مفهوم الحوار والحوار الديمقراطيّ -الملتقى الثقافيّ الأول - تعقيب
المنـاقـشة العـامة
التـعـقيـب ( )
الدكتور أنطوان سعد :
[...] إنّ تعقيبي على محاضرة الدكتور مصطفى دندشلي إنّما هو إلحاح عليه أن يُعمد إلى نشر هذه الدراسة وتعميمها على الصحف وعلى المثقّفين كافة لأنّها بنظري ، وثيقة أساسيّة صالحة جداً للانطلاق في كلّ عمل حواريّ يتمّ في هذا الوطن .
أما بعد فإنّ مداخلتي الآن ليست تعقيباً بالمعنى العلميّ والدقيق للكلمة ... والمحاضرة في كلّ حال ، كافية وشاملة تغطّي كلّ المعاني التي يمكن أن نفكر فيها لتحديد الحوار وتحديد شروطه وطريقة تطبيقه في حياتنا الوطنيّة... سأدلي إذن ببعض الخواطر التي أوحتها إليّ هذه الكلمة العميقة، والتي أخذها من تجربتي المتواضعة في العمل الحواريّ على مدى الحرب اللبنانيّة الطويلة .
لن أتحدّث عن الديمقراطيّة ، ولا عن الحوار . فأنا أيضاً أخشى ، كما يخشى الصديق الدكتور مصطفى دندشلي ، والصديق الدكتور أنطوان مسرّة، أخشى على الحوار من أصحاب الحوار أنفسهم . أخشى على الحوار من المتحاورين . أخشى على الحوار من الشكليّات التي تسبقه أو ترافقه أو تنتج عنه . ولن أتحدّث عن الديمقراطيّة كمحاضرٍ أو أكاديميّ ، لأنّ ثمّة تعابير ومفرداتٍ في لبنان أصبحت من كثرة التداول، إلى حدٍّ ما ، مشوّهة. ومن كثرة اللجوء إليها ، في وقت الحشرة، أصبحت هذه التعابير ، عن سوء نيّة أم عن حسن نيّة ، غير فعّالة ، وغير قادرة على تأدية المعنى الذي نريده لها في لبنان... لذلك أصبح لا بدّ من " إعادة تأهيل " هذه العبارات من جديد ، حتى نعطيها من جديد أيضاً الزخم الضروريّ ، ونحمّلها ما يجب أن تحمله من هذه العبارات ، من هذه المعاني : كالديمقراطيّة والحوار والحريّة والثقافة وما إلى غير ذلك .
إذن ، لن يكون الحديث عن الديمقراطيّة ، بمفاهيمها وتحديداتها وشروطها ، ولا عن الحوار... ولكن حسبي أن ألاحظ أننا في لبنان مُقوقعون ... دكتور مسرّة يقول : مَبَرْمَجون ، حسب لغة الكمبيوتر . أي أنّنا قد دخلنا ببرنامج معيّن ... نحن فعلاً مَبَرْمَجون ، مقوقعون في كلمات معيّنة، في عبارات معيّنة ، في مواقف معيّنة . ويصبح خروجنا منها شبه مستحيل . وتصبح العبارات هي المشكلة، بدل أن تكون هي الحلّ وتكاد تصبح الكلمة هي المفتاح الذي نستعمله لنسكّر ، ولنغلق الباب على فكرتنا ، على موقفنا . وغالباً ما نجعل الفكرة على قياسنا ، والقفل على قياسنا أيضاً . وإنّنا نريد الحوار والديمقراطيّة على قياس مفهوم ، بل وغايات كلّ واحد منا . وكم من الجرائم ارتكبت باسم الديمقراطيّة ، والآن في لبنان ، باسم الحوار ، وباسم الحريّة ... ؟!!…
أنا لا أعني أنّ الديمقراطيّة يجب أن تكون خارجاً عن كلّ واحد منا . بالعكس ، أنا أرى أن الديمقراطيّة ليست علماً نظرياً ، أو مثالياً ، نستورده غالباً من دراسات خارجيّة . بل هي نابعة من ذواتنا ، من الذات الشخصيّة أولاً ، ومن الذات الوطنيّة . وكلّ إنسان مخلوق ديمقراطيّ ، طالما أنّه مخلوق حراً. وفق شرعة حقوق الإنسان هو إذن مخلوق ديمقراطيّ ، لأنّ الديمقراطيّة والحريّة، فعلاً، أمران متلازمان ، لا ينفصلان . وكل مواطن يجب أن يصنع أو بالأحرى أن ينمّي هذه الديمقراطيّة التي وُجدت معه . وكلّ شعب يجب أن يصنع ديمقراطيّته . والديمقراطيّة هي تتجوهر ، أو تتأصل في الممارسات اليوميّة ، في ممارسات الحياة البسيطة ، في الممارسات الحواريّة التي تكلم عنها رئيس الجلسة، بين التاجر والبائع ، بين الجار والجار، بين الفلاح والفلاح… بين المثقّف والمثقّف… هذه الممارسات الحواريّة البسيطة هي التي تؤصل الديمقراطيّة وهي التي تعطيها البعد الذي نفهمه أو نريده لها ...
الديمقراطيّة في لبنان هي ديمقراطيّة العيش المشترك . وإن إرادة العيش المشترك هي المعيار الأساسيّ لقياس الديمقراطيّة في لبنان . وإنّ كلّ ديمقراطيّة لا تُقاس بهذا المعيار هي ديمقراطيّة " هوائيّة "، نظريّة .. فأنا ديمقراطيّ بقدر ما أحترم الآخر ، بقدر ما أؤمن بالعيش معه . وهذا ما ركّز عليه المحاضر . ونحن مجموعة لبنانيّة ديمقراطيّة، بقدر ما فينا احترام لبعضنا البعض بقدر ما فينا احترام لأشخاصنا ، لأفكارنا ، ولممارساتنا المشتركة .
والديمقراطية ليست هي حكم الشعب ، بقدر ما هي امتحان الشعب . يُمتحن الشعب إذا كان جديراً بالديمقراطيّة ، إذا كان جديراً بأن يقول كلمته بأن يختار ممثليه، بأن يصنع قراره ، بأن يراقب حكامه ، بأن يعيش معاً ... وكم من الشعوب سقطت في هذه الامتحانات ، في هذه " الانتخابات "، أو في هذا الخيارات . وكم من الشعوب أرهقتها الديمقراطيّة ، لأنّ الديمقراطيّة ، بقدر ما هي بسيطة بساطة الحياة ذاتها : حواريّة يوميّة، بقدر ما هي متعبة ومتطلبة، ومسؤولة. لا أدري إذا كانت عبارة الحوار الديمقراطيّ ، بمعنى ما ، هي في موقعها الدقيق . لأني لا أرى حواراً إلاّ ديمقراطيّ . ولا ديمقراطيةّ في لبنان ، على كلّ حال ، إلاّ ديمقراطيّة الحوار . ولنا من "ديمقراطيّة " الحرب ، النتائج التي نعرفها جميعاً ، والتي علمتنا أو التي يجب أن تعلمنا دروساً وعِبَر لأجيال وأجيال . الديمقراطيّة والحوار من ذات الأمّ ، من الحريّة . ولأنّ الحريّة مسؤوليّة ، كما قال المحاضر ، فالديمقراطيّة هي أيضاً مسؤوليّة . والحوار كذلك مسؤوليّة . والديمقراطيّة والحوار هما في لبنان متلازمان ـ كما قلت ـ إلى حدّ الاتحاد أحياناً ، حيث لا نتصوّر ديمقراطية لا تحاور ، أو ديمقراطيّة لا تستمع للآخر ، أو لا تربأ للآخر، أياً كان هذا الآخر ، ومهما كان شأن هذا الآخر … ولا نتصوّر حواراً إلاّ ديمقراطياً، أي محترماً للآخر، مؤمناً بحق الاختلاف، كما يقولون ، لفهم الآخر كما هو ، كما أضاف المحاضر أيضاً .
