلافات أو التجاذبات الداخلية ظاهرة للعيان، ولم تكن خافية على أحد. لا بل وإنها تسرَّبت من داخل الحزب وأصبح الناس يعرفونها وتداول الناس فيها خارج الحزب وتناقلتها الصحف أحياناً في أخبارها اليومية. لكن المعالجة التي أشرتُ إليها، كانت المعالجة من داخل التكتُّل ومن داخل الانشقاق. وفي تصوُّري أنا، وهذا ما أشرتُ إليه في إحدى مقالاتي وقد أعود إلى تفصيله أكثر في المستقبل، من المعروف أن أكرم الحوراني بتاريخه السياسي في ذلك الحين وبمزاجه وبطريقته في التفكير وبأسلوبه في التعامل وفي العمل السياسي، لم يكن يطيق أي نظام من أيِّ نوع كان. يريد أن يتصرف بحرية مطلقة. وهذا سرّ نجاحاته اليومية، بمعنى أنه كان ينجح "بالمفرَّق"، ولم يكن ينجح "بالجملة" قطّ، ولم يكن لينجح قطّ في ذلك، لأنه يعيش السياسة يوماً بيوم، كان ماهراً وذكياً جداً في التكتيك، ولكنه بدون استراتيجية على الاطلاق.
هذه العقلية ساهمت في نشر الفوضى والتَّسيُّب وساهمت في تفاقم الأزْمة التنظيمية داخل الحزب. والجانب الآخر، فإن ميشال عفلق في خصومته لأكرم الحوراني، أراد أن يستخدم الأَزْمة التنظمية، أن يستغلها، أن ينتهز الفرصة في المعركة على أكرم الحوراني بمناسبة هذه الفوضى التنظيمية. فكان يطرح "شعار التصفية، أي أنه يريد تصفية الحزب بمعنى: تعبير "تصفية" في ذلك الحين يُقصد به "تطهير" الحزب: يريد نظاماً داخلياً شديداً للحزب، ويريد كذا ويريد كذا، ولكنه في الحقيقة يريد أن يضع أكرم الحوراني خارجاً، ويعود إلى احتضان الحزب ويضعه تحت جناحيه. ميشال عفلق كان يقول: حزب أو لا حزب!!… ولكنه في واقع الأمر كان يقصد "بحزب"، يعني حزباً معه هو، و"لا حزب" يعني مع أكرم الحوراني.
هنا سرّ عدم النجاح (في إيجاد حلول للأزمة التنظيمية الداخلية في الحزب)، لأن الدعوة إلى التنظيم كانت ملغومة، بدليل أن ميشال عفلق لا يعمل شيئاً في هذا المجال. كان بكسله المعروف وببطئه، يجلس وينتظر لكي يعمل أكرم الحوراني أيَّ عمل سياسي أو يدلي بأيِّ تصريح أو ينشر أيَّ مقال أو يتصل أيَّ اتصال، فيبدأ أول ما يبدأ ويقول بأن هذا العمل أو هذا الموقف جاء من وراء ظهر الحزب، ولم يتخذ فيه أيَّ قرار… فإذا قيل لأكرم الحوراني إن ميشال عفلق يحمل عليك وأنك خرجت على النظام، فماذا فعلت؟!… فأكرم الحوراني بالنسبة لما تعوَّد عليه، كان سلوكه طبيعياً. ميشال عفلق، ربما كان محقاً في انتقاده لأكرم الحوراني من حيث إن أكرم الحوراني، صحيح، كان يتصرَّف دون الرجوع إلى أحد، لكن لم يكن ميشال عفلق يقصد بانتقاده أن ينظَّم الحزب بمقدار ما كان يقصد أن يسيىء لأكرم الحوراني وأن يعيد الحزب إلى خطيرته الشخصية: إنه يوجِّه الانتقادات ولكنه لا يعمل شيئاً.
