مقابلة مع الضباط المتقاعد أحمد عبد الكريم (2)
المـقـابـلـة الثـانيـة مـع
الضباط المتقاعد أحمد عبد الكريم
الزمان والمكان : 13 آب عام 1989 ، دمشق
أجرى المقابلة : د. مصطفى دندشلي
* * *
س : أستاذ عبد الكريم ، إذا سمحت فلنتابع مقابلتنا هذه حول تطوّر الأوضاع السياسيّة في سوريا في مرحلة عام 1957. فأودّ أن تحدثني تفصيلياً ، إذا أمكن ، عن الظروف الداخلية ، الفكريّة، والسياسيّة التي تمت فيها الوحدة السورية المصرية عام 1958 .
ج : أهمّ هذه الظروف : تطوّر القضية الفلسطينيّة . منذ نكسة عام 1948 ، ثم ما تلاها من مضاعفات والعدوان الثلاثي الذي وقع على مصر في السويس وتطوّر العلاقات العربيّة نتيجة لهذه الظروف ، وأهمها الوصول في عام 1955 تقريباً إلى قيام ما سمّيَ آنذاك باتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا ، كردّ على مشروع حلف بغداد الذي قبلت به العراق وتحفظت عليه مصر ، ورفضته سوريا آنذاك . وكانت النتيجة أن تكثفت الاتصالات بين مصر وسوريا إلى أن وصلت لاتفاقية الدفاع المشترك التي أقيمت على أساسها القيادة المشتركة السورية المصرية ، وانضمت إليها اليمن الشمالي والمملكة العربية السعودية وحتى لبنان وأخيراً في نهاية عام 1956 الأردن . وجسّد هذا رفض معظم البلدان العربيّة لمشروع حلف بغداد . وعُزل في ذلك الوقت النظام العراقي القديم الذي قبل بهذا الحلف. كانت سوريا ومصر بالذات العنصرين الأساسيين اللذين قاوما فكرة حلف بغداد. وفي اعتقادي بأنه وقع عليهما الضغط الرئيسي من القوى التي كانت وراء هذا الحلف . ولا يمكن أن أفصل العدوان الثلاثي الذي وقع على مصر في 29 تشرين الأول 1956 عن هذه الملابسات . كان لهذا أيضاً صلة بتصاعد الثورة الجزائرية واعتقاد فرنسا أنّ مصر وسوريا تشكلان قاعدة استراتيجية للثورة الجزائرية. من هنا ، فقد تمّ التواطؤ الثلاثي . وهذه التطورات السياسيّة نتائجها معروفة : سقوط حلف بغداد ثم سقوط حكومة " غي موليه " في فرنسا وسقوط حكومة " إيدن " في بريطانيا ، وتصاعد حركة القومية العربية في كلّ الوطن العربي الذي ظهر فيه وقوف الجماهير العربية ومعظم الأنظمة العربية من الخليج إلى المحيط وراء مصر بمقاومتها للعدوان الثلاثي . وبالتالي أوجدت هذه الأحداث الخطيرة الجوّ الملائم للسير نحو الوحدة بين مصر وسوريا . وظهر خلال هذه الأزمات توجُّهات الثورة المصرية بزعامة الرئيس عبد الناصر نحو القضية العربية بشكل عام أو نحو ما يمكن أن نسميه بالوحدة العربية . وما أظن بأن مصر قد كشفت عن وجهٍ عربي أصيل في تاريخها الحديث ، أكثر مما كشفت عنه في ذلك الوقت . وتجاوبت بطبيعة الحال الجماهير في سوريا مع حالة التوجه هذه ، ذلك أننا نحن في سوريا بدأنا نشعر بأنه بعد فشل العدوان الثلاثي ، أصبح هناك تركيز على سوريا بهدف إما تدجينها واحتوائها .
