إحياء لذاكرة صيدا دفاعاً عن المقاومة في الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد المناضل معروف سعد
إحياء لذاكرة صيدا
دفاعاً عن المقاومة
في الذكرى الرابعة والعشرين
لاستشهاد المناضل معروف سعد
التاريخ: السبت 6 آذار 1999
مداخلة
الدكتور مصطفى دندشلي
• إحياء لذاكرة صيدا الوطنية: كي لا تُمحى.
• دعماً للمقاومة الباسلة ودفاعاً عنها.
• هذا هو العنوان الذي أردناه لهذا اللقاء.
• لا يمكننا في هذه الظروف الراهنة، الظروف التاريخية النضالية التي نعيشها اليوم، لا يمكننا إلاّ أن نربط بين الحدثيْن التاريخيّين:
إحياءً لذاكرة صيدا الوطنية كي لا تُمحى، بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد معروف سعد، ذلك أن معروف سعد هو في الذاكرة الوطنية، الذاكرة النضالية لمدينة صيدا وبل للجنوب أيضاً وعلى وجه الخصوص، من هنا وانطلاقاً من ذلك تأتي أهمية هذه الذكرى، وأهمية الاحتفال السنوي بها للتذكير بها الأجيال تلو الأجيال.
والحدث النضالي الثاني هو عمل المقاومة، العمل البطولي للمقاومة الباسلة الشجاعة، فلا يسعنا أيضاً في هذه المناسبة، مناسبة ذكرى استشهاد معروف سعد، إلا أن نتوجَّهَ من على هذا المنبر، ومن مدينة صيدا بوابة الجنوب، وشعب الجنوب الصامد، التحية الصادقة، التحية الوطنية النضالية لها. فكل الدعم لها والدفاع عنها...
إنَّ الحدث التاريخي، حدث استشهاد معروف سعد بذاته، في الظروف السياسية والاجتماعية التي حصل فيها، إنِّما هو حدث له معاني وطنية ونضالية كبيرة وعميقة في تاريخنا الحديث والمعاصر، وله أيضاً معاني الرمزية الاستشهاديّة والنضالية.
لن أدخل كثيراً في التفاصيل التاريخية الحديثة، فهي جميعها معروفة لدينا، وإنِّما أريد أن أشير فقط إلى هذا المعنى الرمزي بسقوط معروف سعد وبجانبه نائب صيدا آنذاك الدكتور نزيه البزري، وهما الاثنان على رأس تظاهرة صغيرة للصيادين، تظاهرة مطلبية للدفاع عن حقوقهم وتأمين معيشتهم.
لقد سقط معروف سعد جريحاً جرحاً بليغاً صباح يوم الاربعاء، الساعة التاسعة والنصف في السادس والعشرين من شهر شباط 1975، في صباح يوم ممطر حزين وكئيب، بعد أن حاول صباح اليوم ذاته باكراً منع عمليات قطع الطرق وحرق الدواليب وأحداث عمليات الشغب من هنا ومن هنالك ووافته المنية صباح يوم الخميس في السادس من آذار ووري الثرى في اليوم التالي، يوم الجمعة في 7 آذار، في مأتم حاشد ضخم عظيم، لم تعرفه صيدا من قبل...
وإذا كان من رأي أقوله في هذه العجالة في معروف سعد فهو من أهم الشخصيات، من أهم الظواهر التاريخية النضالية الوطنية التي عرفتها صيدا عبر تاريخها السياسي والجنوب اللبناني في معاركه التحرُّرية الكفاحية بل وفي لبنان بهذه المعاني والمقاومة والصدق مع الذات ومع جماهير الشعب المناضلة معروف سعد هو معلِّم بارز، هو حلقة أساسية من حلقات تاريخنا السياسي، تاريخنا الوطني والنضالي في عصرنا الحديث والمعاصر... أنه أحد أعلام كوكبة من المناضلين الشرفاء، والشهداء الأبرار الذين قدَّمهم شعبنا مرحلة بعد مرحلة، والذين طبعوا تاريخنا الوطني والنضالي في عقود من الزمن منذ مطلع القرن حتى يومنا هذا..,
معروف سعد بعمله البطولي ومعاركه النضالية المتتالية قد تابع السلسلة منذ استشهاد توفيق البساط وهو من شهداء 6 أيار 1916، والمناضل الوطني المرموق، الشيخ أحمد عارف الزين وعادل عسيران ورياض الصلح والشهيد أديب عكرة في معركة المالكية في فلسطين، حتى معروف سعد، فهؤلاء المناضلون إنما هم من هذه الكوكبة من الأعلام النضالية الوطنية وهم كثُر كثُر، ومن شهداء العمل الوطني الكفاحي الطويل.
