السفير - اليسار والشيوعيون في مواجهة سؤال «ما الأزمة» لا «ما العمل»
الجمعة 5-11-2010
اليسار والشيوعيون في مواجهة سؤال «ما الأزمة» لا «ما العمل»
حسن الحاف
)إلى رفيقي الذي ما زال الأمل يحبو في قلبه)
الحزب الشيوعي اللبناني في عامه السادس والثمانين. كأنما أداؤه يحاكي عمره. كأنما هويته الفكرية وخطابه يحاكيان لحظات شبابه الأولى، لكن هذه المرة بلا الزخم الذي رافق تلك البدايات التأسيسية. كأنما أداؤه وهويته شاختا بشدة حتى كاد يخيّل للبعض أن ما مضى لم يمض، وأن التجربة ليست المحك، وأن ما نفترضه لذواتنا هو الصحيح والباقي غلط، وأن الوقائع تتراءى أحياناً كوهم بصري يزيف التاريخ ويزور الحاضر، فلا تعود المحاكمة بالوقائع، بل تصير المحاكمة إنكاراً للواقع برمته، وتغليباً لِمَا هو متخيل. باختصار يصير ما قاله ماركس عن «محكمة التاريخ» وضرورة الخضوع لأحكامها غير ذي موضوع.
لكأن الحزب الشيوعي شاخ. شاخت أدواته الفكرية والتنظيمية. تلاشت فعاليته. انحسرت قاعدته التمثيلية إلى درجة غير مسبوقة. اتسعت الهوة الموضوعية الفاصلة ما بين فكره والحقل الذي ينهل منه الفكر مادته، أي فكر، والتي يصوغ منها خياراته وسياساته التي يتحدد بها مصير بلد، ومصير شعب.
بات فكره ذا صلة أكثر بالماضي، بما غَبَرَ من الزمن فحسب. وصارت علاقته بالحاضر ذات طبيعة رومانسية، مغرقة في الطوباوية التي لا تحيل إلى مستقبل وردي، بحيث تصير أداة تحفيز، بل إلى الماضي السحيق بحيث تحبس العقل في أطر تثبيط العزائــم والإيغال في القنوط والعجز عن الفعل الذي لا تنفيه اللفظية الشعــارية ذات النبرة العالية، بل تؤكده وتعيد تأكيده كل يوم. أي أن الحزب المعوّل عليه من عموم اللبنانيين أن ينهض بأعباء ضخ الأمل في عروق البلد، صار مفاعل يأس بامتياز. مفاعل يولد يأساً لا متناهياً من إمكان أن يجتاز هو (الحزب واليسار معاً) أو البلد أزمتيهما المتداخلتين والمتشابكتين في غالبية أوجههما. أو لعلنا نقول بأن وضع اللبنات الأولى لحل الأزمة الأولى، هو الشرط الأساس لتعبيد الطريق أمام وضع أزمتنا الكيانية والنظامية على سكة الحل. فاليسار هو المرشح الوحيد اليوم، حتى لا نقول الأوحد، لاجتراح حلول لأزمات البلد ولو على المدى الطويل.
بيد أن هذا الكلام يبقى في أي حال مجرد وجهة نظر، تنتظر أن ترفدها قواها المادية والاجتماعية الغائبة راهناً، بصورة فاقعة، بمسوغاتها الوجودية ولو بيولوجياً.
هكذا إذاً يغدو حضور اليسار ممثلاً بالحزب الشيوعي وسائر الهوامش الأخرى مجرد «إثبات حضور» صوري، غير ذي شأن في المشهد السياسي اللبناني، وغير ذي أثر في شيء. حضور يعاني من انقطاع غير مبرر عن «ثورات» العصر. ما يعوّق الاستجابة لتحدياته وشجونه وهمومه، أفكرية كانت، أم سياسية أو اقتصادية واجتماعية وثقافـية وعلمية، إلى غير ذلك من المضامير والحقول الابستـمولوجية الحديثة والمستجدة. فتغدو وظيفته تشبثاً أعمى بقشة الخلاص الأخيرة حيال أمواج عاتية تجتاح بنيانه وتهدّه هداً. تشبثاً مخنوقاً بالحنين إلى ماض غابر بأمجاده وصوره الوردية، حيث كانت الرايات ترفرف فوق كل الساحات، تزحف على كل الساحات فتملأها ضجيجاً وصخباً. كما تنحو وظيفة هذا اليسار، أكثر فأكثر، منحى البكاء على الأطلال في كل ذكرى. أو نبرة عالية مهدّدة، تزين لصاحبها أن ضمور الدور، وخفوت بريقه، إنما صخب، فيقيم الدنيا ولا يقعدها، ظناً منه أن صوته العالي يعوض عن نقص، وما كان علو الصوت يوماً بتعويض عن شيء!