إنني هنا أعطي مثالاً لأُبيِّن أن المطلب التنظيمي عند ميشال عفلق لم يكن لوجه الله، في حين أن مؤتمر الحزب في سنة 1957 كان مؤتمراً تنظيمياً داخلياً للحزب ومن أجل الحزب، وليس لمصلحة ميشال عفلق. مثلاً ميشال عفلق عندما شعر في انتخابات عام 1954، في أوج الأَزْمة التنظيمية بينه وبين أكرم الحوراني، بأن المرشحين أصدقاء أكرم الحوراني قد نجح معظمهم، والمرشحون الذين يمكننا أن نقول بأنهم من مجموعة حزب ميشال عفلق، نجح منهم قلة قليلة، عدد محدود جداً، وصلاح الدين البيطار في دمشق لم ينجح في الدورة الأولى، فذهب إلى أكرم الحوراني بشبه إنذار وقال: ينجح صلاح الدين البيطار في المعركة الانتخابية التكميلية في دمشق، فيبقى الحزب مندمجاً. وإذا لم ينجح صلاح الدين البيطار في هذه المعركة الانتخابية، فهذا يعني أننا سنفك الدمج بين الحزبين. عند ذاك فقد بذل أكرم الحوراني كل ما عنده من جهود لإنجاح صلاح الدين البيطار بالأساليب الانتخابية القديمة البالية. فكانت اتصالاته بخالد العظم والحزب الشيوعي والقوى السياسية الأخرى… فنجح صلاح الدين البيطار في هذه الانتخابات… فميشال عفلق وأكرم الحوراني على مستوى القيادة تهادنا، ولم يأبه أيٌّ منهما بتسوية الخلافات التي استمرت على مستوى القاعدة الحزبية نتيجة لخلافاتهما السابقة.
ما أردت أن أقوله هو أن عدم النجاح في محاولات معالجة الأَزْمة التنظيمية في الحزب سببه أن هذه المحاولات على مستوى القيادات لم تكن خالصة، لم تكن صافية، لم تكن نابعة من نيَّة حسنة، وذلك بدليل أنه عندما تلتقي مصلحة ميشال عفلق مع أكرم الحوراني، تنتهي كل الأزْمة التنظيمية على مستوى القيادة ولا يحاولان بعد ذلك أن يعالجاها على مستوى القاعدة الحزبية نهائياً. تهادنا إذن بمناسبة انتخابات صلاح الدين البيطار ـ كما ذكرت لك أعلاه ـ وكذلك هدنة أخرى بينهما بمناسبة اغتيال العقيد عدنان المالكي: فقد تهادنا أيضاً في تلك الأحداث.
س: … هنا، أفهم من حديثك وكأن المشكلة الأساسية على صعيد التنظيم الداخلي للحزب، تكمن في القيادة وفي شخص الأمين العام للحزب بوجه خاص…
ج: … نعم، الأمين العام للحزب، ميشال عفلق، على مدى تاريخه الشخصي على الصعيد التنظيمي الداخلي، كان مشكلة في الحزب: كان دائماً مشكلة الحزب على الصعيد التنظيمي. وأعتقد أن الكثيرين من أقرب المقرَّبين إليه، كانوا يعترفون بذلك وأنه كان مشكلة تنظيمية، رغم أنهم كانوا يودّونه. والذين انفضوا من حول ميشال عفلق، بدايات انفضاضهم من حوله، سببه الفوضى التنظيمية. وعندما تكون الفوضى لمصلحته، "ماشي الحال"،…
س: … رُويَ لي حادثة حصلت في حمص أثناء الانتخابات النيابية العامة أنه كان للحزب مرشح وهناك مرشح آخر خصم لمرشح الحزب، أحد الحزبيين لم يتقيد بأوامر الحزب بتأييده لمرشح الحزب في هذه الانتخابات، وإنما أيَّد المرشَّح الآخر لوجود صلة قرابة بينهما ـ ولربما كان أخاه المرشح الآخر ـ فلهذا لم يتقيد بقرار الحزب وأن الحزب يخوض هذه الانتخابات، ويبدو، كما قيل لي إنه بعد الانتخابات عاد هذا العضو الحزبي إلى الحزب وكأن شيئاً لم يكن ودون أن يكون هناك مساءلة أو حساب أو استجواب أو أي موقف آخر، بل عاد ومارس عمله الحزبي كالمعتاد… هذه ظاهرة تدل على خرق أبسط القوانين والمبادئ التنظيمية الحزبية في أيِّ مؤسسة حتى لو كانت نادياً، لا يمكن أن يحصل ذلك.. فلم يكن هناك محاسبة أو استجواب أو مساءلة أو استفسار عن سبب هذا الموقف أو ارتكاب هذا الخطأ الحزبي التنظيمي الذي وقع من أحد الأعضاء العاملين. لا، فقد كان سائداً، فيما يبدو، نوع من السيَّبان على المستوى التنظيمي….
