مناقشة كتاب : " دفـاعـاً عن الـمثـقـفين "
كاتب وكتّاب
مناقشة كتاب : " دفـاعـاً عن الـمثـقـفين "
الكاتب الفيلسوف الفرنسيّ : " جان ـ بول سارتر "
المترجم الدكتور مصطفى دندشلي
المناقشون : المحاميّة ماري ـ روز زلزل ، الدكتور شفيق المصري ، المحامي عبد العزيز قبّاني
الزمان : الساعة الخامسة من مساء يوم 15 أيار 1998
المكان : ندوة العمل الوطني
* * *
مداخلة المحاميّة ماري ـ روز زلزل
دفـاعـاً عن الـمثـقـفين
كتب " سارتر " دفاعه عن المثقّفين عام 1965 ، ولا يزال هذا الدفاع قادراً بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على إثارة اهتمام المثقّفين والمفكرين .
قد لا أكون الشخص المناسب للحديث عن " سارتر " وعن دفاعه عن المثقّفين . فأنا لست أخصّائيّة في الفلسفة وإن كنت معنيّة بمواضيعها . لكنّني لم أشأ أن أضيّع على نفسي هذه المناسبة ، أي الحديث عن l’intellectuel وتذكّر مرور 30 عاماً على أحداث أيار 1968 في فرنسا ، بما تمثّل بالنسبة إلى المثقّفين من متاهات، كان " سارتر " أحد أبرز الفاعلين فيها .
لكن الدِّفاع عن المثقّفين بحسب " سارتر "، اليوم يثير بالنسبة إليّ عدداً من الملاحظات سأعرض لبعضها :
1ـ في ترجمة الكلمة
استعمل " سارتر " كلمة intellectuel التي نعني بها بحسب معجم " اللاروس " ( الفرنسيّ ) مَن يقارب الأمور بفكره ، مَن امتهن العمل الفكريّ ، الذي ينتمي إلى الفكر " ومعناها هو أقرب إلى المفكرين". في حين أنّ المثقّفين، وهي الكلمة في ترجمتها إلى العربيّة التي اعتمدها الدكتور مصطفى دندشلي، تعني " حال مَن اكتملت فيه الثّقافة ". وهذه الكلمة في اعتقادي قد لا تفي بالمعنى ، ولا يزعجني القول إنّني لست مثقّفة بهذا المعنى ، ويا ليتني كنت . الثّقافة تعني la culture ، وهي أشمل من المفهوم الذي دافع عنه "سارتر ". وهذا الاختلاف بالترجمة يشير إلى اختلاف بالمعاني .
2ـ في اختيار المقالات
إنّ اختيار المقالات ( المحاضرات ) التي كتبها " سارتر " عن المثقّف إنما تُشكِّل اختياراً ملتبساً . فهناك مثقّفون عرب كُثُر أذكر منهم د. مصطفى دندشلي ، البروفسور إدوار سعيد . وبإمكاننا أن نتحدث أيضاً عن علي حرب وغيرهم . وهم أقرب إلى معرفة أّزْمَة الفكر العربيّ من " سارتر " نفسه لجهة المعاصرة ، وأيضاً لجهة الإلمام بعثراتنا وبمآسينا .
الحسنة الأساسيّة لاختيار مقالات ( محاضرات ) " سارتر " تكمن في أنّها لا تحرج أحداً من المثقّفين اللبنانيين أو العرب، أو تشكل خطراً عليه . " فسارتر " وهو في ذمة الله ، أصبح بعيداً عن دائرة الخطر .
3ـ توقيت بحث موضوع المثقّف
وهو يشبه من يذهب إلى معركة أُقفلت دونها الساحات . فالمثقّفون الذين يسعى " سارتر " إلى الدّفاع عنهم ، كانوا المرتكز والسّند لعالَمِ ما بعد الحرب العالميّة الثانية المجنونة التي خرج منها العالَم مهزوماً ساعياً إلى إحلال العقل مكان الجنون . فتلمّس طريقه من خلال ابتداع الأفكار والتزام المفكّرين بها ، وإفساح المجال أمام الحُلم ، وأمام محاولة تحقيقه . فالنّهضة الثّقافية كانت حافزاً على الاستمرار ، وأيضاً على الإنتاج.
لكن دون المثقّف اللبنانيّ اليوم عقبات كثيرة داخليّة وخارجيّة بالإضافة إلى المشكلات الذاتيّة … فلبنان اليوم ، الخارج من الحرب ، هو أكثر ما يكون بحاجة إلى مَن يتجرّأ على التفكير بحريّة وبدون عُقُد ، إلى مَن يتعاطى مع مسيرته بنقد إيجابيّ ، يثقّف ويصحّح مسيرته ، إلى مَن يحلم لغدٍ أفضل ، وإلى مَن يؤمن بأنّ دوره مهمّ وفعّال ، فيلتزم بقناعته ويسعى إلى تحقيقها .
لكن للأسف يعيش لبنان اليوم أَزْمَة وجود ، ويلهث اللبنانيّ في سبيل تأمين لقمة العيش بعد أن أدرك أنّ زمام أموره ليس بيده . فلم يعد المثقّف المبدع ، وهو يحمل ضمير الناس في وجدانه ، رائداً يؤثّر في النُّخبة الحاكمة، يصحِّح مسيرتها . بل هو اليوم منتفع على أبواب المنتفعين ، يخاف على رأسه ، " ويتلطّى " بانتظار يوم أفضل .
ومن جهة أخرى ، مع النّظام العالميّ الجديد الأحاديّ الرؤية ، الذي يبحث عن مستهلكين لإنتاجه ، ويرتاح لتحوّل الإنسان العربيّ إلى مستهلك وبخاصّة للأفكار والرؤى ، أصيبت النّخبة المثقّفة بالخيبة : بعض المثقّفين أيّد النّظام العالميّ الجديد ، كما يؤيد مَن لا حول له ولا قدرة على معارضته ، فاستهلك إنتاجه ، وصبّ على يده . وبعض المثقّفين عارضوه ، كردة فعل غير منتجة . إثنان يدوران في فلكه : منفعلين به غير فاعلين ، غافلين عن حقّهم في تأكيد هُويّتهم الثّقافيّة والحضاريّة ، وإظهار تميّزهم . أحدهما يمدح والآخر يهجي . لكن كليهما ملتصق بالبلاط ، وإن عنوة .
الأمر الذي ترك الساحة خالية للأصوليّة الدينيّة التي تؤكد تميّزها ، تُغيّب العقل ، تعيد الناس إلى العصور الغابرة . هذه الفئة تنكر وجود النّظام العالميّ الجديد ولا تتعاطى معه . هذه الفئة لا تشكّل نموذجاً للمثقّف، إنّها غير قابلة للحوار ، إنّها عاجزة عن التعاون ، من موقعها ، على بناء مستقبل العالَم ، وصون كرامة الناس .
والأخطر من ذلك كلِّه ، هو أنّ المثقّف لا يتجرأ على إعادة النّظر بأفكاره ، ويخشى تقييمها . فهو يردّد شعارات اعتادها وألفها ، وهو مدرك أنّها لا تلقى صدىً أصيلاً في ذاته وفي وجدانه ، ولا تعبر حقيقةً عنه . المثقّف اليوم في لبنان يخشى الخيارات في المسائل الأساسيّة ، إنّه الخوف .