الحوار الديمقراطيّ ، أيّها الأخوة ، هو تأكيد لمعنى لبنان . لبنان الذي كان والذي يجب أن يستمر بهذا المفهوم . لأنّ لا مكان للبنان خارج هذا المعنى . ولا نفهم الديمقراطيّة إلاّ حواريّة ، ائتلافيّة . أنا هنا لا أحدّد المفاهيم العلميّة للديمقراطيّة ، إذا كنا مع الأكثريّة اليعقوبيةّ ، أو مع الأكثريّة العدديّة ، أو مع الأكثرية التعدّديّة .. أتخطى كلّ هذه التحديدات ، وهذه المتطلبات السياسيّة أو غير السياسيّة ، لأقول : أنا مع ديمقراطيّة الإنسان . الديمقراطيّة التي تؤمن بالإنسان ، كقيمة بحدّ ذاتها ، والتي تؤمن بالمواطن كعنصر أساسيّ في الوطن، والتي تؤمن بالحريّة كشرط لوجود المواطنة الحقّة، وكقيمة حضاريّة .. ما يهمّني بالنسبة إليّ هو الإنسان ، الإنسان الذي وُلد بقلب الحريّة . وإذا ما أخذنا من الإنسان هذه الحريّة ، وإذا ما أخذنا من الإنسان حقوقه المعترف بها دولياً ، والمعترف بها طبيعياً ، والتي أكّدتْها على مدى الأجيال الثورات ، كالثورة الفرنسيّة مثلاً ... إنّ هذه الحقوق هي الأساس للديمقراطيّة وهي التي تهمّني بالدرجة الأولى والأخيرة .
كذلك بالنسبة للحوار ، فأنا أهتمّ بصورة أكيدة بالحوار بين الطوائف وبين العقائد ، أهتم بالحوار بين مختلف التيارات الفكريّة والسياسيّة والدينيّة في لبنان ، ولكن أهتمّ أولاً وأساساً بالحوار بين الإنسان وذاته ، إذا كان الإنسان فعلاً يؤكّد ذاته ... كما جاء ذلك في حديث الدكتور مصطفى ، إذا كان في ذلك توكيد للذات . إذا كان الإنسان يؤمن بذاته كقوّة صالحة لمحاورة الآخر . إذا كان الإنسان يعترف بما يمكن أن يؤدّيه من خدمات حواريّة ، من قِيَم حواريّة ... إذن ، أنا أؤمن بالإنسان أولاً بحواره مع ذاته ، باعترافه ، بإعادة نظره دائماً وباستمرار ، وأؤمن به في حواره مع الآخر ، مع الإنسان الآخر . هذا الحوار هو الأساس . وهو الذي ينطلق منه كلّ حوار لاحق . نحن نتحاور بين دينين : هذا ليس مطروحاً ، طالما أن الدينين مؤمنان بإله واحد . ونحن نتحاور بين تيارين سياسيّين ، هذا ليس مطروحاً ، بين المثقّفين على الأقل ، طالما أن المثقّفين مؤمنون بوطن واحد. نحن نتحاور من أجل قِيَم أضعناها خلال الحرب، ونضيعها كلّ يوم في ممارساتٍ شائنة، قد تعترضنا في حياتنا اليوميّة . نحن نتحاور انطلاقاً من أدياننا ، انطلاقاً من إيماننا بالإله الواحد ، من إيماننا بالكتب السماويّة ، بالقِيَم التي أوحت بها إلينا أدياننا ، انطلاقاً من إيماننا بالوطن الواحد ، لنتحاور من أجل إنسان حرّ ، من أجل حقوق للإنسان التي أخشى أن تضيع في زحمة هذا العالم ...
الحركة التي نحن بصدد تأسيسها تحمل همّ الإنسان وتعمل على زرع الحوار في قلب كلّ إنسان ، على تنشيط الحوار أولاً بين اللبنانيّين ، بين البسطاء من الناس ، حتى تشجّع عمليّة حوار الحياة ، حتى تُثقف هذا الحوار ، لكي نؤمّن متابعته ، لكي نسهر على حسن قيامه وعلى حسن استمراره ، ولكي نساهم أيضاً في تأهيل مَن هو بحاجة إلى تأهيل ، من أجل مواطنيّة صحيحة .
إن حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، والمؤسّسة اللبنانيّة للسلم الأهلي الدائم والملتقى الثقافيّ وسائر الحركات والمراكز الثقافيّة في لبنان التي تعمل للإنسان ، يجب أن تلتقي في خط واحد. وعملياً أتمنّى لو يجمع بين كل هذه الحركات والمجالس الثقافيّة ، مجلس أعلى ، أو هيئة وطنيّة عليا للحوار تكون مسؤولة عن التنسيق بين كلّ هذه النشاطات الحواريّة التي تتمّ ، وتعطي هذه النشاطات البعد الوطنيّ الذي نريده لها وتؤكد أن لبنان هو أولاً وآخراً وطن الحوار وإذا لم يكن لبنان وطناً للحوار ، فماذا يبقى وماذا نريد بعد لبنان ... ؟!..
الإجـابــة
الدكتور مصطفى دندشلي ... في الحقيقة ، وبعد أن استمعت للتعقيبات والمداخلات القيّمة ، ولوُجهات نظر لها أهميّة معرفيّة حول الحوار ، ازددت اقتناعاً بأهميّة توضيح ، التوضيح العلميّ والمفاهيميّ والمنهجيّ ، لهذا الاصطلاح الذي نستعمله بكثرة دون أن نعطيه حقّه في المضمون ، وفي المعنى ...
إنّني من هؤلاء الأشخاص الذين اهتموا بعملية الحوار بين المثقّفين بصورة خاصة منذ فترة طويلة ، تكاد تصل إلى أكثر من عشر سنوات... ومن خلالها ، كنت أتصوّر بأنّني فهمت فهماً واقعياً وحقيقياً معنى الحوار ، ومفهوم الحوار وشروط الحوار ، وأهداف الحوار... وعندما فكرنا في حركة الحوار الديمقراطيّ ، من خلال اللَجنة التحضيريّة لهذا الملتقى الثقافيّ ، أن نبتدئ جلساتنا الأولى بعقد هذه الخلوة الدراسيّة ـ الفكريّة ، لم يكن عبثاً على الإطلاق أو عفوياً اختيارنا مفهومين للمناقشة : مفهوم الحوار والحوار الديمقراطيّ ، ومفهوم الديمقراطيّة … وذلك لسبب أساسيّ وهو أنّنا كحركة ناشئة ، جديدة ، تغييريّة في العمق وفي الأبعاد ، يجب على هذه الحركة ، بادئ ذي بدء ، أن توضّح مفاهيمها ، أن توضّح أفكارها ، أن توضّح أسلوبها في العمل … فهذا منهج في التفكير وفي العمل أساسيّ ، إذا كنّا فعلاً نريد أن ننشئ شيئاً جديداً ، أو تياراً ثقافياً مميّزاً ...
