الإيمان بفضيلة الحوار
الإيمان بفضيلة الحوار
تعريف الحوار (1)
من أجل تعريف الحوار وتحديد أهميته في مجال الفكر الغربيّ ، نجد من الأفضل أن نلجأ إلى كلمة أوردها فرانـسوا بـيرو F. Perroux ، في المقدّمة التي كتبها للجزء الأول من مؤلفات "كارل ماركس "، المنشورة في منشورات لابلياد :
" يُعتبر الحوارُ ظاهرياً ، وبإيجاز ، كأنّه تبادل الكلام الحرّ والعمل الحرّ . فالكلام المتبادل يحمل الصّور والأفكار ، والآراء والأحكام . وأحد الطرفَين يأخذ المبادرة أو يستردَّها . ولكلّ منهما القدرة والإمكانية على القول وعلى النقض .
" وتجربةُ الحوار تنطلقُ من ينابيعَ في حضارتنا الغربيّة . والحوارُ السقراطيّ هو عمليةٌ ، القصدُ منها اكتشافُ الحقيقة ، عَبْر التناقضات ، في حركة تبادليّة بين الخاص والعام ، المحدود والمجرّد . ففي الحوار اليهوديّ المسيحيّ تبرزُ فكرةُ تبادلِ الكلامِ بين اللا مخلوق والمخلوق . وتتمّ المحاولاتُ الناشطةُ ، العضويّة ، التي تستعملُ النقاشَ الوجاهيّ من أجلِ تكوين مقترحاتٍ صحيحةٍ أو آراءٍ قريبة للحقيقة ، بحضور قاضٍ يحكم على الكاذبين وعلى شهود الزور .
" ومهما نَسِيَ الحوارُ منابعَه في الفكر الغربيّ ، فهو يحتفظ بصفة مميّزة : إنّه لا يهتمّ بفرديْن فقط . إنّه يفترض دائماً حدّاً ثالثاً : قيمة فوق التاريخ : الحقيقة والعدالة مثلاً ، وعنهما ينجم سلوك أخلاقيّ : الحقيقة أو الاستقامة .
" وبصورة مبدئية ، يقتضي الحوارُ أن يكونَ الاتصالُ ممكناً . وعندها تُصبح حيويةُ الحوارِ مضاعفة : إنّه ينطلقُ من عفويّةِ الفكر الذي يقولُ ويناقضُ قولَه ، إنّه يتغذّى من معين القِيَم الذي لا ينضب . فالحوارُ لا يختلط أبداً بالتطبيق العمليّ الذي يتوصّل أن يجعلَ من الحقيقة نقيضَها ، ومن الظلم ، عدالة ."
وشَرْحُ " فرنسوا بيرو " يمكن أن يفسر برأينا كما يلي : إنّ رقيّ الحضارة يتطلب :
ـ القناعة بوجود حقيقة وعدالة أو على الأقل ، وفي جميع الأحوال ، بإمكان الاقتراب من الحقيقة والعدالة.
ـ الإحساس بأنّ البحثَ واكتشافَ الحقيقةِ يتعلقان بصورة رئيسيّة بنوعٍ من تجربةِ المقترحاتِ والأفكارِ الأولى عن طريق مرورها عَبْر عقول متتابعة تعملُ بما لها من ذاتية ، على تنقيتها كلّها أو في جزءٍ منها من الأخطاءِ التي تمتزج بالحقيقة، عند محاولة الوصول إليها لأول مرة.
ـ وأخيراً إنّ النزعةَ إلى الحوار تتطلبُ هذا الاعتقادَ بأنه يوجدُ نوعٌ من التعادلِ الفكريّ بين الناس ، وفي مطلق الأحوالِ ، تتوافرُ فيهم قدرةٌ على المساهمةِ في الحوار . من هنا كان الإيمانُ بفضلِ الحوارِ مرتبطاً بالمعتقدِ الموروثِ وهو الثقة بالإنسان (...).
الحوار في المؤسّسات السياسيّة الغربيّة الكلاسيكيّة
من السهل تتبع آثار الاتجاه نحو الحوار في الحركة الدستوريّة الغربيّة :
أ ـ آليةُ تطور التمثيل السياسيّ يتجهُ بصورة أساسيّة إلى إقامة حوارٍ بين النائب وناخبيه . وفي كلّ البلدان التي يقوم فيها نظام سياسيّ تمثيليّ ، يذهب المنتخبون كلّ أسبوع إلى دوائرهم للاتصال بناخبيهم ، للاستماع إلى شكاواهم ثمّ ليعرضوا عليهم ، بالمقابل ، عملهم السياسيّ ، وعمل الحكومة والمعارضة . وبهذا الشأن ، يُستحسنُ لفتُ النظرِ إلى أفضلية الاقتراعِ الفرديّ على الاقتراع على أساس اللائحة ، لأنّ الأول يقيم علاقاتٍ أضيق بين النائب والناخبين . وكذلك من جهة الحوار بين الممثِّلين والممثَّلين ، تُعتبر فكرة الانتخابات الفرعيّة أفضل من نظام البديل المعيَّن أثناء الانتخابات العامة ، وبذات الوقت الذي يتم فيه تعيين النائب الأصيل .
ب ـ إنّ عقدَ الأحزابِ السياسيّة يساعدُ أيضاً على إقامةِ حوارٍ بين مختلف الوسطاء الموجودين بين السلطة والمواطنين ، حوارٍ من شأنه ، هو أيضاً ، المساعدة على تطويرِ الحريّة السياسيّة. ذلك أنّنا نعلم جميعاً أنّ الحياة السياسيّة في البلدان ذاتِ الحزب الواحدِ تجري لا على أساس الحوار ، بل على أساس التفرّد بالرأي .
ج ـ إنّ الجمعيات البرلمانيّة تعملُ بصورة طبيعيّة ، خصوصاً في البلدان المتعدّدة الأحزاب ، وفقاً لتقنية الحوار . والمناقشة التي هي أسلوبُ التعبير في المجالسِ النيابيّة ، هي إجراءٌ يتميّز أساساً بتنظيم الحوار بين ممثلي مختلف الأحزابِ السياسيّة ، بين الأكثريّة والمعارضة ، بين ممثلي الحكومة والذين ينتقدونها ، إلخ ...
د ـ وأخـيراً يعمل فصل السلطات على إقـامة حـوارٍ أساسيّ بين السلطات السياسيّة وخصوصاً بين السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة . وليس من الممكن التشديد أكثر على هذا الوجه من المؤسّسات السياسيّة الغربيّة ، إلا أنّه يمكن القول ، بوجه عام ، إنّ القانون الدستوريّ الكلاسيكيّ، هو ، في قسمٍ كبيرٍ منه ، تجسيدٌ لرقيّ الحوار . [ ... ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1) نصّ مقتطف من كتاب : أندريه هوريو (André Hauriou)، القانون الدّستوريّ والمؤسّسات السياسيّة، (الترجمة العربيّة )، الجزء الأول ، الأهليّة للنشر والتوزيع ، بيروت ، ط 2 ، 1977 ، ص 58 ـ 60.