ج: نعم، هذا ممكن جداً أن يحصل، وهذه الحادثة، أنا لا أعرفها، ولكنها عادية في تلك الأيام: أن يخالف الحزبي قرار الحزب ويصوِّت لمرشح آخر، فهذا الأمر بسيط جداً، وكان يحصل أكثر من ذلك. فكان أعضاء يرشحون أنفسهم للانتخابات دون أيِّ قرار من الحزب. وأصلاً، عندما حصلت الانتخابات النيابية لعام 1954، جرت المناقشة على مستوى القيادة بين رأيين: الرأي الأول يقول بترشيح عدد محدود من الحزبيين الموثوقين الممتازين المناضلين ذوي التاريخ السياسي الناصع البارز، أما الرأي الآخر، فكان يقول: لا، فلنرشح عدداً كبيراً جداً، وأيّ واحد نشعر أنه يمكن أن يكون له أيُّ وضع سياسي أو اجتماعي: عشائري أو عائلي أو له نفوذ اجتماعي في محيطيه، ويمكن أن يصبح نائباً في البرلمان ويكون معنا سياسياً، فلماذا لا نفعل ذلك، إذا كان معنا…. في الحقيقة، ونتيجة المناقشة في هيئة القيادة أثناء الانتخابات، انتصر الرأي الثاني. وصارت الترشيحات على هذا الأساس. ونتيجة هذا الرأي الثاني، قررت القيادة ترشيح عدد معيَّن كبير من المرشحين، بمعنى أنهم توسعوا في الترشيح، من وجهة نظر الرأي الثاني. مع ذلك، كثيرون من الأعضاء ممن لم تقرّر القيادة ترشيحها لهذه الانتخابات النيابية عام 1954، رشحوا أنفسهم أيضاً ولم يحاسبهم أحد….
س: … خَطَر في بالي خاطر، وهو في الحقيقة سؤال آخر ليس له علاقة مباشر بما نتحدث عنه، وإنما هناك أهمية، في رأيي، الإشارة إليه وهو التالي: كيف يمكن أن تفسر الانتماء إلى حزب بعث عربي اشتراكي، شخصيات عشائرية ومشايخ لقبائل وأعضاء ينتمون إلى عائلات كبيرة، مثلاً يخطر في بالي الشيخ دحام الدندل، الشيخ فهدي الدندل، الشيخ عبد العزيز الحرويل، فهؤلاء رؤساء عشائر وقبائل معروفة في سورية. فما هو رأيك في هذه الظاهرة ـ مع أنهم لم يستمروا طويلاً في الحزب ـ وإنما لا بد أن يقف الباحث أمام هذه الظاهرة لتفسيرها؟!…
ج: … في الحقيقة، إنه في منطقة أو محافظة دير الزور، كل "الدنيا" عشائر (بمعنى آخر، أن الواقع الاجتماعي السائد في تلك المنطقة وفي غيرها من المناطق أو المحافظات الريفية الأخرى، إنما هو واقع اجتماعي قبلي عشائري مهيمن) لا يوجد هناك من أحد ليس عشائرياً. فلم يكن هناك واحد من الناس في ذلك الزمان وفي تلك الأيام، ليس منتمياً إلى عشيرة معيَّنة. لكن سؤالك هو سؤال شرعيّ، فمن المعروض أن يقوم الحزب (كحزب تقدمي تحرري اشتراكي) بحرب على العشائرية والقبلية. إنما هذا المنطق (أي استيعاب أعضاء ينتمون إلى عشائر) كان قد ساد في بعض المناطق في تلك المرحلة ولا سيما في محافظة دير الزور، وإن كان واحد مثل عبد العزيز الحرويل لم يكن زعيم عشيرة وإن كان ينتمي إلى عشيرة معيَّنة، وجلال السيد من عشيرة معيَّنة. كل الناس في محافظة دير الزور وكل إنسان هو من عشيرة معيَّنة. أما دحّام الدندل فكان زعيم عشيرته، لأن أبيه كان زعيم العشيرة، وعندما مات والده، أصبح هو شيخ العشيرة. ولكن هذا الوضع العشائري لم يكن محصوراً فقط في محافظة دير الزور. ومن الذين نجحوا في انتخابات 1954 باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في محافظة جبل العرب، (جبل الدروز)، فإن قوتهم ليست هي قوة الحزب وحدها، وإنما هي قوى اجتماعية ذاتية دعمت مرشحي الحزب. منصور الأطرش يشهد بذلك وهو نفسه عندما نجح نائباً عن جبل العرب في انتخابات 1954، نجح بقوة الحزب ولكن مضافاً إليها قوة شخصية والده التاريخية الثورية، سلطان الأطرش، قائد الثورة الكبرى في سوريا عام 1925. هناك نائب بعثي آخر نجح من جبل العرب، أيضاً لم ينجح بقوة الحزب وحدها، وإنما بسبب وضع العشائري والعائلي وهو من آل عامر، اسمه صيّاح عامر، ووضعه يشبه إلى حدٍّ كبير وضع دحّام الدندل.