أما كان الإدعاء في ذلك الوقت هو الحيلولة بين سوريا وبين انزلاقها إلى تبعية الاتحاد السوفياتي وصدرت تصريحات آنذاك وكأن سوريا تتجه بسرعة نحو الشيوعيّة ؟... ساد هذا الانطباع بعد سلسلة مما سمّي حينئذ بمؤامرات كُشفت في سوريا وبالضغط الإسرائيلي وبالمشاكل التي حصلت بين سوريا ولبنان في أيام رئاسة كميل شمعون وحكومته ، وبالحشد التركي ، كلّ هذا أشعر القوى السياسيّة والعسكريّة في سوريا بأن هناك تطويقاً لسوريا . وطبيعي في مثل هذه الحالة أن تشتد العلاقات وتتكثف مع مصر خاصة وأنّ عبد الناصر أصبح في تلك الفترة رمز الحركة العربية ورمز القوى المقاومة للمخططات الأجنبية بعد فشل العدوان الثلاثي . بعض القوى السياسية ، كانت قبل هذا تضع تحفظات على طبيعة نظام عبد الناصر لأن له طبيعة ديكتاتورية ، وفي سوريا أحزاب سياسية وديمقراطية ومجلس شعب ، وبرلمان منتخب . يعني هناك تعدّدية أحزاب وهناك حد أدنى من الديمقراطية تختلف عن الوضع في مصر بعد الثورة ، وخصوصاً عندما قام عبد الناصر بحل الأحزاب وأقام ما يسمّى بالاتحاد القومي أو حركة التحرير . يبدو أن فشل العدوان الثلاثي ومحاصرة سوريا أضعفت هذه التحفظات ، بل أستطيع أن أقول بأنها ألغتها .
س : مَن هي هذه القوى التي تحفظت ...
ج : أعني قوى حزب البعث مثلاً ، والقوى التقدمية المستقلة ، أو ما كان يسمّى آنذاك ، في تلك الفترة ، الجبهة الديمقراطيّة وبقية الأحزاب ، من حزب الشعب ، إلى الكتلة الوطنية ، إلى الحزب الوطني ، كلّ هذه القوى أصبحت كلها تنادي بالوحدة مع مصر . وطبيعي بأن القوات المسلحة التي هي جزء من هذا الشعب ، كانت في غالبيتها العظمى إلى جانب هذا التيار الوحدوي وتجد فيه تجاوباً مع تطلعات الشعب السوري للوحدة، وتجد فيه أيضاً تدعيماً للقوى الدفاعية في مواجهة إسرائيل، لأنها تعتقد بأن الوحدة مع مصر ، يمكن أن تعدِّل ميزان القوى لصالح العرب . هذا الجوّ العام هو الذي خلق الاندفاع نحو الوحدة مع مصر ... القوات المسلحة آنذاك ، بالطبع ، وخاصة في أواخر 1957 ، عندما تبين أنّ كلّ الأحزاب : من حزب الشعب إلى الحزب الوطني ، إلى حزب البعث ، وخاصة حزب البعث ، طرحوا فكرة الوحدة مع عبد الناصر دون قيد أو شرط . ونُقل هذا الموقف للرئيس عبد الناصر عن طريق هذه الأحزاب بطريقتهم الخاصة، بالطبع ، كانت تتمُّ اتصالات وزيارات دائمة، بعثات تزور مصر وبعثات مصرية تزور سوريا ، برلمانية وسياسية على أعلى مستوى ، على ما أذكر ، عام 1957، بعدما قدمت سوريا شكوى إلى مجلس الأمن ضد الحشود العسكرية التركية على حشودها الشمالية . وحين بدأ مجلس الأمن يناقش هذه الشكوى ، كان وزير الخارجية في ذلك الوقت الأستاذ صلاح الدين البيطار ، بعد عودته من نيويورك عن طريق القاهرة . وعندما عاد إلى دمشق ، أبلغ قيادة الجيش السوري آنذاك بأن الرئيس عبد الناصر تلقى تأكيداً من جميع الأحزاب السوريّة ما عدا الحزب الشيوعي ، أنّهم يريدون وحدة فوريّة مع مصر . ولكنه ، كما قال صلاح الدين البيطار للقيادة العسكرية السوريّة ، لديه بعض الشكوك استناداً إلى معلومات أنّ هناك من يعارض الوحدة في القوات المسلحة . وإذاً ، فإن المقصود من مفهوم هذا الكلام أنّ على القوات المسلحة أن تبدي رأيها في الوحدة أو عدم الوحدة . كان هذا السبب المباشَر ، لعقد اجتماع في القيادة ، في قيادة الجيش السوري ، حضره أكثر ممثلي الوحدات والأسلحة ...
س : عددهم تقريباً ؟..