قصارى القول إن الصوت العالي إنما يمنع صاحبه من الالتفات حتى إلى حقيقة أن الدنيا ما زالت هي هي، قبل كلامه وبعده. فيروح يتخيل زلازل وبراكين تنفجر من حوله، بفعل نبرته، غير دار بأن الصور إياها من بنات خياله لا أكثر ولا أقل.
لكن، أياً ما يكن الأمر، يبدو جلياً اليوم أن هياكل اليسار التنظيمية منخورة بسوس الزمن، كأنها تحاكي الوهن الذي يعتري من هم في مثل سنه. كأنما جذعها التوى واعوج، وما عاد قادراً على الاستواء، فزاغت الرؤية أمامه، حتى ما عاد قادراً على التمييز والتفريق بين الغث والسمين.
طبعاً قد يعترض البعض قائلاًَ إن «يسارنا» ما عاد يحبس خطابه في إطار أدبياته العتيقة التي كانت تلاقي رواجاً كبيراً في الماضي، خصوصاً حيث تتنبأ تلك الأدبيات المرفقة بتحليلات وتعليلات معمقة بأن الانتقال إلى الاشتراكية سمة العصر. ذلك صحيح لولا أنه تبين لاحقاً وبالعين المجردة أن العكس كان الصحيح. فغدا لسان حاله مذ ذاك يرد أسباب الإخفاقات والخيبات وانطفاء الأحلام إلى مؤامرات العالم الامبريالي بأسره. والأخير اجتمع على إسقاط التجربة الاشتراكية الجنينية التي جاءت كرد فعل شامل على الرأسمالية بجوانبها الوحشية كافة.
بعدها، يعود البعض ذاك ليكابر من جديد فيـقول: إن الاشتراكية وبمقتضى منطق التاريخ ذاته وسيرورته الحتمية ستعود إلى القيام من جديد، لا محـالة. وهو تعلـيل يتجـاهل تجـاهلاً تاماً أن التجربة لو توفرت لها أسباب البقاء، لما كـان بمقـدور العالـم أجمع أن ينال منها ومن ديمومتها.
القيام من الموت، إذن هو الحل، بنظر أولئك. والنضال يكون في انتظار عودة الميت والهتاف له لا أكثر ولا أقل. عندها، وعندها فقط، يتشكل الرميم حزباً ناشطاً وفاعلاً يحمل فوق ظهره هم التغيير، ويخلق أدوات نضاله وينهض بأثقال تحقيق برنامجه الجذري مهما كانت الأعباء مكلفة ومنهكة.
بذا لا يعود الخوف على الاشتراكية واليسار الحامل للوائها، وعلى اندثارهما كخيار فكري ونضالي في آن، إنما يضحي الخوف كل الخوف من أن لا يبقى ثمة اشتراكيون. كما لو أن أحدهما ينوجد من دون الآخر، فيما التجربة أثبتت وتثبت يوماً اثر يوم أنهما صنوان لا يفترقان.
وفي نظر هؤلاء، تصير وظيفة الاشتراكيين، في حال وُجدوا، لا تتعدى دور «الداية» التي تساهم في عملية الولادة من دون أن تتدخل في طبيعة المولود. فللتاريخ مساره المحتوم الذي لن يعطله أحد، ولن تقف يد أمام ترسيمته الحتمية التي أقرها ماركس ويقرها الواقع. ولو أن الأخير جاءت أغلب وقائعه منافية للنبوءة الماركسية نفياناً قاطعاً، وليس العكـس كما يفترض البعض. فلا الاستقطاب الطبقي الحاد، الذي صيّره ماركس في أواخر القرن التاسع عشر مقدمة للثورة الكبرى ولانتصار طبقة البروليتاريا على البرجوازية حصل. ولا الرأسمالية التي حلّل ماركس «أواليات عمل نمط إنتاجها» وعين حدودها التاريخية انهارت! غير أن تتبّع مسار الواقع التاريخي ينبئ بأن النظام الرأسمالي العالمي خضع لتعديلات بنيوية ولتغييرات جذرية في بنيته وطبيعة عمله بفضل النضال اليساري المديد. فما هي هذه التعديلات وما طبيعة التغييرات التي اعترت بنية النظام وما هي حدودها؟
أغلب الظن أن «أهل» اليسار السائد لا يطلبون مراجعة نقدية لتاريخهم المديد وتجربتهم العالمية بجوانبهما كافة، سواء منها تلك المضيئة أو الملأى بالإخفاقات. مراجعة يستقون منها العبر والدروس، بحيث تكون فاتحة وتوطئة لتجربة جديدة تتجاوز على ما سبق من أخطاء وتشتق لنفسها وجهة أخرى في الفكر والممارسة تبني خطها واتجاهها العام على أساس رؤية وطنية متكاملة لمصالح البلد. رؤية تضع ديمقراطيته وعلمانيته المفتوحتين على أفق العدالة على رأس سلم أولوياتها النضالية. كما تدرج ذلك كلّه في إطار من الاستقلالية التامة قولاً وفعلاً عن سائر الكتل والعصبيات الطائفية. خط فكري وسياسي يكون قادراً على تمييز العدو القومي، وهو بداهة إسرائيل، من الصديق الشره. لكنه، في الوقت عينه، يمتلك الجرأة أيضاً على تعيين طاقة البلد وموقعه الإقليمي المنحاز عربياً بطبيعة الحال، لكن المحدودة قدرته الفردية على المواجهة عسكرياً. ذلك كلّه طبعاً من دون الانزلاق صوب اعتناق دعوات التزام الحياد في الصراع العربي الإسرائيلي، اللا مفهومة والتي لا مبرر لها في آن. ولعل أرشيف البلد «الطازج» يشكل إثباتاً دامغاً وحيّاً على أن الأكلاف الوطنية لتلك الدعوات، شأنها شأن المواجهة المفتوحة، تتخطى قدرته على الاحتمال وتؤسس لاهتزازات كيانية لا أول لها ولا آخر.