فهل وقعنا في وَهْدة التنظير ، وابتعدنا عن الواقع ، فأنا لا أرى ذلك أبداً ... وكنت أظن ، عندما اخترت بحث هذا الموضوع ، إنّني سوف أعالجه وانتهي منه في وقت قصير، بما أنّه موضوع ليس بغريب عني ... ولكن صدقوني إذا قلت إنّني في أثناء البحث والعمل ، وجدته أكثر صعوبة وتشعباً ممّا كنت أتصور ، ذلك إذا أردت أن أعالجه بموضوعيّة وشموليّة وبمنهجيّة علميّة جديدة... فهو يحتاج فعلاً إلى وقفات هادئة علميّة ، شاملة ، وإلى مراجع، وإلى تحليل واقعنا السياسيّ والفكريّ والثقافيّ انطلاقاً من لبنان... ونرى ، على صعيد الدراسات الميدانيّة ، كيف كانت تتمّ عمليات الحوار في ما بيننا. وهل يمكن أن نسميها " علاقات حواريّة " ؟!… وهل هذه التسمية أو هذا الاصطلاح في ظاهره ، ينطبق على المسمّى أو المضمون ..؟!… وهل الدال يتطابق مع المدلول ؟!…
فمن خلال ما سمعت وأسمع ، وجدت أنّ هناك عدم وضوح فكريّ كلّيّ ، وغموض في الاصطلاح بادٍ وواضح كلّ الوضوح … فهنا قلت بيني وبين نفسي بأنه يجب علينا نحن كحركة ثقافيّة وفكريّة جديدة ـ وفعلاً تطمح أن تكون جديدة ومميّزة ، ولِمَ لا !!… ـ أن تتوقف لتوضح هذه المفاهيم ، وهذه المصطلحات . وفي بداية ورقتي التي قرأتها أمامكم ـ وبما أنّها كانت طويلة فقد اختزلت منها مقاطع كثيرة، وكثيرة جداً، حتى أتقيّد بالوقت المعطى لي ـ كنت دائماً أتساءل، لأوضّح مضمون هذا المفهوم لنفسي ، قبل أن أنقله إلى الآخرين ، ما هو الحوار ؟!… هل مثلاً ما يجري من نقاش متعدّد الجوانب ، بين الرجل والمرأة ، في البيت ، ويتعلق بشؤون المنزل والمعيشة ، يمكن أن نسميه حواراً ، حواراً حقيقياً ، بمعناه المنهجيّ والفكريّ والفلسفيّ والسياسيّ ، إلخ..؟... أم أنّنا نطلق عليه ، كما يطلق عليه علماء الاجتماع ، " الفعل الاجتماعيّ " أو " العلاقات الاجتماعيّة " الخاصة والمميّزة والمحدّدة ، التي تنعقد بين الرجل والمرأة ، ضمن إطار العائلة وما يستتبع ذلك من أمور الحياة المنزليّة والمعيشة والتربويّة وخلافه ؟... وما الفرق بين هذه العلاقة الاجتماعيّة العائليّة ، مثلاً ـ والحواريّة ، التواصليّة في الأساس ـ وبين العلاقات " الحواريّة " التي تتمّ على صعيد السياسة ، أو على صعيد الأديان ، أو على صعيد ، كما نقول الآن ، " حوار الحياة " بين الناس من بيع وشراء وتواصل اجتماعيّ على مختلف المستويات ... أو حوار المثقّفين والمفكرين والفلاسفة ؟!… وقد ورد على لسان بعض الأصدقاء أنّه في أثناء الحرب ، كان المتحاربون أو المتقاتلون ، يتحاورون ، كلمة "يتحاورون "، فهل يصح هذا التعبير هنا ؟… وهل هذا هو ما نقصده من الحوار ؟!.. أم أنّنا يمكن أن نسميه بتسميات أخرى تنطبق على هذا النوع من علاقات المتخاصمين ؟… هذه التساؤلات التي أطرحها الآن أمامكم ، كانت قد استجدت في ذهني من خلال تحضيري للورقة التي قدمتها في هذه النّدوة … ويمكنني بهذه المناسبة أيضاً أن أطرح تساؤلاً من وحي الساعة ، مثلاً ، الاجتماعات التي تعقد في الظرف الحالي ، بين العرب وإسرائيل ـ والتي سوف تنتهي حتماً إلى تطبيع العلاقات ـ هل يمكن أن نطلق عليها اسم "حوار "، أم بالأحرى هي مفاوضات بين دول وقوى إقليميّة متخاصمة، كلّ واحدة منها تسعى إلى الدفاع عن مصالحها ، ومن أجل الوصول إلى أهداف محدّدة ، غالباً ما تكون ، في هذه الحالة ، مفروضة بطريقة أو بأخرى ، على هذا الفريق أو ذاك ؟!... بل ، وأكثر تحديداً ، إذا كان هذا حواراً ، فهو حوار بين مَن ومَن ؟... وهل هو يستوفي الشروط والمبادئ والأهداف التي نضعها أو نفهمها نحن من هذا المصطلح ..؟!... وكما أشار الصديق الأستاذ بشارة منسّى إلى أن حزب الكتائب والقوات اللبنانيّة ومنظمة التحرير الفلسطينيّة ، وأحزاب الحركة الوطنيّة، جميعاً ، فقد كانوا جميعاً " يتحاورون " أثناء الحرب ، وأحياناً خلال المعارك المحتدمة ، فهل هذا النوع من الـ marchandage هذا النوع من المساومة بين قوى سياسيّة وعسكريّة متخاصمة ومتناقضة ، نسميه "حواراً " ؟!…
فأنا أرى بأنّه يجب علينا ـ نحن كمثقّفين طليعيّين ـ أن نعطي للكلمات ، وللاصطلاحات معانيها الحقيقيّة ، ومحتواها الصحيح والمتنوّع ، حتى نفهم ، حقيقة ، ما نريد ونوضّح ما نهدف إليه، وكيف يمكن أن نصل إلى تحقيق غاياتنا القريبة أو البعيدة ... ربّما يمكننا أن نسمّي هذه العلاقات أو الاتصالات العلنية أو السريّة ، "مفاوضات " بين سياسيّين أو عسكريّين !!... ولكن كلّنا يعلم بأنّ السياسة هي فنّ الممكن . وسياسة الممكن هنا لها هدف محدّد وهو الوصول إلى السلطة . والوصول إلى السلطة يبرّر الوسائل ، مهما كانت ، كما قال ذلك ، وفي رأيي في هذا المجال على حقّ ، معلم الجميع في هذا الشأن ، مكيافللي ... فهو على هذا الصعيد لم يكن خاطئاً أبداً ، وحروب اللبنانيّين المتتالية والمتنوّعة في ما بينهم ، خير شاهد على ذلك .. فعندما يتفاوض السياسيون ، لا يجوز أن نسمّي هذا حواراً ـ بالمعنى الذي نقصده نحن بتعبير " الحوار " ـ ذلك أنّنا انطلقنا في تعريفنا لهذا المفهوم ـ من جملة ما انطلقنا منه ـ من مبدأ المساواة بين المتحاورين ، واحترام الآخر ... والعلاقات بين السياسيّين ، إذا كانت تفتقد إلى شيء ، فهي أنّها تفتقد إلى الوضوح والصراحة والصدق والمساواة بين المتحاورين ... أو الاعتراف بمصالح الآخر والاعتراف بقيمته ، بحريّته ، بوجوده ... إلى آخر هذه المفاهيم التي ذكرتها في ورقتي .. يُقال على سبيل المثال أيضاً إن اللبنانيّين تحاوروا في " الطائف "، فهل كانت هذه اللقاءات و" الصراعات السياسيّة " و " المعارك الحقوقيّة "، وتداخل مصالح القوى الإقليميّة أو الدوليّة وضغوطاتها المتنوّعة ، هل كانت فعلاً " حواراً "، فأنا أطرح أولاً على نفسي السؤال ، قبل أن أطرحه على أيّ إنسان آخر ؟!