ج : بحدود عشرين إلى خمسة وعشرين شخصاً . درسوا هذا الوضع ، وبنتيجة بحثهم لهذا الوضع ، توصلوا إلى الخلاصة التالية " أولاً : إمّا أن يكون هذا الكلام ، الغاية منه دفع القوات المسلحة لتعلن رأيها بصراحة في الوحدة ، المرغوبة من كلّ القوى السياسيّة ، أو الغالبية العظمى من القوى السياسيّة . والاحتمال التالي ، أن يكون هناك بعض التحفظات لدى قوى سياسيّة معيّنة، وإذا ما تلكأت قيادة الجيش بإبداء رأيها ، يمكن أن يكون ذلك تغطية للمواقف المترددة تُلقى على العسكريين . نتيجة هذا النقاش ، توصل هذا المؤتمر ، بعد اجتماع استمر طوال الليل ، لا أذكر التاريخ بالضبط ، وإنما استمر حتى الصباح ، أن يُرد على هذين الاحتمالين أن تضع قيادة الجيش مذكرة على نسختين تعلن فيها موافقتها ، موافقة القوات المسلحة بالإجماع على الوحدة دون قيد أو شرط . وتبلغ في وقت واحد للرئيس عبد الناصر في مصر في القاهرة ، وللرئيس شكري القوتلي وللحكومة السوريّة في دمشق . وبذلك نقطع الطريق أو يُقطع الطريق عن أيِّ احتمال مهما كان ضئيلاً ، لكي لا تظهر القوات المسلحة وكأنّها عقبة في سبيل قيام الوحدة بين سوريا ومصر . وهذا ما كان ، فعلاً ، وهذه هي الأسباب التي أدّت إلى وضع مذكرة سميت مذكرة الوحدة قدّمتها القيادة المسلحة ، حملها عدد من الضباط إلى القاهرة . وهذا أظن ، ما ذُكر في أكثر من كتاب وذُكرت الحيثيات والنسخة الأخرى حُملت إلى الرئيس المرحوم شكري القوتلي . وكان لهذه المذكرة وقع كبير ، وفسِّرت فيما بعد تفسيرات كثيرة ، أو جرى تفسيرها ، فيما بعد . على أنّها هي التي كانت من الأسباب الرئيسيّة لدفع سوريا نحو الوحدة دون قيد أو شرط ، وأراد البعض أن يحمِّل مسؤوليّة عدم وجود شرط أو شروط واضحة عند قيام الوحدة لموقف القوات المسلحة . ولكن في تقديري ووجهة نظري أنّ القوات المسلحة أدَّت أو عبَّرت عن واجبها القومي وساهمت مساهمة فعالة في هذا الموقف بإقامة أوّل وحدة في تاريخ العرب منذ سقوط الدولة العباسيّة .
وأنَّ القوى السياسيّة في سوريا التي ساهمت في إقامة هذه الوحدة ، بصرف النظر عن شكلها أو عدمه ، والقوى العسكريّة أو قيادة القوات المسلحة السوريّة ، يمكن أن تفخران أمام التاريخ وأمام العالم بهذه الخطوة الحاسمة ، التاريخيّة ، بالنسبة إلى أمتنا العربيّة ...
س : هنا ، بما أننا نريد أو نحاول أن نؤرخ لحدث مهم ، وذلك عندما نقول تأريخ ، يعني أنه من الواجب أن ندخل قليلاً في التقصيلات ونجلو بعض الغموض أو بعض الاتهامات أو الآراء التي قد تركز على هذا الجانب أو ذاك . أقول ذلك وبذهني طبعاً مصدر أساسي من الجانب المصري حول هذا الحدث الكبير ، أعني به رأي محمد حسنين هيكل المشهور . فطبعاً ، أنتم على معرفة تفصيليّة برأي هيكل ، إنما أريد أن أسمع منكم شخصياً الردّ على رأي هيكل . يقول هيكل ، كما تعلمون، بأنّه وصل الجيش السوري عام 1957 إلى حالة من التفتّت والتمزّق: كثرة التيارات السياسيّة المتناقضة داخل الجيش السوري . ويقول أيضاً ، أقول ذلك من الذاكرة حتى نثير حيوية النقاش ، أنا وأياك ، يقول هيكل بأنّ 12 ضابطاً الذين ذهبوا إلى مصر ليفرضوا على عبد الناصر الوحدة ، كانوا يمثلون في الواقع 12 تكتلاً سياسياً عسكرياً داخل الجيش . أريد أن أسمع منكم شخصياً رأيكم في هذا الموضوع . وهناك رأي آخر يقول بأنّ مجموعة الضباط الذين يُنسبون، على حقّ أو على خطأ ، إلى مجموعة أديب الشيشكلي ، أو أصدقاء أديب الشيشكلي ، كانوا معارضين للوحدة مع مصر ، إنما كانوا متردِّدين في عملية الوحدة !!... هنا أريد أن أسمع منكم تفصيلاً حول هذه المسألة الملتبسة حتى الآن لأنكم عايشتم هذا الحدث التاريخيّ عن قرب ...