فمعروف سعد، في عمق التاريخي النضالي والوطني، وفي هذا السياق الجهاد الكفاح الطويل، قد كان حلقة متصلة وبارزة ضمن هذه السلسلة، فلا يمكن عزله عن العمل النضالي في الجنوب اللبناني وعن محيطه الوطني العربي، انطلاقاً من مشاركته في المعارك الثورية على أرض فلسطين.
بمعنى آخر أكثر وضوحاً، لا يجوز عزل نضال معروف سعد وحصرهِ في مدينته صيدا أو في جنوبنا اللبناني، إنطلاقاً مثلاً من بنت جبيل، والنبطية، وإنما يمتد هذا النضال ويتسع ليشمل العمل الكفاحي والثوري على أرض فلسطين المحتلة.
وفي السياق نفسه، كما أنّ هناك سلسلة طويلة من الأعمال النضالية والكفاحية في تاريخنا الوطني قد هيأت سبُل النضال لبروز شخصية معروف سعد البطولية والنضالية كذلك وفي مسيرة هذا التاريخ ذاته، لم تنشأ المقاومة الباسلة الآن في جنوبنا وبقاعنا الغربي من فراغ، ولم تهبط علينا هكذا من علٍ، بل هي أيضاً لها جذورها في تاريخنا الكفاحي والوطني والثوري فهي حلقة أيضاً من حلقات البطولة والنضال ضد قِوى البغي والعدوان، قِوى الظلم والطغيان قِوى الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان الصهيوني في أرضنا.
فمن معارك معروف سعد في فلسطين، معركة المالكية مثلاً التي قضى فيها شهيدنا البطل ديب عكرة والذي كثيرون منا لا يذكرونه، إلى المعارك البطولية التي قادتها المقاومة الباسلة في البقاع الغربي وفي الجنوب، المعارك الأخيرة والتي لن تكون آخر المعارك البطولية، مما أثارت حماسة شبابنا الوطنيين لاقتحام الأسلاك الشائكة في بلدة أرنون وتحريرها بقواهم وأجسادهم وشجاعتهم، هذه سلسلة متصلة ومتواصلة من المعارك السياسية والوطنية والكفاحية الجهادية، لن تتوقف إلاّ بجلاء قوات العدو الاسرائيلي وتحرير الأرض والإنسان والثروات المنهوبة في بلادنا.
دورنا الآن، كما في السابق، مواصلة النضال، مواصلة الكفاح، مواصلة العمل الوطني الديمقراطي دون هوادة، وبشجاعة وإقدام.
عندما كنا ندخل في معارك مع العدو الإسرائيلي، الطيارة مقابل الطيارة، الدبابة مقابل الدبابة الخ... فقد انهزمت جيوش الأنظمة العربية أما التطور التكنولوجي العسكري الإسرائيلي، غير أنه عندما دخل الشعب المعركة، المعركة المسلحة بقواه الحيّة الشجاعة النظيفة، تغيرت طبيعة المعارك وتبدّلت أساليب الكفاح المسلح فانهزم الجيش الإسرائيلي الذي قيل عنه أنه لا يُهزم أمام ضربات المقاومة، انهزم شر هزيمة فنقلت المقاومة المعركة وأزمته إلى داخل نظام العسكري ونظام حكمة السياسي.
المقاومة المسلحة والمجتمع المقاوم
من هنا وفي هذه المرحلة التاريخية، دورنا نحن أفراداً وجماعات، هيئات ثقافية ووطنية وأحزاب، مواصلة النضال الوطني، بدعمنا للمقاومة ومساعدتها كي تحقق أهداف التحرير الكامل، وذلك بكل أنواع الدعم والمساعدة وبكل الامكانات المتوافرة والطاقات النضالية العسكرية منها إذا أمكن وهي أعلى أشكال المقاومة، وإنما دورنا لذلك إعتماد المقاومة المدنية والأهلية، كي يتحول شعبنا كله إلى شعب على الصعيد المدني إلى شعب مقاوم ومجتمعنا إلى مجتمع مقاوم، في السياسة والتربية والثقافة والاجتماع عندئذٍ يكون للنصر حليفنا وإلى جانبنا..
