كلمة - الطب والسياسة
الطب والسياسة
تجربة شخصية
كلمـة
الدكتور نزيه البزري
وُلِدتُ في العام الثاني للحرب العالمية الأولى سنة 1915 وتخرّجتُ كطبيب في العام الثاني للحرب العالمية الثانية سنة 1940. وتقاطع نجمي مع نيران المريخ المشتعلة. ومنذ هذيْن التاريخيْن شهدتُ ثورات وانتفاضات وحروب محلّية، ولكني إنسان هادئ حتى أعماق روحي.
لن أتطرّق إلى أيام طفولتي وأيام دراستي في صيدا ودراستي الجامعية في بيروت لعدم ارتباطها بالموضوع، واكتفي بالقول إنني تابعتُ مرحلة دراستي دون انقطاع.
خلال حفلات التخرّج عامي 1936 وعام 1940 حيث كان الخرّيجون في لباس التخرّج الأسود والقبعات السوداء يتلقون تهاني الأهل، كان عليّ أن أختفي من المشهد لعدم وجود والدي في ذلك الوقت إلى جانبي. ومنذ تلك اللحظة شعرتُ بأنني من أقرباء كل إنسان طيّب.
وأذكر أنه خلال الأيام الأخيرة من دراستي، طلب منّي رئيس قسم الطب الداخلي أن أتقدّم بطلب للعمل كزميل مؤقت في الطب، فاعتذرتُ له شاكراً عرضه وطلبتُ منه السماح لي أن أذهب إلى العمل لأنّ البلاد تمرّ في فترة حرب ولأنه عليّ أن أساعد والدتي وثلاث أخوات وأخويْن. لكنه أصرّ أن أبقى حتى نهاية العام 1940 على أقل تعديل، فنزلتُ عند رغبته ولكني تركت بعد ذلك لنفس الأسباب.
كانت مهنة الطب في صيدا في ذلك الوقت متمثّلة بخمسة خرّيجين من الجامعة الأميركية وخمسة من الجامعة اليسوعية، وكان عدد الصيدليات ثلاث، وكان هناك مستشفى واحد هو مستشفى الدكتور الشاب وكان عبارة عن بيت قديم، كان الدكتور الشاب يسكن في الطابق الأول منه، وفي شقة أخرى كان يجري العمليات الجراحية ويعالج الأمراض النسائية.
كانت العلاقة بين الطبيب والمريض علاقة مهنية بحتة، ولم يهتم أحد من زملائي بدراسة المحيط العام أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لمرضاهم. وكان هناك مستشفى حكومي في البلدة القديمة قرب خان الإفرنج، وكان يديره طبيب واحد من خرّيجي سويسرا، وكان التمريض في عهدة راهبات كُنَّ يسكنَّ قرب خان الإفرنج وكن يقمنَ بإدارة مدرسة ابتدائية ومَيتم. وكان أهل صيدا يتردّدون على هذا المستشفى بشكل نادر.
يوم 23 كانون أول 1940 رجعتُ إلى البيت من بيروت ولم أذهب ثانية إلى عملي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت. حصلتُ على إعفاء وحلّ مكاني أحد أصدقائي الذي أصبح فيما بعد رئيس القسم الطبي.
في بيتي وتحديداً في غرفة نومي وضعتُ مقعداً وبدأتُ باستقبال المرضى حسب مواعيد محدّدة. كنت مهتماً بالناس، بطريقة تحدّثهم وبساطة حياتهم. لقد زرت تقريباً كل بيت وتعاطفت مع الناس بعمق. كان الناس في صيدا ثلاث طبقات: طبقة فقيرة جداً تُقارب المشرّدين، وطبقة متوسطة، وعدد من العائلات الميسورة، خاصة أصحاب الأراضي والتجّار.