ذاك من جهة. أما من جهة ثانية، فما عاد ينفع اليوم وفي ظل التراجع الكبير في دور اليسار محلياً وإقليمياً ودولياً أن يستمر الحوار بين أطراف اليسار بمنوعاتها كافة محـكوماً بالتراشق بالتهم والتقاذف باقتراف الخطايا وإطلاق الأحكام المطلقة من قبيل الخروج على النص الماركسي الأصلي، أو الانحراف عن البوصلة الماركسية، وما تنطوي عليه من جدول إرشادي. هذا علاوة على الاتهامات البائدة التي كان يكيلها كل طرف للآخر بالتحريفية والانتهازية، أو الدعوات الستينية للعودة إلى النص الماركسي الأصلي واستنباط آليات عمل واجتهادات جديدة عبر إعادة قراءة النص قراءة خلاقة تأخذ الوقائع والمتغيرات بعين الاعتبار. وهي كلها محاولات عقيمة آلت إلى مساع بائسة أرادت وما تزال تغليب النص على الواقع لا العكس.. لذا باءت جميعها بالفشل وتربعت على سدة الهامش السياسي والاجتماعي أينما حلّت.
مبرر الكلام أعلاه لا نعي اليسار أو الحزب الشيوعي، صاحب التاريخ الذي على علله كلها وإنجازاته العديدة في آن، يبز الجماعات الطائفية جميعها بلا استثناء. يبزها في تواريخها الحربية التي شتتت البلد وأحالته شظايا أهلية متفرقة، وما تزال تعبث فيه تقسيماً وتفتيتاً وتفكيكاً لعناصر التوحيد فيه إلى عناصرها الأولى. هذا في حين أن تاريخ الحزب ومعه سائر اليسار، يكاد يختزل النضال الوطني العام من أجل ترسيخ وتكريس المساحة المشتركة بين اللبنانيين.
بيد أن هذا الكلام يرمي إلى العودة بالحزب وبسائر قوى اليسار إلى البدايات الأولى. إلى الأصل الأول والمقدمات الموضوعية التي أسست لانبثاق اليسار كخيار فكري واجتماعي ونضالي أولاً وأساساً. الأصل الذي جعل من النزوع الدائم إلى التغيير الهم الأساس، تغيير الحاضر نحو مستقبل أفضل. العودة إلى الأصل، لا على الطريقة الأصولية، بل إلى الأصل بما انطوى عليه من رفض حاسم لتقديم السياسة على الأخلاق، حيث وقف اليسار (وحده) صارخاً وبأعلى النبرات: أن السياسة إنما تبنى على الأخلاق وعلى الانحياز الاجتماعي الصريح للشرائح المسحوقة والمهمشة. وعلى الانحياز للديموقراطية، التي وجهها الآخر العلمانية، بحيث تشكل الأخيرة الشرط الموضوعي للمساواة بين المواطنين أمام الدولة والقانون. الشرط الموضوعي لنبذ كل عناصر التفرقة بينهم على أساس الدين، أو اللون أو الجنس أو العرق الخ... هذا في حين شكلت الديموقراطية تاريخياً، وما تزال تشكل، المعبر الإلزامي إلى مزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية، التي تنتقل من طور أدنى إلى طور أعلى عبر النضالات الشاقة والعسيرة والتضحيات الجسام. لا عبر الخطب الرنانة ولا حتى من خلال النظريات المملة!
على قوى اليسار أن تعرف وتفهم أن التاريخ إنما يقوم على الحرية، وهو لا يفهم منطق الحتميات. ففي التاريخ كل شيء نسبي. ومن يرتئي «الوقوف الدائم على رأسه عوض الوقوف على قدميه»، سيجد نفسه في خاتمة المطاف عارياً، لا «مظلة» تحميه، ولا مكان له تحت شمس التاريخ ولا حتى في ظلاله!..