ندوة العمل الوطني تُحيِّي
دور الشهيد معروف سعد
استكمال عملية الإصلاح الإداري
مداخلة
السيد نبيل الجمل
في هذه الذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد المناضل معروف سعد التي يُحييها هذا المركز الثقافي للبحوث والتوثيق الذي أصبح علماً من أعلام صيدا في تاريخه الوطني وتعميق الوعي الوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ليس فقط لأهالي صيدا والجنوب بل لكل اللبنانيين قاطبة. وهنا لا بد لي أن أُوجِّه الشكر العميق لإدارته بشخص الصديق والزميل الدكتور مصطفى دندشلي لكل هذا الجهد الكبير الذي يبذله وهو محطَّ تقييم كلّ الذين يرتدون هذا المركز سواءً كانوا من صيدا أو من الجنوب أو من بيروت أو باقي المناطق اللبنانية. فهو استطاع أن يرتقي بهذا المركز الثقافي وقد تخطَّى صيدا إلى أرجاء العمل الوطني والثقافي في مختلف الأراضي اللبنانية كافة. فهو لذلك يستحق منا كل الشكر والمؤازرة للجهد الدؤوب والمتواصل الذي يبذله منذ تأسيس هذا المركز الثقافي.
أيّها الإخوة،
ما إن نتذكر المناضل الشهيد معروف سعد حتى نتذكر مختلف القضايا الوطنية والقومية والاجتماعية التي التصقت به، وعند استذكار هذه القضايا تتجلى لنا صيدا بتاريخها الوطني. فمنذ تاريخ مقارعته لقوى الانتداب منذ اقتحامه القشلة عام 1936 ولغاية تاريخ وفاته في 6/3/1975، لا نرى سوى سلسلة مترابطة من العمل السياسي الجهادي المستمر طيلة 40 سنة من حياته أمضاها في الكفاح مدافعاً عن المقهورين والمظلومين والفقراء وأبناء الطبقة الوسطى من شعبه اللبناني والعربي.
معروف سعد، المتواضع، البعيد عن حُبّ المظاهر الأبهة وصاحب المواقف الصادقة، حجز لنفسه مكاناً في التاريخ حتى نجح إليه، وبذلك استحق لأجلها أن يستمر في وجداننا الوطني والسياسي. فمن قضايا الكفاح ضد العدو الصهيوني لفلسطين العربية إلى المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها الأولى عام 1965 مروراً بنضالاته مدافعاً عن الصيادين والفلاحين والعمال وأصحاب الحِرف ناهيك بارتباطه الوثيق بالحركة القومية العربية التي أكد مضامينها الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر... كلها مواقف وقضايا ارتبط بها شهيدنا حتى أصبح جزء لا يتجزأ عنها.
أيها الإخوة،
يمر لبنان، اليوم، بمرحلة تُعتبر بحق، مقاومة بامتياز. فحركة المقاومة تجتاح الشعب اللبناني. فمن المقاومة الوطنية المسلحة الباسلة ضد العدو الصهيوني التي يقودها حزب الله، إلى المقاومة المدنية المتمثلة بصمود شعبنا في جنوب لبنان وبقاعه... وإلى المقاومة الشبابية المستجدة التي قدّمت إنجازاً لبنانياً جديداً شمِلَ كلّ فئات وطوائف شعبنا اللبناني الأبيّ مما يُبشّر بنهج ريادي ستشهده الأيام المقبلات حيث الأمل الكبير بأن يتوحّد الشعب اللبناني بأسره لمواصلة النضال من أجل خلاص الجنوب والبقاع من الاحتلال مدعوماً بالجيش اللبناني... وأخيراً لا آخراً يتلقف الشعب اللبناني أخبار المقاومة التي يقودها العهد والحكومة بشخص رئيسها الدكتور سليم الحص ضد السياسيين. أليست بداية الإصلاح السياسي _ كما صرّح عنها رئيس الحكومة مؤخراً – هي نوع آخر من المقاومة؟ أليس التغيير مقاومة إذا كان يقوم بوجه السياسين الفاسدين والمرتشين؟
أن الشعب اللبناني بأسره ينتظر أن تستمر عملية الإصلاح السياسي التي بدأت بمواجهة مافيات النفط. فإذا كان التحقيق، يشمل اليوم برصوميان فإننا ننتظر غداً سياسيين آخرين ممن خرجوا على القانون، وأثّروا على حساب الشعب. لذا، لا بد من أن يستمر الضغط الشعبي، بكلِّ فئات الشعب اللبناني، ليطالب الحكومة باستمرار هذه المقاومة كي لا تتوقف أبداً عن متابعة كشف المجرمين الذين أوصلوا الشعب اللبناني إلى حافة الفقر.