… أم أنّه كان " تفاوضياً ـ نزاعياً " بين قوى سياسيّة وعسكريّة وطائفيّة ، موجودة على الساحة اللبنانيّة، ولها مصالح وكلّ فريق في صراع مع الآخر من أجل الحصول على " مكاسب " أكبر ؟!… والأستاذ بشارة منسّى هو أعلم بهذا الشأن ، ومؤلفه في الموضوع شاهد على ما أقول ؟!… وقد طرحت هذا الموضوع في كلمتي، فهل نسمّي هذه اللقاءات بين النواب اللبنانيّين في المملكة العربيّة السعوديّة ، هو حوار بين ممثلي الشعب اللبنانيّ … وتساءلت بيني وبين نفسي ، هل جرت قبلاً دراسة سوسيولوجيّة ـ سياسيّة عن كيفية أو دوافع أو غايات إجراء المفاوضات السياسيّة في الطائف ، ومَن هي القوى السياسيّة التي كانت تتفاوض ، ومصالح مَن كانت تمثّل ، ومَن هي القوى العربيّة التي كان لها التأثير المباشر وما هي الأبعاد ؟… طبعاً نحن نتحدث في هذه الأمور بإطلاق ، دون الدخول في تحليل التفصيلات … والمواقف السياسيّة عندنا هي أقرب إلى ردّات الفعل ، بحسب المتغيرات في موازين القوى والمصالح… لقد أقمنا لقاءات وندوات عديدة حول اتفاقيّة الطائف ، من جوانبها المختلفة ، ولكن صدقوني إذا قلت بأنّ هذا الموضوع التاريخيّ ليس فقط لم يزدد وضوحاً وإنّما مواقف الأطراف المختلفة كان يُشار إليها بالعموميات ، وتخضع لمتغيّرات داخليّة أو خارجيّة ، الرأي العام لم يستطع استيعابها أو فهمها وإدراكها … في حين أنّ ما نرغب فيه ، هو أن نصل إلى رؤية علميّة حقيقيّة ، تعتمد على البحث العلميّ الميدانيّ ، لما يجري على الأرض في بلدنا: مَن هي هذه القوى ؟!… مثلاً، عندما نقول بأن الولايات المتحدة الأميركيّة تدخلت وكان لها دور أساسيّ في إنجاز هذه الاتفاقيّة ، اتفاقيّة الوفاق الوطنيّ في الطائف ـ وكلنا يعلم تمام العلم بأن الولايات المتحدة الأميركيّة كانت ركناً أساسياً ، وكان لها وزن سياسيّ ودبلوماسيّ ، في هذا الشأن ـ ولكن عن أيّ طريق ، وكيف ؟!... الرأي العام يريد رؤية واضحة ، تحليلاً واضحاً لهذا الموضوع !...
على كلّ حال ، في هذا الموضوع ، لقد ازدّدت قناعة وتأكيداً أنّ هذا الأمر يحتاج منّا أن نوضّح هذه المفاهيم . أنا لا يمكن أن أسمّي ما يحصل بين السياسيّين اللبنانيّين ، هو حوار حقيقيّ ، بالمعنى العلميّ الذي نقصده نحن لمعنى الحوار، وإنّما ، كما يقول على حقّ، أنطوان مسرّة "علاقات التكاذب "، أو " مفاوضات النّفاق "، و" المترسة "... وقد ذكرت ذلك في كلمتي وأشرت إلى هذا الموضوع إشارات واضحة ... فإذن ، لا يجوز على الإطلاق أن نسميَ هذا " حواراً "، بل ربما نفاقاً سياسياً ، أو على الأقل ، ليس هذا هو الحوار في المفهوم الذي نعنيه ونطلقه نحن ، برؤية جديدة ، بمضمون جديد ، بواقعيّة جديدة ، وبهدف محدّد ... وهذا الهدف ، كما ذكرت في كلمتي ، من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل ولمصلحة الإنسان ، وحتى هذا التعبير الذي يبدو عاماً ـ الإنسان ـ يجب تحديده وتوضيحه : عندما نقول : لمصلحة الإنسان في لبنان ؟!… ماذا نعني بذلك ؟... يجب توضيحه .. لذلك أرى من الأهميّة ، وهذه مناسبة ، ونحن كحركة حواريّة ، جديدة ، ناشئة ، وهذا هو المقصود من هذه الخَلْوة أن نتبادل وُجهات النظر والآراء، بهدوء وعلميّة وموضوعيّة، وأن تكون وقفة وعي ويقظة ، وحذر من استخدام المصطلحات والمفاهيم بكثير من العموميّة أو التسرّع ...
خشى البعض من أن نقع في التنظير أو التجريد أو البعد عن الواقع ... صحيح !... وهذه الخشية في محلها ، ونحن من دعاتها ... ولكن ، أنا شخصياً ، صدقوني إذا قلت إني كنت أعتقد ، بأنّني منذ عشر أو خمس عشرة سنة قد " طلقت التنظير ثلاثاً ". ولكنني ، في هذا البحث ، عدت ورأيت أنْ ليس سيئاً كلياً وبإطلاق، التوقف أو الوعي المعرفيّ والمنهجيّ لفهم المصطلحات والمفاهيم التي نستعملها ... فنحن بحاجة إلى وقفات بين الحين والآخر، وقفات تفكير وتعقّل وإدراك وبحث في الواقع وفي أصل وطريقة استعمال هذه التعبيرات جميعها ومدلولاتها المتنوّعة ... ولاسيّما ، ونحن كمثقّفين ومن لبنان ، أنّنا نقع تحت تأثيرات فكريّة ومنهجيّة ، قد تكون صالحة ، وهي صالحة ، لمجتمعات متقدّمة وصناعيّة أخرى . ولكن قد تكون بحاجة إلى بعض التعديلات ، أو إلى كثير من التعديلات ، إذا أردنا أن نطبّقها في مجتمعاتنا ... لقد وجدت أنّ كثيراً من المثقّفين الذين يستعملون بكثرة تعبيرات شائعة عندنا ، في علم السياسة والفلسفة والاجتماع والأنتربولوجيا ، هي مستقاة من الخارج ويعودون ـ على حقّ ـ لفهم هذه التعبيرات والمصطلحات إلى مراجع وقواميس وعلماء أجلاّء ولهم وزنهم على هذا الصعيد ، ولكنّهم علماء أجانب من فرنسا أو الولايات المتحدة الأميركيّة، أو ألمانيا ..إلخ... يعبّرون هم عن تطوّر مجتمعاتهم المعرفيّة والعلميّة والحضاريّة ... هذا صحيح... ولكن ، ما أطرحه على نفسي وما أطرحه أمامكم : هذه المفاهيم ، هل تصلح كما هي ، من الناحية الإبستمولوجيّة أو المنهجيّة المعرفيّة ، لفهم واقعنا ولفهم مجتمعنا في تطوّره المتشعّب والمتنوّع ؟!... سؤال أطرحه عليكم ...
