كلمة من القلب إلى القلب
كـلـمـة
من القلب إلى القلب (1)
د. مصطفى دندشلي
عندما طلب مني أن أتحدّث عن تجربة صديق عزيز عليّ وهو الأب سليم غزال ، وجدت نفسي أمام مسألتين شائكتين : الأول ، وهي كيف يمكن إيفاء إنسانٍ حقّه وتلخيص تجربة ربع قرنٍ من الزمن في عدد من الأسطر أو الصفحات ؟؟... أليس في ذلك كثيرٌ من الاجتزاء ، أو استحالة رؤية الحقيقة على " حقيقتها " ؟... خاصة إذا كانت هذه التجربة غنيّة غنى الحياة الإنسانيّة برمّتها!!. المسألة الثانية وهي الحديث عن صديق جمعتني به صلة حميمة ، فهل يمكن أن ينحو هذا الحديث منحى الواقع والموضوعيّة ، أم أنّه سيظهرُ بمظهر الحديث عن الذات ، وهذا مما تأباه النفس ولا ترضاه ...
في الحقيقة ، لقد مضى على معرفتي للأب سليم غزال أكثر من إثنتيّ عشرة سنة . وكان ذلك في خضمّ الحرب اللبنانيّة 75 ـ 76 وويلاتها المدمرة ، انطلاقاً من الجنوب وصيدا وإلى جميع أنحاء لبنان . وقد كان هذا اللقاء من خلال الهيئة التربويّة الشعبيّة التي أنشئت في صيدا أثناء تلك الظروف والأحداث وهي تضمّ مثقّفين وتربويّين ، أخذت على عاتقها تحمّل مسؤوليّة ضبط الأمور التربويّة والثقافيّة في المنطقة ، في وقت كان يصعب ضبط أيّ شيء ، في جوٍّ من بدايات الفوضى والسقوط والانهيار ، انهيار المؤسّسات والإدارة والعلاقات المجتمعيّة معها ...
استمرّت هذه الصداقة وتوثّقت أثناء الاحتلال الإسرائيليّ. وهنا كانت تجربة أخرى مختلفة، غنيّة زاخرة ، تحمل عن طريق الممارسة والالتزام معاني الوطنيّة والحريّة وتحرير الإنسان .
من خلال هاتين التجربتين ومن خلال رفض الاحتلال والمعاناة ، تكشفت لي شخصيّة الأب غزال على حقيقتها ومن جوانبها الاجتماعيّة والوطنيّة والإنسانيّة :
الجانب الاجتماعيّ :
في الأزمات والحروب تظهر الكوارثُ الاجتماعيّة عارية وعلى حقيقتها المأساويّة . هنا بدت لي هذه الشخصيّة المعطاءة اجتماعياً ، الرؤية في الممارسة والتي لا تعرف الكلل في العمل من أجل تضميد الجراح وتخفيف الآلام : آلام النفس قبل الجسد ، هذه الشخصيّة التي كانت ولا تزال دائماً في صميم المعركة : فكانت تغرس بذور الأمل في تربة اليأس القاتلة .
الجانب الوطنيّ :
لا كرامة لإنسان إذا ذهب وطنه ضحيّة قوّة غاشمة ، أو إذا فترت وطنيته وذبلت . في زمن الاحتلال الإسرائيليّ لصيدا ومنطقتها تحديداً ، كنت شاهداً على تحركات الأب سليم غزال لمواجهة خطر هذا الأخطبوط السرطانيّ الصهيونيّ الذي أخذ ينفث سمومه القاتلة من طائفيّة ومذهبيّة وعرقيّة ، والذي تغلغل في أعماق مجتمعنا ليس فقط عسكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً ، وإنّما وهنا الأخطر فكرياً وثقافياً وعنصرياً . هنا أيضاً كنت ترى محاولات الأب غزال المستمرّة والعمل الدؤوب لمجابهة جحافل من الخصوم منظورة وغير منظورة ، وخوض المعركة بالقلب واللسان إذا تعذّرت الوسائل الأخرى ، وذلك من أجل تحرير الإنسان ...
الجانب الإنسانيّ :
يدهشك أن ترى إنساناً يعمل في المجتمع اللاإنسانيّ ، وأن تجد الحكمة والرويّة لا تزال في مجتمع الطيش والغرور ، وأن تلتقي بالأمل في مجتمع دبّ فيه اليأس والقنوط : هذه هي بعض الصفات الشخصيّة البارزة وكما عايشتها للأب سليم غزال .
