حياة نزيه البزري الشخصية والسياسية- محمود سوسان وبشير سنجر
مقابلـة مع
السيدين محمود محمد سوسان وبشير محمد سنجر
بتـاريـخ 24 أيار 1989
الموضوع: حياة نزيه البزري الشخصية والسياسية
انطلاقاً من مزاولته مهنة الطب
الإشراف والتوجيه: الدكتور مصطفى دندشلي
* * *
س: … متى كانت بدايات المعرفة الأولى بالدكتور نزيه البزري؟
ج: … كانت معرفتي الأولى بالدكتور نزيه البزري كطبيب، وكان متخرجاً حديثاً من الجامعة الأميركية في بيروت، وأقام عيادة له في منطقة الحسبة القديمة. وكانت هذه العيادة بالأصل، فيما أذكر، للدكتور سعد الله الخليل، وهو أخ النائب كاظم الخليل. وانطلق الطبيب الشاب من هناك كبداية أولى، تدرَّب وأصبح لديه خبرة ومعرفة قوية في مجال الطب. ثم تسجل لدى الحكومة كطبيب صحة. وفيما بعد، أتى إلى خان الإفرنج حيث يوجد لدى الراهبات المستوصف أو "المستشفى" الحكومي الأول وهو مؤلف من ثلاث غرف. فاستلم الدكتور نزيه البزري ذلك المركز الطبي الحكومي الوحيد في صيدا وأصبح هو رئيسه الأول. ولذكائه وموهبته وقدرته في مجال الطب، كان يقوم بعمليات جراحية بسيطة وإسعافات أولية وتوليد إلى غير ما هنالك، مما هو ضروري وملحّ لمعالجة المرضى. هذا الأمر، كوَّن له منذ البداية رصيداً شعبياً وشهرة ومحبة كبيرة بين الناس، كل الناس. إضافة إلى أنه لم يُعر أيَّ أهمية للناحية المادية، وهو ما زال يتَّبع هذا المنحى حتى الآن. ثم انتقـل بعد ذلك إلى عيادة أخرى قرب السراي الحكومي أو قصر العدل القديم.
س: … بدايات الدكتور نزيه البزري السياسية، كيف كان موقفك منها، وما هي ظروف تلك المرحلة، فيما تذكر؟!…
ج: … نظراً لكره الناس، بصورة عامة، لسياسة الرئيس رياض بك الصلح على صعيد مدينة صيدا، وذلك لأنه هو شخصياً، لم يكن قريباً من الناس، بل كان يوكل مهمة صيدا وقضاياها الداخلية إلى جماعات تؤيده، ولم يكونوا كفؤاً لهذه المُهمة. كما أنه في كثير من الأحيان، كان يتهرَّب من مقابلة الصيداويين والناس الطيِّبين. وإذا صادف أن قابلهم، كان يطلب منهم مناقشة أمورهم الخاصة أو العامة مع هؤلاء الأشخاص المحليِّين أنفسهم. وقد استمر ذلك طوال مرحلة بعد الاستقلال عام 1943. ومضت هذه السنوات وتراكماتها من مشاكل وقضايا وأزمات محلية، أحياناً عنيفة وحادة، أدّت إلى فشل سياسة رياض الصلح المحلية على صعيد صيدا ومهَّدت الطريق وساعدت ظهور شخصية الدكتور نزيه البزري السياسية وهيأت الظروف الاجتماعية أمامه والرغبة في التغيير….
ولكن في بداية الأمر، لم يحظ الدكتور نزيه البزري بالنجاح على صعيد الجنوب ككل، بما أنه كان لا يزال دائرة انتخابية واحدة. ولكن حالفه النجاح الباهر فقط على صعيد اقتراع الأصوات في مدينة صيدا فقط. إن ظروف ظهور الدكتور نزيه البزري السياسي، أدَّت إلى اختياره بالمصادفة، وذلك اعتماداً كلياً على رصيده الشعبي ومحبة الناس كل الناس له، كطبيب إنساني وله خدمات اجتماعية حلَّى بالدرجة الأولى، وكان ذلك انطلاقاً من اجتماع انتخابي عُقد في منزل عادل عسيران في صيدا. فالدكتور نزيه البزري أول ما ترشح للانتخابات، كان على قائمة عادل عسيران، ضد رياض الصلح على لائحة أحمد الأسعد الجنوبية.