أيها الإخوة،
هذه المقاومات المتعددة الأوجه التي ذكرناها، تشكل مفاجأة تلو مفاجأة للقدرات الكامنة في شعبنا اللبناني. إذْ رغم الحالة الاقتصادية المتردية يقدّم هذا الشعب أمثولة في الريادة، تصحّ أن تكون نبراساً لباقي شعوب أمتنا العربية.
كلمة نائب رئيس التنظيم الشعبي الناصري
الدكتور أسامة سعد
في: 6/آذار/1999
بدايةً أتوجّه بتحية الاحترام والتقدير لإخوتنا في المركز الثقافي للبحوث والتوثيق على جهودهم الكبيرة والمميزة دفاعاً عن قضايا الوطن الأمة.
أنّ الربط بين الاحتفال بالذكرى الرابعة والعشرين لاستشهاد معروف سعد وبين ذاكرة صيدا الوطنية والتي لم تُمحي ولن تُمحى – والدفاع عن المقاومة قد جاء في موقعه الصحيح ذلك أن أحداً لا يستطيع أن يتناول تاريخ صيدا الوطني والقومي دون أن يتوقف عند محطة بارزة وعميقة الأثر في تاريخ المدينة استمرت لأكثر من أربعين عاماً ولم تنتهي باستشهاد معروف سعد وإذا كانت قيادة معروف سعد للمدينة قد استطاعت أن تحفظ وتصون موقع المدينة الوطني فإن استشهاده قد وفّر للمدينة وللوطن طاقات وطنية وثورية هائلة وأسّس لمرحلة جديدة من النضال الوطني لا زلنا نعيش فصولها حتى اليوم. ولم تكن قيادة معروف سعد للتيار الوطني لتأتي من فراغ بل أنها استندت إلى مرحلة صافية وخصبة من تاريخ لبنان الوطني شاركت فيها صيدا بالكلمة الحرة والموقف الصلب والدماء السخية. أنّ جذور النضال الوطني لصيدا في العصر الحديث لا تتوقف عند تأييد صيدا ورجالاتها للثورة العربية الكبرى ورفض اتفاقية سايكس بيكو ولا تتوقف أيضاً عند رفض صيدا لحركة التتريك وتمسكها بانتمائها العربي. أنّ جذور النضال الوطني في صيدا لا تنتهي أيضاً عند حدود مقاومتها الباسلة ضد الجيوش الفرنسية والبريطانية (في معركة الاستقلال) ولا تنتهي أيضاً عند حدود الوعي المبكر بالخطر الصهيوني في فلسطين ومشاركة صيدا المبكرة في التصدي لهذا الخطر. أنّ جذور النضال الوطني في صيدا في العصر الحديث قد تكون أبعد من ذلك الاحتضان الذي وفّرته صيدا لحملة إبراهيم باشا ضد الجيوش التركية وحلفائها الغربيين.
أنَّ صيدا التي تُحيي اليوم ذكرى تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، وتُحيي ذكرى استشهاد معروف سعد، وتُحيي ذاكرتها الوطنية، إنَّ صيدا هذه تذكر بالفخر والاعتزاز بعض رجالاتها العظام تذكُر ذلك الشاب الثائر الشهيد توفيق البساط، تذكُر رضا الصالح ورياض الصلح، تذكُر الشيخ محمد علي حشيشو، والشيخ بهاء الدين الزين، وبهيج الجوهري ونسيب شهاب. وتذكُر الشيخ أحمد عارف الزين، وتذكُر الشهيديْن عبد الحليم الحلاق، وديب عكره وغيرهم من رجالات صيدا أبطالاً وأشرافاً وكراماً وعهدهم هو عهد الشرفاء من أبناء المدينة بناة العزة والكرامة.