هل يعني ذلك أنّ زمن المثقّفين ولّى ، وأنّه لم يعد هناك من مكان للمثقّف ؟ سأنطلق للإجابة عن هذا السؤال من العرض الذي قدّمه " سارتر " حول نشأة المثقّف ، لا سيّما وأنّ هذا العرض يفتح باب النّقاش على مصراعيه على نشأة الفكر العَلْمانيّ في فرنسا ، الأمر الذي يوضِّح أنّ العَلْمانيّة التي نؤمن بها ، والمنطلقة من عمق حضارتنا العربيّة ، هي أصيلة فينا ، ومتميّزة عن سواها .
* * *
أولاً : مَن هو المثقّف بحسب " سارتر " وكيف كانت نشأته ؟
1 ) نشأة المثقّف في فرنسا
عَرَض " سارتر " في محاضراته لنشأة المثقّف في فرنسا ، وبيّن من خلالها الانتقال من الإيديولوجيا الدينيّة الشاملة والمقدّسة إلى الإيديولوجيا العَلمانيّة . حتى القرن الرابع عشر ، كانت المعرفة حكراً على رجال الإكليروس ، المحافظين على العقيدة الدينيّة المقدّسة ، خلافاً لطبقة الفلاّحين وللطبقة الأرستقراطيّة . وكان رجال الدّين يشكّلون همزة الوصل بين هاتيْن الطبقتيْن . وبالتالي ، كانت وظيفة الأكليركيين تكمن في توحيد هاتيْن الطبقتيْن على أساس انتمائهما إلى عقيدة واحدة . هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ رجال الدّين كانوا أصحاب السلطة والنفوذ الاقتصاديّ .
مع بروز الطبقة البرجوازيّة ، وبخاصّة طبقة التّجار ، نشأ صراع عنيف بين رجال الدّين والطبقة البرجوازيّة الناشئة . لكن هؤلاء ( الطبقة البرجوازيّة ) لم ينازعوا رجال الدّين لجهة مكانتهم في صياغة الإيديولوجيا ، بل أبقوا عليها وعزّزوها .
حاول الدّين التكيّف والتوفيق بين الإيديولوجيا المقدّسة ورأس المال البرجوازيّ ، إلاّ أنّ فشله (الدّين ) بالتكيّف ، أفرز محاولات الإصلاح الدينيّ . لكن السّلاح الدينيّ لم يكن كافياً لتكييف الدّين مع المتطلبات الحديثة ، ممّا أدّى إلى الثورة الكبيرة التي قلبت كلّ المقاييس والمعادلات ، أي إزالة صفة القداسة عن كل القطاعات العمليّة التطبيقيّة ، ومن هنا بدأت بذور العَلْمنة تنمو .
إنّ هذا التحوّل السريع في التفكير ، أدّى إلى مأزق فكريّ وفوضى عارمة بنتيجة المحاولات للتوفيق بين المتناقضات . ومن رَحِم هذه الأَزْمة ، وُلدت الفلسفة ومعها الفلاسفة ، وهي التي كانت المنطلق لما عُرِف بالـ intellectuel . وفي مرحلة لاحقة ، راحت هذه الصّورة ، صورة المثقّف ، تتبلور إلى أن وصلت إلى الوصف الذي عرفناه فيما بعد : " الإنسان المزعج " ، الذي يحشر أنفه في ما لا يعنيه ، الذي يتقن فنّ التعبير، الملتزم بقضايا عصره …
وكان لهذا المثقّف أكثر من دور : فهو اختصاصيّ في مجال البحث . هو حارس التقاليد والعادات، وبالتالي هو موظّف في البِنى الفوقيّة ، يكتسب سلطة يعتقد على أساسها أنّه قادر على ممارسة الوظائف الفرعيّة والتابعة للهيمنة الاجتماعيّة وللسلطة السياسيّة . المثقّف هو الوكيل لخصوصيّة إيديولوجيّة ذات العناصر المعلنة أحياناً والضمنيّة أحياناً أخرى . إنّه مقصيّ عن الطّبقة التي ينتمي إليها ، لكنه لا ينتمي إلى الطّبقة التي يتبع لها .
إنّ هذا الواقع جعل من بعض المثقّفين أدواتٍ في يد السلطة ، يدافعون عنها وعن مشاريعها . إذا اعتمدنا التحديد الذي أعطاه " سارتر " للمثقّف ولمساره في فرنسا ، لقلنا إنّنا على بعض الأصعدة لا نزال اليوم في العالَم العربيّ قابعين في غياهب القرن الرابع عشر ، ولا سيّما على صعيد احتقار المعرفة ، وعلى أصعدة أخرى دخلنا مرحلة الفوضى العارمة وانعدام الوزن . غير أنّ منطلقات "سارتر " لم تعد واقعيّة أو على الأقل فلنقل إنّها لم تعد حتميّة .
2 ) مَن ينتج المثقّف اليوم ؟
ينطلق " سارتر " في تحليله من أنّ الفرد هو ابن طبقته ، وأنّ الطّبقة تولد من رَحِم المجتمع . هل هذا القول لا يزال صحيحاً اليوم ؟
إنّ ثورة الاتّصالات أدّت إلى خلق مصدر جديد لتكوين الأفراد . فالطّبقة التي يولد منها الفرد اليوم هي " الموجة " التي يعتمدها في اتصالاته والتي تستقطب أفراداً آخرين . والموجة هذه ، أكانت مصدراً للمعلومات أو برنامجاً " آلياً "، هي حاسمة . فكم من الأشخاص نراهم غير متّفقين مع أقرب الناس إليهم ، لكنهم على وفاق تام مع أشخاص لا يعرفونهم إلاّ من خلال الحاسب . وأفكر خاصة بأحد أصدقائي الذي يمضي ساعات بالتحاور عبر الـ internet مع شخص يابانيّ ، وكان على اتفاق تام معه على أكثر الآراء ، لكنه لم يكن أكيداً من قدرته على الإجابة عن سؤالي عمّا إذا كان محدثه شاباً أم فتاة .
أَلَيْس هذا شكلاً جديداً من الثّقافة ، لم تتبلور كافة معالمه بعد ؟ ثقافة عالميّة ، مقاربة فكريّة لموضوعات متجدِّدة ومختلفة ، منهج علميّ يعتمد على وسائل وتقنيات لا نعرف بعد آفاقها ؟ وسائل تعبير عجيبة غريبة ، تتجاهل أبعاداً أساسيّة في الإنسان دون أن تتأثّر مسيرتها ؟
إنّ الفوارق بين الطّبقات لم تعد إيديولوجيّة . كلّ المعارف اليوم متاحة للجميع وهي مفتوحة على الابتكار والخَلْق . المعرفة هي صاحبة السّلطة وليس المال وحده ، لا بل إنّ المعرفة هي مصدر الأموال . إنّ الذي أنتج معلوماتيّة كالويندوز ، مثلاً ، لم يكن ابن السّلطة ، ولم يكن يتمتّع بثروة طائلة . وهو على أثر اختراعه هذا ، أصبح ثرياً ومحطّ أنظار الطّبقة التي هي في السّلطة ، لا بل أصبح هو من مصادر السّلطة . وما يميّزه هو أنّه ابن منطقة قادرة على اقتناء وسائل المعرفة . وهي ربما تجد ذات يوم معنى لهذه المعرفة . وأين يجد هذا المعنى إن لم يكن في الإنسان ومن خلاله ؟!…
من ناحية أخرى ، هناك فوارق كبيرة بين مرحلتنا ومرحلة " سارتر " على مستوى الرؤيا وعلى مستوى الالتزام بالعمل لتغيير الواقع . ففي تلك الفترة ، كان العالم يعيش ثورات وخضّات تحكمها عناوين كبيرة . كانت شُرعة حقوق الإنسان ونشأة الأمم المتحدّة والتربية على الالتزام بالقضايا الإنسانيّة . كانت هناك أيضاً مسيرة عارمة أكان على المستوى الرسميّ أم على المستوى الشعبيّ لمواكبة هذا التوجّه . أما اليوم فإنّنا نشهد تحوّلَ المبادئ إلى أدوات بيد أصحاب النّفوذ والسّلطة ، وتحوّل المنظمات الدوليّة إلى منابر تستعملها الأنظمة لتبرير القمع والتسلط . إنّ الدول التي كانت رائدة في التزامها الإنسان وقضاياه ، تبدو اليوم وكأنّها تستثمر عمل الأمس لمصالح خاصّة على حساب الإنسان . وبالتالي من الطبيعيّ أن نشهد تحوّل ملتزمي الأمس بالإنسان وبالتغيير إلى بيروقراطيين ، لا يتجاوز همّهم الحفاظ على مواقعهم داخل المنظمات الدوليّة ، كونها تشكل الطّبقة المخمليّة الدوليّة . يجترون العبارات الرنّانة حول حقوق الإنسان ، لكنّهم من جهة أخرى يُسوِّقون لمشروع كالنفط مقابل الدواء أو الغذاء ، مع العلم أنّ هذا العنوان وحده يحمل في طياته مجموعة من الخروقات لحقوق الإنسان .