وفي محافظة اللاذقية في ذلك الحين، كثيرون من البعثيين يترشحون وهم من أبناء العشائر أو العائلات الكبرى في المنطقة. وكان في هذه المحافظة توجد عشائر والعصبية العشائرية كانت أيضاً قوية جداً. فالمرشح البعثي أيضاً وبعض المرشحين البعثيين عندما يترشحون، فإنما يترشحون ويحسبون حساباً بأن اسم حزب البعث سيدعمهم، ولكن الأصوات لن تأتي من قوة حزب البعث وحدها، وإنما أيضاً من مكانتهم الاجتماعية العشائرية. وليس مهماً أن نذكر الأسماء، بل الحقيقة أن نشير إلى أنه لم يرشح أيُّ واحد منهم نفسه ـ حتى دحام الدندل ـ باسم العشيرة في محافظة اللاذقية وفي محافظة جبل العرب وفي محافظة دير الزور، جميعهم رشحوا أنفسهم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، الترشيح باسم حزب البعث وحتى جلال السيد. ولكنني أردت أن أقول إن النجاح لم يكن بقوة حزب البعث الشعبية.
وإذا كنت لم أُرِد أن أورد أسماء في محافظة اللاذقية، فلأنهم قد ترشحوا ولكنهم لم ينجحوا. فليس هناك من الضروري أن نذكر أسماءهم.… ابن شيخ عشيرة بعثي، يرشح نفسه للانتخابات، فإن مكانة والده، كشيخ عشيرة، لها أهمية كبرى. فلو حصل مثلاً على 5000 صوت، فيكون منها 1500 صوت للحزب، والباقي لمكانة والده في العشيرة. ومنصور الأطرش نفسه، وهو ألمع نواب حزب البعث، عندما نجح في جبل العرب، وليس هناك من شىء يضير منصور الأطرش ـ ولا نريد هنا أن نظلمه ـ (لا، هو يقول ذلك صراحة…) مكانة والده في الدرجة الأولى هي التي عملت على نجاحه… كذلك، صيّاح عامر، آل عامر عشيرة كبيرة لوحدهم… وهو كان بعثياً…
لكن المنطق الذي سيَّر هذه الأشياء، وزعيم هذا المنطق في الحزب هو أكرم الحوراني، أكثر من جلال السيد. رغم كل ما هو معروف عن جلال السيد، وأنا أخالفه، إنما هو كان يتعامل مع هذه الأشياء على أساس أنها أمر واقع. ويأتي الزمان الذي نتجاوزها فيه، لكن أكرم الحوراني كانت جزءاً من أسلوب عمله السياسي. يعني مثلاً جلال السيد لا يقبل أن تُشكل وزارة من حزب البعث والحزب الوطني، جاءت مرحلة كان أكرم الحوراني يقبل أن تُشكل هذه الوزارة مع الحزب الوطني، خوفاً من أن تُشكل وزارة من حزب الشعب (هذا الرأي لا يستقيم ويحتاج إلى مناقشة، ذلك أن هناك فرقاً بين التحالفات السياسية مع القوى السياسية الأخرى، وبين انتماء أعضاء فاعلين لحزب البعث العربي الاشتراكي من عائلات عشائرية أو قَبَلية لهم نفوذهم الاجتماعي والسياسي). يجوز أن يكون الحق معه في هذه الناحية، لكن هذا هو منطقه وهذا هو هدفه في الحكم.
س: … بسّ، بغض النَّظر عن أيِّ شىء، فإن هذه القضيَّة، ربما ليس الآن مجال بحثها، إنما تستأهل فعلاً منَّا أن نتوقف ملياً عند هذه الظاهرة ونستخرج منها بعض المفاهيم الأيديولوجية والنظرية للحزب. وهي أحد الأدلَّة على أن صفوف الحزب والانتساب إليه كانت مفتوحة للجميع دون تمييز أو مقاييس محدَّدة سوى الانتماء إلى "القومية العربية"، أو إذا أردنا أن نقول إن هناك منذ البداية نوعاً من "الانفلاشية" على الصعيد الأيديولوجي، وتبع ذلك على المستوى التنظيميّ… بل وأكثر تحديداً، ليس فقط على صعيد الأيديولوجيا للحزب، ذلك أنه في تلك الفترة ما كان سائداً هو أن هناك مفاهيم للقومية العربية عديدة ضمن صفوف البعثيين، وليس هناك مفهوم واحد محدَّد وواضح كل الوضوح، وكذلك حتى مفهوم الحرية ومفهوم الديمقراطية، هناك مفاهيم عديدة: وإن كانت متقاربة، وحتى مفهوم الاشتراكية. وكنت أنا قد أشرت في كتابي إلى هذه المفاهيم المختلفة، فليست هي متصارعة أو متناقضة أو متعارضة ـ لا شك في ذلك ـ وإنما متنوِّعة، مختلفة… وقد يكون كذلك، في هذا المجال ذاته، هناك في صفوف الحزب نوع مما يمكن أن نسميه: "الانفلاش" والانفلاش أو، إذا شئت، الانفتاح على الصعيد التنظيمي الحزبي الداخلي…