كانت الجريمة نادرة الوجود، وكان هناك خمسة حمّامات عامة تفتح أبوابها من ساعات المساء حتى ساعات الصباح للرجال، ومن ساعات الظهر حتى غياب الشمس للنساء. ومع بناء الحمّامات في البيوت الجديدة، بدأت تجارة الحمّامات العامة بالزوال، وبقي منها حمّامان فقط لكن عملهما غير مزدهر. لقد ذهبتُ إلى أحد هذه الحمّامات مرة واحدة في حياتي عام 1942 بصحبة بعض الأصدقاء الذين أقنعوني بخوض التجربة.
كان استعمال الحجاب شائعاً لدى السيّدات المسلمات وكانت ملابسهن محتشمة. وكان الطربوش يُستعمل مِن قبل قلّة من الرجال المسلمين، وكان عدد قليل من الرجال النصارى يلبسون القبعة الغربية. كانت اللغة المحلية تختلف قليلاً عن تلك التي نسمعها هذه الأيام.
كان الصيّادون قلّة وكانوا فقراء الحال. وخلال طفولتي كانت حركة النقل البحري أكثر نشاطاً بين صيدا ومصر وفلسطين. لكن مرفأ بيروت أخذ مكانها وكان يستقبل السفن الثقيلة.
كانت الحالة الأولى في عملي الخاص حالة صبي في العاشرة من عمره لديه حمّى مزمنة لثلاثة شهور. ولدى فَحْصه اكتشفت كتلة في البطن وكان انطباعي أنها كانت حالة سرطان. وقد تمّ إرسال الصبي إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث أُجريت له عملية جراحية ولم يشفى من ذلك.
لم يمرّ عليّ يوم واحد دون معاينة حالة ملاريا أو حالة حمّى، وأذكر أربع حالات حمّى الأولى كانت لرجل أعمال يعاني من فقر دم شديد، وقد تمّ تشخيص حالته في مستشفى الجامعة الأميركية على أنها حالة فقر دم بلاستيكي. لكن ولدهشة الجميع كانت الحالة ملاريا، وتمّ علاجه على هذا الأساس، وبذلك شفيَ من فقر الدم.
أما الحالة الثانية فاستغرقت بين شهرين وثلاثة للشفاء، أما ثالث ورابع هذه الحالات فتوفّي المصاب في واحدة منها وبقيَ الآخر حياً.
بعد دخول الجيش البريطاني بدأت حملة ضد الملاريا، وخلال سنوات قليلة تمّ القضاء على هذا المرض وخسر الأطباء هذه الفئة من المرضى. وفي هذه الأيام نلحظ بعض الحالات التي تأتي من الشرق الأقصى أو من أفريقيا. كانت الحمّى منتشرة في هذه الأيام ولم تكن هناك مضادات حيوية محدّدة. وحسب سجلاّتي كانت هناك 420 حالة حمّى توفي منها 14. كانت الحمّى القرمزية منتشرة، وبصفتي رئيس القسم الطبي في البلدية كنّا نعالج المصابين دون مقابل في الحمّامات العامة.
ولقد أُتيحت لي فرصة معرفة عائلة أصيب أعضاؤها الأربعة بمرض الجدري وبقوا على قيد الحياة.
في عام 1944 انتشرت عدوى مرض السحايا، بدأت بحالة في منطقة الدبّاغة حيث شُيّد فندق صيدا الكبير لاحقاً. لقد قُمت بتشخيص المرض وأعطيت التعليمات بإرسال المصابة إلى مستشفى الأمراض المُعدية في بيروت. ولقد قامت عائلتها بنقلها إلى البلدة القديمة حيث تمّ القبض عليها وإرسالها للمعالجة. وخلال أربعين يوماً، قمنا بمعالجة 94 حالة كانت ناجحة باستثناء حالة طفل في عامه الثاني رفضت عائلته العلاج وحالة رجل في السادسة والعشرين تمّ اكتشاف حالته في وقت متأخر من المرض ولم يُكتب له الشفاء لأنّ العلاج بدأ بعد استفحال المرض.
