الجامعة اللبنانيّة بين الدور الثقافيّ والسلطة اللبنانيّة
الجامعة اللبنانيّة
بين الدور الثقافيّ والسلطة اللبنانيّة (1 )
إنّ الحديث عن الجامعة اللبنانيّة ودورها الثقافيّ وعلاقتها بالسلطة السياسيّة ، ليس من الأمور السهلة أو الميسورة . فالصعوبة تكتنف الموضوع من كلّ جانب في بعده التاريخيّ والاجتماعيّ والتربويّ . فالمعلومات والإحصاءات غير متوافرة . والدراسات والأبحاث تكاد تكون نادرة . لذلك يجد الباحث نفسه في موضوع الجامعة الثقافيّ ، مضطراً إلى اللجوء إلى طرح الفرضيات النظريّة ورسم تصوّر عام ، مستقى من المعرفة التجريبيّة والخبرة الشخصيّة . لذلك سأحاول أن أطرح مجموعة من التساؤلات تتعلّق بموقع الجامعة الثقافيّ في النظام التعليميّ العام في لبنان وعلاقتها بالسلطة السياسيّة من خلال وزارة الثقافة والتعليم العالي .
لا بدّ لي بداية من الإشارة إلى أنّ تأسيس نواة للجامعة اللبنانيّة قد تمّ في العام 1951 مع إنشاء معهد المعلمين العالي . وبعد ذلك ، وفي أواخر الخمسينات أنشئت تدريجاً وتحت ضغط الظروف الوطنيّة وحاجات المجتمع الضروريّة ، باقي الكليات ، كليات الآداب والعلوم الإنسانيّة والحقوق والعلوم الاجتماعيّة وكلية العلوم والفنون ، إلخ ..
هذا يعني بتعبير آخر ، ومنذ قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 وإعلان الدستور اللبنانيّ عام 1926 ، لم يكن كوال مرحلة الانتداب الفرنسيّ من وجود لجامعة وطنيّة لبنانيّة . وقد استمرّت الحال على ما هو عليه ثماني سنوات متتالية بعد حصول الاستقلال وقيام الدولة اللبنانيّة المستقلّة . إنّ هذا الغياب بطبيعة الحال ، له أسبابه السياسيّة ودوافعه التربويّة والتعليميّة . فالثقافة والتعليم والمناهج التربويّة إنّما كانت بمجملها تخضع للنفوذ السياسيّ الفرنسيّ . وإذا كانت في مرحلة الانتداب قد ظهرت هنا وهناك بوادر نشر التعليم الرسميّ ، فقد اقتصر الأمر ، على محدوديته ، على مستوى التعليم الابتدائيّ . ولم يتطوّر وينتشر نسبياً إلاّ بعد مرحلة الاستقلال وعَبْر نضالات وطنيّة طالبيّة وجماهيريّة في معظم الأحيان . أقول ذلك في ذهني حياً كيف أنشئت وتحت أيّ ظروف ضاغطة وشعبيّة ، المدارس الرسميّة المتوسطة والثانويّة في منطقة الجنوب . ويمكننا أن نتصوّر أوضاعاً شبيهة بذلك في مناطق مختلفة من لبنان في الشمال والبقاع أو المدن الساحليّة .
إنّنا نعلم ، ولم يعد ذلك سراً لأحد ، أنّ شؤون التربية والتعليم والثقافة بمستوياتها المتنوّعة حتى الجامعيّة منها ، لها موقع خاص وأهميّة قصوى في أذهان السلطات السياسيّة العامة في لبنان وفي العهود المختلفة . وهذا الموقع التربويّ والتعليميّ والجامعيّ لا يقلّ أهميّة ، بل ربما يفوق الآن أهميّة عن المواقع السياسيّة الحساسة في البلد . من هنا يأتي التشديد دائماً وفي كلّ وثيقة تصدر ، وآخرها وثيقة الوفاق الوطنيّ في الطائف ، على حريّة التعليم ، كما على الاقتصاد الحرّ سواء بسواء.
