شخصية نزيه البزري من الجوانب: الإنسانية ـ الاجتماعية، الوطنية ـ السياسية، الفكرية ـ الثقافية..
المقابلة الثالثة مع
الدكتور نزيه البزري
التـاريـخ: يوم الجمعة الواقع فيه 14 نيسان 1989
الموضوع: شخصية نزيه البزري من الجوانب:
الإنسانية ـ الاجتماعية، الوطنية ـ السياسية،
الفكرية ـ الثقافية..
* * *
س: … متى بدأت، د. نزيه (البزري) تتعاطى العمل السياسي، وبالتالي دخول المعترك الانتخابي، سواءٌ في البلدية أو في النيابة؟
ج: … لقد خُضت الانتخابات النيابية الأولى العام 1951، وذلك لأسباب جُلّها ظروف داخلية، وأكثرها اجتماعية إصلاحية. وكما كنت قد قلت سابقاً، فقد نجحت في مدينة صيدا بعدد أصواتها المقترعين، ولكني فشلت على صعيد محافظة الجنوب. ضمن لائحة موحَّدة، ذلك أن الجنوب اللبناني كان لا يزال يُعتبر حينذاك دائرة انتخابية واحدة. وبعدما توفيَ رياض الصلح عام 1951 أُجريت انتخابات نيابية فرعية. فلم أترشح أنا شخصياً، وإنما أفسحت المجال لرئيس "حزب النداء القومي، الأستاذ كاظم الصلح. (أنا، كنت أنتمي إلى حزب النداء القومي، كما سبق وذكرت ذلك). وأيضاً، فقد حصد أكثرية الأصوات في مدينة صيدا. ومن ناحيتي، فإنني حشدت لتأييده جميع قوايا الشعبية وأيدته ضد نسيبي السيد صلاح الدين البزري الذي كان مدعوماً، في دائرة الانتخاب الجنوبية، من أحمد الأسعد ولائحته الأسعدية.
ولكن، وبعد الإضراب العام الذي دام ثلاثة أيام في كل لبنان، استقال رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وفوز كميل شمعون برئاسة الجمهورية. وأول عمل قام به الرئيس كميل شمعون تغيير قانون البلديات، مما أدى إلى تغيير قانون الانتخابات النيابية. وبعد تغيير قانون البلدية وإجراء الانتخابات البلدية في كل لبنان، وجدت من الضروري أن أترشح في هذه الانتخابات البلدية عن مدينة صيدا عام 1952، وذلك بناءً على طلب الأكثرية الذين أيدوني في الانتخابات النيابية لعام 1951. لقد خضنا معركة الانتخابات البلدية في قائمة موحَّدة وكانت تضم المرحوم معروف سعد. ونجحت اللائحة بأكملها. (وكان معروف سعد ضابطاً في الشرطة العسكرية، فعاد إلى الوظيفة بعد استقالته من المجلس البلدي). (ولكن، في الحقيقة، حصل خلاف على نيابة الرئاسة. بعدها عاد إلى عمله الأساسي في الشرطة العسكرية. وهذا يحتاج إلى تفصيل وتوسيع، ليس هنا مجاله الآن…).
في العام 1953، عندما أصبحت مدينة صيدا دائرة انتخابية واحدة وبالتالي منفصلة عن محافظة الجنوب، طلب مني أيضاً الأصدقاء والمؤيدون وألحّو عليَّ أن أترشح وأخوض المعركة الانتخابية النيابية. وكان المرشح الآخر الأستاذ تقي الدين الصلح والسيد صلاح الدين البزري الذي تخلى في المرحلة الأخيرة عن ترشيحه (بمعنى أنه انسحب من المعركة الانتخابية) لصالح تقي الدين الصلح. والواقع أنه كانت قد جرت محاولات عديدة، بل وضغوط كثيرة كي أتخلّى عن الترشيح وانسحب أيضاً من المعركة الانتخابية. لكني رفضت أيضاً، ولأن مؤيديني وأصدقائي المحيطين بي رفضوا كذلك فكرة الانسحاب من المعركة الانتخابية. فنجحت في هذه الانتخابات النيابية لأول مرة وبقيت في النيابة حتى عام 1957. وبعدها، استجدت ظروف سياسية على الساحة اللبنانية، إضافة إلى التأثيرات، خارجية وإقليمية، أدّت جميعها إلى عدم نجاحي فيما بعد.