3 ) السّلطة والمثقّف
إنّ كلَّ الأنظمة ، حتى تلك التي كانت أكثر تقدميّة وعلميّة ، لم تتمكّن من مقاومة إغراء تسخير العلم ومناهجه لغاياتها ومصالحها . فإن أخفقت كان الإخفاق للمثقّف ، وإن نجحت ، نجحت هي .
أما السّلطة الدينيّة ، محتكرة المعرفة ، الوصيّة على الإنسان ، والتي تزايد عليه بالسعي لإسعاده في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فهي تتبنّى آراء المثقّفين إذا توافقت معها ، أما إذا اختلفت معها ، فلا شكّ في أنّهم سيغدون من الكافرين ، مع كلّ ما يستتبع ذلك .
وهنا أحب أن أقصّ عليكم المَثَل الذي ساقه عالِم القانون الدستوريّ " موريس دوفرجيه " في كتابه "أشجار لَيْمون بحيرة بالاتون " les orangers du lac Balaton de Maurice Duverger حيث يوضّح "موريس دوفرجيه " كيف تتحوّل العقائد التي تطمح إلى تحرير الإنسان إلى ديكتاتوريات توتاليتاريّة، لا تبتعد كثيراً بمنهجها عن منطق التكفير .
ففي عهد الستاليني " روكوزي "، قرّرت القيادة الهنغاريّة زراعة بستان من الليمون على ضفاف بحيرة "بالاتون "، حاول المهندس الزراعيّ المولج بالمشروع عبثاً أن يشرح للحزب استحالة تحقيق المشروع . لكنّ الحزبَ وهو الأمين على الماديّة التاريخيّة التي تُعبّر عن الحقيقة التاريخيّة ، من المستحيل أن يخطئ . لذلك، زُرعت ألوفُ أنصاب الليمون التي تمّ استيرادها بالعملة الصّعبة . لكنها ماتت ، وأدين المهندس الزراعيّ : أَلَم يُظهر سوء نيته باعتراضه على قرار المكتب السياسيّ ؟!…
إنّ فشلَ السّلطة أكانت دينيّة أم زمنيّة وفشل المثقّف أيضاً ، واقعٌ لا محالة في كلّ مرّة يغيب الإنسان وسعادته عن دائرة النّشاط .
فالأنظمة التوتاليتاريّة وَعَدَت الإنسان بسعادة لا مثيل لها ، واستمهلته لتركيز سلطتها ، فأقامت سلطتها على حسابه ، لذلك فشلت .
والسّلطة الدينيّة تَعِدُ الإنسان بالسّعادة في الحياة والآخرة ، وتنبري في هذه الحياة للتسلّط عليه وارتهان كرامته ، لذلك تفشل .
والمثقّف ، عندما لا تكون سعادة الإنسان محور نشاطه ، ينعزل ويفشل . إنّها المعادلة ، وفي إطار هذه المعادلة أرى دور المثقّف ومعنى نشاطه .
5 ) دور المثقّف
● دور المثقّف أولاً هو في إعلاء مكانة الفكر ، الذي له أن يخترق حتى سقف السماء . فبالفكر الأمين تُترجم أنظمة الحياة من البساطة إلى الرّوعة . وأودّ أن أستعيد قول الرئيس الفرنسيّ " ميتران " في كتابه " ما بين المهندس والنحلة " l’abeille et l'architecte إذ يقول " إنّ ما يمتاز به أفشل مهندس عن أروع نحلة ، هو أنّ المهندس يخلق المخطّط في فكره قبل أن يضعه في الواقع .
● دور المثقّف أيضاً يكمن في إعلاء شأن الإنسان . لذلك ، المثقّف الجديد هو إنسانٌ حرّ من النَّماذج المُسْبقة ، من القوالب التي كانت تفرض أن يكون كلُّ إنسان صورةً طبق الأصل عنه .
إنّ أكثر المستفيدين من تكسير النَّماذج هي المرأة . فهي ، فيما عدا صورة المرأة في المنزل ، حرّة من أيِّ نموذج مُسْبق ، فتاريخنا لا يعرف نموذج المرأة في الحقل العام .
● يتوجب على المثقّف اليوم أن لا يحشر أنفه فيما لا يعنيه ، لكن عليه أن يعرف أنّه معنيّ بكلّ شيء .
مداخلة الدكتور شفيق المصريّ
ملاحظات حول ترجمة :
" دفـاعـاً عن الـمثـقـفين " لـ " سارتر "
لا أجد نفسي مؤهّلاً للخوض في تقنيات هذا الموضوع لعدّة أسباب :
ـ لا أعرف الفرنسيّة وبالتالي لا أسمح لنفسي بالحديث عن ترجمة هذه المحاضرات الثلاث لـ"سارتر"، لأنّي لا أستطيع مقابلتها مع النصّ الأصليّ الفرنسيّ .
ـ لا أشعر أنّي اقتنعت يوماً بمآل الفكر الوجوديّ السارتريّ ، مع أنّي كنت في عداد المتحمّسين لتحليلاته وتحدِّياته التي اضطررت إلى قراءتها مترجمة .
ـ لا أقترب كثيراً من التطوّرات الثّقافيّة الأدبيّة وتداعياتها المختلفة ، بحكم اختصاصي في القانون الدوليّ الذي يشغلني بحثاً وتدريساً .
لكنّي ، مع ذلك معني بشكل أساسيّ بالهُويّة الفكريّة للمثقّف العربيّ ودوره ورسالته ومسؤوليّته .
لذلك سأكتفي ببعض الملاحظات دون الخوض في التفاصيل :
أولاً : إنّ موضوع الثّقافة ودورها ومَهامها أمرٌ بالغ الخطورة في عالمنا العربيّ . ولكن هذا لا يؤكّد استمراريّة الأهميّة التي تمثّلها هذه المحاضرات الثلاث لـ " سارتر " والتي أُلقيت في اليابان منذ ثلاثين سنة ، وكانت آنذاك مدفوعة فكرياً بتأثير الحركة الوجوديّة الطاغية ، وسياسياً بحركة الطلاب الزاحفة في فرنسا ، وعالمياً بإدانة شاملة لمظاهر العنف والاضّطهاد من الجزائر إلى فيتنام .
