السفير - ... وأيضاً العراق «إلى أين»؟ المسيحيون إلى نهايتهم والمسلمون إلى فتنتهم
الخميس 4-11-2010
... وأيضاً العراق «إلى أين»؟ المسيحيون إلى نهايتهم والمسلمون إلى فتنتهم
نصري الصايغ
«فمن سوف يرفع أصواتنا
إلى مطر يابس في الغيوم؟
ومن سيغسل الضوء من بعدنا
ومن سوف يسكن معبدنا بعدنا؟
من سيحفظ عاداتنا من الصخب المعدني»
محمود درويش
Iـ شكراً بالثلاث!
«شكراً أميركا»... رددها ثلاث مرات، بالعربية والفرنسية والانكليزية. كان الرجل الناجي من معمودية الدم في كنيسة «سيدة النجاة» (الهلاك ببراءة الصلاة) متشحاً بدمه ودم المصلين... قال شكراً أميركا، كأنه يشتمها. يصوّب بإصبعه إلى ضميرها الميت، وإلى أبواب الجحيم التي فتحتها، لتستقر في العراق.
شكراً... كأنها اللعنة. هل كان يبالغ؟ هل كانت التهمة المصوّبة حقيقية؟ هل كان الآخرون أبرياء من دمه ودم المؤمنين بالمسيح؟
القتلة كانوا في داخل الكنيسة... حاول والد إقناع المسلّحين بالأحقاد المزمنة، والعقائد السفاكة، والقضايا المهلكة، والسماوات القذرة، والفتاوى الانتحارية، أن يفرج عن النساء والأطفال في الكنيسة. أجابه المسلّح برشق ناري أودى بعائلته. امرأة استطاعت أن تنقذ ابنتها من المقتلة، وفي اللحظة الأخيرة، انتزعها الرصاص و... لم يتيسّر للكاهن أن يرسم إشارة الصليب، لأنها كفر وزندقة، فطاله رشق آخر مزّقه وجعله قرباناً ذبيحاً.
ومع ذلك، فإن الرجل الناجي، وقف أمام الكاميرا، بعد عملية «الإنقاذ» العسكرية، التي فتكت بأكثر من خمسين مؤمناً، ليتهم أميركا.
هل كان على صواب؟ أليست «القاعدة» مقتحمة معقلاً صليبياً كافراً، يستحق الدينونة؟ أليست القوى العسكرية المعتزة بالقتل العشوائي؟ أليست آلاف الأسباب الأخرى؟
تلك مسألة تحتاج إلى صفاء وتحليل، والرجل الناجي، لم يرَ إلا أميركا ليتهمها. اتهام لا يشفي، مع أنه دقيق وبعيد الغور.
IIـ المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام؟
يقول المونسنيور بيّوس كاشا. «لم يعد لنا مكان هنا».. مريع حقاً أن يفقد الإنسان إيمانه بالحياة في أرضه وبيته ومعبده. مريع أن يقفز إلى استنتاج طبيعي وبديهي: «لم يعد لنا وطن هنا. ماذا فعلنا لهم؟ لقد قتلوا أبرياء» (ومتى قتلوا مجرمين ومذنبين؟ لا دليل على فعل حميد واحد).. «يريدون منا أن نرحل... سنرحل». (أيها الهنود الحمر العرب، صليبكم ليس كنيستكم، بل منافيكم البعيدة).
بأسف دامع يقول الأسقف البغدادي «كلنا سنرحل من هنا. ننتظر انتهاء العام الدراسي». سيكون الرحيل اقتلاعاً. فمن أجل 60 ألف سرياني، لم يبق بعد «حروب التكفير والتهجير والتدمير» غير عشرين ألفاً.
يدل الرجل الناجي على آية مكتوبة، نقشت في صدر الكاتدرائية: «المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام»، وقد مزقها الرصاص، فتناثرت بعض حروفها مع نتف من أجساد المصلين، الذين أتموا ركعتهم الأخيرة، عندما تناولوا طعم الأبدية.
غير أن هذا المشهد المريع، ليس اختصاصاً كنسياً. فالعراق غادر مستقبله من زمن قديم، واستحضر حاضره الجهنمي، بعد إقفال جحيم صدام حسين، الذي حوّل العراق إلى حقول تدريب للتعذيب. استحضر حاضره، وأفلت الاحتلال ذئابه المفترسة، بين الطوائف والمذاهب، فأضاف إلى عقائدها الرثة، سعاراً أميركياً، وجنوناً انتقامياً، حوّل معابد الشيعة إلى كربلاء فائضة الدموع، وجعل من جوامع السّنة مقاصل لقاصديها للصلاة والدعاء.
ولقد بكى الشيعة قتلاهم في الطرق وفي البيوت وفي الحسينيات. ولقد بكى السّنة أبناءهم في الزوايا والشوارع وأماكن العبادة. أما المسيحيون، فلم يبق لهم غير الفزع والهلع ونبوءة الرحيل... «هيا اخرجوا من فردوس العراق الدامي، إلى جحيم المنافي المسالمة».