ج: … في رأيي، يجب دائماً أن نميِّز بين جانبَيْن: جانب العقائدي أو، إذا شئت، الأيديولوجي، فأنا لا أحب كثيراً كلمة الأيديولوجيا، بالمناسبة، ولكن فليكن كلمة دارجة شائعة…. فإذن يجب أن تميِّز بين الجانب العقائدي من جهة والجانب التنظيمي. إن الكلام الذي قلناه حتى الآن، ينصبُّ على المشاكل التنظيمية في مرحلة سابقة من تاريخ الحزب. الحقيقة، تلك المرحلة كانت نوعاً من الدروس للحزب في المراحل التالية. وليس هناك من شك في أن المراحل التالية، إذا الواحد منا نظر إليها، يرى يوماً بعد يوم أن النظام ـ وليس الزمان ـ هو الذي له الأسبقية. أما في الجانب العقائدي، وهو الجانب الذي أشرتَ أنت إليه، وهو موضوع إلى حد ما جديد، فاسمح لي أن أقول في البدايات، في الأربعينات والخمسينات، إنه كان أمراً طبيعياً أن تكون عقيدة الحزب وأيديولوجيا الحزب فيها شىء من البساطة أو من عدم النُّضج أو عدم الاكتمال، رغم أنه في إطارها العام، وقبل أن نبتدىء تسجيل هذا الحديث، أنت نفسك كنت تقول إن أيديولوجيا الحزب وعقيدته في إطارها العام لا تزال صالحة لإيجاد حلول لمشكلات الأمة العربية.
فأنا، في رأيي، إذا كان هناك شىء، دعنا نقول، من التبسيط أو من عدم التفصيل أو حتى من العقيدة التي تقتصر على رموز وعلى شعارات، ولنسم الأشياء بمسمياتها، وإذا قلنا في البدايات لم تكن هناك نظرية مكتملة لحزب البعث العربي أو لحزب البعث العربي الاشتراكي، فهذا أمر طبيعيّ وهذه ميِّزة حزب البعث العربي الاشتراكي من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية كالأحزاب الماركسية مثلاً. أصلاً، هناك فرق أساسي تاريخي بين حزب البعث العربي الاشتراكي وبين الأحزاب الشيوعية سواءٌ في أوروبا أو في البلاد العربية. في الأحزاب الشيوعية ـ كما نعلم ـ النَّظرية جاءت أولاً، ومن ثَمَّ على أساس النظرية الماركسية الرسمية نشأت الأمميات: الأولى، والثانية، والثالثة، إلخ… ومن الأمميات المتعاقبة نشأت الأحزاب الشيوعية في مختلف أقطار العالم. إذن وُجدت النظرية ثم نشأ الحزب. جاءت النظرية كاملة مكتملة ـ بغض النَّظر عن أن لينين أدخل على النظرية بعض التعديلات، فصارت بدل الماركسية، الماركسية اللينينية، إلخ… لندع هذه التفاصيل ـ لكن النظرية أولاً، ثم جاء الحزب وقام على أساس نظرية كاملة.
حزب البعث العربي الاشتراكي، لم ينطلق من نظرية كاملة مكتملة. وبالتالي لا يحق لنا أن ننتقد حزب البعث العربي الاشتراكي، لأنه لم يقم بوضع نظرية كاملة، وجهة نظر في الوجود وفي الكون (وفي المجتمع وتطوره، وفي الأمة ووجودها وتطورها وهكذا)، فلم يكن ذلك ضرورة ملحَّة. حزب البعث، طوال وجوده، كان يقول دائماً وأبداً قد جاء تلبية لحاجات الأمة العربية. وانطلق من فكرة يعتبرها شبه بديهيَّة أو مسلَّمة: العرب أمة واحدة. هل وضع نظرية (كاملة مكتملة) ليقول إن العرب أمة واحدة؟.. كلاً!… قد اعتبر هذا الأمر من مسلَّمات الواقع العربي. وضع مبادىء سائدة لمعالجة الواقع العربي. إذن، كل ما عمله حزب البعث في البداية، أنه بتحليل سريع أو متأنٍ ـ لسنا في صدد هذا الموضوع بتحليل علمي لواقع الأمة العربية ـ رأى أن مشاكلها تتلخص في كذا وكيت وأن معالجات مشاكل واقع الأمة العربية تكون بالنضال من أجل تحقيق الأهداف المعيَّنة وهي: وحدة الأمة العربية، التحرر من الاستعمار وحرية المواطن، الاشتراكية..