قيل ، وهذا ما أشار إليه صديقي الدكتور طربيه ، بأنّ حركة الحوار الديمقراطيّ تريد أن تكون مميّزة ، لماذا ؟... وكيف ؟... طبعاً ، إذا لم تكن حركة الحوار الديمقراطيّ مميّزة ، فلا ضرورة لوجودها ، ضرورة وجودها تنتفي ... مميّزة أولاً من الناحية المنهجيّة في العمل وفي التفكير .. وهي منهجيّة نحاول نحن كحركة ناشئة أن تكون قائمة على الحوار والديمقراطيّة ... أن نتحاور قبل كلّ شيء في ما بيننا ، حواراً صادقاً ، صريحاً ، موضوعياً، علمياً ... حتى نتفق على هذه المفاهيم. وقد تمّ الاتفاق في ما بيننا أيضاً على أن تكون منهجيتنا في العمل هادئة ، غير انفعاليّة، وغير متسرعة ... بمعنى أنّنا نحن في لبنان نتصف بكثير من التسرّع ، اللبنانيّ يريد الوصول إلى غايته وهدفه بسرعة ... حرق المراحل ... إن كان طبيباً ، أو مهندساً ، أو تاجراً ، أو أستاذاً جامعياً أو طالباً : الجميع يريد أن يصل إلى تحقيق الهدف بأكثر ما يمكن من السرعة ومن الحصول على الفائدة المرجوة ، وبأقل ما يمكن من الجهد ... وهذه ناحية طاغية في مجتمعنا .. نجدها كذلك عند الكثيرين عندما يقولون : يا أخي ! ماذا تفيد الدراسات والأبحاث والحوارات الفكريّة أو الثقافيّة أو السياسيّة ... نحن نريد نتائج ، نتائج عمليّة ، على الأرض ... كأنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج صحيحة ، سليمة مفيدة ، دون أن نبذل الجهد والصبر ودون أن نقوم بدراسات علميّة موضوعيّة سابقة . أما العقليّة الحداثويّة ـ إذا صحّ التعبير ـ والعقليّة العلميّة ، هي على العكس من ذلك : الوصول إلى الغايات المرجوة ، إلى النتائج المأمولة إنّما يتمّ عن طريق الجهد والعمل المتواصل والدراسات وتحديد الأهداف ، ووضع منهجيّة في العمل تناسب طاقتنا وإمكاناتنا . لذلك وجدنا في لبنان أن كلّ واحد منّا يتعاطى السياسة في الواقع ، وهو يعلن عليها حرباً في الظاهر ... وكلّ واحد يريد أن يكون زعيماً ، في مجاله أو في غير مجاله : بمعنى أنّ الفرديّة هي الطاغية علينا ، بل وأكاد أقول الأنانيّة . من هنا ، في ما أرى ، لم نستطع أن ننجح في العمل الجماعيّ طويل النفس وبعيد الهدف ..
لذلك ، في حركة الحوار الديمقراطيّ ، في جلساتها التأسيسيّة الأولى الضيّقة ، قلنا في ما بيننا لنتخذ منهجيّة مختلفة ، إذا كنّا فعلاً نرغب في أن نكون حركة مميّزة ، صادقة ملتصقة بالواقع الحيّ ، وبالأرض ... يجب أن لا نتسرّع في بلورة أهدافنا تفصيلياً ، أو الإعلان عنها قبل نضجها ، وقبل إتمام تنظيماتنا الداخليّة وأوضاعنا الفكريّة ومنطلقاتنا المبدئيّة وتوضيح خطّة عملنا على المستويات المختلفة والأساسيّة ...
بكلمة ، لا يجوز التسرّع في الأمور الجديّة والتاريخيّة والمصيريّة . يجب علينا أن نوضّح على الأقل وقبل كلّ شيء آخر ، أهدافنا ومبادئنا ونرسم طريقتنا في العمل وأسلوبنا في التفكير .. وأن نضع منهجيّة في التحرك ، على أن لا تكون هذه المنهجيّة مطلقة ، جامدة ، بل تتناسب مع إمكاناتنا المتواضعة ... وبحسب هذه الإمكانيات ، فكريّة كانت أم ماديّة أم بشريّة ، أن نرسم وأن نضع منهجيتنا في العمل ... وإذا كنّا فعلاً نغالي في المحافظة على استقلاليتنا ، فيجب كذلك أن نحافظ على الاستقلاليّة الماديّة وأن لا نتعاطى السياسة بمعناها التقليديّ اللبنانيّ وبمعناها الشائع وهو حبّ الوصول إلى السلطة بأيّ ثمن وعن أيّ طريق كان ... لذلك قلنا : الهدوء في التفكير وفي العمل ، والرويّة ، وتوضيح المفاهيم ، ورسم مخطّط عملنا ، حوارياً وديمقراطياً ، كلّ ذلك انطلاقاً من الاعتماد على العمل الجماعيّ ، وليس على العمل الفرديّ ... الفرد العبقريّ !! أين هو ذاك الفرد العبقريّ ، الفذّ الذي لديه جواب عن كلّ مسألة ؟!... ربما يكون زمن العبقريات قد انتهى !! وابتدأ الآن زمن العمل الجماعيّ ، العمل الديمقراطيّ الحقيقيّ ، والعمل الحواريّ بين مختلف التجارب الإنسانيّة ، والفكريّة والسياسيّة . فقلنا في حركة الحوار الديمقراطيّ ، فلنطبّق هذا المبدأ ـ العمل الجماعيّ ، الحواريّ ، المشترك ـ في ما بيننا ، انطلاقاً وقبل أيّ شيء آخر ... فعلى هذا الأساس ، إذا نجحنا في تطبيق هذه المبادئ الأساسيّة ، وهذه المنهجيّة في العمل وفي التفكير وفي السلوك ، على الأقل ، وهذا رهان كبير ، نكون عندئذ وعندئذ فقط ، في طريق تكوين حركة ثقافيّة ـ فكريّة مميّزة .
ولقد قيل كثيراً ، وطرح هنا ، فلتلتق الجمعيات الثقافيّة في لبنان في ما بينها ، وتتوحّد ، وترسم لها برنامج موحّد في عملها .. سمعنا ذلك ، وكنّا نحن قد قلناه في ما مضى ... ولكن للأسف الشديد ، ومن خلال الممارسة والتجربة على الأرض ، بقي هذا الطرح في أحسن الأحوال شعاراً ـ لا مضمون لـه ـ شعاراً عاطفياً ، لا يحتمل أيّ مجال للتطبيق العمليّ . لماذا ؟... لأنّ الجمعيات الثقافيّة في لبنان ـ وأقول ذلك عن خبرة وتجربة ـ تحتاج هي ذاتها ، جميعها وكلّ واحدة منها على حدة ، أن توضّح أهدافها ، أن توضّح مناهجها في العمل بما يتناسب مع المرحلة الجديدة ، لا أن يبقى الأسلوب تقليدياً ، بل أن تعيد قراءة تجربتها ـ إذا كان لها تجربة ـ ومراجعة واقعها ... أكثر من ذلك ، لقد وجدنا وكما قلت في كلمتي ، الجميع الآن يقولون وحتى السياسيّين ، ويدعون إلى الحوار والعمل الثقافيّ ... وهم يطلقون تعابير واصطلاحات : الثقافة والعمل الثقافيّ والديمقراطيّة والحوار والتحاور ..إلخ... إنّما لغايات بعيدة كلّ البعد عن الأهداف الثقافيّة الحقيقيّة ومنطلقاتها .. من هنا التناقضات وهي كثيرة بين القول والفعل ، بين المعلن والخفي ، وبالتالي في داخل المؤسّسات الثقافيّة وفي ما بينها ... من هنا ، التعثر في العمل ، أو كما نقول عادة : الأزمة الثقافيّة العامة في البلد .