من هنا أرى ضرورة معرفة أسس النظام السياسيّ ومقوّماته وطبيعة تكوّن السلطة السياسيّة وتركيبتها ، من أجل فهم السياسة التربويّة العامة بمستوياتها المتنوّعة . ذلك أنّه من غير الجائز الفصل بين السياسة والتربية ، وبينهما وبين الثقافة في أيّ مجتمع من المجتمعات . كما أنّ الصراع كان قائماً ومحتدماً ، على هذا الصعيد ، بين النفوذ الفرنسيّ والنفوذ الأنكلوسكسونيّ . وقد تجسّد هذا الصراع الثقافيّ والتربويّ وانعكس في تقوية كلّ فريق لمدارسه وجامعاته الخاصة .. وإذا كان قد حقّق النظام التربويّ والتعليميّ والثقافيّ انتصاراً ولصالح المناهج الفرنسيّة والفلسفة التربويّة الفرنسيّة، تحت الانتداب ، بسبب الموقع السياسيّ الذي احتله في لبنان ، فهذا لا يعني زوال أو تقهقر المواقع التربويّة والجامعيّة للنفوذ الأنكلوسكسونيّ .
في هذا الجوّ العام من الصراع الثقافيّ ، لم يكن أمام المواطن اللبنانيّ ، ابن الطبقة البرجوازيّة الزراعيّة والتجاريّة وابن الطبقات الوسطى الميسورة عموماً ، سوى الاتجاه وبحسب انتماءاته الطائفيّة والمذهبيّة ، نحو المدارس الفرنسيّة أو المدارس الأنكلوسكسونيّة والأميركيّة منها تحديداً ، ومتابعة دراسته الجامعيّة في اليسوعيّة أو الأميركيّة . أما الجمهور العريض من الشباب ذوي الثقافة العربيّة ، فقد كان محكوماً بالتوقف عن متابعة الدراسة والانقطاع عنها ، أو الاتجاه في ما بين الحربين ، وهم قلّة القلّة ، إلى الجامعة السوريّة في دمشق ، وهم الرعيل الأول من مدرّسين ومحامين وأطباء .
وبعد ذلك وفي مرحلة الخمسينات والستينات ، ومع انتشار التعليم وازدياده بين الطبقات الوسطى العريضة ، اتجهت الأعداد الغفيرة في مختلف التخصّصات إلى الجامعات المصريّة ، أو إلى الحصول على الشهادة الثانويّة من مصر أو من سورية ، وذلك قبل فتح أبواب جامعة بيروت العربيّة وانتشار الجامعات الخاصة في لبنان .
فهنا يُطرح السؤال وهو يحمل في ضمنه الجواب، لماذا السلطات السياسيّة العامة في لبنان، منذ مرحلة الانتداب وحتى بعد حصول الاستقلال لفترة بالقليلة ، لم تعمد إلى إقامة جامعة وطنيّة لبنانيّة ، مع بداية إنشاء المدارس الرسميّة ، وذلك أسوة بما كانت عليه الحال مثلاً في الجمهوريّة السوريّة ، الواقعة هي أيضاً تحت الانتداب الفرنسيّ والتي أقيمت فيها في مطلع العشرينات الجامعة السوريّة بدءاً من كلية الحقوق وكلية الطب ؟..
هذه فقط إشارة أردت أن أبديها ، وليس هنا طبعاً مجال بحث موضوع التربية والتعليم واختلاف توجهاتهما في كلا البلدين ، أو التوقف أمام الوضع الثقافيّ في لبنان ونشوء مختلف التيارات الثقافيّة التي هي في الواقع تعبير عن القوى السياسيّة المتصارعة وأبرز مظهر من مظاهرها . وهو موضوع هام وشائك ، لم يعالج في ما أرى حتى الآن المعالجة الصحيحة .
فمن ضمن هذا السياق العام ، وهذا الصراع الخفيّ أحياناً ، والصريح أحياناً أخرى ، يمكننا أن نرى وأن نحدّد السبب الذي من أجله لم تَقُمْ ولا يمكن أن تقوم في لبنان سياسة تعليميّة تربويّة واضحة المعالم والأهداف ، تعتمد على منهج واضح في الفكر أو على مناهج وثقافة صادرة من واقعنا الاجتماعيّ ، تسير على خطاها وتستنير بهديها . من هنا أيضاً غياب " فلسفة " للثقافة أو مفهوم لها ، واضح وصريح ، بل تُركت الأمور تجري على غاربها .. وهكذا وللأسباب ذاتها ، افتقر لبنان منذ قيام دولته واستقلالها إلى وجود ما يمكن أن نسميه " خطة تربويّة شاملة " واعتماد بالتالي سياسة اللا سياسة في المجال التعليميّ والتربويّ والجامعيّ . من هنا يمكننا أن ندرك أنّ تطوير الجامعة وفتح فيها الكليات المتنوّعة فيما بعد ، لم يتمّ إلاّ عَبْر النضالات الطويلة والقاسية . فالرغبة لدى السلطات السياسيّة المسيطرة قد كانت ولربما لا تزال مفقودة ، في بناء جامعة وطنيّة حقيقيّة .