صحيح ولا يمكن لأحد أن يُنكر أن هذه الأهداف كانت بسيطة جداً وبدايات لا أكثر. لكن هذا ليس بدعة في التاريخ السياسي، أن ينشأ الحزب وبعد ذلك يكوِّن الحزب نظريته بالممارسة السياسية… هناك أحزاب سياسية كثيرة جداً في العالم، تنشأ وتوجد وتعلن عن نفسها في بلد معيَّن وأمة معيَّنة وضمن صفوف شعب معيَّن، (وتطرح مبادئ بسيطة معيَّنة لمعالجة مشاكل واقعها في مرحلة معيَّنة، ومن ثَمَّ هذه المبادئ الأولى تتطور من خلال الممارسة حتى تغدو في نهاية المطاف نظرية مكتملة أو شبه مكتملة…). فمن يؤمن بهذه الأهداف يأتي وينضم إلى الحزب. هذا ما هو معروف في تاريخ ونشوء الأحزاب في العالم.
ولكن مما يخفِّف من هذا العيب إذا كان عيباً، أن حزب البعث العربي الاشتراكي في الحقيقة، لم يبق (محصوراً ضمن أهداف قومية محدَّدة أو ضمن عدد قليل من الصفحات والمقالات الأولى). مثلاً، على صعيد الاشتراكية، لم يبق الحزب مقتصراً على مقال ميشال عفلق: "ثروة الحياة"، وإنما طوَّر نظريته الاشتراكية وتطوَّرت مبادؤه ونمت مع مرور الزمن ومع الممارسة الحزبية والسياسية (النظرية والعملية، الداخلية والخارجية). دستور الحزب الذي وضعه عام 1947، متطوِّر ونامٍ عن "ميثاق، الأهداف والغايات" التي وضعها سنة 1943 (؟!..). كذلك "بعض المنطلقات النظرية التي وضعها عام 1963، متطوِّرة ومغتنية بالقياس مع الدستور الذي وضعه الحزب سنة 1947. خطاب حافظ الأسد، الأمين العام للحزب، في المؤتمر القومي الثاني عشر، والذي فسَّر فيه المنطلقات النظرية وصوَّت المؤتمر على أن هذا الخطاب هو التفسير الرسمي لـ"بعض المنطلقات النظرية"، وليست التفسيرات الأخرى، أيضاً طوَّر "بعض المنطلقات النظرية".
أعود وأقول: إذا قارنا بين الأحزاب الشيوعية العربية وحزب البعث العربي الاشتراكي، فإننا نجد أن خط التطوُّر مختلف في نقطة بدايته وفي نقطة نهايته، وليس فقط مختلفاً، وإنما متعاكساً أيضاً. فالأحزاب الشيوعية: كانت النظرية، ثم تكوّن الحزب. في حين أن حزب البعث العربي الاشتراكي، نشأ الحزب ووُجد، ثم صارت النظرية تتبلور وتتوضَّح وتتكامل وتتطوَّر وتغتني. وكل مرحلة من المراحل، فيها إغناء للمراحل السابقة. كذلك إذا أخذنا على سبيل المثال الاشتراكية، وكما قلت، بدأ الحزب بمقالة ميشال عفلق "ثروة الحياة"، ثم جاء كلام آخر أكثر تفصيلاً فيما بعد حول الاشتراكية العربية، ملامح الاشتراكية العربية وموقفها من الشيوعية إلى آخر ما هنالك. وحتى الموقف من الشيوعية تطوَّر وتغيَّر وتبدَّل. في أوائل الخمسينات وهيب الغانم ألقى محاضرة "في الاشتراكية" هامة جداً، وكذلك جمال الأتاسي (وهنا ينبغي ذكر كتابات منيف الرزاز الهامة جداً ولربما الوحيد في تلك المرحلة، الذي عالج هذا الموضوع ـ الاشتراكية ـ وبتوسِّع واستمر في الكتابة فيه. هذه ملاحظة يجب العودة إلى هذه الكتابات…). ومن ثَمَّ فيما بعد عندما استلم الحزب الحكم عام 1963، فإن الممارسة دفعته لأن ينتبه إلى أن كل هذا الحكي يجوز أن لا يكون كافياً والممارسة علمته أن الاشتراكية ليست هي كتابة عدد من المقالات، وإنما هي ممارسة على أرض الواقع. هذا هو الخطّ الذي مشى فيه تاريخ الحزب على الصعيد العقائدي.
