جولة في دور النشر اللبنانيّة - دار الطليعة
جولة في دور النشر اللبنانيّة (1) … تحقيق : مصطفى دندشلي
3 ـــ دار الطليعة :
العمل من أجل الوحدة العربيّة وقضية فلسطين والتقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ .
الكتب الجنسيّة كانت ولا تزال تحظى باهتمام العرب .
في الجولة الثالثة التي قمنا بها في دور النشر اللبنانيّة ، التقينا بأحد مسؤولي دار الطليعة . وطرحت عليه أسئلة كثيرة ، أوّلها يتعلق بتعريف سياسة الدار الفكريّة والثقافيّة إلى القراء ، فأجاب :
" تأسّست "دار الطليعة" في سنة 1959 . والهدف من إنشائها هو خدمة القضيّة القوميّة وخدمة الثقافة والفكر التقدّميّ . وعلى هذا الأساس ، كانت منذ البدء منفتحة على كلّ التيارات القوميّة والتقدّميّة ، واهتمّت ، على الأخصّ ، بقضيّة الوحدة العربيّة ، وقضيّة فلسطين وقضيّة التقدّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ في البلاد العربيّة، كما أنّها اهتمّت بنشر الثقافة التقدميّة عن طريق الترجمة .
لهذا فإنّنا نستطيع القول بأنّ اتجاه الدار هو اتجاه وطنيّ تقدميّ ، ينطلق من الإيمان بضرورة الوحدة العربيّة وبتبني كلّ القضايا القوميّة الأساسيّة ـــــ تحرير فلسطين ، تحرير الأراضي العربيّة المحتلة، والعمل، عن طريق نشر الدراسات الاختصاصيّة ، لإزالة التخلّف بمختلف صوره الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة".
* سؤال : ولكن هناك رأي شائع يقول بأنّ "دار الطليعة" على علاقة وثيقة بحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وأنّها كانت ـــــــ وربما لا تزال ــــــ المنبر الوحيد في فترة ما ، لنشر آرائه وكتبه ، فما هو رأيك في هذا الموضوع ؟!…
أجاب المدير المسؤول قائلاً: "دار الطليعة الآن شركة مساهمة مستقلة . وهي ليست مرتبطة بحزب أو دولة . ولقد كانت كذلك منذ البَدء . وأمّا الاهتمام ، في الابتداء ، الذي كان ينصبّ على نشر بعض الكتابات القوميّة، فإنّما كان ناتجاً عن الاعتقاد بضرورة هذه المؤلفات للعمل السياسيّ من أجل الوحدة العربيّة .
وسلسلة الكتب الأخيرة عن حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ، والتي نشرتها مؤخراً دار الطليعة، إنّما هي محاولة لجمع الوثائق لتاريخ الحركة الوطنيّة الحديثة . وهناك الآن اهتمام بجمع وثائق الأحزاب الأخرى : الشيوعيون ، والقوميون العرب ، إلخ …".
* سؤال : ألا تعتقد بأنّ "دار الطليعة" تتخذ موقفاً متحفظاً ـــ أو كما يقال معادياً ـــ من الناصريّة ؟…
جاء جواب : "أبداً ، لم تأخذ "دار الطليعة" لا في الماضي ولا في الحاضر موقفاً معادياً من الناصريّة ولا من أيّ حركة عربيّة تقدميّة . وإنّما كان لها موقف تقدميّ من كلّ هذه الحركات ، بشكل أو بآخر . وكانت تحرص على تقديم كلّ وُجهات النّظر ذات الصبغة التقدميّة ، حتى وُجهات النّظر التي لا ترى الهيئة المشرفة على الدار أنّها صحيحة وتختلف معها حول قضايا أساسيّة . وكان الهدف من ذلك المساهمة في بلورة فكر عربيّ تقدميّ من خلال الحوار".