س: … كيـف يمكـن أن توضِّـح لنـا المراحـل الأساسيـة التـي مر بها سياسيـاً الدكتور نزيه البزري؟..
ج: … عام 1951، كان الترشيح في صيدا ضد رياض الصلح، وسبق وتحدثت عن ظروف تلك المرحلة. أما في العام 1957، فكان ظهور معروف سعد. وهنا لا بدّ من التوضيح: فيما بعد، بدايات "المكتب الثاني" ودوره في العمل السياسي المحلي والانتخابي تحديداً، وكان له موقف ضد الدكتور نزيه البزري. وأنا شخصياً ضمن الذين اقتيدوا إلى الثكنة. وكان هناك الدكتور لبيب أبو ظهر الذي كان من مؤيدي الدكتور نزيه البزري أيضاً. وأجبره المكتب الثاني وهدَّدوه كي يؤيد معروف سعد. وأذكر أن الضابط كان اسمه عبد الملك ومساعده جورج مروق. وسأل الضابط عبد الملك عني: "مَن يكون هذا؟"… قال الدكتور لبيب أبو ظهر: إنه إنسان يحترم نفسه، أنتم أحضرتموه. فسألني الضابط: "لماذا أنت عابس ومكفهرِّ الوجه؟.. لا أريد هنا، في صيدا، أن ينجح أحد، ولن ينجح سوى معروف سعد"… ثم، سألني لماذا لا أؤيد معروف سعد؟. أجبته: "حتى لو أيدته، لن يصدقني…". فقال: "أنت وعائلتك ستؤيدون معروف سعد". فأجبته: "أنا أحكم على نفسي، ولا أحكم على عائلتي".
وكان يومها وزير الداخليـة سليمان فرنجية. وكانت الحكومة تبدِّل ما يُسمَّى آنذاك "الفرقة 16"، أيام الانتخابـات، بالجيش. مثلاً، القصـاص لي قد كان أنني لم أحصل على منزل في "مدينة التعمير"، لأني كنت مع الدكتور نزيه البزري ومن مؤيديه ولست من مؤيدي معروف سعد. وأقولها بصراحـة، إنه ربما كان معروف سعد كشخص مجاهد جيداً، ولكن المحيطين به لم يكونوا كذلك مع الناس وكانوا ينقلـون له صوراً غير صحيحة عن الواقع وما يجري في الداخل.
س: … ما هو رأيك في الدكتور نزيه البزري كرئيس للبلدية في صيدا؟.
ج: … من حيث الشخصية الذاتية، الدكتور نزيه البزري إنسان قانوني فوق الحدِّ. وقد كانت الجماهير الشعبية آنذاك تقوم بأعمال مخلّة بالقوانين ومخالفة لها ويرغبون دائماً فلي المزيد في خرقها دون أن يقول لهم أيُّ شخص كفوا عن ذلك، أو دون أن يواجهوا أيَّ معارضة تُذكر. والجمهور العام والفئات الشعبية وحتى الفئات المتنفِّذة، لم تكن ترغب إطلاقاً في تطبيق القانون وتحقيق النظام العام في البلد. فكان الدكتور نزيه البزري ينفِّذ المعاملات القانونية ويسعى إلى تطبيقها بحذافيرها. أما المعاملات غير القانونية، فكان يرفضها. وكان يمانع بكل الطرق المشروعة ويحارب عمليات الرشوة وتمرير أيِّ معاملة غير قانونية.
ولكن اختلف الأمر مع معروف سعد الذي كان يسمح للجماهير الشعبية وللناس من مؤيديه تنفيذ ما يريدون القيام به من أشياء ومشاريع، حتى ولو كانت غير قانونية. إضافة إلى ذلك، أن صلاحيات الدكتور نزيه البزري كانت مرتبطة بالميزانية العامة القليلة للبلدية والتي كانت مخصَّصة وموجودة في الخزينة، وبقيت كذلك شحيحة الخزينة معظم أيام رئاسته للبلدية.