س: … أنك تستعمل تعبير "السياسي المهني"، مَن هو، من وجهة نظرك الشخصية، وماذا تعني به على التحديد؟!..
ج: … أنا لم أتخلَّ عن مهنتي (الأصلية كطبيب حتى في أحلك الظروف) من أجل أن أمتهن السياسة. ولم يكن لديَّ حزب سياسي (لكي يدعمني سياسياً) ويرشحني في أيِّ انتخابات. وعلاقتي مع الناس الطيِّبين، إنما هي علاقة إنسانية واجتماعية صرفة، وكذلك علاقة وطنية. أما مقوِّمات السياسة كمهنة، أو مقوِّمات السياسي الممتهن، فهي أن السياسة بمعناها الصحيح غائبة حقيقة عن واقعنا حتى الآن، كما في الماضي. وأنا إنما أنتمي لعائلة سياسية. غير أنني مع ذلك لم أكن أتعاطى السياسة بهذه الطريقة (كما يجري الآن في العمل السياسي). وقد قلت وأقول دائماً إن (ميولي وطموحي واندفاعي) تعتمد على منطلقات إنسانية، اجتماعية وليست سياسية. وثمة سبب آخر، ينبغي الإشارة إليه وهو أنني لم أكن انتمي إلى حزب سياسي كي يكون لي عوناً ومساعداً وداعماً، سواءٌ في ترشيحي للانتخابات أو في العمل السياسي العام، في مقابل حزب سياسي آخر مناوئ. وإنما عملي السياسي وقبله ترشيحي للانتخابات النيابية، إنما كان عملاً إفرادياً شخصياً.
س: … ما هو رأيك في رياض الصلح شخصياً، وكأحد رجال الاستقلال في لبنان؟!.
ج: … في بادئ الأمر، كنت من مؤيدي دولة الرئيس رياض الصلح، وكانت لي معه علاقة شخصية. وإنما الاختلاف كان على طريقة سياسة الحكم المتَّبعة في مدينة صيدا وفي لبنان. فالطريق التي كان يتبعها، حسب رأيي الشخصي، لم تكن توصل إلى نهاية سليمة، أو تؤدي إلى تطوير لبنان بالشكل الوطني الصحيح. وكانت صيدا تتعرض لبعض الأحداث الداخلية، والتي لم يكن يعيرها الاهتمام الكافي. كان يوجد أشخاص يتحكمون في البلد. وعندما كنت أحدثه في هذا الموضوع، كان يقول لي: دع الفئة المتعلمة والراقية هي التي تمثلك، واترك هذه الفئة من الناس وشأنها. وهو يقصد هنا صيدا الداخلية.
هو، رياض الصلح، له تاريخ وطني. والده كان أحد الموظفين الكبار في العهد العثماني. وفي بداية الحرب العالمية الأولى، كان (رياض الصلح) أحد الذين أحيلوا إلى المحاكمة في عالية. ولكن، لصغر سنه، رفُعت عنه المحاكمة. وهو، رياض الصلح، أول مَن عُيِّن حاكماً لصيدا بعد خروج العثمانيين من البلاد. ومن ثمَّ بعد دخول الفرنسيين، خرج من لبنان وأقام خارج الوطن. وبعد مدة طويلة، عاد (وأصبح) من معتنقي "الكيان اللبناني" بصيغة الميثاق الوطني الذي تمّ العمل به أيام الاستقلال. وكان يقول لي شخصياً: "إني وضعت لبنان في خطوات التطوُّر. وعليكم أنتم ومَن يليني إتمام المسيرة والعمل على هذا التطوير.
أما عن الخلاف بيني وبينه، فكان على جانب من إثبات وجود وأكثر جديَّة (في المواقف العملية…). ولكن، إذا بقينا على هذا الشكل، فإن الفريق الثاني (على الصعيد المحلي في صيدا) سوف يتمكن من الغلبة. طبعاً، كانت له صورة عملية (أي نشاط سياسي عملي لرياض الصلح) وراء خلق دولة إسرائيل. وأحد الشعراء قال شعراً، ردَّده رياض بك الصلح: "ما حيلة الراعي، إذا جفَّ المرعى"…. وهنا يشير رياض الصلح إلى سكوت الدول العربية (وتواطئها في خلق إسرائيل). كما كان له الفضل في استقلال لبنان الحالي عن دولة الانتداب، فرنسا. وأيضاً من المؤسف، أن تمَّ في عهده الانفصال (النقدي) عن سوريا أيام خالد العظم (إلغاء المصالح المشتركة)
وحول طرح السؤال: إذا كان رياض الصلح، له دور في ذلك؟.. فأنا لا أقدر، يقول د. نزيه البزري، أن أجيب عن ذلك جواباً قاطعاً، ذلك أن خالد العظم كان أيضاً قوياً ولم يراعِ الوضع اللبناني آنذاك. وحسب تفكير رياض الصلح أن هذه القفزة عريضة جداً. ولكن أعتقد أن لمحاولة اغتياله في الروشة، سبباً كبيراً في انفعاله بقراراته وآرائه وتنفيذها في عام 1950.