وكمكافأة على جهودي في هذا الحقل قرّرت الحكومة منحي وساماً، ولكني رفضت هذا التكريم احتجاجاً على عدم وجود العناية الصحيّة في لبنان.
وفي العام 1943 شاركت في الحركة الهادفة إلى طرد فرنسا المنهزمة من لبنان وكان عليّ أن أختبئ لعدة أيام من ملاحقة المكتب الثاني الفرنسي الذي كان يبحث عنّي.
وبعد الاستقلال عُيّنت مسؤولاً طبياً في المستشفى الحكومي كما عُيّنت الطبيب القانوني المسؤول. كنت أتمنى لو أني لم أُعيَّن في هذا المنصب لأنه أتاح لي اكتشاف كل حالات عدم العدالة الإدارية التي إضافة إلى الوضع الصحّي الذي لا يحتمل في مدينة صيدا وفي الجنوب أثار في نفسي الاهتمام بالسياسة.
ومن خلال خبرتي في المستشفى الحكومي، هناك عدة أمور تستحق التنويه. لقد كنت المسؤول الطبي الوحيد في المستشفى وكانت مسؤولياتي تشمل طلبات الأدوية واحتياجات المستشفى من أدوات للمطبخ وللأسرّة. كان عليّ أن أُعد طلبات الملابس القطنية للممرضات ومناشف وأغطية لغرفة العمليات. كان عليّ أن أقبل حالات الولادة التي كانت تصل ليلاً وقليل منها كان يحتاج إلى عملية قيصرية كنت أعهد بها للدكتور خليل.
البنج كان متوفراً. أحياناً كنا نستعمل المورفين، كذلك كان البنج الفقري يُستعمل وكان المسؤول عن ذلك ممرضة متخرّجة من جامعة دمشق.
أجريتُ عدة عمليات جراحية في الأمعاء بسبب حمّى الأمعاء. حصل ذلك حين وصل اللاجئون بأعداد كبيرة إلى صيدا وبينهم عدد من المرضى مصابون بحمّى التهاب الأمعاء، ثلاثة منهم مصابون بثقب في الأمعاء، أجريت لهم عمليات جراحية لكن أحدهم فارق الحياة.
في ذلك الوقت انتشرت عدوى مرض السحايا، وكنّا نستعمل الكبريت (sulfer) لمعالجته لأنّ البنسلين لم يكن موجوداً.
من الحالات المثيرة كانت تلك لعائلة مؤلّفة من أربعة أشخاص تعرّضت لصاعقة رعدية، توفّي على أثرها اثنان منهم، وأُحضر اثنان إلى المستشفى الحكومي. وضَعتهم تحت المراقبة الدقيقة وشدّدت على أن يبقوا دون حراك بسبب الكسور في العمود الفقري. وفي الحقيقة توفي أحدهما أثناء سيره إلى غرفة الحمّام.
لقد قمنا بمعالجة عدة حالات كزاز (Tetanus) وحالة تراكوميا قمنا بتحويلها إلى مستشفى الجامعة الأميركية، وقد شفيَ كل هؤلاء.
لقد كان من الممتع والمشجّع أن أعمل في مكان فقير بالمعدّات وأن أقدّم بالرغم من ذلك الكثير من الخدمات إلى المحتاجين والمحرومين. أذكر حالة حمّى (Kala Azar) لشخص أرمني، ولاحقاً تلقّيت هدية تقدير من هذا الشخص أرسلها من أرمينيا في روسيا.
أُتيحت لي فرصة معاينة العديد من الأمراض والالتهابات الجلدية، منها حالتا خزب الجلد (scleroderma)، توفي أحدهما. كذلك شهدتُ عدة حالات شلل أطفال، وحالات عصبية وحالتَيْ تصلّب الأنسجة لم تُكتب لهما الحياة، كانت إحداهما في لبنان والأخرى في الولايات المتحدة الأميركية.