فما أفظع هذه الكارثة!أين أنت يا ارميا؟ وماذا تنفع مراثيك؟
IIIـ الإسلام الأميركي
تعليقاً على ما يسفك في العراق وما ينفق من كلام، لا مفر من العودة إلى بعض العقلانية.
إن اتهام أميركا حقيقي، ولكنها ليست الوحيدة. أميركا تدير الحروب في العالم. حوّلت البشرية إلى قبضة من العنف. اقتلعت من المسكونة المعنى الأخلاقي لحضور البشر. صار البشر أرقاماً وأعراقاً وطوائف ومذاهب وأجراء وعقارات ومنابع نفط، و«قوّاد» أسواق، ومقاومي معارف ومصارف... العالم المصنوع أميركياً، لا يتمتع بخصلة براءة. الإنسانية فقدت طفولتها.
كل شيء في العالم يصلح لأن يكون وقوداً لحروبها... الدين، أي دين، يصلح لأن يكون خندقاً أو معسكراً أو طليعة أمامية، في حروبها. تستطيع أن توظف المسلمين ضد المسلمين وضد البوذيين وضد المسيحيين... لها معجزة توظيف الكاثوليك ضد لينين في بولونيا، ثم أن تدّعي أنها حامية المسلمين في البوسنة والهرسك ثم في كوسوفو، وتتبرع بدك يوغوسلافيا (باسم صربيا) جواً، لأكثر من شهرين، فتسجد الأرثوذوكسية على قدميها، وتتلو حفل ندامة صراطها المستقيم، على ضفاف الدانوب.
أميركا ليست بريئة من دمنا، ودماء سوانا. غير أن أبرز ما في المسألة، أنها تنظم القتل من بعيد، ثم تنكفئ، تاركة فرق موتها ومنظمات القتل، (فضائح ويكيليكس) لتمعن في العالم خراباً...
أميركا تتصرف على أن كل الأديان في خدمتها، استخدمت الإسلام في أفغانستان ضد السوفيات، وتقيم فصائل حراسة دبلوماسية وأمنية، لأنظمة إسلامية استبدادية متخلفة، جل وظائفها أن ترضي الرب الكوني الجديد وكعبته الحالية في نيويورك.
أميركا تتصرف كأنها إله أوحد... وعلى الآلهة الآخرين أن يكونوا عبيداً لديها.
أما كيف تستخدم الأديان والطوائف والأعراق، فلأننا، نحن كذلك. لقد تطورنا وفق نظام معكوس، من كوننا شعوباً، أو شعب واحد، إلى قبائل بلا فضائل، وإلى ديانات بلا إيمانات، وإلى طوائف بلا معارف، وإلى مذاهب بلا عواقب، وإلى أقوام تنعقد أواصرها على الانتقام.
نحن، لا أميركا، صنعنا ثقافة، تجعل من مواطني أمتنا، نعاجاً تقاد إلى المسلخ، أو نعاجاً، وقائدها قاتلها.
ثقافة الطوائف تنجب مناحات. الطائفية والمذهبية والعرقية، مقاتل للأمة ومطاعن للدولة ومراق إلى السلطة بالدم... ثقافة الانغلاق، تؤكد على نفي الآخر. والجهل بالآخر عداء له، وتجهيله إعدام له.
المأساة، ليست اختصاصاً ينال منه المسيحيون أنصبة الدم. المأساة هذه ينال منها الجميع. ألم نعرف في لبنان، كيف حوّلنا قرانا في الجبل، إلى العصر الحجري! (والتعبير للفنان التشكيلي جميل ملاعب). ألم نعرف في لبنان مجازر؟ الدامور نموذجا، مخيم تل الزعتر أسلوبا، القارة اللبنانية المتمذهبة، كانت مدار سفك وقتل همجيين، على امتداد صبرا وشاتيلا، وعلى مساحة 10452 كلم2؟
هذا من صنعنا. عندما استبدلنا الثقافة القومية الجامعة، وتخلّينا عن إرث العروبة النهضوية، دخلنا نفق التجزئة، وشحذنا السكاكين كي نقيم أوطاننا على حدود السيف وعلى تخوم الهاوية... وها نحن في الجحيم.
أميركا مذنبة... ونحن لسنا أبرياء. إننا نقدم لها أجسادنا وعقائدنا ومذاهبنا وأدياننا، وقوداً... فاشتعلي يا أمة الله، وتحوّلي إلى جهنم.
وهكذا، لا نستطيع أن ندعي أن العنف يزورنا من الخارج فقط. إننا نسهر على تربيته. العنف من رحم ثقافاتنا. العنف من جماع المقدس الإلهي بالمدنس اللاأخلاقي... نحن أرباب هذا العنف، وأميركا تديره.