لقد حاول الحزب السوري القومي برئاسة أنطون سعادة أن يقوم بانقلاب سياسي عسكري في لبنان. وكان رياض الصلح آنذاك رئيساً للحكومة اللبنانية. وبعد فشل الانقلاب، التجأ سعادة إلى سوريا. إلاّ أن الحكومة اللبنانية أصرَّت على الحكومة السورية تسليم أنطون سعادة. فتمَّ ذلك وأعدم على يد الحكومة والسلطة اللبنانية.
س: … ماذا كان موقفك من القوى السياسية التي كانت مؤيدة لرياض الصلح، وكذلك العكس بالعكس؟…
ج: … بعد وفاة رياض الصلح، توحَّدنا، وبخاصة أيام كاظم الصلح. لم أفكر يوماً في عملي على أساس أني ابن عائلة سياسية أو طبقة (برجوازية) معينة. وبالنسبة إلى صيدا، فليس هناك عائلات حاكمة بالمعنى الصحيح للكلمة. ولكن هناك عائلات تداولت رئاسة البلدية عدة مرات من الزمن: عائلتان أو ثلاث عائلات. ثم إن كلمـة عائلات، كلمة كبيرة جداً وغير مناسبة بالنسبة إلى مدينـة صيدا. هذه العائلات وغيرهم كانوا يطمحون للوصول إلى هذا المركز (البلدي أو النيابـي)، ولم أجد لهم أثراً في الانتخابات التي خضتها. وليس معنى هذا أني كنت أخاصمهم. فأنا لي طبيعة في العمل السياسي: لا أخاصم. وإن كان هناك مَن يعارضني ويقف ضدي، لا أتأثـر من ذلك إطلاقاً. لكنني بقيت على الرأي والعقيدة التي بدأت بها. أعتقد أن لمهنة الطب دوراً كبيـراً في اتخاذي موقف اللامبالاة من هؤلاء الناس.
س: … هل يمكن أن تحدثنا ولو بصورة مختصرة عن مرحلة الاستقلال ونشاطك في تلك الفترة المهمة من تاريخ لبنان؟..
ج: … أنا، كأي لبناني، شاب ابن السابع أو الثامن والعشرين سنة من العمر، كنت كغيري أخرج في المظاهرات وأشارك في الإضرابات. وكنا نهرب من الفرنسيين. وغالباً ما نمت كغيري من الشباب خارج منازلنا. فالقضية هنا هي قضية استقلال، وفرصة كانت لنا حتى نُظهر دور الفرد المواطن. هنا أقول: إني خرجت في المظاهرات بصفتي مواطن عادي، كما كنت أشارك وبصفتي كطبيب في معالجة بعض الصابين ممَّن كانوا يصابون ويجرحون، لأنه حتى في المستشفيات، كانت القوات الفرنسية تطارد المتظاهرين والمصابين. فحرصاً على حياتهم، لم نكن ندخلهم إلى المستشفيات. وكنت أحد الأطباء الذين ساهموا في تحقيق الاستقلال والحرية من خلال المهنة، أي الطبابة…
س: … مَن هي القوى السياسية التي كانت موجودة على الساحة السياسية اللبنانية بعد الحرب العالمية الثانية؟!… وهل كان لها دور أو تأثير في ترشحك للنيابة؟!…
ج: … كانت القوى السياسية اليسارية، أو الموجة اليسارية كانت كبيرة جداً. وكان هناك، مثلاً، الحزب الشيوعي اللبناني ونواة حزب البعث العربي الاشتراكي ونواة الحزب التقدمي الاشتراكي ونواة ضعيفة للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان في حالة هبوط وصعود. بدأ بأعداد كبيرة، وفي أيام الاستقلال ضعف وقلّ عدده. وكما قلت سابقاً، لم أتأثر بهذه الأحزاب، مع أنهم جميعاً حاولوا استمالتي.