أعود مرة أخرى وألحّ على نقطة أنه في رأيي لم يكن ذلك عيباً في عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي وإنما كان أمراً طبيعياً. أصلاً مبادئ الحزب: لماذا نسميها مبادئ؟… لأنها هي الأفكار البسيطة جداً التي نبدأ منها. خذ مثلاً الوحدة العربية: زكي الأرسوزي، من مميِّزته ـ أنا جالس معه في جلسات كثيرة وتناقشت معه كثيراً ـ أنه، كما أذكر، كان يرفض المناقشة (حول الوحدة العربية)، مرة كان يجلس معه أحد الأشخاص من الحزب السوري القومي وأنا كنت موجوداً معهم. فأراد هذا الشخص أن يناقشه بقوله: لا، نحن لسنا عرباً، نحن سوريون. إنك تعرف عقلية القوميين السوريين في تلك المرحلة، وهذه القضية بالنسبة إليهم غير قابلة للنقاش. فقال له الأرسوزي: إذهب واسأل أيَّ فلاح في أيِّ قرية في سورية، أو اسأل أيَّ عامل وقل له: من أنت، سوري أو عربي؟ يضحك ويقول لك: ما الفرق بين كوني سورياً أو عربياً، فأنا عربي من سورية.. فقضية وجود الأمة العربية، لم تكن قضية بحاجة إلى برهان.
هكذا انطلق حزب البعث العربي. انطلق حزب البعث العربي، ليس من براهين على أن الأمة العربية موجودة وهي أمة واحدة. ابتدأ هكذا بجملة خبرية في المادة الأولى من دستور حزب البعث: العرب أمة واحدة. هو يُخبر بذلك وهذه قضيَّة مبتوتة ومنتهية. ولأن العرب أمة واحدة، يستنتج بأن لهم الحق في أن يكون لهم دولة واحدة، حرَّة، مستقلة… يعني ذلك أنه انطلق من مبدإٍ بالنسبة إلى حزب البعث، هو مُسلَّمة، وليست نظرية (فكرية، عقلية مجرَّدة). وهي مُسلَّمة من مسلمات الواقع (الحيّ المعيوش): العرب في الواقع أمة واحدة، ولهم الحق في أن يكون لهم دولة واحدة. وهكذا (في المفاهيم الأخرى) في الاشتراكية وفي الحرية.
س: … هنا، لديّ عدد من الملاحظات: أولاً ليس هناك من انتقاد يُوجَّه إلى حزب البعث بقدر ما هي محاولة مني أنا شخصياً في الدرجة الأولى، والآن في حوارنا محاولة تفسير بعض الظواهر، ذلك أنه لا يُعقل على الإطلاق أن تكون هناك مشاكل تنظيمية أو خلافه ونُحجم عن تفسيرها وتعليلها تفسيراً علمياً وموضوحياً صحيحاً، وأن نعزو بعض هذه المشاكل إلى أشياء أنا لا أتصوَّرها تصوُّراً حقيقياً أو واقعياً. فإذن، فإن الغاية من محاولتي إنما هي مقاربة تفسير عملية وتعليل وتوضيح وليس انتقاداً. الجانب الآخر، فإن العرض الذي قدمته لي والتحليل الذي بسطته أمامي الآن وأنا استمعت إليك بإصغاء كلّي، فهما يوضِّحان لي علمياً وموضوعياً سبباً من أسباب عدم الاهتمام بما يمكن أن نسميَه التنظيم الحزبي الداخلي. الابتداء من إنشاء حزب ـ أو تجمُّع شبيه بالحزب ـ ونحن موجودون دون أن تكون هناك رؤية أيديولوجية واضحة، إنما وُجد أولاً الحزب مع وجود بعض المبادئ الأولى أو بعض المنارات الفكرية والقومية الأساسية، ويمكن لو ذهبنا بعيداً قليلاً وازددنا في النقاش توسُّعاً، لوجدنا أن هذه المبادئ هي مبادئ رافضة، معارضة، سلبية في مواجهة ما هو واقع، أكثر مما هي مبادئ إيجابية. سأوضِّح: الوطن العربي مجزأ، فرُفض هذا الواقع العربي التجزيئي والدعوة إلى قيام ـ بديلاً عنه ـ الوحدة العربية والدولة العربية الموحَّدة…. سورية وباقي الأقطار العربية تحت الانتداب الأجنبي والاحتلال الاستعماري، المباشر أو غير المباشر، فنحن ضد الاستعمار بجميع أشكاله ومع التحرر والحرية الكاملة… الواقع العربي يعيش في ظل أنظمة الاستغلال والاضطهاد والبؤس والجهل والفقر