وهنا لا بدّ من التساؤل :
ـ أيّ قيمة إيجابيّة يمكن أن تحمل هذه المحاضرات اليوم في إطارنا الإقليميّ ـ العربيّ ؟… فإذا كانت أهميتها متمثلة في اعتبارها نقطة انطلاق للاتّفاق على تعريف المثقّف وتحديد دوره ومسؤولياته ، فليس ثمة ضرورة لترجمة هذه المحاضرات مرّة ثانية بعد ترجمتها الأولى في العام 1973 .
ـ وإذا كانت متمثّلة بتصحيح التّرجمة الأولى وتركيز النّبذة الجديدة على نقاط محدّدة في المحاضرات ، فالمطلوب أن تكون هذه التّرجمة مسبوقة أو متبوعة بتحليلات ودراسات وتعليقات واضحة حول هذا الأمر . وهذا ما لا نراه في التّرجمة .
ـ وإذا كان الهدف دفع القارئ إلى إعادة قراءة هذه المحاضرات والتّبصّر بمعانيها بعد مرور أكثر من ربع قرن على ترجمتها الأولى نظراً لأهميتها لذاتها ، فأنا لست متفائلاً لهذه الناحية ، لأنّ الترجمة الأولى لهذه المحاضرات ( ترجمة جورج طرابيشي ) موجودة في مكاتب الجامعات المزدحمة بطلاّب الثّقافة منذ العام 1973 ولم يعمد قارئٌ واحدٌ إلى استعارة هذا الكتاب والاطّلاع على صفحات الأولى طيلة ربع القرن الماضي . والأمر ذاته ، في الواقع ، ينطبق على كتاب " صُوَر المثقّف" لإدوار سعيد ، الموضوع في المكتبة منذ العام 1996 ولم يلمسه أحد .
ثانياً : إنّ تعريفَ المثقّف الوارد في هذه المحاضرات والتعريفَ بدَوْرِه المناضلِ الشموليّ ، يعتمدان الصّيغ الماركسيّة المباشرة بحذافيرها . أي أنّه أتى تعريفاً بالمثقّف اليساريّ في المجتمع البرجوازيّ . فهل هذا التعريف يصحّ بتعميمه المطلق على كلّ مثقّف في كلّ مكان وزمان ؟ هل يصحّ مثلاً على المثقّف اليساريّ في الأنظمة اليساريّة المعتدلة الديمقراطيّة أو الماركسيّة ـ اللينينيّة ؟!…
هل يصحّ على المثقّف الإسلاميّ في الدول والمجتمعات المتأثّرة بالشريعة الإسلاميّة أو بالثّورة الإسلاميّة ؟!…
وهل مسألة الالتزام كنضال اندماجيّ مع العمّال والفلاّحين ، أساسيّة إلى درجة أنّ الشّخص يفقد هُويّته الثّقافيّة ، إذا تخلّى أو إذا استنكف أصلاً عن هذا الأسلوب النضاليّ الحياتيّ ـ اليوميّ المطلوب؟!…
وهل يُقتصر الالتزام على هذا النَّمط من النِّضال دون سواه ؟!... وهل التمييز الوظيفيّ بين العالِم والمثقّف واضحٌ إلى درجة القطع ، وضروريّ إلى درجة الحسم . فعلماء الذرّة مثلاً الذين هم " تقنيو المعرفة العلميّة "، لا يصبحون مثقّفين إلاّ إذا وقّعوا مثلاً عريضة بإدانة استخدام القنبلة الذريّة لتعارضها مع نظام القِيَم الذي يعتمدونه للحياة البشريّة ؟!…
ثالثاً : لا يسعنا إلاّ الموافقة على ضرورة أن يمثّل المثقّف ضمير الإنسانيّة ويدافع عن قِيَمه الشاملة ويتحدّى الطّبقة الحاكمة التي قد تصنعه أحياناً ، ثم ينقلب عليها متمرّداً متحدّياً على رغم إقراره بعجزه . ولا يسعنا إلاّ إكبار النِّضال الذي تعهّده " سارتر " على نفسه ضدّ وجوه الظّلم المختلفة للبرجوازيّة السائدة من الجزائر إلى فيتنام . ولكن لا بدّ هنا من التوضيح :
● إنّ التعميم في تعريف المثقّف على أنّه الشّخص الذي تولّده وتحاول أن تستغلّه الطبقة الحاكمة، إنّما هو تعميم لا يصحّ في إطلاقه وإن كان فيه قدرٌ كبيرٌ من الصّحة في التاريخيْن الوسيط والحديث الأوروبييْن .
● إنّ التعميم في تحديد هُويّة المثقّف من خلال اندماجه بالطّبقات العاملة هو السّبيل الوحيد للتعريف به وتحديد مَهامه ، إنّما هو تعريف وظيفيّ وليس مبدئياً للمثقّف . وإذا كان هذا التّعميم قد تأثّر بحركة فكريّة محدّدة وبنضال شارِعِيّ يوميّ محدّد ، فلا يعني أنّه يصحّ في كلّ مكان وزمان .
رابعاً : إذا كانت سخونة الأحداث العربيّة وأجواؤها القلقة سياسياً والمضّطربة اقتصادياً والمشحونة عسكرياً تفرض ، مرحلياً على الأقل ، التركيز على دور المثقّف العربيّ ومسؤوليّاته في النهوض بكافة مقدّرات مجتمعه العربيّ العام ، فلا بدّ من التذكير ببعض الأمور المعلّقة :
● كان لإحدى دور النشر العربيّة الفضل الأساسيّ في التعريف بـ" سارتر " وجميع أبحاثه ومسرحياته حيث رعت عشرات الترجمات العربيّة لهذه الأعمال .
● على أثر أحد المواقف المعلنة لـ " سارتر " إلى جانب إسرائيل ، سارع مسؤولو هذه الدّار إلى إعلان خيبة أملهم وإدانتهم لموقف الرجل الذي كان لا يزال يدعو إلى الشموليّة الإنسانيّة . فهل كان الحماس مبرراً أولاً لأنّ " سارتر " دافع ، ضمن هذه الشموليّة الإنسانيّة ، عن قضيّة فلسطين وطالب بحقوق الإنسان العربيّ ، ثم تراجع وانقلب على هذا الموقف حتى قوبل بالإدانة وخيبة الأمل ؟ وإذا لم يتحرّك أصلاً ، وهذا هو الواقع ، فلماذا نشيد بالتزام المثقّف الذي يجب أن يمثّل ضمير الإنسانيّة ؟ وهل للإنسانيّة مناطق مفتوحة ومناطق محظورة ؟!…
● قبل البحث في تعريف المثقّف العربيّ وهُويّته ودوره ، ألا يصحّ التساؤل عن البيئة التي يمكن أن يعايشها هذا المثقّف وعن السّلطة التي يتعامل معها وعن القابلية الطالبيّة التي يتفاعل معها أو يفعل بها ؟
فإذا كانت السّلطة تستعدي المثقّف بكلّ أدواتها ، وكانت الأحزاب تستبعد المثقّف بكلّ دوائرها، وكانت وسائل الإعلام والنَّشر تمتصّ المثقّف بل تعصره بكلّ طاقاتها ، وكانت المجالس التمثيليّة وحتى الأهليّة تعامل المثقّف وكأنّه أحد أدوات تزيينها ، وكان الحكّام لا يريدون التعرّف على المثقّف ولا الاعتراف به ولا المعرفة باستشارته …… إذا كان ذلك كذلك ، فهل يُطلب منه وحده التغيير والتبديل؟!… وهل يسقط عنه التّعريف إذا علّق الالتزام المعلن النضاليّ المباشر ؟!…
● وهكذا ، فإنّه لا يجوز تعريف المثقّف العربيّ اليوم بما يُقارَن مع بيئته الفكريّة العربيّة ( لا يزيد مبيع أكثر الكتب العربيّة رواجاً في كلّ العالم العربيّ عن 4000 أو 5000 نسخة ) ، ولا مع مجموعة مثقّفي السّلطة المنتفعين بخيراتها والضاربين بسيفها ، ولا مع المنابر والأدوات الإعلاميّة السائدة ولا حتى مع المؤسّسات السياسيّة والحزبيّة والأهليّة التي تتعامل أحياناً مع هذا المثقّف .
