الوفاق الدولي وتأثيره في القضية اللبنانية
30 حزيران 1989
بدعوة من المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا ألقى الدكتور جورج ديب مستشار العلاقات الدولية في رئاسة الوزارة محاضرة موضوعها:" الوفاق الدولي وتأثيره في القضية اللبنانية"، في قاعة محاضرات مركز صيدا الثقافي وبحضور جمهور كبير من مثقفين تربويين وفاعليات اجتماعية واسعة في مقدمتهم المطران ابراهيم الحلو راعي أبرشية صيدا ودير القمر للطائفة المارونية، الدكتور عدنان النوام رئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في صيدا، علي الشريف رئيس جمعية التجار، العميد عدنان الخطيب، مصعب حيدر مسؤول الإعلام في الجماعة الإسلامية، سليم مملوك مدير مستشفى حمود ومدير معهد العلوم الاجتماعية الدكتور اسماعيل الغزال.
قدّم المحاضر الدكتور مصطفى دندشلي رئيس المركز الثقافي فأشار في كلمته إلى صراعات الدول التي تمتد بعيداً في التاريخ. وهذه الصراعات كانت تظهر بأشكال متنوعة، الأقوى يمارس سيطرته على الأضعف وعلاقات الدول إنما هي علاقات صراع بين المصالح المتعارضة. وقال: وفي هذا القرن الذي نعيش نهايته أصبحت الدول الكبرى مع تقدمها الصناعي والتكنولوجي المذهل تمارس نفوذها الواسع في مختلف مناطق العالم وأخذ تأثيرها يظهر بوضوح لم يكن معروفاً من قبل. وأشار إلى أن الكيانات المتعددة في منطقة الشرق الأوسط ما هي إلاّ نتيجة معادلة دولية أو صراع دولي وتلبية لمصالح الدول الكبرى وتناقضاتها.
واعتبر دكتور دندشلي أن النموذج الأبرز في هذا المجال هو لبنان والأزمة اللبنانية. هذه الأزمة التي تمتد جذورها بعيداً أبرزت أو بكلمة أوضح عزّت العلاقات التي كانت تتم عادةً في الخفاء والكتمان وأظهرت كيف تقيم القوى السياسية والطائفية علاقاتها بالعالم الخارجي عبر شتى القنوات: عسكرياً، سياسياً، مالياً ودبلوماسياً، وكيف يتم التأثير والتأثر بين القوى الداخلية والقوى الخارجية التي تعود وتمارس نفوذها القوي والفعال في الوضع الداخلي وأضاف رئيس المركز الثقافي: لقد أظهرت الأزمة اللبنانية بشكل واضح وصريح مدى متانة العلاقة التي تُقيمها مختلف الطوائف والمذاهب الدينية بالقوى الخارجية ومدى ارتباطها أيديولوجياً وسياسياً بها ومدى تأثير هذه القوى الخارجية في السياسة الداخلية وفي موازين القوى في الداخل وهذا يصحّ أيضاً على القوى السياسية وتحركها في الداخل والتي تقيم لها علاقات وتحالفات بقوى خارجية على مختلف المستويات إقليمياً ودولياً. وليس من فرقٍ بين فريق وآخر، بين يمين ويسار في هذا المجال: الجميع يبحثون عن غطاء عسكري ومالي لتحركهم السياسي على الصعيد الداخلي وأصبحت هذه الأشياء تتم بصورة علنية، يعرفها المواطن العادي ويتحدث عنها بكثير من التفصيل يفوق ما يعرفه أي مواطن في العالم فأصبح اللبناني بحكم التجربة خبيراً في العلاقات الدولية والصراع الدولي وفي موازين القول في الداخل والخارج.
ويطرح الدكتور دندشلي في ختام تقديمه سؤالاً مقلقاً فيقول: "هل تستطيع دولة مكوّنة من طوائف ومذاهب دينية متعددة أن تقوم وتعيش وتستمر، دون أن يكون لهذه العلاقات الخارجية تأثير مباشر وفاعل في الوضع الداخلي؟ وهل تستطيع أن تقرر سياستها انطلاقاً من مصالحها الذاتية وبالاعتماد على شعبها بمجمله دون أن يكون لهذا النفوذ الخارجي تأثيره السلبي في سياستها الداخلية وفي وجودها؟ "
جورج ديب
يستهل الدكتور جورج ديب محاضرته بالإشارة إلى أنّ من أهم الأحداث التي حصلت بعد الحرب العالمية الثانية ولعله الحدث الأهم هو وصول غورباتشوف إلى الحكم في الاتحاد السوفياتي وتصميمه لتطبيق فلسفة البير سترويكا وغلاسنوست أي إعادة البناء والانفتاح وذلك من أجل تحسين الوضع المعيشي المادي والمعنوي والنفسي للمواطن السوفياتي وأوضح المحاضر أنه في الجهة الأخرة كانت الولايات المتحدة الأميركية قد توصلت إلى نموّ هائل في التكنولوجيا المتطورة الحديثة ووضعت خطة دفاعية استراتيجية عرفت بحرب النجوم وهي تقضي بوضع شبكة من الصواريخ في الفضاء تغلف الكرة الأرضية قادرة على منع أي تعدٍ عليها.