ج : أنا أحترم الأستاذ محمد حسنين هيكل واعتبره من كبار الكتاب السياسيين في العالم العربي . واحترامي أيضاً له لأنه ساهم في فترة مجيدة من تاريخ مصر إلى جانب الرئيس عبد الناصر ، ولمواقفه الجريئة ما بعد عبد الناصر حيال تطوّر الأحداث في مصر . هذا من جهة ، أما ما يتعلق بكتاباته عن سوريا عامة ، عن الحركات السياسيّة في سوريا والأحزاب وعن القوات المسلحة السوريّة بوجه خاص ، فأعتقد أنّ معلوماته تفتقر إلى الكثير من الدقّة وإلى المعرفة العميقة بالشؤون السوريّة السياسيّة ، المدنيّة والعسكريّة . لا أقول بأنّها مغرضة ، لكنها غير دقيقة إطلاقاً . إنّ من يقرأ له، وأنا قرأت: يمكن أن يخرج الواحد برأي وهو أنه، إذا لم يكن دقيقاً، وصحيحاً ومطابقاً للواقع السياسي كلُّ ما كتبه عن عبد الناصر في هذه الفترة ، وعن الوحدة ، وعن القوات المسلحة ، وعن سوريا سياسياً وملابساتها وأزمة الوحدة والمباحثات ، ومباحثات الوحدة (الثلاثية) بعد 1963 لكنني أنا قد خرجت بانطباع أنّ هذا الرجل يُبدي للقارئ أو أعطى للقارئ انطباعاً وصورة بهزل (وهزالة)، بتفاهة القوى السياسيّة في سوريا إجمالاً، وأعطى صورة كاريكاتورية للأحزاب في سوريا، علماً بأنّ الأحزاب في سوريا ، وأنا لست حزبيّة ، ومن بينها حزب البعث وحتى الحزب الوطني وحزب الشعب ، كان لها دور مشرف في النضال ضد الانتداب الفرنسي وفي دعم الحركات الوطنيّة والقوى التحررية في العالم العربي وفي مواقفها التي اقترنت أو تُوِّجت باستقلال سوريا . وما بعد استقلال سوريا وتدعيم هذا الاستقلال وإقامة نظام ديمقراطي جمهوري في سوريا ، أعتبره ما بين عام 1945 حتى 1958 ، أي حتى يوم قيام الوحدة بين سوريا ومصر ، اعتبره نظاماً ديمقراطياً تحررياً تُحسد عليه سوريا ، ومن كلّ الدول العربيّة المجاورة قاطبة . وأذكر أنّ هذا النظام أدّى إلى أن تنال سوريا استقلالها قبل كلّ الدول العربيّة .
هذا من جهة ، أما القوات المسلحة السوريّة وما يقال عنها ، وما قاله بالذات محمد حسنين هيكل عن وجود تكتلات الضباط ، فأؤكد بأن تاريخ الجيش السوري الذي يعتبر جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنيّة في سوريا ، والتي طابعها قومي عربي منفتح على التطوّر وعلى التقدميّة ، دون أن أقول إنه يتبنى أيديولوجية معيّنة ، إنما أهمّ ما يتبناه هو سعيه إلى الوحدة العربيّة ، ومحاولة جعل النظام مفتوح على التطوّر والقضاء على التخلف ، ولكي يكون قادراً على مقاومة التوسّع الصهيوني . في هذا الإطار، تكوّنت الحركة السياسيّة في سوريا ، وفي هذا الإطار بالتالي تكوّن الجيش السوري وكان في طليعة القوى التي وقفت في وجه التوسّع الإسرائيلي . الانقلابات العسكرية التي حصلت في سوريا وآخرها انقلاب الشيشكلي ، لا تعني أبداً بأن أديب الشيشكلي أو غيره قد خلق حزباً سياسياً داخل الجيش أو كتلة سياسيّة . أديب الشيشكلي بقي نظامه حوالي ثلاث سنوات أو ثلاث سنوات ونصف السنة . وقيل بعد سقوطه بأن هناك كتلة في الجيش السوري سُميت " كتلة أديب الشيشكلي ". أنا أستطيع أن أؤكد بأنّه لم يكن هناك كتلة لأديب