● ولكن التّعريف بالشّخص المثقّف لذاته ، قد يكون أكثر صدقاً وانسجاماً مع أنّه ليس أكثر تفعيلاً وإنتاجاً . وهل ثمة إمكان آخر .
المثقّف العربيّ هو المؤمن بحقوق الإنسان العربيّ والمدافع عنها بوسائله المتاحة ، بصرف النَّظر عن رأي السّلطة ومزاج السلطان . ولا شيء يمنع بعدئذٍ من أن يكون اهتمامه إنسانياً شاملاً .
هل نقترح تعريفاً جديداً للمثقّف ؟... نحاول : إنّه الشّخص الذي يطّلع ، بيقظة فكريّة ، على كلّ عملٍ ذي قيمة إنسانيّة ويتفاعل معه من أجل اعتماد الحقّ والدفاع عنه . " تعرفون الحقّ والحقّ يحرِّركم". " ولا تُلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ إن كنتم تعلمون ". " أَلَيْس في هاتين الآيتين تعريفٌ ثلاثيّ كامل بالمثقّف : المعرفة ـ الحق ـ المجاهرة به ، بصرف النّظر عن الظّروف والنتائج ؟!…
مداخلة المحامي عبد العزيز قبّاني
مناقشة كتاب سارتر : دفـاعـاً عن الـمثـقـفين
بين أيدنا كتابٌ ، أو بالأحرى كتيّبٌ ، للمفكر الوجوديّ الكبير " جان ـ بول سارتر " ، وهو بعنوان " دفاعاً عن المثقّفين " ، ترجمه الدكتور مصطفى دندشلي وقدّمه لنا ليكون لنا موقف نقديّ منه .
والترجمة لا يبدو فيها الغموض في التعبير أو في تركيب الجمل ، على صعوبة النصّ ومستواه ، إلاّ في الجزء المتعلق بالكاتب ، وهو جزء بطبيعته غامض . وقد أشار " سارتر " إلى ذلك عندما تكلّم على تعبير الكاتب عن رؤياه الشّخصيّة ، وهي رؤيا ذاتيّة ، مميّزة ومتفرّدة .
وتحديد موقف نقديّ من الكتاب ، يقتضي الاهتداء :
أولاً : ببعض الملاحظات التي تشكّل نوعاً من الأحكام العامّة .
ثانياً : 1ـ بتعريف الثّقافة من وجهة نظري كمعيار للنّقد والمناقشة .
2ـ بتعريف المثقّف ، انطلاقاً من تعريف الثّقافة ، مقارنة بما ذهب إليه " سارتر " .
ثالثاً : تعريف " سارتر " للمثقّف . مَن هو المثقّف ؟
رابعاً : ما هي وظيفة المثقّف ؟
خامساً : ما هو دور المثقّف ؟
سادساً : مَن هو الكاتب ؟ وهل هو المثقّف ؟
سابعاً : مناقشة ونقد .
* * *
أولاً : الملاحظات ، وهي الآتية :
1 ـ لا يفهم " سارتر " المثقّف إلاّ من خلال مفهوم صراع الطّبقات الماركسيّ ، ويحلم بعالَمٍ من دون طبقات ( ص 37 ) ، يقوم على أنقاض عالَمِ البرجوازيّة التي لا تحلم إلاّ بالرِّبح.
2 ـ لا أدري كيف كان " سارتر " سيعالج مفاهيمه عن المثقّفين ، لو أتيح له أن يعيش ليرى تداعيَ الاتحاد السوفياتي ، وتداعيَ كلّ المفاهيم الماركسيّة التي عَلّق " سارتر " وسواه عليها الآمال الكبار . هل كان سيُعزي أمر التّداعي إلى التطبيق أم إلى المفاهيم نفسها التي أقرّت بأنّ المجتمع ، والفكر خاصةً ، لا يقوم أيّ منهما إلاّ بالتناقض ؟… وعلى الرّغم من ذلك ، فإنّ تعاليمها ( المفاهيم ) تبدأ خطواتها بإزالة هذا التّناقض ، الأمر الذي يعطّل الديالكتيك في المجتمع وبين الطّبقات .
3 ـ تحدّث " سارتر " عن التغيير ، وهو هدف المثقّف . ولكنه لم يتحدّث عن تغيير الإنسان، وكيف يكون ، وهل بمجرد أنّ نغيّر النظام الطبقيّ يتغيّر الإنسان بقِيَمه حكماً ؟!…
لقد اكتفى " سارتر " بالقول الضمنيّ ، كما هي المقولة الماركسيّة ، بأنّ التغيير الطبقيّ يؤدّي حتماً ، وبصورة أوتوماتيكيّة إلى تغيير الإنسان ، الأمر الذي لم يحدث عندما وقع التغيير الطبقيّ بقيام الاتحاد السوفياتي ، فبقي الإنسان فيه من دون أيّ تغيير في قِيَمه وعصبيّاته، ولا سيّما العامل والفلاح ، على الرّغم من أنّ النِّظام السوفياتيّ عاش حوالي السبعين سنة ، وكان نظام العمّال والفلاّحين .
وقد برزت هذه العصبيّات وتقاتلت بشكل صارخ عقب سقوط النّظام السوفياتي . كما ارتفعت أصوات ، بغضّ النّظر عن مقدارها ، المنادية بعودة القيصريّة ، كأنّ شيئاً لم يكن تاريخياً ، وتطالب بتغيير الأسماء المستحدثة لبعض المدن التاريخيّة كـ" لينغراد " ، و"ستالينغراد" …
4 ـ المثقّف السارتريّ يضحّي من أجل الطّبقة المحرومة ، على الرّغم من أنّها لا تثق به ، بل تشكّ فيه .. فيما الطّبقة المسيطِرة تعتبره خانها .
5 ـ لم يرجع " سارتر "، في دفاعه عن المثقّفين إلى مراجع استشهد بها ، بل اعتمد على آرائه ووجهات نظره هو .
ثانياً : تعريف الثّقافة من وُجهة نظري كمعيار للنَّقد .
ما هي الثّقافة ؟!… الثّقافة هي معرفة الحضارة .
ما هي الحضارة : هي مجمل شامل متكامل من إبداعات الثّقافة ، واكتشافاتها ، وابتكاراتها ، وتخليقها ، واختراعاتها . فإذا مثّلنا الثّقافة بالشّجرة ، فإنّ الحضارة هي الثّمر . فالثّمر يكون من الإنتاج الحضاريّ للثّقافة ، أي أنّ الثّقافة عندما تبدع أو تخلّق تؤول إلى الحضارة ، أو تنتج الحضارة . من هنا ، فلا حضارة من دون ثقافة تنتجها وتبدعها .