فما كان يثير انتباهي ويقظي هو عندما كنت أرى كيف يندمج هذا الكيان الإنسان ، كلياً ، في الكيان الإنسانيّ الآخر . كيف كان يتمّ التواصل الحميم مع الآخرين ، في مجتمع كانت تسيطر فيه ولا تزال الانفعالات الطائفيّة والمواقف اللاعقليّة والغرائز اللاإنسانيّة .
لقد كانت شخصية الأب سليم غزال ، من خلال الممارسة الدؤوبة والعمل الإنسانيّ ـ الاجتماعيّ المتواصل ، تتجاوز كلّ الشقاقات والخلافات والحواجز ، وترتع فوقها لتبقى وتحافظ على صلة الوصل والتواصل الأخويّ مع الآخر ... وهي مقدرة إنسانيّة في البشر قلّ أن تجدها في مجتمع يتحكم فيه رفض الواحد للآخر ، أو اتخاذ الموقف على أساس من دين أو طائفة أو مذهب .
إنّي أعتقد بصدق ويقين أنّ تجربة الأب سليم غزال في منطقة صيدا والجنوب ، هي ظاهرة مميّزة يمكن أن تعتبر مثالاً يحتذى في العمل الاجتماعيّ والوطنيّ والإنسانيّ :
* كان دائماً يدعو إلى الوحدة ، الوحدة الوطنيّة والإنسانيّة ، في زمن دخلت فيه الفُرقةُ في النفوس .
* بقي في خضمّ المعركة واستمرّ في صميمها ، في وقت عمّ فيه التخاذل والهروب .
* لم يفارق الأملُ قلبه وتحركه ، في أجواء خيّم فيها اليأسُ بين الجميع .
* مفعمٌ قلبه بالمحبّة ومحبّة الآخر، في زمن عشعش فيه الكرهُ والحقدُ في القلوب والنّفوس.
* كان دائم العمل في وقت كان ينتشرُ فيه الكسلُ والقعود ...
* كان دائم السعي للبناء في الوقت الذي تهدم فيه كلّ شيء وانهار .
بكلمة ، كان دائماً وكما عرفته يدعو بكلّ جوارحه وقلبه وعقله وإيمانه إلى الإصلاح ، إلى الإصلاح الجذريّ ، في المجتمع والدولة والإنسان وذلك في سبيل قيام وطن لا تمييز فيه ، بين إنسان وإنسان آخر على أساس من دين أو طائفة أو مذهب . الكلّ متساوٍ في الحقوق والواجبات وفي القيمة الإنسانيّة بالذات .
على أساس ما كان يمثله الأب سليم غزال وما كان يدعو إليه ولا يزال ، يمكن ترسيخ دعائم العيش المشترك والتفاعل الخلاّق بين المسيحيّة والإسلام .
وحتى تؤتي هذه الثمارُ أكلَها وتصل إلى النتائج المرجوّة منها ، ينبغي أن تكون هذه التجربة ، تجربة الأب غزال الاجتماعيّة ـ الإنسانيّة ، مقبولة من محيطها وممن تحمل معتقداتها ، حتى يكون لها الأثر الفاعل والمثل الرائد في الآخرين .
على هذا الأساس ، كلنا يقين ، عن طريق الجهد والعمل ، أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء . نحن في تقدّم دائم وباستمرار حتى من خلال الهزائم والانهيار . وما عدا ذلك ، سراب في سراب . وأما الزبد فيذهب جفاءً ، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . إنّما الأهميّة في هذه الظروف القاتمة وفي هذا الظلام الدامس ، هي الاستمراريّة ، استمراريّة التجربة الوطنيّة الاجتماعيّة ـ الإنسانيّة التي سار في طريقها الأب سليم غزال، وأن تتضافر جهود هذه الطليعة الخلاقة المتفائلة، كي تعمل للاستفادة من تجارب الماضي والحاضر ، وتعقد العزم بصدق وإخلاص في سبيل بناء مستقبل جديد !... مستقبل وطن الجميع ومستقبل الإنسان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1] ) شهادة الدكتور مصطفى دندشلي ، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانيّة ورئيس المركز الثقافيّ للبحوث والتوثيق في صيدا ، حول إطلالة على كنيسة الجنوب من خلال عمل الأب سليم غزال والحركات الرسوليّة 1962 ـ 1990 ، ط 1991 .