أنَّ نضال الشعوب لا يتوقف عند غاية بل أنه كلما قطع مرحلة لاحت في الأفق أمامه مراحل. إنَّ هذا النضال كلما انتهى إلى تحقيق أهداف معينة راح يصيغ لنفسه أهدافاً جديدة، إنه التيار الوطني في صيدا استطاع في أصعب الظروف وأقساها أن يحافظ على قدرته وحيويته. جامعاً بين أصالة الانتماء وإرادة التجديد فهو إن استطاع أن يحقق بعضاً من أهدافه الأساسية فإنه في نفس الوقت تعذّر عليه تحقيقها بل أنه لم يكتفي بذلك فاستجاب لحركة التطور والظروف المستجدة فأضاف إلى أهدافه أهدافاً جديدة.
أن هذا التيار الوطني الديمقراطي خاض معاركه ببسالة وشرف، فشارك عز الدين القسام ثورته في فلسطين وبقي على النهج نفسه حتى يومنا هذا خاض معارك الاستقلال وواجه الإنكليز والفرنسيين، ناصرَ ثورة عبد الناصر وثورة العراق وثورة الجزائر، دافع عن وحدة مصر وسوريا، وحمِل لواء العروبة في لبنان، شارك في مواجهة وإسقاط سياسة الأحلاف والحماية في ثورة 1958، قاد الحركة الشعبية حاملاً قضاياها وهمومها، كافح بإخلاص من أجل بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية.
ولم تكن الظروف التي أعقبت أحداث 1975 واغتيال معروف سعد أحسن حالاً، بل أنها كانت أشد إيلاماً وإيذاءً وصعوبةً، فواجه هذا التيار احتمالات التقسيم ورهاناته المدمرة وواجه أيضاً انحرافات وتجاوزات بعض الإخوة، وواجه فوق كل ذلك اجتياحاً صهيونياً كاسحاً للبنان استجابة لرهانات بعض اللبنانيين، وكانت المقاومة الوطنية اللبنانية استجابه ثورية لطبيعة المرحلة في مواجهة الاحتلال الصهيوني وإفرازاته وكان حصاد تلك الفترة تحرير بيروت والجبل وصيدا وصور والزهراني والنبطية وبعض مناطق البقاع، وكان لصيدا نصيبها الكبير من الشهداء والجرحى والمعتقلين.
ولم يكن مقدّراً لصيدا وتيارها الوطني أن يستريحا ذلك أن العدو الصهيوني عمَد إلى إثارة الفتنة الطائفية بعد أن فجّر منزل القائد الوطني مصطفى سعد كونه رمزاً من رموز المقاومة الوحدة الوطنية، ولم يكن مصطفى سعد وتياره الوطني ليغيبا عن معالجة هذه المسألة ومواجهة خبث العدو ومؤامراته، بل أنّ هذا التيار استطاع في فترة قياسية أن يعيد الأمور إلى نصابها وأن تستعيد هذه المنطقة وحدتها الوطنية دون أي ابتزاز سياسي أو مادي.
وبحيوية فائقة وقدرة قلّ نظريها في المناطق الأخرى استطاع التيار الوطني أن يشكّل أُطره السياسية والعسكرية والأمنية هذه الأطر التي صانت المدينة وحفظت لها توجهاتها الوطنية. ومما يجدر قوله في هذا الإطار أن التيار الوطني في صيدا لم يشأ أن يتفرد بصياغة توجّهات المدينة وقراراتها بل أنه سعى بكل ما يملك من قوة ومن تأثير إلى إشراك جميع القوى والتيارات حتى تلك التي يختلف معها، أو التي اختلف معها في نظرته للاحتلال وطرق مقاومته ولم يستثني من ذلك من وافقَ على اتفاق 17 أيار ممن أصابهم الضعف واليأس والوهن.