" لذلك نشرنا مثلاً كتباً تحمل وُجهة نظر ناصريّة ، وتعاونا مع مفكرين وكتّاب ناصريين . ولكن في الوقت نفسه نشرنا دراسات نقدت الناصريّة وتعاونا مع كتّاب ومثقّفين اختلفوا مع الناصريّة بشكل أو بآخر" …
أما من ناحية الصعوبات التي تواجه "دار الطليعة" لجهة تسويق الكتب والمطبوعات…
فيجيب المدير المسؤول: قضيّة التسويق تخضع لعوامل مختلفة ، بعضها سياسيّة وبعضها اقتصاديّة .
ففي فترات صعود الحركة السياسيّة والجماهيريّة ، يزداد الإقبال على الكتب ذات الصبغة السياسيّة . وفي فترات النكسة والتراجع ، يركد سوق هذه الكتب . بعد هزيمة حزيران عام 1967 وصعود حركة المقاومة الفلسطينيّة ، زاد عدد الكتب التي تعالج حرب العصابات والحرب عموماً وكَثُر انتشارها . ولكن هذا النّوع من الكتب أصيب بشيء من الكساد بل وبعدم الاهتمام الكبير بعد أزمة أيلول في الأردن سنة 1970 .
وهناك ، من ناحية أخرى ، عوامل اقتصاديّة لا تتعلق بمستوى دخل الأفراد ، بل بالسياسة الماليّة في البلاد العربيّة وسياسة تحويل العملة . مثلاً ، إخضاع التحويل الخارجيّ لسلطة الدولة في العراق أو في ليبيا أو في السودان ، قَيَّد عملية استيراد الكتب ، وأصبحت المكتبات مضطرة للاستيراد بالمبالغ التي تخصّصها لها المراجع المختصّة . كما أنّ روتين الحصول على إذن الاستيراد يؤثّر كثيراً على تصدير الكتب .
ثمّ هناك أيضاً الرقابة ومشاكلها . وهي مشاكل لا يمكن التنبؤ بها ، لأنّه ليس من السهل معرفة مجموعة الحساسيات والمواقف التي تخضع لها سياسة دولة من الدول العربيّة . كما أنّ العقليّة الضيّقة التي تتحكّم في العمل الروتينيّ في الرقابة والخوف من المشاكل التي قد تنتج عن السماح بكتاب من الكتب ، جعلت الرقيب أميل إلى المنع لأتفه سبب ، هذا بالإضافة إلى أنّ الكتب تبقى زمناً طويلاً تحت رحمة الرقابة …
* وحول السوق المحلية اللبنانيّة حيث لا رقابة عموماً ، هل تستوعب عدداً كبيراً من كتب ومطبوعات دار الطليعة ؟…
يقول المدير المسؤول إنّ السوق اللبنانيّة ضيِّقة جداً ومبيعات "دار الطليعة" في هذا النطاق زهيدة . لنأخذ مثلاً مجلة " دراسات عربيّة " التي تصدر عن "دار الطليعة" ، فإنّ مجمل مبيعاتها الآن تبلغ 6500 عدداً يباع منها أقلّ من 500 عدد في لبنان .
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، هناك مشكلة التوزيع بالنسبة لدار الطليعة ، إذ إنّ كثيراً من كتبها تمنع في بعض البلاد العربيّة . فهي مثلاً لا تدخل المغرب والسعودية إطلاقاً …
غير أنه من الملاحظ أنّ دار الطليعة تولي عناية كبرى للترجمة ، ما سبب ذلك ؟…
في الواقع، السبب في ذلك، يجيب مدير الدار، إننا نحاول الآن أن تكون نسبة الكتب المترجمة والمؤلفة 50 بالمئة من كلّ نوع . ولكن الكتب المترجمة تزيد أحياناً هذه النسبة لوجود "كلاسيكيات " وكتب أجنبيّة جيّدة من الضروريّ ترجمتها . وكذلك أيضاً لأنّ نسبة عالية من الكتب المؤلفة لا تتوفّر فيها الميّزات التي تجعلها جديرة بالنشر .