ما هي الجامعة ؟… وما هو مفهومها ؟.. إنّها أولاً تعبيرٌ عن الحياة الاجتماعيّة والفكريّة والعلميّة والثقافيّة ، وهي تعبير عن مدى تطوّر المجتمع وحاجاته المتنوّعة والاستجابة لها ، خدمة للمواطن والإنسان . إنّ العلاقة ، كما هو معروف ، بين الجامعة كمؤسّسة تربويّة ثقافيّة وبين البيئة الاجتماعيّة ، إنّما هي علاقة جدليّة تفاعليّة ، علاقة تأثير وتأثّر ، على صعيد الفكر والعلم والواقع ، قَبْل أن تكون مكاناً لتخريج حملة الشهادات والتخصصات المتنوّعة . فهي قضيّة فكريّة ، تعبّر عن الواقع وتؤثّر فيه . إنّها المكان الصالح والوحيد ربما في المجتمع ، والمؤهّل للتفاعل بين الفكر والواقع الاجتماعيّ ، وتقاطع الأفكار والتقاء التيارات الفكريّة والحضاريّة العالميّة .
الجامعة بكلمة مختصرة هي مكان الانصهار الوطنيّ والثقافيّ والحضاريّ والتربويّ ، من أجل تغيير المجتمع ولمصلحة الإنسان والمواطن فيه.. إنّ الجامعة الوطنيّة في لبنان هي مكانُ تحقيق، فعلاً العيش المشترك بين مواطنين من انتماءات دينيّة أو مناطقيّة مختلفة . إنّها مركز الإنتاج العلميّ الحقيقيّ ، وبمعناه الحديث .. ونحن لا نعني هنا العلم من زاوية العلوم الطبيعيّة أو العلوم البحتة ، وإنّما أيضاً بمعنى العلوم الإنسانيّة والعلوم الاجتماعيّة . فالعلم هنا يدخل ، منهجاً وفكراً وعملاً ، في مختلف الفروع والتخصّصات ، وكما نتحدّث عن العلوم الطبيعيّة ، نتحدّث الآن كذلك عن العلوم السياسيّة والتاريخيّة والنّفسيّة والأدبيّة ، انطلاقاً من مناهج البحث وطرائق التفكير العلميّ .
لذلك أستغرب كثيراً عندما يُشدّد ، وبإطلاق ، على أهميّة الكليات التطبيقيّة وإغفال إعطاء الأهميّة ذاتها ، وبالنسبة نفسها ، إلى الكليات التي تُسمّى نظريّة . وهذا خطأ فادح ، ربما يكون غير مقصود ، ذلك أنّنا نحن بحاجة إلى فلاسفة حقيقيّين وإلى علماء اجتماع واقتصاديّين وأدباء يعتمدون المنهج العلميّ في البحث والتفكير والعمل ، بالنسبة ذاتها لتقنيين وفنيين وأطباء ومهندسين . فالمجتمع هو وحدة كلية ، على صعيد الفكر والثقافة والاجتماع والسياسة ، فلا يجوز إغفال جانب على حساب جانب آخر ، في أيّ عمليّة إنماء أو تغيير اجتماعيّ .
وإذا كنّا ندرك الأسباب الكامنة وراء عدم تطوير ، حقيقة وفعلاً ، المناهج التربويّة الرسميّة ، والجامعة الوطنيّة اللبنانيّة بوجه خاص ، من قِبَل مختلف السلطات السياسيّة المتعاقبة ، فإنّنا نستطيع ، في الوقت ذاته ، أن نستشفّ ونلمس " تخوفها " من كلّ ما هو ثقافة ومثقّف ، وعدم سعيها بالتالي إلى وضع خطّة متكاملة لتنشيط العمل الثقافيّ في بلد سمّيَ ، على حقّ ، بلدَ الإشعاع والنور .. وعلى هذا الأساس يجب أن يُنظر إلى موقف الحكم السلبيّ والرافض لمشروع وزير التربية عام 1971 ، الهادف إلى تفريع وزارة التربية إلى وزارتين : واحدة للثقافة والأخرى للتربية والتعليم .
__________________________________________________________________________________ [1] ) نصّ المداخلة التي قدّمها الدكتور مصطفى دندشلي في النّدوة حول " الجامعة اللبنانيّة "، التي دعا إليها المركز الثقافيّ العربيّ ، في مركز عمر المختار الثقافيّ ( البقاع الغربيّ ) بتاريخ 10 تموز 1993