هذا بصورة شاملة ، عامة . إذا انطلقنا من مفهوم الثّقافة نصل إلى مفهوم الحضارة . ولكن هذا المفهوم الحضاريّ ، في واقع الاختصاص ، مفاهيم . إذ لكلّ اختصاص مفهوم . ولما كانت شجرة الثّقافة متعدّدة الاختصاصات والثّمار الحضاريّة ، كالفيزياء والكيمياء ، والتاريخ والرياضيات ، والفلسفة والطب ، والحقوق واللغة وسوى ذلك ، فإنّ التخصّص الثقافيّ بواحدة منها ، تخصّص في معرفة حضارة هذا الاختصاص أو الفرع ، أي تخصّص بمعرفة ابتكارات وإبداعات واختراعات الثّقافة في كلّ من هذه الاختصاصات . من هنا ، تحديد الثّقافة بمعرفة الحضارة .
وانطلاقاً من هذا التّحديد ، يكون المثقّف هو كلّ من اختص في فرع من فروع هذه المعرفة . والاختصاص قد يكون بالنّظر أو بالخبرة أو بالإثنين معاً . فعليه ، كلنا مثقّفون ، منّا مَن هو مثقّف بالنّظر ، ومنّا مَن هو مثقّف بالخبرة ، ومنّا مَن هو مثقّف بالإثنين معاً ، كالطبيب ، والمحامي ، والصيدليّ ، والضابط، والمهندس وسواهم . هذا من حيث الجواب عن السؤال : مَن هو المثقّف ؟
لكن ثمة فئة تجمع إلى جانب اختصاصها النظريّ أو الاختباريّ أو الإثنين معاً ، معرفة عامة ، تنطوي على منظومة من الأفكار والمبادئ والقِيَم والمشاعر والأهداف ، يربط وينسق بينها وعيٌ مسؤولٌ واحد، ومنطقٌ واحد ، وإيمانٌ واحد ، يحفّزها النضال إلى تغيير الواقع والإنسان كلياً أو جزئياً ، تحقيقاً لهذه المنظومة ، أو تقوم مقاومة معاكسة تقاوم هذا التغيير الكليّ أو الجزئيّ ، محافظة على الواقع والإنسان من أيّ تغيير .
هذه الثّقافة ، المنظومة بما ذُكِر ، أو المؤدْلَجَة والهادفة إلى تغيير الواقع والإنسان ، أسميها الثّقافة الفاعلة . وقد تكون ثقافة طبقيّة ، أي تهدف إلى إحلال طبقة مكان أخرى ، كالماركسيّة والاشتراكيّة . وقد لا تكون ، إذ تكتفي بإجراء تغيير جذريّ ضمن الطّبقة السائدة ، مع إرساء قواعد العدالة الاجتماعيّة لتشمل الطّبقات المحرومة . أما تلك ، فهي الثّقافة المحافظة .
بتحصّل مما سلف أنّ المثقّف الفاعل ليس محصوراً ، كما مثقّف " سارتر " ، باختصاص معيّن من التّقنييّن ، أصحاب المعرفة العلميّة التطبيقيّة ، بل قد يكون من هذا الاختصاص أو ذاك ، النظريّ أو العلميّ أو من الإثنين معاً ، ما دام يتحلّى بالوعي المسؤول وبفاعليّة النِّضال من أجل تحقيق أهداف معيّنة أرادها نُشداناً للتغيير المطلوب .
والتغيير هو الانتقال من لا عقلانيّة الواقع إلى عقلنته . وعَقْلَنة الواقع تبلغ غايتها القصوى ، عندما تستهدف تنمية الإنسان ، عَبْر إنمائها قيمة كبرى ، كقِيَم الكرامة والحريّة والحقّ والحقيقة والعدل واحترام حقوق الآخرين ورأيهم ، تحقيقاً لسيادة الديمقراطيّة وعَبْرها : الأمن والأمان والسّلام .
ثمة فارق بين مثقّف فاعل من العالم الثالث وآخر من العالم الأوّل والمتطوّر . الأوّل معروف في مجتمعه ، ونادراً ما يتجاوزه إلى سواه ، بينما الثاني معروف في نطاق مجتمعه وعلى نطاق عالميّ . والسّبب أنّ الأوّل محدودٌ أثرُه بحدود صناعة بلده وتكنولوجيتها الضعيفة ، فيما الثاني حدود أثرِه بجدودِ صناعةِ بلده وتكنولوجيتها القويّة ، بما في ذلك إعلامها .
ثالثاً : تعريف " سارتر " للمثقّف .
مَن هو المثقّف السارتريّ ؟ ليس كلّ مختصّ مثقّفاً ، في نظر " سارتر ". بل يجب أن يكون المثقّف من اختصاص معيّن ، أي من التِّقنييّن وفنّي المعرفة التطبيقيّة أولاً . وثانياً ، يجب أن يكون من فئة جماعيّة معيّنة ، لها إيديولوجيّة برجوازيّة ، ذات خصوصيّة تتمثّل في الاستغلال والاضّطهاد والاستلاب وعدم المساواة بين الرجل الأبيض والأسود والمرأة والرجل ، والتّضحية بالعمال من أجل الربح . أما اختصاصه التقنيّ ، القائم على البحث العلميّ ، فذو فكر حرّ وكونيّ وشموليّ ، غايته المنفعة العامة ، من دون حدود ، كالطبيب الذي يخترع دواءً للسّرطان يخترعه لكلّ الناس ، في كلّ مكان . إلاّ أنّ أصحاب الامتيازات والمصالح من الطّبقة المسيطِرة في مجتمعه ، يسرقون هذا الاختراع من أجل تحقيق الربح الكبير .
وثالثاً ، يجب أن يقع تناقضٌ داخليّ بين خصوصيّة التقنيّ وشموليّة وعالميّة اختصاصه ، مما يؤدّي به إلى وعيه بأهداف الأيديولوجيّة المسيطِرة ونقده لها ، ما يجعله ، في نظر الطبقة المسيطِرة ، يتدخّل ويهتمّ بما ليس يعنيه ، يهتمّ بالسياسة التي لا تعنيه ، لأنّه يهتمّ بحرمان الطّبقة العاملة واستغلالها واستلابها من قِبَل الطّبقة المسيطِرة ، يناضل من أجل تحريرها من تلك ، لا سيّما وأنّ أهداف الطبقة العاملة الخاص ، هو شموليّة المعرفة وعالميتها وحريّة الفكر وكشف الحقيقة ، وهي تشبه أهداف اختصاصه . ولا تتحقّق هذه الأهداف إلاّ بالنِّضال وفي النِّضال ، من أجل مستقبل الإنسان ( ص 44 ) .
فقد عرّف " سارتر " المثقّف وحالته بهذا التناقض في داخله ، تناقض بين المعرفة التطبيقيّة (الحقيقة، الشموليّة ، الكليّة ) والإيديولوجيّة البرجوازيّة ( الذاتيّة ، التخصّصيّة ) . وينطبق هذا التعريف على المعلمين والعلماء والأطباء ( ص 49 ). فهذا التناقض هو الذي يصنع المثقّفين ويخلقهم ، في نظر "سارتر " ( ض 49 ) .