وهنا يطرح الدكتور ديب سؤالاً حول كيف حلّ غورباتشوف هذه الإشكالية قبل أن يجيب: "هجم غورباتشوف على الولايات المتحدة الأميركية لإقناعها بعقد مؤتمر دولي هدفه التخلي عن حرب النجوم. وبعد ثمانية أشهر من استلامه الحكم في الكرملين انعقدت القمة الأولى بين الجبارين في خريف 1985 تبعتها القمة الثانية 1986 نوقشت فيهما حرب النجوم، تخفيض الأسلحة النووية والصراعات الإقليمية وإذا كانت القمتان السابقتان قد فشلتا غير إنهما قد مهدتا السبل لنجاح القمة الثالثة عام 1987 . وتابع المحاضر: وباتصالات خفية بدأت تظهر أهمية الاتفاقات التي توصل إليها الجباران في مجالي تخفيض الأسلحة والصراعات الإقليمية وكان مطلع 1987 هو المؤثر لهذا النقيد لسياسة الجبارين ذلك لأنهما اتفقا على إدارة الصراعات الإقليمية بهدف عدم توسعها وكان في نتيجة هذا الاتفاق قرار وقف إطلاق النار 598 لإنهاء حرب الخليج وفي آخر 1987 عقدت القمة الثالثة في واشنطن وتم الوصول إلى قطف ثمرة جهود السعي للوفاق بتوقيع معاهدة إزالة الصواريخ النووية الاستراتيجية متوسطة المدى وقريبة المدى. وتطور الوفاق في إدارة الصراعات الإقليمية بهدف عدم توسعها إلى إدارتها بهدف إقناع من لم يقتنع بأن المفاوضة لا العنف هي السبيل الوحيد لحل الصراعات الإقليمية .
وكرس هذا المبدأ رسمياً في القمة الرابعة في موسكو 1988 ولا تزال هذه القاعدة تتحكم بالعلاقات الدولية وكان من نتيجة ذلك أن توقفت حرب الخليج وذلك في جو اتفاق الدولتين الكبريين على أن المفاوضة هي السبيل لا الحرب.
ثم يأتي الدكتور ديب إلى الصراع العربي الإسرائيلي فأشار إلى أن الموقف العربي منذ 1948 هو اللاآت الثلاثة : لا مفاوضة، لا صلح، لا اعتراف. شذت عن هذه القاعدة مصر كامب ديفيد1978. وفي عام 1982 اجتمع الملوك والرؤساء العرب في قمة فاس واتخذ القرار الأول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي بأن العرب يقبلون بالمفاوضة كوسيلة للحل بعد ذلك فوراً باشر بعض الدول العربية خصوصاً المعتدلة منها المفاوضات أو بخلق جو المفاوضات مع إسرائيل.
لقد كان كامب ديفيد 1978 يُقدم على نقطة أساسية جوهرية في المفاوضات وهي المفاوضة الثنائية. وكما حصل بين مصر وإسرائيل كذلك سيكون هناك مفاوضات بين لبنان وإسرائيل، بين سوريا وإسرائيل، بين الأردن وإسرائيل. وضمن إطار هذا التوجه دخل لبنان في مفاوضات مع إسرائيل في خلدة وكريات شمونة. وكانت النتيجة اتفاق 17 أيار.
وبنفس الاتجاه تمكن ياسر عرفات والملك حسين من التوصل إلى اتفاق 1985 يدعو إلى المفاوضات مع أميركا كخطوة أولى مقدمة للتفاوض مع إسرائيل. مقابل هذا التوجه هناك اتجاه معاكس تقوده سوريا وهي تقول: صحيح أنا وافقت على المفاوضة كوسيلة لحل الصراع العربي الإسرائيلي، إلاّ أنّ الصحيح أيضاً هو أنا الذي أقرر متى أفاوض وكيف أفاوض وأين أفاوض. فأنا لا يمكنني أن أفاوض إلا إذا تمكنت من التوصل إلى التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل حينذاك المفاوضة تكون من موقع قوة.
والمقصود بالتوازن الاستراتيجي هو التأكيد على القوة العسكرية وما هو بحكم القوى العسكرية ، مضافاً إلى ذلك التنمية الشاملة للموارد البشرية والطبيعية. إذاً ليست المسألة فقط مسألة عسكر وإنما هناك أيضاً تنمية الإنسان. والهدف ليس المحافظة على الوضع القائم وإنما تغييره.
ويعتبر المحاضر أنَّ المأساة في كل ذلك هي أنَّ حافظ الأسد وياسر عرفات مشى كل منهما في طريق ودفع اللبنانيون ثمن هذا الخلاف وهو كيف نتفاوض مع إسرائيل أي أنَّ لبنان أصبح في فوهة المدفع. وهذا ما يفسر كل ما حدث خلال السنين الماضية حتى آخر 1986. وفي مطلع 1987 حصل شيء جديد: أعلن في البيت الأبيض أنَّ الولايات المتحدة الأميركية تقبل في المؤتمر الدولي. فأصبح واضحاً أنَّ الوفاق الدولي الذي كان آنذاك يسير في سبيل حصر الخلافات وعدم توسيعها توصل إلى درجة أن أميركا تقبل ولو كفكرة بالمؤتمر الدولي وهو يعني شيئين: الأول أن أميركا منفتحة للتعامل مع بديل لكامب ديفيد والثاني إنها أصبحت منفتحة على إعطاء دور للاتحاد السوفياتي لحل الصراع العربي الإسرائيلي بمعنى آخر أنَّ أميركا قد خطت خطوة كبيرة باتجاه سوريا.