ولكن هناك رأي شائع يؤكد بأنّ الاتجاه الآن ومنذ هزيمة حرب حزيران عام 1967 هو نحو ازدياد وانتشار الكتب الدينيّة أو الكتب الجنسيّة ، فما هي وُجهة نظر دار الطليعة في هذا الموضوع ؟..
يأتي الجواب: هذا الرأي يحتاج إلى إثبات ، لأنّ هناك أساساً قرّاءً متنوعين ، فمنهم من يقرأ كتباً دينيّة ، وهم استمرار المدرسة التقليديّة ، وفئة أخرى تهتمّ بالكتب ذات الاتجاه السياسي الحديث ، وثالثة تميل لا لهذا ولا لذاك، وإنّما للمؤلفات الخفيفة . فليس إذن من مقياس واحد للحكم ، ولا يمكننا أن نُغفل ذلك لعدم توافر الإحصائيات اللازمة في هذا الميدان .
أمّا بالنسبة للكتب الجنسيّة ، فقد كانت ولا تزال تحظى باهتمام العرب . ولعلّ كتاب : "علم الياء في رجوع الشيخ إلى صباه "، من أكثر الكتب التي قرئت في البلاد العربيّة . ولكن موضوع الجنس يأخذ عندنا طابعاً آخر .
فهناك أولاً الكويت الذي يجعل من القراءة عن الجنس نوعاً من المتعة التي تأخذ طابعاً تعويضياً ، وهناك ثانياً محاولة اكتشاف ذلك المجهول ، الجنس ، وهناك ثالثاً موجة ـــــ على الصعيد العالميّ ـــــ من الإقبال على الجنس تظهر في الأفلام والكتب وفي الحياة العامة . ولا بدّ من أن ينعكس هذا على الكتاب والنشر في المجتمع العربيّ . لأنذ المجتمع العربيّ يمرّ بمرحلة انتقاليّة تتحطّم فيها بِنى اجتماعيّة وقِيَم تقليديّة ويعيش الناس أنماطاً جديدة من الحياة ، خاصة في المدن .
ولعل التبدّل في العلاقات الاجتماعيّة من أهمّ مظاهر هذه المرحلة . والجنس " تابو " العرب، ولا بدّ من أن يلقى والحالة هذه ، كثيراً من الاهتمام .
ويمكن تلخيص أسباب هذا الاتجاه بعدّة عوامل أهمّها :
ـــــ الهزائم والنكسات التي تجعل الناس أكثر إنكفاءاً على ذواتهم .
ـــــ الفكر الليبرالي والتحرّريّ الذي يطرح قضيّة المساواة بين الجنسين وقضيّة تصحيح الهلاقات بين الرجل والمرأة .
ـــــ موجة الانفلات الجنسيّ التي تكتسح العالم في الوقت الحاضر ، حتى في البلدان الاشتراكيّة...
وفي ختام حديثنا، طرحنا هذا السؤال على مدير دار الطليعة: هل تعتقد بأنّ حركة الترجمة والنشر قد انتقلت من القاهرة إلى بيروت ؟...
فأجاب قائلاً: لا أعتقد ذلك ، بل العكس ، تبى القاهرة أهمّ مركز في هذا الشأن . إنّ تحسّن مستوى النشر في السنين الأخيرة في مصر ، أدّى إلى أنّ القاهرة تقوم الآن بدور لا تستطيع أن تقوم به بيروت . وذلك لأنّ القطاع الأساسيّ للنشر هناك مؤمّم ، وهو بالتالي غير خاضع لحوافز الربح الموَقَّت والسريع ، ولا هو خاضع لسياسة نشر الكتب المثيرة وذات القِيَم الضئيلة . كما أن المشرفين على قطاع النشر في القاهرة هم من كبار المثقّفين .
أمّا في لبنان ، فإنّ الوضع يختلف تماماً ، النشر هنا خاضع أولاً لعوامل الربح والسوق ، وثانياً ، لأهواء وأمزجة عدد كبير من الناشرين الذين يكادون لا يحسنون القراءة والكتابة ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ [1]) أنظر ، جريدة " المحرر "، 22 شباط 1972