هل للثقافة من دور فاعل في لبنان
هل للثقافة من دور فاعل
في لبنان
أيّها الحفل الكريم
بغبطة عامرة وسعادة كبيرة ، أتوجّه إلى المجلس الثقافيّ لقضاء راشيا ، بتحيّة صادرة من القلب ، بهذه المناسبة ، مناسبة المهرجان التأسيسيّ الأول ، وذلك نيابة عن مركزنا الثقافيّ في صيدا، وأصالة عن نفسي . وإنّها لفرصة سعيدة أن يلتقيَ المثقّفون والهيئات الثقافيّة من مختلف مناطق لبنان: من الشمال ، ومن الجنوب ، ومن العاصمة إلى راشيا ، هذه المنطقة العزيزة على قلوبنا .
وهذه المناسبات التي تُعقد ، هنا وهناك ، على ساحة الوطن اللبنانيّ ، لهي دليل على أنّ الحركة الثقافيّة العامة في لبنان ، قد أخذت في التحرك والنموّ والانتشار والتوسّع . فهذه المناسبة ـ أقول ـ إنّما هي فرصة ، علينا أن نستفيد منها لوضع أسسٍ مستقبليّة ، من أجل تنشيط الجوّ الثقافيّ العام في لبنان ، وتنميته ودعمه وتقويته بكلّ ما هو متوافر لدينا من إمكانات فكريّة وعلميّة وهي ليست بقليلة ...
من أجل ذلك ، ومن ضمن رؤية مستقبليّة للحركة الثقافيّة في لبنان ، أودّ أن أطرح أمامكم بعضَ التساؤلات :
هل للثقافة ، في ظروفنا الراهنة ، من دور في لبنان : من دور فاعل ومؤثّر ؟... وبالتالي، هل للمثقّف من وجود ، أو من حضور ، أو من تأثير فعليّ في الواقع الذي نعيش فيه ؟... سؤال ، من الأهميّة محاولة الإجابة عنه بكلّ صدق وجديّة . ولكن ، إذا لم تكن الإجابة كما نرغب تماماً ونريد ، فسؤال آخر يُطرح كذلك بإلحاح في هذا الصدد : كيف يمكن أن نعمل معاً حتى تعودَ الثقافة ومعها المثقّف، وتلعب دوراً رائداً في لبنان ؟... بمعنى آخر ، كيف يمكن أن نعطيَ للثقافة ، وللمثقّف أيضاً ، معناهما الحقيقيّ والمؤثّر والفاعل في واقعنا الاجتماعيّ ؟!...
إنّني أرى أنّه ، حتى تصبح الثقافة والحركة الثقافيّة في لبنان فاعلة ومؤثّرة ، ينبغي أن تكون هذه الثقافة ملتزمة ، ملتزمة حقيقة ، قولاً وفعلاً ، بقضايا المجتمع والإنسان. بل أكثر من ذلك، إنّ الالتزام الذي أعنيه هنا هو أن تعود الثقافة وتصبح السلطة الأولى في المجتمع ، إلى جانب ، أو فوق، السلطات الثلاث ـ التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة ـ إضافة إلى السلطة الرابعة ـ كما يُقال ـ وهي سلطة الصحافة والإعلام .
وإذا كان لي أن أشير إشارة عابرة إلى أحد الفروقات الأساسيّة بين مجتمع متقدّم ومجتمع متخلّف ، فهو أنّ حركة الفكر والثقافة تلعب في المجتمع المتقدّم الدور الرائد والقائد والموجّه . الفكر، بمعنى العقل أو العلم، هو السلطة الأولى ، السلطة المعنويّة ، الأخلاقيّة ، الضاغطة في هذا المجتمع. والفكر هنا يصبح : قيادة رائدة. هو قوّة بالفعل، رادعة وموجّهة، قوّة أدبيّة فلسفيّة وبالتالي سياسيّة...
من هنا أعود وأقول ، وأشدّد على ذلك ، بأنّه علينا ـ نحن الهيئات الثقافيّة والمثقّفين الديمقراطيّين الأحرار في لبنان ـ أن نضعَ لنا هدفاً محدّداً ونعملَ على تحقيقه معاً ، وسوية، وهو أن تصبح الثقافة والفكر ، فعلاً ، السلطة الأولى ، السلطة المعنويّة العليا في المجتمع اللبنانيّ . وقد يكون الظرف الآن ، ربما ، مناسباً لوجود ، لأول مرة في تاريخ لبنان ، وزارة للثقافة، وعلى رأسها وزير مثقّف وهو الأستاذ ميشال إدّه ...
السؤال يعودُ مرة أخرى ويَطرحُ نفسه : هل نحن مهيئون فعلاً كي نلعب هذا الدور الرائد في هذا الظرف الراهن ، خصوصاً وأنّنا مقبلون على استحقاقات تاريخيّة في غاية من الأهميّة والخطورة : أعني بذلك السلم الآتي ، " وعلاقات التطبيع " القادمة من الأفق القريب ، مع دولة إسرائيل ؟... من هنا أعود وأكرّر أهميّة دور المثقّف ، ودور الثقافة ، ودور الجمعيات الثقافيّة على وجه الخصوص ...
وحتى تستطيع الحركة الثقافيّة في لبنان أن توحّد صفوفها وتوضّح أهدافها، وتحدّد برامجها الآنيّة والمستقبليّة ، لا بدّ إلاّ وأن يتوافر جوّ من الحريّة الحقيقيّة ، وجوّ من الديمقراطيّة السليمة . فالثقافة لا يمكن أن تنتعش وتنمو وتقوى إلاّ بالحريّة ، وفي الحريّة . والحريّة هنا ، بالمعنى العميق للكلمة ، هي في صميم الديمقراطيّة ، ومحرّكها الأساس . فهناك تفاعل جدليّ ، وتأثير وتأثّر بين هذه المفاهيم الثلاثة : الثقافة والحريّة والديمقراطيّة ، التي لا غنى للواحد منها على الآخر ...
من هذا المنظور ، ومن ضمن هذه الرؤية وانطلاقاً منها ، فإنّنا نرى بأنّه لا يزال للبنان دور ، ليس فقط في النطاق المحليّ ، وإنّما وعلى وجه الخصوص ، دور رائد ينتظره في المنطقة العربيّة قاطبة . وهذا الدور إنّما هو دور ديمقراطيّ ، دور فكريّ تحرّريّ ، وبالتالي دور وطنيّ ... وليس غير لبنان يمكن أن يلعب هذا الدور في هذه المرحلة التاريخيّة الخطيرة من وجودنا...
فهل نحن كهيئات ثقافيّة ، وكمثقّفين ديمقراطيّين أحرار ، مهيئون فعلاً لكي نلعب هذا الدور الرائد محلياً وإقليمياً وعربياً ؟!!... هذا هو السؤال الكبير ، هذا هو التحدّي الذي ينتظرنا في المستقبل المنظور ، فيجب علينا أن نستعدّ أصدق استعداد ، لنرفع هذا التحدّي ونستجيب له بكلّ قوّة وعزم وشجاعة ...
وأخيراً ، إذا بقي لي من كلمة ، فهي تكرار تحيتي القلبيّة للمجلس الثقافيّ لقضاء راشيا ، متمنياً له كل تقدّم وتطوّرٍ وازدهار ...