س: … لقد ترشحت على اللائحة الانتخابية المعارضة، أي مع عادل عسيران، لماذا؟…
ج: … أولاً، أنا كطبيب وكإنسان، كان لي علاقات وصداقات شخصية مع معظم العائلات الصيداوية، ومن جملتهم عائلة عسيران، وعلى علاقة طيبة جداً مع دولة الرئيس عادل عسيران. وعندما حصلت الانتخابات النيابية، وأقولها بصراحة: "أنا دُفعت (إلى خوض الانتخابات النيابية) أكثر من أني اخترت ذلك". وكانت المناسبة ضمن دعوة، أو حملة انتخابية أقامها عادل عسيران في منزله لأهالي صيدا. في هذا الاحتفال، وافقت على الترشيح. ولدى خروجنا من هذا الاحتفال الانتخابي، حملني الجمهور على الأكتاف وأخذوا يهتفون باسمي……
س: … هل كان لرياض الصلح موقف سياسي أيام الانتداب؟..
ج: … طبعاً، كما سبق وقلت، لقد كنا كشباب آنذاك، شباب وطلاب وأطباء ومهندسين وغيرهم، نؤيد رياض الصلح في جميع مواقفه وآرائه وخطواته السياسية والوطنية.
س: … وتجربتك السياسية في المجلس النيابي؟…
ج: … أول دخولي إلى المجلس النيابي، انتسبت إلى اللَّجنة الصحية واللجنة المالية. ومن خلال الاشتراك في مناقشات هاتَين اللَّجنتَين، تعرفت على مسيرة الدولة وعملها الإداري. ثم، أصبحت رئيس لَجنة الطعون (1953 ـ 1957). في الوزارة، عُيِّنت وزير الاقتصاد والشؤون الاجتماعية مع دولة الرئيس الراحل رشيد كرامي وذلك في أواخر 1953. وفي المرة الثانية، في وزارة عبد الله اليافي، عُيِّنت أيضاً وزيراً للصحة والشؤون الاجتماعية في نهاية عام 1954.
وعندما حدث الزلزال في صيدا، عملنا جميعاً وكنت حينئذ في اللجنة الإدارية للإسكان. ثم قامت أحداث سياسية على الأرض. وتبنَّت المعارضة الوجهة اليسارية البحتة، إلاّ أني لم أعارض ولم أكن من الموالين. وبعد الاعتداء الثلاثي على قناة السويس بمدة، عرض المجلس النيابي للمناقشة والتصويت "مشروع أيزنهاور"، لم أمش معه، لأني أعتقد أن لبنان يجب أن يبقى محايداً ولا ينضمُّ لا للغرب ولا للشرق.
س: … هل قمت بتحالفات سياسية داخل صيدا أو لبنان أو العالم العربي؟…
ج: … أنا عشت طول عمري لصيدا، وهذا هو الشئ الغريب فيَّ… حتماً، فيما بعد، كان لي معارف شتى بين سوريين وغيرهم. ولكن حتى على صعيد التكتلات داخل المجلس النيابي، فقد بقيت منفرداً، ولي رأيي الخاص….
تعليق: … يبدو بوضوح أن د. نزيـه البزري لا يميل للتحـزب والعمل السياسي الحزبي التنظيمي. فهو ذو نزعة فردية، ليبرالية. ومن ناحيـة أخرى، ليس هنالك من نائب جنوبي، إلاّ وله مسكن في بيروت في ذلك الحين، بينما نزيه البزري لم يكن له مسكن في بيروت إطلاقـاً…
س: … الدكتور نزيه البزري: أين وجد نفسه، أين أعطى أكثر: بصفته رجل سياسة، أو وهو وزير أو وهو نائب؟!…
ج: … عندما يكون الإنسان بالحكم ولديه صلاحيات أكثر، يكون عطاؤه أكثر ويكون له قدرة على التنفيذ. ولكن أنا حاولت أن أعطي بالإثنَين: بالنيابة والوزارة أكثر ما عندي وقَدْر استطاعتي. بيد أن النظام اللبناني بحدِّ ذاته والموازنة اللبنانية والصيداوية (في البلدية) آنذاك، كانت ضئيلة ولا تكفي لسد متطلبات وحاجات أي مشروع تطوري. يعني، لقد عملت أكثر من سنة كاملة حتى تمكنت، مثلاً، من إضاءة شارع رياض الصلح وعملت أيضاً أكثر من سنتَين على إكمال بناء وتجهيز مستشفى الحكومي في صيدا وجعله في وضع جيد إلى حد ما، وذلك من حيث البناء والتجهيزات. وفي ما يتعلق بالكهرباء. وصلتُ كهرباء صيدا بالمشروع العام لكهرباء لبنان، بعد مشاكل عديدة مع الشركة الخاصة التي كانت صيدا تتموَّل منها، وقُطعنا من التيار، ولم يعد لدينا موتورات. هنا، الحكومة استأجرت لنا موتوراً كهربائياً كبيراً سنة 1955.