وإذا كان التيار الوطني في صيدا قد أصاب في جمع شمل قوى المدينة وتياراتها فأنني أعتقد أنه قد ارتكب خطأً فادحاً في تسامحه مع من سمح لنفسه التعامل مع العدو أبان فترة الاحتلال تحت شعار تقديم الخدمات لأبناء المدينة فتحت ستار من هذا الشعار جرت عمليات التطبيع السياسي والاقتصادي والسياحي والأعلامي وغيرها وتحت نفس الستار جرى الترويج لمنطق التصالح مع العدو بل تطوّر الأمر إلى أكثر من ذلك حين تطوّع البعض إلى بناء السجون والزنازين وذلك خدمة لأبناء المدينة!! وهل من خدمة أفضل من ذلك؟؟ هذا من تحت الستار أما ما جرى من خلف الستار فذلك أمر آخر...
وبالعودة إلى مرحلة ما بعد التحرير ماذا نجد في صيدا، نجد أن صيدا تحولت إلى حصناً من حصون الوحدة الوطنية، نجد أن صيدا قد تحوّلت إلى مساحة فريدة في العمل السياسي والديمقراطي، نجد أنّ جيشها الشعبي المرابض في شرقها يخوض معركة استكمال التحرير، نجد أنها تدافع عن المقاومة وتصونها، نجدها تعالج بحكمة ورويَّة آثار حرب المخيمات وتساهم مساهمة كبيرة في وقفها، نجد شرطتها الأمنية تصون أمنها وتحفظ اقتصادها وتصون كرامة أهلها، نجد شبابها من أبناء التنظيم الشعبي الناصري ورفاقهم وإخوتهم من الأحزاب والقوى الأخرى ينخرطون في أعمال المقاومة في معركة التحرير ولم يكن ليتم كل ذلك بغير تضحيات ودماء ذكية طاهرة...
وكان الطائف الذي حمِل معه متغيرات جوهرية ومن ضمنها أنه حمِل إلى السلطة السياسية في لبنان تحالف مالي طائفي كان له انعكاساته السياسية على المدينة وعلى دور التيار الوطني فيها ففي ظل تعاظم دور كرتونة المساعدات وقدرة هذا التحالف على تقديم الخدمات وتوفير الوظائف والقدرة على إحكام السيطرة على هيئات المجتمع واستخدام سلاح المال والإعلام وتجيير سلطة الدولة في خدمة مشروعه السياسي وفي ظل سيادة قِيَم الفساد والرشوة والتخريب المالي والأخلاقي، كان على التيار الوطني في صيدا أن يعيد صياغة أولويات أهدافه مضيفاً إليها ما يتناسب مع متطلبات المواجهة في تلك المرحلة دون يغفل شيئاً من أهدافه الأساسية، وفي الوقت الذي تهاوت فيه قوى كثيرة أمام هذه الهجمة الشرسة وفي الوقت الذي خسر فيه التيار الوطني بعضاً من أركانه وكوادره ممن هانت عليهم أنفسهم استطاع هذا التيار بفضل مواجهات شاملة ضد التحالف المالي الطائفي واستطاع أن يثبت قدرته وجدارته في تلك المواجهات.
لقد خاض هذا التيار جنباً إلى جنب مع القوى الحيّة والشريفة في الوطن معركة الدفاع عن الحريّات السياسيّة والاعلاميّة والنقابيّة وخاض أيضاً معارك الدفاع عن حقوق الفئات الشعبية والكادحة وخاض معارك الانتخابات النيابية والبلدية في الأعوام 1992،1996،1998 وكانت النتائج وكلكم يعرف حجم التحالفات التي تشكلت في مواجهة هذا التيار وخاض قبل ذلك وبعد كل ذلك معارك كبرى ضد الفساد والمفسدين وضد تهميش المؤسسات وانتهاك سلطة القانون وكان لهذا التيار الوطني في صيدا ما أراد فسقطت حكومة برصوميان وأشباه برصوميان سقطت حكومة السوبرمان وسقطت معها بل وقبلها أوهام السيطرة والهيمنة والاحتواء. ولعلهم يدركون الآن أن صيدا وتيارها الوطني ليست مقاولة سهلة المنال ولعلهم أيضاً يغادرون الحياة السياسية فعالم المقاولات والشركات أجدى وأنفع....
وبعد، هل تصدقون إن أحداً يستطيع المساس بما هو راسخ في الأرض إنما الزبد يذهب هباءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.