والمثقّف الجذريّ ، في نظر " سارتر " ، يجد نفسه ، هو ، في كلّ واحدٍ ، المضّطَهَد الذي يعي كونه مضّطَهَداً وإنّما دائماً إلى جانب المضّطَهَدين ( ص 37 ). والمثقّف الجذريّ ، أي الحقيقيّ ، لا يتحرَّر من دون أن يحرِّر الآخرين في الوقت نفسه ( ص 38 ). ووسيلة هذا المثقّف واحدة وحيدة ، تلك التي تتناول المجتمع حيث يعيش وتقيّمه من وجهة نظر الفئات الاجتماعيّة الأكثر قهراً وحرماناً ( ص 38 ) . وهذا المثقّف الذي عُرف وتحدّد بمثابة وعي لتناقضه التكوينيّ ، يمكنه أن يساعد على تكوين الوعي البروليتاريّ ( ص 42 ) .
ولكن هذا المثقّف يجب أن يكون ضدّ كلّ سلطة ، بما في ذلك السّلطة التي تُعبِّر عنها الأحزاب الجماهيريّة ، وجهاز الطبقة العاملة . وأن يكون حارس الأهداف التاريخيّة التي تسعى إليها الجماهير ( ص 44 ) . من هنا ، فالمثقّف ، في نظر " سارتر "، هو نتاج مجتمعه التاريخيّ . والمجتمع الذي يشكو من مثقّفيه ، يشكو من نفسه ، لأنّه صنعهم وخلقهم على صورته ( ص 29 ) .
إنّ مشكلة المثقّف السارتريّ أنّ طبقته ترى فيه شبحاً ( monstre ) وخائناً لها ومشبوهاً ، لأنّه يهتمّ بما لا يعنيه ، أي يهتمّ بتهديم الإيديولوجيّة البرجوازيّة ( ص 28 ) ، فيما الطّبقات المحرومة تنظر إليه نظرة ريبة وشكّ لأنّه ليس منها . وهكذا يجد نفسه منفصلاً بحاجز يحجز بينه وبين الناس الذين يريد أن يكتسب وجهة نظرهم ويتبنّاها والتي هي النّظرة الشّموليّة العالميّة ( ص 40 ) .
والمثقّف الساتريّ لا يستطيع أن يقف مكتوف اليديّن امام أهداف الطّبقة المسيطِرة ، غير الإنسانيّة ، وهي أهداف تسعى أساساً وفي الأعماق من أجل الربح لا من أجل تحرير الإنسان وتحرّره . من هنا ، إنّ كلَّ تقنيّ في المعرفة العلميّة التطبيقيّة ، إنّما هو مثقّف بالقوّة ، بما أنّه يُحدَّدُ بتناقضه ويُعرّف به ، وهو تناقض داخليّ قائم بين تقنيته الكونيّة ـ الشموليّة والإيديولوجيّة المسيطِرة ( ص 28 ) .
إنّ أوّل من انتقد المثقّفين بأنّهم يتدخلون في ما لا يعنيهم هم الأرستقراطيون والأساقفة ورجال الكنيسة ، لا البرجوازيّة ( ص 21 ) . كما وإنّ إيديولوجيّة الطّبقة البرجوازيّة التي قامت على تصوّر شامل للعالم ، لم يبنها الإكليروس . إنّ مَن بناها وأنشأها هم اختصاصيّو المعرفة التطبيقيّة : كـ " منتسكيو "، و"فولتير "، و" روسو "، و" ديدرو " ( أي الفلاسفة ). ( ص 19 ) والبرجوازيّة لم تعد كونيّة ولا إنسانيّة بعدما صارت في سُدّة الحكم ( ص 21 ) .
وهكذا ، فإنّ مثقّف " سارتر " هو من فئة التِّقنييّن المختصّين بالمعرفة العلميّة التطبيقيّة ، فليس مثقّفاً ، في نظره ، الذي لا يعرف الكتابة والقراءة .
رابعاً : وظيفة المثقّف ، ما هي ؟!…
يقول " سارتر " : ليس هناك مَن كلّف المثقّف بوظيفته أو فوّضه بها من أجل ممارستها ( ص 31 ) . بل إنّ تناقضه الداخليّ هو الذي كلّفه بها وحمله على ممارستها .
أما وظيفته فتتمثّل في صنع الإنسان ، لأنّ الإنسان ، كما قال " بونغ " ( Pong ) ، إنما هو مستقبل الإنسان ، هو الذي يعتبر الإنسان على أنّه بمثابة الهدف البعيد لمشروعٍ علميّ تطبيقيّ في كلّ يوم (ص 34 ) .
انطلاقاً من هذا ، فإنّ المثقّف يعيش تناقضه من أجل الجميع ، وتجاوزه ( التناقض ) أيضاً من أجل الجميع ، وذلك بالجذريّة وعن طريقها ، وليس بالإصلاح . فهو يعترض ويعارض الخاصيّة المجرّدة لقوانين " الديمقراطيّة البرجوازيّة " ، ليس لأنّه يريد إلغاءها وإبطالها ، وإنّما لأنّه يريد أن يتمّمها بالقوانين الواقعيّة الملموسة للديمقراطيّة الاشتراكيّة ، محافظاً بذلك ومحتفظاً ، في كل ديمقراطيّة ، بالحقيقة الوظيفيّة للحريّة ( ص 47 ).
استناداً إلى ما تقدَّم ، فإنّ وظيفة المثقّف تمتدّ من الشهادة ( على العصر ) إلى الاستشهاد : السّلطة تستخدم المثقّفين للدعاية لها ، وفي الوقت نفسه تحذّرهم وتشكّ فيهم ، وتبدأ دائماً بعمليات التّطهير والتّصفية بهم ( ص 46 ) .
خامساً : دور المثقّف ، ما هو ؟!…
بقول " سارتر " : إنّ دور المثقّف أن يكتب ويتحدّث ويدافع عن الطّبقات الشعبيّة ضدّ هيمنة الطّبقة المسيطِرة وضدّ انتهازيّة الجهاز الشعبيّ ( الحزبيّ ) ( ص 48 ) . وأن يحشر نفسه في ما لا يعنيه ، ويحارب الإحياء الدائم في الشعب للإيديولوجيات التي تشلّه ( ص 39 ) ويناضل ، بشموليته ـ العالميّة ، ضدّ الاستغلال والاضطهاد والتمييز العنصريّ والجنسيّ والتضحية بالعمّال من أجل الربح .
وخصوصيّة المثقّف الطّبقيّة قد تشوّه باستمرار جهده الفكريّ كمنظّر . من هنا ، عليه أن يكافح ضدّ الإيديولوجية التي تعود دائماً وتتولّد فيه من جديد بسبب موضعه الأصليّ وتكوينه السابق ( ص 42 )، وعليه أن يساعد تكوين وعيه البروليتاريّ ، بوسائل يستخدمها لمكافحة إيديولوجيّة البرجوازيّة . وهذه الوسائل هي :
1 ـ نقد ذاتيّ متواصل
3 ـ خلق تجمّع ملموس للمشاركة دون تحفّظ في عمل الطّبقات المحرومة ( ص 42 ، ص 43).
إنّ دور المثقّف أن يساعد على تكوين الوعي البروليتاريّ ( ص 42 ) ، ولا سيّما حول كون الطّبقة المستغَلَّة ليست بحاجة إلى إيديولوجيّة ، إذ ماذا يفيدها تمثيل أسطوريّ لذاتها ؟؟ إنّ ما تحتاج إليه هو معرفة العالم من أجل تغييره ( ص 41 ) . وهذا يستوجب رفع مستوى الثّقافة الشّعبيّة لديها ، انطلاقاً من الاستفادة من الرأسمال المعرفيّ للبرجوازيّة المسيطِرة ( ص 43 ) . إنّ المثقّف يضع نفسه في خدمة الحركة الشّعبيّة ( ص 44 ) .