هناك رأي ، وأنا من هذا الرأي ، ولا أزال أردّده وهو أنه من الممكن الاتفاق والالتقاء حول برامج عمل مشتركة ومحددة بين هيئات ثقافيّة متقاربة في الفكر والمنهج وأسلوب العمل والأهداف . هنا ، في ما أرى ، إمكانية العمل في أن يكون منتجاً ، نافعاً ، ويصل إلى شيء ما ... أما ما كان يجري في السابق ، من تجمع الهيئات الثقافيّة المتناقضة في لبنان ، المتناقضة منهجياً ، سياسياً ، طموحاً ، فقد برهن من خلال الممارسة وعلى الأرض فشله ... هنا ، أرجو أن لا يُفهم من كلامي إنّني ضد العمل الجماعيّ على صعيد الهيئات الثقافيّة في لبنان . لا ! على الإطلاق ! إنّني من أولئك الذين يؤيدون العمل الجماعيّ بين جمعيات ثقافيّة على صعيد لبنان ، انطلاقاً من منهجيّة واقعيّة على الأرض ، وانطلاقاً من تشابه في الفكر والمنهج والغايات ... أن تلتقي هذه الجمعيات المتشابهة والتي تريد أن تعطي للثقافة وللفكر دورهما الحقيقيّ والواقعيّ والهادف ، وتضع خطّة عمل لها موحّدة مرحلياً ... ولكن أن لا تجمع تجمعات ثقافيّة ومن كل وادٍ عصا وأن تقول هذا هو تجمع الهيئات الثقافيّة في لبنان ... فهذا النوع من العمل الثقافيّ التجميعيّ ، التناقضيّ ، أثبتت التجربة فشله الذريع على الأرض ...
إلى هنا ، أعتقد أنني قد أجبت ، ربما بشيء من التفصيل ، على مجمل التساؤلات والأسئلة التي طرحت عليّ ... وإذا كان لي من كلمة أختم بها حديثي ، فهي أنّنا نريد من حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان أن تكون فعلاً وحقيقة ، قولاً وعملاً ، فكراً وممارسة ، حركة جديدة ، حركة مبدعة ، حركة خلاّقة .. أو لا تكون ...
* * *
الجلسة الختاميّة
حوار مفتوح ومناقشة عامة (2)
إدارة الجـلسـة
الدكتور مصطفى دندشلي
... لقد أحببنا، ختاماً لهذه الخَلْوة الثقافيّة الأولى التي تنظّمها حركة الحوار الديمقراطيّ، أن نعقد جلسة تقويميّة لهذا اليوم الطويل ... ( ... ) فمن الأهميّة بالنسبة لنا أن نسمع ونسجل الانتقادات والملاحظات والاقتراحات ، حتى يتسنّى لمنظّمي هذه اللقاءات ، أن يأخذوها بعين الاعتبار [...]
وهنا اسمحوا لي أن أُلفت الانتباه إلى الغاية من هذه الاجتماعات ، أو بالأحرى من هذه اللقاءات الثقافيّة المطوّلة سواء في يوم طويل واحد أو أكثر، فلها فائدة لنا وغنىً ، في غاية الأهميّة: فائدة اجتماعيّة ، فكريّة ، معرفيّة ، إنسانيّة ... فهذه الاجتماعات المطوّلة ، نوعاً ما ، تفسح لنا مجال التعارف أكثر في ما بيننا ، مجال النقاش على جانب اللقاء ، ومجال اللقاءات الثنائيّة أو الجماعيّة بين الحضور من مناطق مختلفة ومن اختصاصات متنوّعة ... بكلمة ، فهذه اللقاءات المطوّلة إلى حدّ ما، هي مناسبة لنا لكي نتعارف في ما بيننا ، عند استراحة ـ القهوة ، أو في فترة الغداء أو حتى العشاء، هذا هو المقصود في الواقع وحقيقة الأمر ... فإلى جانب تبادل الآراء ووجهات النظر حول القضايا الفكريّة المطروحة للنقاش ، أن نلتقي في ما بعد ، وأن نتحدّث وأن نعرف الآخر على حقيقته ، بإنسانيته ، إلى غير ذلك من النواحي التفصيليّة في الشخصية الأخرى ...
* * *
الإجـابـــة
الدكتور مصطفى دندشلي : .. لا شك في أنّ اللجنة التحضيريّة سوف تدرس دراسة وافية جميع ما قيل من آراء وما تقدّم من اقتراحات وملاحظات قيّمة ومهمّة ... ولكنني أودّ هنا في هذه العجالة أن أشير ، وليس للمرة الأولى ، إلى أنّ حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان ، هي حركة ناشئة ، في طور التكوين .. فلا يجوز ، منهجياً وعملياً وواقعياً ، أن نتطلب منها أشياء ، أو بالأحرى مواقف وأفعال واتخاذ قرارات من السابق لأوانه ، "بكّير " بعد ... فهي حركة ، وأقولها بمنتهى الصراحة والوضوح ، لم تتكون بعد نهائياً ... فلا يجوز بأي حال ، منهجياً ، أن نستبق الأمور ... والمواقف الناجحة في مواقيتها ...
لقد ورد على سبيل المثال في مداخلات بعض الأصدقاء من أنّه " يجب أن نكون على الأرض ". مَن سيكون على الأرض ؟... نحن حركة في مرحلة التأسيس . ومرحلة التأسيس ، نرى أنّه من الأهميّة الكبرى لنجاحها ، أن تأخذ مداها وأن تكون ولادة الحركة طبيعيّة ، غير مبتسرة أو سابقة لأوانها ... علينا أولاً أن نتعرف على أنفسنا ، مؤسّسين ومؤيدين وأصدقاء . وأن نسعى إلى أن نضمّ إلينا مؤيدين وأعضاء مؤسّسين جدد ومن جميع مناطق لبنان ... فلا يجوز في ما أرى أن نستعجل الأمور . ولنعط الوقت الكافي والوقت الضروريّ لجميع الأصدقاء والمؤيدين أن يطرحوا الموضوع على أنفسهم بهدوء وبرويّة وأن يُشبعوه بحثاً ونقاشاً ، حتى تتمّ عمليّة الاختيار بصورة طبيعيّة وبمنتهى الحريّة والمعرفة التامة والتفصيليّة . كلّ ذلك يحتاج إلى وقت ... فالإسراع أو التسرّع يثير شيئاً من الريبة والشكوك والظنون في نفوس الغير ...
هناك كثير ممن أتصلنا بهم وقدّمنا لهم وثائقنا المتواضعة ، لا يزالون هم أنفسهم في طور البحث والتفتيش والتلمّس ... ونحن كذلك ، كحركة ، ولا غضاضة في ذلك ، في مرحلة تلمّس الطريق بجديّة ، مع كلّ ما لدينا من خبرة وتجربة ، فكريّة وعمليّة في هذا الشأن . ولأنّه لدينا بعض الخبرة في الأمر ، فقد اقترحنا منهجيّة للعمل تتصف بالعقلانيّة والموضوعيّة والهدوء والروية وعدم التسرّع ... والابتعاد كلياً عن " اللفظانيّة " أو " الشعارتيّة "... إنّـنا نستطيع أن نطلق الشعارات المتنوّعة ، الشعارات الطنّانة في شتّى المواضيع ولكن السؤال الأساسيّ والرئيسيّ يتعلق بمدى تطابق هذه الشعارات مع الواقع ، على الأرض ، وتكون تعبيراً عن حالة المواطنين اللبنانيّين كلّ المواطنين اللبنانيّين دون استثناء ومن مختلف المناطق اللبنانيّة ...
ومن ناحية ثانية ، ما هي إمكانيّة الحركة ، حركة الحوار الديمقراطيّ ، ما هي إمكانياتها حقيقة ، دون مبالغة أو تضخيم ؟!... إنّني أنا أبحث عن إمكانيتي المتواضعة وأدرسها ، ومن مختلف النواحي . وبحسب هذه الإمكانيّة أبني لي خطّة للعمل ، منهجيّة في السلوك وفي التفكير وفي التنظيم تناسب طاقتي الذاتيّة ـ كمجموعة وكأفراد .. هذا هو السؤال الحقيقيّ ...