س: … ما هو أهم إنجـاز كنـت قد قمت بـه في الفتـرة الأولى من النيابة والوزارة حتى سنة 1957؟…
ج: … لقد بقيت في النيابة من عام 1953 حتى عام 1957. ولم يكن لديَّ على هذا الصعيد أيّ إنجاز يُذكر، ولبنان بأسره في تلك الفترة لم يكن صاحب أي إنجاز سياسي. وعلى الصعيد الشخصي، أنا مثلاً كنت من مؤيدي ثورة يوليو التحريرية في مصر. وعندما جاء بعض قيادات الثورة إلى لبنان، وإلى صيدا بالذات، كنت أول من استقبلهم. وقد كان هناك معارضة شديدة من الفريق الآخر آنذاك (الأحزاب اليسارية والقومية). وقد قمنا باحتفالات كثيرة على صعيد منطقة صيدا….
س: … ولكن، صيدا قد أصبحت فيما بعد جزءاً من التيار الناصري القومي، ما هو رأيك في هذا التيار العام؟!….
ج: … لقد كانت صيدا ككل لبنان، وبالأخص صيدا، أكثر المناطق اللبنانية حماسة واندفاعاً لوجود التيار الناصري والقومي في ربوعها. فتاريخ صيدا الوطني والقومي، لا يختلف عن الحركة القومية العربية التي قام بها فيما بعد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ولهذا السبب، كان لهذه الحركة القومية التحررية ترحاب كبير ولا يزال حتى الآن على صعيد مدينة صيدا.
س: … معارضوك في صيدا وفي لبنان، كانوا قد وجهوا لك انتقاداً لأنك لم تتخذ أيَّ موقف ضد سياسة الرئيس شمعون؟!…
ج: … في الحقيقة، لا، أنا وقفت موقف المعارضة في لبنان. ولكن، أنا، لم أستذل لأيِّ شخص، مهما كان، (حتى ولو كان رئيساً للجمهورية). وقد قلت كلمتي في المجلس النيابي. نحن، لا يجوز أن نخرج عن قيادتنا. أنا، كنت أطلب من لبنان عدم الموافقة على "مشروع أيزنهاور". ولكن المعارضين اتهموني أني وافقت على هذا المشروع. وسبب ذلك أنه خلال الجلسة، تلقيت اتصالاً من أهلي في صيدا، وعندما انتهى الاتصال، عُدت إلى القاعة، فوجدت أنهم قد اتخذوا قرار التأييد لهذا المشروع، "مشروع أيزنهاور"، وصوتوا عليه. والبعض من النواب قد استقال (أو قد خرج من القاعة وقاطع جلسة التصويت، ولكن النصاب القانوني كان متوافراً…). فأنا حينذاك لم تكن لدي الخيرة السياسية (أو البرلمانية في هذه الأمور الإدارية). فسألت أصدقائي النواب، قالوا لي: إنه من الناحية البرلمانية، لا أقدر ولا يمكنني الاستقالة، وأضافوا: "لمن ستقدم الاستقالة؟…" ذلك أن الشعب هو الذي اختارني وانتخبني ممثلاً عنه. فرئيس الجمهورية لم ينتخبني. لهذا السبب، فإن استقالتي من البرلمان لم تتمّ….. هذا، وحول الوثائق لديَّ، فإنها قد احترقت كلها مع عملية التفجير والاحتراق التي استهدفت عيادتي ومن ضمنها جزءاً من منزلي….