وكما أخبرتكم شخصياً كنت مهتماً بالسياسة المحلية وبالسياسة العامة في لبنان، وحضرت عدة اجتماعات مع المرحوم رياض الصلح الذي كان رئيساً للوزراء، واختلفت معه على عدد من القضايا اللبنانية والصيداوية. وفي أيام الانتخابات كنت على اللائحة المناوئة لرياض الصلح. تركت مكاناً لاسمه في إحدى اللوائح، لكن الشعب الصيداوي أعطاني دعماً ساحقاً بنسبة 89% للائحتي ورفضت الأكثرية التصويت لرياض الصلح. وبعد عشرين شهراً تمّ اغتيال رياض الصلح في الأردن، وتقدّم أحد أبناء عمه السيد كاظم الصلح إلى الانتخابات ونال معارضة أكثرية الصيداويين مقابل أحد أقاربي الذي تمّ انتخابه.
ساءت الأوضاع في البلاد مما اضطر الرئيس بشارة الخوري إلى التخلّي عن السلطة. وجرت انتخابات جديدة وتمّ انتخاب كميل شمعون رئيساً للجمهورية. كان في عجلة لإقرار قوانين جديدة للانتخابات البلدية والانتخابات العامة، وعلى ضوئها أصبحت صيدا وحدة انتخابية. ولقد فزتُ في الانتخابات البلدية والبرلمانية، وتركت عملي كمسؤول طبي في المستشفى الحكومي، وتمّ تعيين أحد الزملاء الصيداويين مكاني. وتمّ تعيين طبيب جديد للبلدية، وانصرفت إلى العمل الخاص كطبيب إضافة إلى اهتمامي بواجباتي البرلمانية.
لقد عُيّنت وزيراً مرتين، لكني لم أترك عملي كطبيب. حاولت القيام بعملي الوزاري على أفضل شكل ممكن في ظل مصاعب دستورية نادراً ما سمحت لي تحقيق طموحاتي.
وفي جولة الانتخابات التالية لم يكتب لي النجاح. وكي أتجنّب المشاكل لجمهوري انتقلت جزئياً إلى العمل في عيادة في بيروت، وكنت أقضي ثلاثة أيام عمل في صيدا وأربعة في بيروت. لكني كنت أنتقل كل مساء إلى صيدا حيث كنت أُقيم بجوار أصدقائي.
أتاحت لي الإقامة في بيروت فرصة التواصل مع مجموعة من الأطباء المختصين، كذلك أتاح لي فرصة تحسين وضعي المادي لأنّ رسوم العلاج كانت منتظمة وأعلى من تلك في صيدا.
ولا زلت أُثابر على القراءة بمعدّل لا يقل عن معدّل طالب جامعي، وكلما سافرت إلى الخارج كانت هواياتي جمع الأخبار والكتب الطبية.
ومن المؤسف أني خسرت حوالي 80% من مكتبتي خلال أحد التفجيرات، بعض تلك الكتب كان تاريخياً وكلّفتني الكثير للحصول عليها. كذلك تعرّضت لعدة اعتداءات كان الهدف منها القضاء على وجودي، وكان من الواضح أنه عليّ أن أنتظر الأسوأ وأن أُحقّق إنجازات أكثر لشعبنا في صيدا، وفي جنوب لبنان وفي الدول العربية العزيزة.
لقد قضيت 48 عاماً من عمري في ممارسة مهنة الطب، ولا زلت أشعر أنني أستطيع أن أقدّم المزيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * - نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور نزيه البزري في الجامعة الأميركية في بيروت حول تجربته في مهنة الطب والسياسة، دون ذكر اليوم أو الشهر أو السنة ودون إعطاء لهذه المحاضرة العنوان المناسب لذلك العنوان من اختيارنا، فاقتضى التنويه.