هناك سؤال كان يتردّد على لساننا ، ولا يزال حتى الآن نردّده باستمرار : مَن نحن ؟... وهو سؤال يجب أن يطرح علينا دائماً في لقاءاتنا الضيّقة أو لقاءاتنا الموسّعة : مَن نحن ؟... مَن هي حركة الحوار الديمقراطيّ ؟.. ما هي إمكانياتنا وإمكانيات حركتنا الناشئة ؟.. فبحسب هذه الإمكانيات البشريّة والفكريّة والماديّة ، والأجواء العامة والخاصة في مجتمعاتنا المحليّة أو العامة ، فبحسب هذه الإمكانيات ، أقول وكما قلت ، يجب أن نبني لنا خطّة عمل ، تتناسب مع هذه الإمكانيات ... أنا مثلاً أريد أن أنتقل إلى مرحلة التنفيذ والتطبيق !!.. عال . أنفذّ ماذا ؟... ما الذي سأطبقه ؟!... وكيف ؟.. أريد أن أغيّر النظام اللبنانيّ !!.. عن أيّ طريق ؟... ما هي الوسيلة الفكريّة والعمليّة ؟... طبعاً : نستطيع أن نغيّر النظام اللبناني ، ولكن عن طريق اللفظيّة ، عن طريق الشعارات ، المعروفة والمستهلكة ... عن طريق المفردات المنتشرة الآن والخاوية من أيّ مضمون أو محتوى حقيقيّ واقعيّ . فيكون المقصود من ورائها أشياء بعيدة عن التغيير الحقيقيّ !!...
ومن الجهة الأخرى ، فقد ذَكَّرني صديقي طوني الراسي ، وهو أستاذ الرياضيات وذو العقليّة الرياضيّة ، ذكّرني بالطريقة والأسلوب في التفكير السائد في مجتمعنا : فنحن اللبنانيّين نميل بصورة واضحة إلى التلقين ، إلى السرعة ، بل إلى التسرّع في كلّ شئ ، إلى تحقيق ما نرغب فيه بأيّ طريقة وبأقرب فرصة ممكنة ... نحن اللبنانيّين نريد أن نصل إلى النتائج مباشَرة وبسرعة ، دون أن نمرّ غالباً بالمقدمات المنطقيّة وبالبدايات الضروريّة اللاّزمة: من هنا ، في ما أرى ، السرعة في طرح الأمور والتسرّع ... الوصول إلى النتائج : ولكن كيف ؟... عن أيّ طريق ؟... ومَن هو الذي يريد تحقيق أهدافه ، وما هي قواه وإمكانياته الفعليّة ؟... نحن ننساق بشكل عام رأساً إلى تضخيم قوانا الذاتيّة وإلى المبالغة فيها وإلى تغليب الجانب العاطفيّ الانفعاليّ في سلوكنا . من هنا الهُوّة بين الحقيقة والواقع ، بين الإمكانيّة الفعليّة والقدرة الواقعيّة على التحقيق والتنفيذ ....
فنحن الآن كحركة حوار ديمقراطيّ في وضعيّة صياغة المقدّمات الضروريّة ـ إذا صحّ التعبير ـ وتلمس الطريق ودراسة السُّبل التي سوف نسير فيها ونعبّر عليها لتحقيق أهدافنا ... كلّ ذلك بحسب إمكانياتنا الذاتيّة والموضوعيّة ، الفكريّة والبشريّة والماديّة في آن ... أما أن يُطلب منّا ، كحركة حوار ديمقراطيّ ، أن نُظهر النتائج وندلّل عليها ونسير فيها منذ الآن ، ونحن لا نزال في بداية الطريق ، في مرحلة التأسيس ، فإنّنا نرى بأنّ هذه منهجيّة في العمل وفي السلوك وفي التفكير ، غير سليمة ، هذا إذا لم تكن خاطئة ، وستؤدّي في أحسن الأحوال إلى تخبّط في العمل ، وفوضى في الفكر ، وغموض في رؤية المستقبل ، وعدم مخاطبة " الناس " بما يرغبون ويعقلون : فينكفئون ويبتعدون وينزوون .. فنقول عندئذ عن شعبنا بأنّه جاهل أو متخلّف ...
كلمة أخرى، وإنّني أشدّد كثيراً على هذه الناحية ولا عيب في ذلك على الإطلاق، إنّ حركة الحوار الديمقراطيّة ، ومنذ سنتين ، هي في مرحلة النشوء والتكوين ... ولنبق أيضاً سنة أخرى ، أكثر أو أقل ، إذا كان ذلك سيؤدّي إلى نضج الحركة أكثر وثقتها بنفسها أكبر، وإلى وضوح في الفكر والمنهج العمليّ والأسلوب الواقعيّ ... هذا إذا أردنا فعلاً ـ ونحن نريد ـ أن تكون حركة الحوار الديمقراطيّ حركة جديّة ، حركة تاريخيّة ، حركة وُلدت لتبقى وتستمر ... كما أنّ هذه المنهجيّة في العمل هي خير وسيلة لمعرفة إمكانياتنا حقيقة، وأعضائنا وأصدقائنا المقتنعين قلباً وقالباً. أما الآخرون المترجرجون ، المتقلّبون ، الحائرون ، فيبتعدون من تلقاء أنفسهم ومن أول الطريق ، وهذا أفضل للحركة بكثير : فالأهميّة كما نقول دائماً ، وفي بداية الطريق ، ليس في كثرة العدد ، إنّما في اختيار النوعيّة وانتقائها والبحث عنها . وهذا يتطلّب جهداً دؤوباً وعملاً مضنياً وصبراً ونَفَساً طويلين . ففي حركة الحوار ، نحن لا نريد أن نتبع سياسة المختار والناطور ، السياسة النرجسيّة المظهريّة ، السياسة التقليديّة المعروفة والمعتمدة في كلّ ناحية ومكان . نحن نريد أن نكون " شيئاً " جديداً ، خلاّقاً. ما هو ؟... هذا هو السؤال الكبير ، وهذا هو التحدّي ؟... نريد أن نكون ـ أو لا نكون ـ حركة جديّة، تطرح مختلف القضايا بالعمق المطلوب وبمنهجيّة حديثة، هذه القضايا المتنوّعة والكثيرة التي يُعاني منها المجتمع اللبنانيّ بشموليته ، ودون استثناء ، وبمنتهى الجرأة والشجاعة والحزم : طرح أيّ موضوع على بساط البحث والحوار والنقاش. ذلك أنّ أيّ موضوع وكلّ موضوع يدخل في صلب الثقافة : من القضايا الفكريّة والتربويّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وصولاً إلى القضايا السياسيّة وخصوصاً القضايا السياسيّة على أنواعها ... هذا إذا أردنا فعلاً ـ ونحن نريد ـ أن نكون حركة ثقافيّة وأن نكون أيضاً وبوجه خاص حركة تغييريّة ...