والمرض، إلخ… فنحن ضد هذا الواقع العربي المريض ونرفضه، وندعو إلى عدالة اجتماعية تحت اسم: الاشتراكية: فنحن إذن اشتراكيون، ولكن وفي الوقت ذاته نحن ضد الحركة الشيوعية. وهناك التيارات والجماعات الإسلامية المتعصِّبة المنغلقة على ذاتها، نحن ضد هذه الجماعات الإسلامية. ونرفض شعاراتها وتوجُّهاتها العامة وطروحاتها العُصْبويَّة، إنما نحن مع التراث والثقافة والحضارة العربية وهي مصدرها الإسلام ومع روحية الإسلام المتسامح المنفتح. إذن، نحن ضد التجزئة العربية وضد الاستعمار وضد الشيوعية وضد الجماعات الإسلامية المتعصِّبة، حاولنا ـ كحزب بعث عربي ومن خلال الممارسة ـ أن تتبلور لدينا نظريتنا الفكرية القومية تدريجاً ومع الزمن في محطات تاريخية فكرية سليمة صحيحة ـ وما قلته أنت، فإنني أوافقك الرأي ـ فجاء تلخيص أهداف حزب البعث العربي الكبرى تكثيفاً في: الوحدة والحرية والاشتراكية. فهذا يدل، في قناعتي، وما لفت نظري بالنسبة إليَّ أنا شخصياً، على أحد المثالب وإحدى الثغرات لعدم وجود تنظيم حزبي داخلي متين وأساسي لدى حزب البعث العربي الاشتراكي.
والمثل الآخر ـ وهذا ما أحب أن أسجله في هذه المناسبة ـ وهو ما جرى في حديث مستفيض بيني وبين الأستاذ محمد صالح الهرماسي، أن اتفقنا على أن ثمة علاقة جدلية بين التنظيم الداخلي للحزب وبين الأيديولوجيا. عادة، لا يمكن أن يكون هناك تنظيم حديديّ مع وجود أيديولوجيا فضفاضة. والعكس كذلك صحيح، بمعنى أنه من غير الممكن وجود أيديولوجيا متبلورة ومتماسكة وواضحة من حيث المفاهيم الفكرية حول الحرية الفردية والنظرة إلى أسلوب العمل الحزبي، مع وجود تنظيم حزبي فضفاض. فهناك تلازم إلى حد كبير بين الأيديولوديا العُصبوية والتنظيم الحربي…. المثل على ذلك: الحزب الشيوعي، وبخاصة النظرية اللينينية لمفهوم الحزب. وكذلك تكوين الحزب السوري القومي الاجتماعي: أنطون سعادة انطلق من نظرية أو أيديولوجية إرهاصاتها الأولى نازية ـ هذا صحيح ـ ثم بعد ذلك تبلورت أكثر فأكثر من خلال الممارسة النظرية والعملية. كذلك، فقد أُنشىء الحزب السوري القومي في الابتداء على أساس مبادئ أولية: نحن أمة سورية وتحديدها جغرافياً، ولكن المنطلقات الأيديولوجية إنما هي منطلقات فكرية حديدية مستوحاة إلى حد كبير من الأيديولوجيا النازية في ألمانيا، فهي أيديولوجية متماسكة قوية صلبة ويمكن أن نسميها: أيديولوجية فاشية. فلا بدّ إذن من أن ينشأ عن هذه الأيديولوجية الأولية تنظيم حديدي، قوي ومتماسك.
ج: … على كل حال، هذا رأي، ولكن لي ملاحظة وهي ليست على الرأي الأخير، لأن هذا يبقى رأيك الشخصي، ولكن الفكرة الأولى التي قلتها ومؤادها أن مبادئ الحزب عند نشأته كانت كلها مبادئ رفض، رفض للواقع العربي المجزأ، فإذن نحن رافضون، ونريد الوحدة العربية. هذا كلام صحيح. لكن في الحقيقة لا يخرج عن هذه القاعدة إلا الأحزاب المحافظة. وكل حزب ثوري، هو حزب "رفض". وحزب البعث العربي منذ البداية كان يسمى نفسه بـ "حزب انقلابي". وكلمة انقلابي كان يقصد بها أنه حزب "ثوري". ولذلك، كان يلخِّصها بصراحة أنه كان يرفض الواقع الفاسد. وأنا قلت بأن ذلك لا ينطبق فقط على حزب البعث، وإنما ينطبق أيضاً على كل حزب "ثوري". فالحزب الثوري هو الذي يسعى ويعمل على تغيير الواقع. أما الأحزاب المحافظة، فهي التي تعمل على المحافظة على ما هو واقع وموجود.
أما المشكلة التنظيمية، في رأيي، فلا تتعلق بالعقيدة أ