أين نحن في كل هذه الأمور؟ يرى الدكتور ديب أنََّ أول ثمرة الوفاق الدولي هو مؤتمر القمة في الدار البيضاء التي ساعد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية على إخراجه إلى حيِّز الوجود ومساعدة اللبنانيين للوصول إلى الحوار والمصالحة الوطنية. والحوار هو حول وثيقة إصلاحية ثم إقرارها من قبل المجلس النيابي وإجراء الانتخابات الرئاسية ومن ثمَّ حكومة وطنية لتنفيذ هذه الوثيقة. فالتراتبية، كما هو واضح، محددة وتفرضها طبيعة الحوار.
في هذه النقطة بالذات ماذا حصل؟ لقد أعلنت أميركا إنها تساعد العماد عون ومساعدتها له محصورة ومحددة بنقطة واحدة وهي إيصاله إلى طاولة الحوار باعتباره قوة موجودة في الساحة. وهنا لا يستبعد جورج ديب أن ينضم الاتحاد السوفياتي إلى هذا الاتجاه باعتبار إنهما اتفقا على الحوار.
أين الخطر في هذه الناحية؟ الخطر هو أنَّ سوريا تريد الحوار بين اللبنانيين ولكن أي حوار سيكون نتيجته أن عون ليس له دور لا في الحوار ولا في الوفاق. النواب هم الذين يقيمون الوثيقة الإصلاحية لذلك يهدف العماد عون إلى شيء آخر وهو إلزام السوريين على أن يتفاوضوا معه هو والسوريون يرفضون ذلك، فنقطة الخطر إذاً هو أن يفسر ميشال عون الدعم الأميركي له دعماً مطلقاً: أنا المفاوض وليس غيري.
وأشار الدكتور ديب في هذا السياق إلى أنَّ البيانات الخاصة في لبنان لها تعابير محددة عند الدول الكبرى. إن الولايات المتحدة الاميركية في مسألة الانسحابات تستعمل تعبير انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان. أما الاتحاد السوفياتي فلديه تعبير آخر وهو تطبيق القرار 425 وانسحاب إسرائيل وعدم تدخلها في الشؤون اللبنانية. ويلاحظ المحاضر أنه في اتفاق وزيري الخارجية الأميركي والسوفياتي لم يؤتَ على ذكر الانسحابات وتفسير ذلك أنَّ أميركا لا تقبل أن تضغط على إسرائيل للانسحاب من لبنان طالما أنَّ الوضع اللبناني على ما هو عليه فاتفقت الدولتان على تقسيم حل الصراع العربي الإسرائيلي إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى: التحضير للمؤتمر الدولي وهو لا يستبعد الاتصالات الثنائية.
المرحلة الثانية: هي انعقاد المؤتمر الدولي بالذات.
فكيف انعكس ذلك على لبنان؟ في بيانهما اتفقا الجباران على ترتيب البيت اللبناني في المرحلة الأولى وذلك عن طريق الموافقة على الإصلاحات في وثيقة دستورية ثم إقرار هذه الوثيقة وإجراء الانتخابات الرئاسية. أمّا الانسحابات فإنها سوف تنتظر حل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي.
من هنا يمكننا أن نرى ما حدث في قمة الدار البيضاء: مصالحة وتضامن عربي مع دعم مطلق للانتفاضة وللمقاومة في الجنوب والجولان. يعني ذلك تهيئة الجو للتفاوض من موقع قوة ومن موقع توازن استراتيجي.
وفي ختام محاضرته يؤكد د. ديب على أنَّ الوفاق الدولي يرجع إلى مبدأ أساسي قامت عليه الأمم المتحدة وهو أنَّ الأمن والسلم الضرورين لا يقومان على التوازن العسكري فقط وإنما على تعاون دولي في مجال القضاء على الأمراض وفي مجال التعليم ورعاية الأطفال وحقوق الإنسان. ومن ضمن هذا التوجه العام فإن الدول المجاورة والقريبة إثنياً، لغوياً، تاريخياً، يجب أن تدخل في منظمات تكون مكملة للمنظمة الكبيرة. فالوفاق الدولي أدى في منطقتنا إلى قيام مجلس التعاون العربي وإلى اتحاد دول المغرب. فيجب إذن أن لا نخاف أبداً من إقامة علاقات مع سوريا. التاريخ يسير في هذا الاتجاه والعالم يسير في هذا السبيل أيضاً و لم يبقَ لنا أن نقيم علاقات إلاّ مع سوريا والاتفاقات لا تعني أبداً انتقاصاً من السيادة.
* * *