أنا أُقدِّر تقديراً عميقاً وصادقاً جميع الملاحظات أو الانتقادات التي قيلت بالنظر إلى حركة الحوار الديمقراطيّ في لبنان. ونحن هنا، في هذا الملتقى الثقافيّ الأول، فلكي نتحاور ونتناقش ونتبادل وُجهات النظر ، ولكي ينتقد بعضنا البعض الانتقاد البنّاء . وهذا أكبر إفادة لنا ... فالملاحظة التي قيلت ووُجّهت إلينا ، وهي عندما نقول : حركة الحوار الديمقراطيّ هي حركة " مميّزة "، لا يُقصد بها على الإطلاق المعنى " السيئ "، معنى الاستعلاء، أو البعد عن الواقع، إلى آخر ما هنالك... وإنّما المقصود بها فقط الاختلاف ، وإلاّ لا مُبرر لوجودها ، الاختلاف عن التجمّعات الثقافيّة أو السياسيّة، أو السياسيّة ـ الثقافيّة الأخرى التي تكثر في هذه الأيام على الساحة اللبنانيّة ، كما نعلم ذلك جميعاً... كلمة "مميّزة" لا تعني أبداً أنّنا سوف نعيش في برج عاجٍ بعيدين عن حركة الحياة بمعناها العميق ... وإنّما ، وهذه ناحية مهمّة برأيي ، ينبغي أن أشير إليها ، وهي تحتاج مستقبلاً إلى وقفات طويلة: كلمة مميّزة تعني في أذهاننا "طليعة ". لقد كنّا في السابق نرفض استعمال تعبير " النخبة " l'élite ، فهو تعبير برجوازيّ ، استعلائيّ ... ولكن ومن خلال التجربة المرّة التي مررنا بها ، التجربة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة ، وجدنا أنّ القيادات لم تكن على مستوى " الطليعة "، على مستوى القيادة الفكريّة والمسؤوليّة الثقافيّة العقلانيّة ، ولم تكن في انطلاقاتها السياسيّة تعتمد على الواقع ومصلحة الشعب اللبنانيّ الحقيقيّة ، بل كانت ترجح الاعتبارات السياسيّة الخارجيّة ، والعوامل الاستراتيجيّة الإقليميّة أو الدوليّة ، أو المصلحة الخاصة خصوصاً المصلحة الخاصة ، مصلحة الفئة أو الطائفة أو المنطقة ...
ولكن ، وكما قلت ، ومن خلال الممارسة العمليّة ، وعلى الأرض ، وبعد هذا الفشل العام والشامل لكلّ القوى السياسيّة وغير السياسيّة ، لقد وجدنا كم نحن بحاجة الآن إلى " طليعة " حقيقية ، إلى " نخبة " ثقافيّة ، إلى قيادة فكريّة تصدر عن الواقع وتعبّر عنه وتلتصق به ، وأن لا تكون بأي حال غريبة عنه ، لا الآن ولا مستقبلاً ... ذلك أنّ هذه الغربة عن الواقع ، الغربة عن الحياة الواقعية الحقيقيّة ، هذا الاستيلاب aliénation الفكريّ والسياسيّ ، يُستعاض عنه ويُموّه ويُحجب بشعارات عامة وجمل بلاغيّة وأسلوب إنشائيّ ، أصبح الآن مكروراً ومحفوظاً ... من هنا لا يلبث أن يجد رافعو هذه الشعارات أنفسهم، عندما لا يتجاوب الرأي العام ، حتى المثقّف منه ، مع هذه الطروحات، يجدون أنفسهم في موقف حرج، في " أَزْمَة " : الجميع في أَزْمَة ، المجتمع في أَزْمَة ، القوى السياسيّة في أَزْمة ، الجمعيات الثقافيّة في أَزْمة . طبعاً أسباب هذه الأَزْمة طويلة وعريضة ،شاملة وعميقة في آن . ولكن أستطيع أن أشير إلى أبرزها ، وهو أنّ هذه الشعارات لا تتطابق مع الواقع ، ولا تتناسب معه ، غريبة عنه . من هنا هذا الانقطاع ، وهذا الانفصال بين القول والعمل ، بين الفكر والواقع الاجتماعيّ ...
هذا ، ولقد مرّ لبنان بتجربة منذ ما يقرب من ربع أو نصف قرن ، في غاية من الأهميّة . يمكن أن تُدرس هذه التجربة على مختلف المستويات : الاقتصاديّ يمكن أن يدرسها على صعيد الاقتصاد ، والسياسيّ يجب أن يدخل في أعماقها السياسيّة ، وكذلك المثقّف والمفكر وعالم الاجتماع وعالم النفس إلى غير ما هنالك ، كلّ يستطيع أن يبحث هذه التجربة الغنيّة من زاويته الخاصة وانطلاقاً من اختصاصه بالذات وأن يقوم بمراجعة عقلانيّة، علميّة، واقعيّة ، موضوعيّة ، لاستخلاص العِبَر والدروس التاريخيّة ، هذا إذا أردنا فعلاً أن نعود ونبني مجتمعاً جديداً ووطناً جديداً ...
طالما أنّنا جميعنا يُقرّ ويعترف بأنّنا كلنا فشلنا ، وكلنا أخطأنا . فلنتوقف إذن ولنتساءل بموضوعيّة وبتجرد : لماذا حدث هذا الخطأ أو هذا الفشل ؟... هذه مسألة نراها مهمّة ، تاريخيّة . لا يمكن أن تتوضّح لنا رؤية المستقبل وأن نسعى إلى بناء مجتمع أفضل ، إلاّ إذا توقفنا قليلاً وحاولنا أن نجيب عن هذه التساؤلات المقلقة والملّحة ... هذه منهجيّة في التفكير وفي العمل الجاد ، نراها أساسيّة نحن في حركة الحوار الديمقراطيّ. وهذا ما نسعى إليه ... فكحركة ناشئة ـ أعود وأكرر ـ حركة تريد أن تكون عقلانيّة ، ملتصقة بالواقع وبالتجربة " المرّة "، علميّة ، موضوعيّة ... تريد أن تصدر الثقافة من الأرض وتلتصق بها . نحن لسنا منظّرين ، بمعنى مجرّدين غيبيّين بعيدين عن الواقع . إطلاقاً . إنّما نريد أن تكون لنا نظرة عميقة وشاملة لتجربتنا اللبنانيّة من مختلف جوانبها .
لهذا، لا نتوقف كثيراً أمام بعض الاصطلاحات أو التسميات، طالما أنه في صلب " وثيقتنا" و"حركتنا "، تأتي فكرة التغيير كشيء أساسيّ ومنطلق رئيسيّ . وبالفعل ، فإنّ أيّ مثقّف لا يكون "تغييرياً " في الفكر وفي الفعل وفي السلوك ، تسقط عنه صفة الثقافة . فالمثقّف بطبيعته وتعريفه تغييريّ . وحركة الحوار الديمقراطيّ كحركة مثقّفين ، ملتزمين بقضايا المجتمع والإنسان ، عندما نقول ذلك ونعلنه ، لا يمكن أن تكون هذه الحركة إلاّ حركة تغييريّة بالمعنى الذي نعطيه نحن لمفهوم التغيير ، بالمعنى العقلانيّ وبالمعنى العلميّ والمنهجيّ الموضوعيّ ...
كلمة أخيرة وأتوقف عندها : بما أنّنا حركة ناشئة ، فمن الطبيعيّ والحالة هذه أن نطرح ، منذ البداية ، للبحث والنقاش والحوار ، المفاهيم التي هي عنوان لهذه الحركة . لذلك فقد اخترنا لهذا الملتقى الثقافيّ الأول عنوانين أساسيّين : مفهوم الحوار ومفهوم الديمقراطيّة ... وليس المقصود أبداً إجراء بحث نظريّ ، مجرد أو غيبيّ... وإنّما وعلى وجه الخصوص ، حتى نتلمّس نحن أولاً كحركة تغييريّة ، معنى الحوار ومفهومه ، ومحاولة توضيح مفهومنا نحن للديمقراطيّة ... وهذا