بكلمة ، إنّ دور المثقّف يقوم على ممارسة النِّضال لتحقيق وظيفته على أكمل وجه ، ويتحمّل في سبيلها كلّ عنف وإبعاد ونبذ ومقاطعة وانفصال سواء جاء ذلك من الطّبقة المسيطِرة أم من الطّبقة المحرومة التي يدافع عنها ، ويجهد لكي يلتحق بها حتى يتمثّل عقلها الموضوعيّ ، ويعطي مناهجَه العلميّة البحتة المبادئ التي صاغها الفكر الشعبيّ ( ص 40 ) .
سادساً : مَن هو الكاتب ؟ وهل هو المثقّف ؟!…
ينفي " سارتر " عن الكاتب صفة المثقّف ، لأنّه لا يعيش التناقض الذي تكلمنا عنه ، بين المعرفة التطبيقيّة ( الحقيقة ، الشّموليّة ـ العالميّة ) والإيديولوجيّة ( الذاتيّة ، التخصيصيّة ) . يقول " سارتر " : لكي يكون الكاتب مثقّفاً ، يجب أن يعيش تناقضاً داخلياً ،ࠠهذا التناقض هو الذي يصنع المثقّف ( ص 49 ) .
ليس لدى الكاتب ، في الجوهر والأعماق ، شيءٌ يريد أن يقوله . ولنفهم من ذلك أنّ غايته الأساسيّة ليست أن يوصل معرفة معيّنة وأن ينقلها . الكاتب ينتج موضوعاً ملتبساً ، مبهماً ، يطرحه بالإيحاء والتلميح ( ص 56 ) .
وغرض الكاتب وهدفه لا أن يزيل هذه المفارقة وهذه الحالة التناقضيّة ، بل يمكن أن يستغلها إلى أقصى حدّ ، وأن يجعل من كائنه ـ في ـ اللغة التعبير عن كائنه ـ في ـ العالم . فهو يستعمل الجمل كعوامل التباس وغموض ( ص 58 ) .
للكاتب ، عند " سارتر " ، أسلوب وطريقة تعبير أدبيّة فنيّة عن فرادته الذاتيّة ، عن كائنه ـ الخاص ـ في العالم ، هدفها الشّموليّة الكليّة بانطلاقها من الذاتيّ المتميّز بفرادته الفنيّة إلى الشموليّة الكليّة .
من هنا ، فإنّ الكاتب ، في رأي " سارتر " ، يعبّر عن خصوصيّته الذاتيّة الفريدة ، لا خصوصيّة طبقته البرجوازيّة ، وهو يعبّر عنها بأسلوب مميّز ، فنيّ ، لفظيّ ، تلعب فيه الكلمات ، وما تؤول إليه من تركيب في الجمل ، لها نكهة خاصّة ، وذوق خاصّ ، يميّز الكاتب ككائن ـ في ـ العالم عَبْر كونه كائناً في اللغة.
ويختم " سارتر " كلامه على الكاتب بقوله : والكاتب في مهنته ، إنّما هو في المواجهة مع التناقض بين فرادة الخصوصيّة والشموليّة ـ الكليّة . وفي حين أنّ المثقّفين الآخرين رأوا وظيفتهم وقد تولّدت من تناقض بين متطلِّبات شموليّة مهنتهم وضروراتها ، ومتطلّبات خصوصيّات الطبقة المسيطِرة ، فإنّ الكاتب يجد في مَهمته الداخليّة وعمله ، الواجبَ الإلزاميّ في أن يبقى على المستوى المُعاش ويستمر ، مع الإشارات الإيحائيّة إلى الشموليّة ـ الكليّة ، وأنه بمثابة تثبيت الحياة وتأكيدها في الأفق . الكاتب بهذا المعنى ليس مثقّفاً بالصدفة ، بل بالجوهر ( ص 61 ) . المثقّف يجهد ويناضل من أجل الخروج من تناقضه عبر تحقيق أهدافه وغاياته ، فيما الكاتب يبغي البقاء في تناقضه ، لأنّ استمرار هذا التناقض استمرار لإنتاجه .
سابعاً : مناقشة ونقد
إنّ مثقّف " سارتر " من فئة التّقنييّن في المعرفة التطبيقيّة ، الذي ثار فيه التناقض بين إيديولوجيته البرجوازيّة والمعرفة التطبيقيّة . وهو محدّد بهذا التناقض . فيما المثقّف ، من وجهة نظري ، هو كلّ مَن كان مختصّاً بفرع من فروع المعرفة الحضاريّة ، سواء كان ذلك بالنَّظر أو بالخِبْرة أو الإثنين معاً .
أما المثقّف الذي يضيف إلى اختصاصه هذا منظومةَ أفكارٍ ومبادئ وإيديولوجية ( فكرويّة ـ العلايلي ) تهدف إلى تغيير الواقع والإنسان ، كلياً أو جزئياً ، بالنضال ، فإنّه يكون مثقّفاً فاعلاً ، أي مثقّفاً مناضلاً من أجل تحقيق هذا التغيير .
فـ" سارتر " أبعد كلّ صاحب اختصاص من مجال الثّقافة ، وحصر المثقّف فقط بالتقنيّ المناضل من أجل الطّبقة المحرومة . فالمثقّف الذي ينتج ، بإبداعه واكتشافه وتخليقه ، حضارةً ، يحدث تغييراً في الواقع والإنسان وإن بصورة غير مباشرة . فالحضارة الصناعيّة التي جاءت نتيجة اختراع الآلة ، أحدثت تغييراً كبيراً في المجتمع الصناعيّ ، وإن كان غير مباشر ، بخلق الطّبقة العاملة ، هذه الطّبقة التي تَرتّب على نضالها ومطالبها الكثير من الديمقراطيّة السياسيّة والديمقراطيّة الاجتماعيّة . ومَن اخترع الآلة من المثقّفين ، بفعل اختصاصهم ، لم يقصد إلى هذا التغيير الذي حدث . وعلى الرّغم من ذلك ، فإنّ " سارتر " استبعده من إطار المثقّفين ، لأنّه لم يناضل ضدّ الأيديولوجيّة السائدة .
في الشّرق ، لم يُعرف النِّظامُ الرأسماليّ ، ولا سيّما الصناعيّ منه ، وعلى الرّغم من ذلك ، ظهر فيه مثقّفون ناضلوا من أجل التغيير ، وإن كانت عبارة مثقّف لم تستعمل ، بل استعملت عبارة أخرى كعالِم أو فقيه أو مفكِّر أو كاتب ..
ماذا سيكون موقف " سارتر " لو عاش وشاهد سقوط الاتحاد السوفياتي ، فهل كان يبقى متمسكاً بمفهوم المثقّف الطبقيّ ؟… بمفهوم الماركسيّة ؟!…
إنّ " سارتر " المثقّف ، النموذجيّ ، الثوريّ ، الجذريّ ، في رأي نفسه ، المناضل ضدّ الاضّطهاد والتمييز والاستعمار ، لم يكن إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة ، بل إلى جانب إسرائيل المغتصبة الأرض ، والمضطهدة الإنسان الفلسطينيّ . فبأيّ ثقافة وبأيّ مثقّف ، يُفسَّر هذا التناقض ؟!.. وهل يدافع " سارتر " عن إنسان معيّن أم عن الإنسان في كلّ مكان ؟!…
" سارتر " يهاجم المثقّف المزيّف الذي يريد السّلام بإطلاق ، لا سلاماً مُحدّداً في دولة محد