س: … كيف يمكن أن تصف لنا المعارك الانتخابية بين أعوام 1960 وحتى عام 1972؟…
ج: … إن وجود الأحزاب السياسية اليسارية من شيوعيين وبعثيين وقوميين عرب، هم الذين دفعوا معروف سعد للترشيح بدعمه وتأييده. وقد تمكن من الفوز، لأنهم كانوا متغلغلين بشكل كبير بين الطبقات الجماهيرية الواسعة والنقابات العمالية. وتوصلوا إلى حرمان الدكتور نزيه البزري من الدخول إلى البلد سواءٌ للتطبيب، أو حتى هو وأتباعه الدخول أيام الانتخابات والتصويت بحرية تامة. وعلى سبيل المثال، كانوا يكسِّرون السيارات لأصحابها المعارضين أو يرشقون بالبيض أهل بيته (نزيه البزري) وأقاربه ومؤيديه. وفي سنة من السنوات، ضرب أتباع معروف سعد أخي وجُرح وجهه. وعندما ذهبنا إلى المخفر لإقامة محضر بالحادث. قال لي المسؤول: لا تبحث في هذا الأمر أبداً. فقلت له: لماذا؟… قال: هذه هي الأوامر.
أما في عام 1972، فكانت الحكومة قد أخرجت صناديـق الاقتراع من داخل المدينة القديمة، من الحارات والأحياء ووضعها خارجها. فأصبح هناك حرية أكثر للناس من أجل الاقتراع لمن يريدون دون قيود أو تخويف، ودون إكراه، خصوصاً بالنسبة إلى مؤيدي الدكتور نزيه البزري، هم الذين كانوا في السابـق يمتنعون من دخول البلـدة القديمة للتصويت. وعندما نجح الدكتور نزيه البزري، قالوا: إن هناك تزويراً وغشاً في عمليات الانتخاب. ولكن، في الحقيقة، الحقُّ كان أيامها قد انتصر. (كذلك كان يقول الناس، عندما ينجح معروف سعد في الانتخابات).
س: … في أيهما كان الدكتور نزيه البزري قد حقَّق نجاحاً: في الطب، أم في السياسية، أم في كليهما؟!..
ج: … الواقع، إن رصيد الدكتور نزيه البزري إنما هو في الطب، أكثر من رصيده في السياسة، رغم اعتماده في العمل السياسي على هذا الرصيد الكبير في ممارسة مهنة الطب. ولكن، الحق يُقال، إن الدكتور نزيه البزري كان قد نجح في الإثنيْن معاً، مع ظهوره الواضح والصريح في البداية كطبيب، ومن ثَمَّ كسياسي، وكان يمارس السياسة كطبيب….
س: … ما هي إنجازات أو الاخفاقات التي تعرَّض لها الدكتور نزيه البزري في عمله السياسي؟!
ج: … لقد نجح الدكتور نزيه البزري كطبيب وقدَّم بعض المشاريع أبرزها كان يوم الزلزال في صيدا عام 1956. وكانت النقطة الرابعة الأميركية قد تبرَّعت بتقديم مساعدات عينية وبناء وترميم ما تهدَّم من منازل في صيدا. إلاّ أن الأحزاب اليسارية ومرشحها معروف سعد، رفضوا ذلك بحجة أن النقطة الرابعة تخدم السياسة الأميركية في لبنان. ولكن بعد مدة، اقتنعت الناس وقامت الدولة اللبنانية ببناء منطقة التعمير.
وأذكر أنه أيام الاستقلال عام 1943، قد ساعد الدكتور نزيه البزري وأعطى من خلال مهنته. فكان يُسعف الجرحى الذين لم يدخلوا إلى المستشفيات خوفاً من الفرنسيين. وكان يخاطر كثيراً وكما كنا نقول: "يمشي تحت الموت". وعند الاحتلال الإسرائيلي لصيدا، حاول الإسرائيليون وضغطوا من أجل أن يضموه إلى صفهم وأن يتعاون معهم. إلاّ أنه رفض وبقي في منزله وقد منع اليهود حينها الناس من الالتقاء به أو الدخول إلى منزله حتى لزيارته. وعاش فترة من الزمن في عزلة تامة. إلا ّ أنه لم يرضخ لهم ولا لتهديداتهم، وبقي مصمماً على موقفه الوطني ورأيه المعادي للاحتلال الإسرائيلي.. ولم يتعامل معهم إطلاقاً، (كما حاول الكثيرون غيره، بشكل أو بآخر، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة، تحت حجج وذرائع كثيرة منها: المحافظة على أمن صيدا ومصلحتها!!). لذلك حاول العملاء كثيراً التخلص منه والقضاء عليه، إلاّ أنهم، والحمد لله، لم يفلحوا.