IVـ مواسم النهايات وفصول الرحيل
غداً، أو قريباً جداً، نحتفل بالنهايات. على طريقة عبد الرحمن منيف في رواياته، «أرض السواد»، و«النهايات». زمننا الذي شهدنا إرهاصاته في القرن العشرين، هو زمن النهايات. فهل نشهد قريباً، «نهاية المسيحيين في الشرق»؟ هل يكون لهؤلاء، مصير الهنود الحمر؟ هل نشهد نهاية فلسطين، فيكون هؤلاء خدماً في المعبد اليهودي المقام في دولة إسرائيل؟
عصر النهايات إذاً، فهل يكون العرب مؤهلين للزوال، وينتهي عندهم ديوان العرب، لتسود مكانه دواوين الفقهاء، ومدارس التعصب، وسيوف الردة والاجتهاد... هل يصير المتنبي العروبي بتفوق، مرتزقاً عند كوافير الديانات والمذاهب والأعراق؟ هل يخلي العرب، بعروبتهم، لإسلام ومسلمين، لا يجمعهم نص وتفرّق بينهم قمصان عثمان، وأجواء كربلاء وجلجلة فلسطين و«لا قيامة» المسيحيين.
معقول جداً. لن ننقرض كمجموعات بيولوجية. انقراضنا، نتيجة فقداننا لهويتنا. الفرس فرس، بدين أو بدون. الأتراك أتراك، بعدالة وتنمية أم بأتاتورك وعلمانيته الشجاعة أو المفترسة؟ الفرنسيون فرنسيون، بيسار أم بيمين أم بين بين. أما نحن، فمن نحن، غير ما ينتجه الفراش الزوجي، في نظام أبوي، ذكورته ونصابه، رهن المحرضات الخارجية. (يكفي إلى هذا الحد).
إنها النهايات يا عرب، أو، يا من تبقى منكم يا عرب. وبالمناسبة، ظهرت كتب عديدة، تشير إلى النهايات: «نهاية الايديولوجيا» (1960) لدانييل بيل الذي أعلن «نهاية الإنسان». «نهاية الدين ونهاية الله»، لغارودي. و«نهاية الغرب» لشبينغلر ومن بعده فرنسوا هيبسور و«نهاية السلطة» لآلان رونو و«نهاية التاريخ» لفوكوياما.
هذه نهايات فلسفية، تستقرئ حقباً وتضع آفاقاً وحدوداً لعصور وأزمنة. أما نحن، فسيلان لا نهائي في النهايات المسحوقة، سيلان لا إرادي في العنف. السودان ضحية فجة. الصومال مذبحة مزمنة. لبنان على وشك... دائما. (ضع الكلمة المناسبة بعد «على وشك»). العراق ذبيحة ومذبحة، الجزائر لمّا تشف بعد. مصر تتحدث لغة عربية بلسانين: إسلامي وقبطي (ياللعار! أهذه هي مصر؟).
غريب... تعقد ندوات وحلقات دراسية باسم العروبة والإسلام، لمواجهة الهجمة الأميركية على الإسلام. ولا تعقد ندوة لمواجهة هجمات المسلمين على المسلمين والمسلمين على المسيحيين والمسيحيين على المسيحيين.
وليس غريباً أبداً، وسط هذا التوحش الديني، المذهبي، الأقوامي، أن تقتل فلسطين، وأن تنشأ دولة إسرائيل اليهودية.
Vـ اليأس منا...
هل هذا يقودنا إلى اليأس؟
طبعاً. علينا أن نيأس بطريقة فظة في كل ما يمت إلى حاضرنا. وعلينا أن نفتح للتفاؤل أفقاً معرفياً ونضالياً، قوامه: صناعة هوية قومية، ورابطة أساسها، ما فوق الديني والعرقي والإثني. وتطلّع إلى شعب بصفته شعباً واحداً، يمتلك حق الاختلاف في السياسة، لا في الطوائف والوظائف، ويمارس حق الاختلاف في النظرة إلى السلطة، بديموقراطية الشفافية، ويعتنق مبدأ القوة الضرورية لانتصار القضايا الجامعة.
علينا أن نيأس منا، كما هي صورتنا اليوم، وكما هو واقعنا الراهن. علينا أن نقطع حبل الصرة، مع أنظمة الاستبداد والإفساد والتطيف والمتاجرة والنهب. علينا أن لا نلتفت إلى سلطة ودين، وإلى سلطة ومحاصصة. لقد شهدنا أعظم المآسي، من خلال معاشرتنا الوضيعة والنذلة، لأنظمة توظيف الآية، في خدمة الغاية... الدنيئة.
ما أجمل يأسنا هذا... يأسنا منا.
وما أجمل أملنا بنا...
عندها، لن يخرج أحد من معبده شاهراً دمه، ليقول: شكراً أميركا لأنها ذبحتنا بأدواتنا وأدياننا وأشرارنا ومنافقينا.
وإلى أن تحين تلك الساعة... سيحمل كثيرون حقائبهم إلى المنافي، وستستقر حقائب اليهود في أندلس العرب في فلسطين.