س: … في المرحلة الممتدَّة من سنة 1957 حتى سنة 1972، لم يحالفك الحظ في الانتخابات النيابية المتتالية ولا البلدية، فهل حاولت أو فكرت في ترك العمل السياسي والتفرُّع للطب؟…
ج: … لم أتخل عن العمل السياسي ولم أترك السياسة قط، بل بقيت على علاقة سياسية وثيقة مع شعبي، مع شعب صيدا. أولاً لأنني لم أنتمِ إلى أيِّ حزب سياسي حتى أبقى ملتزماً به وملتحقاً معه. ولكن في عام 1958 ـ في أحداث أيار المعروفة ـ قمت بواجبي كطبيب وكفرد من الشعب. وفي عام 1970، شاركت في احتفالات عديدة وفي مهرجانات الترحيب بالمقاومة الفلسطينية في صيدا وفي لبنان، بعد خروجهم من عمان. وقد أدليت آنذاك بتصريحات سياسية كثيرة ترحيباً بهم في صيدا وفي لبنان. وكنت قد شاركت شخصياً في هذه الاحتفالات: مثلاً، في "يوم القدس" وكمواطن قومي عربي. أنا في الدور الذي أكون فيه كما في الموقع النيابي. ولكنني حفاظاً على بلدي، كنت أشارك في المواقف السياسية القومية العربية والاحتفالات في المناسبات العديدة. أما في تلك المهرجانات التي أشعر وأحس أو أشم أن لها رائحة المعارضة والحزازات السياسية المحلية. فلم أكن أشارك فيها، وذلك لسبب بسيط وهو حتى أحافظ على مركزي الشخصي (تخوُّفاً من الاستفزاز والاحتكاكات العدائية) وحفاظاً على وضعي الاجتماعي والسياسي.
س: … أين يجد الدكتور نزيه البزري نفسه ـ بعد هذه التجربة الطويلة ـ في السياسة أم في الطب، في العمل السياسي أم في مهنة الطبابة؟…
ج: … أنا كما يراني، وأينما يراني الناس: في الطب، فأنا طبيب، أطالع باستمرار وأتابع تقدُّم الطب في العالم. فلست على الإطلاق بمهمل في هذا الجانب. وإنما أيضاً في السياسة، فإنني أعمل ما يجب عليَّ أن أعمله، ولم أخرج عن أيِّ موقف سياسي قومي، عربي ووطني….
س: … ما هي ظروف عودتك إلى السياسة عام 1972، هل كان هناك مَن يدعمك، ومَن هي القوة التي مدَّت لك يد المساعدة: هل هي سياسية، حزبية، شعبية؟!…
ج: … بعد سقوط المكتب الثاني عند انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، اجمعت معه على أساس معرفة سابقة، وسألته: إني سأترشح وأخوض الانتخابات النيابية، ولكن على أن يخرج صناديق الاقتراع من داخل صيدا القديمة، لأن صناديق الاقتراع الانتخابية كانت مقسَّمة وموزعة حسب الأحياء والحارات. فقد كان جميع الصناديق تقريباً داخل البلدة القديمة ما عدا صناديق الإقتراع في حيَّ الوسطاني والدكرمان.
وعندما اقترب موعد الانتخابات النيابية، حُدِّدت مراكز الاقتراع ووضعت صناديق الانتخاب خارج المدينة القديمة. وعلى هذا الأساس، تابعت ترشيحي الانتخابي. فبعد سقوط المكتب الثاني لم يعد لديَّ حجَّة لعدم الترشيح، لأنه كان يعاكسني بشكل ملحوظ. فقلت: إن أفضل طريقة لقياس تغيُّر الأمور، خوض الانتخابات في هذه المرحلة، لأنني كنت مطلوباً ومدعوماً ومؤيداً دائماً من الشعب الصيداوي….
والسبب في طلبي من رئيس الجمهورية إخراج صناديق الإقتراع من داخل المدينة القديمة، هو أن المؤيدين لي لم يكن بمقدورهم الدخول إلى مراكز الصناديق للتصويت بسبب بعض الأعمال غير المشروعة وأعمال العنف الانتخابي من المعارضين وبأشكال مختلفة ولا أودّ هنا ذكرها أو تعدادها، لأنها غير مشرِّفة. وعند إخراج الصناديق من داخل صيدا القديمة، تمكن الكثيرون من الذين لم يصوِّتوا في المرات السابقة من التصويت، أي أنه قد أصبح هناك أمناً واطمئناناً أكثر…
(يضاف إلى ذلك، طبعاً، دعم بعض القوى الحزبية اليسارية ومجمل الفصائل الفلسطينية في صيدا، ترشيح الدكتور نزيه البزري وانتخابه..).