س: … ما هي العوامل الأساسية المساعدة كي يصبح الفرد في مجتمعنا رجل سياسة أو زعيماً، وذلك بحسب تجربتك الشخصية، وفي مدينة كصيدا؟!..
ج: … أولاً، أن تكون له خدمات للناس وعلاقات جيدة معهم. وذلك كي يؤمِّن له رصيداً شعبياً. وأن يكون، ثانياً، ذا مركز اجتماعي، ومثقفاً، وذا وضع مالي. ولكن العامل المهم الذي يعتمده الزعماء اللبنانيون هو الاعتماد على الحزب السياسي والميليشيات….
س: … مـا هـي الصفـات التـي تعجبـك فـي شخصيـة الدكتور نزيه البـزري والتي لا تعجبـك؟…
ج: … أول صفة بارزة في شخصية الدكتور نزيه البزري أنه إنسانيّ إلى أبعد الحدود وفي الدرجـة الأولـى: (إنك تجد نفسك أمام إنسـان)، طيِّب ومخلص وخدوم. ولكنه في الوقت نفسه، قانونيّ فوق الحدِّ، لا يقبل الرشاوى أبداً، بنى نفسه بنفسه، (إنه عصاميّ)، ولم يستغل المراكز الرسميـة ولا المناصب التي احتلها أو شغلها لتنفيـذ مآرب أو مرامي شخصية. أخلاقيّ جداً جداً..
س: … الدكتور نزيه البزري، لم تكن لديه الحنكة السياسية والعلاقات الكبيرة، عندما ترشح للانتخابـات النيابيـة، هل يمكن أن تعطينـا صورة عن بداية عمله ومواقفه السياسية، وكيف كانت؟!…
ج: … الواقع، كل لبنان، وهو بلد أو دولة، لم تكن لها أي موقف سياسي مهم. والدكتور نزيه البزري، وبصفته نائباً أو وزيراً، لم يكن له أيّ موقف سياسي مهم. وكل قراراته كانت مؤيدة للدولة. ولكن هذا لا يمنع أنه كان يرفض ويناقش في العديد من الأمور من خلال نيابته أو وزارته. لكن الدكتور نزيه البزري، باعتباره وزيراً، خدم الناس خدمات جليلة من ناحية تأمين الأدوية والدم، وساعد كثيراً في دخول المرضى إلى المستشفيات للمعالجة. وكان له دور كبير في إعطاء اسم للمستشفى الحكومي في صيدا. وكان يساعد قدر استطاعته، سواءٌ في الوزارة أو في النيابة، ولكن بشكل قانونيّ…
وهو، الدكتور نزيه البزري، لم يعارض عبد الناصر. وسبب ترشيحه الدائم ضد معروف سعد، قد كان انطلاقاً من مواقفه وأفكاره في ما يتعلق بالقومية العربية الخاصة به. وربما لو لم يكن طبيباً، لما كان سياسياً. ولكن قد يكون هذا التوجُّه، ربما بالنسبة إلى إنسانيته التي هي في طبعه. فهناك الكثير من الأطباء، كان يمكن لأحدهم أن يترشح وينجح أيضاً، ولم يحصل ذلك.
* * *
تعليق: من الواضح من خلال هـذه المقابلـة أن الحاج محمـود سوسان من مؤيدي الدكتور نزيـه البزري بشكـل واضح. وهـو شخص قد ذاق المر والتعـب والعـذاب في سبيل تأييده الدكتور نزيه البزري. وبعد هذا العذاب والمعاناة، كان الدافع الأكبر لصراحته التي عرضها في هذه المقابلة القصيرة، ولكنها الواضحة والصريحة والصادقة في آن معاً….