الشيشكلي ولكن كان هناك جيش سوري يتطوّر وخلال فترة أديب الشيشكلي ، واستمر يتطوّر فيما بعد ، ولكنه لم ينفصل إطلاقاً عن تطوّر الحركة السياسيّة والشعبيّة في سوريا ، التي طابعها ، كما قلت في السابق ، طابع قومي عربي يهدف إلى الوحدة ويهدف إلى تطوير سوريا . عندما اتجهت سوريا نحو الوحدة ، كما قلنا ، في عام 1957 وبداية 1958 ، وعندما ذهب عدد من الضباط يحملون الوثيقة ليقدموها إلى الرئيس عبد الناصر، أؤكد بأنه لم يكن بين هؤلاء الضباط شخص يدّعي أنه ينتمي إلى فئة ، وكلهم كانوا ينتمون إلى القوات المسلحة السوريّة التي أخذت على عاتقها ، منذ نهاية انقلاب الشيشكلي ، أن ترفض القيام بانقلابات وأنّها تنفذ السياسة التي ترسمها السلطة السياسيّة الشرعيّة ، الممثلة بالحكومة وبالبرلمان . وهذا هو السبب الأساسي والواقعي بأن القوات المسلحة لم تقبل بالقيام بأي انقلاب بين فترة 1954 حتى قيام الوحدة . ولو كانت هناك تكتلات ، كما يقول هيكل، لكان يمكن لأحدى هذه التكتلات أن تقوم بالانقلاب لتحول دون الوحدة . وأؤكد أيضاً بالمناسبة أنه عندما خيّل للبعض في هذه الفترة بأنه يمكن التلاعب على التكتلات ، وقيل آنذاك بأن الجيش مقسم إلى كتلتين : كتلة تتمحور حول جماعة أديب الشيشكلي وكتلة أخرى تتمحور حول ضباط حزب البعث ، وحدويين ومستقليين . إذا حاول البعض أن يقدموا رشوة لهاتين الكتلتين ، ورشوة مغرية ، لكي يقوموا بانقلاب يحول دون قيام الوحدة ، وفعلاً قدمت وحصل ضغوط عديدة على هاتين الكتلتين ، وإذا تبنَّينا هذا الاصطلاح ، لقد كانتا تناقشان الأوضاع السياسيّة ، وكان ضباط الجيش يناقشون فيما بينهم مدى سذاجة أولئك الذين يتصورون هذا التصوّر . لقد كان باستطاعتهم أن يستغلوا هذا الوهم وأن يأخذوا هذه الرشوة ، وأن يُفشلوا المؤامرة ليقدموا للرئيس عبد الناصر المبلغ الذي قُدِّم لأحد الضباط لكي يُرشي الكتلتين. لقد كان هذا يجري بعلم كل ضباط القيادة السوريّة ، وإنما القرار قد اتخذ على أن لا تنفصل القيادة العسكرية عن القوى السياسيّة وعلى رفض الانقلابات وعلى إقامة الوحدة مع مصر . فتجاهل هذه الحقائق ، واتهام القوات المسلحة السوريّة بأنها قوات مشرذمة والتقليل من أهمية القوى السياسيّة وتشوبه الفترة النيِّرة في تاريخ سوريا التي قامت بين عام 1945 ـ 1946 إلى قيام الوحدة ، ليس هذا في صالح القضية العربية إطلاقاً . وأنا أدعو السيد محمد حسنين هيكل إلى المزيد من التعمق في تاريخ سوريا السياسيّ ودور هذا البلد الإيجابيّ في مسيرة الحركة العربيّة منذ الثورة العربيّة الأولى في عام 1916 وحتى هذه الساعة . وإنّ محاولة تقزيم سوريا وتقزيم القوات المسلحة ، ليس في مصلحة القضية العربية ولا في مصلحة مسيرة هذه المنطقة في طريق التحرر .
أنا لا أصل إلى حدّ الإدعاء بأنّ هذه القوى كانت تقود الحركة العربيّة ، كلا ، هذه القوى مرّت في مرحلة الطفولة ، بل مرّت في مرحلة المزاودات ، حتى استقل تيار الوحدة لكي تبرز بعض القوى وتنال حصة أكثر من غيرها . وهذا طبيعي في الصراع السياسيّ الداخليّ في كلّ بلد من بلدان العالم ، كلّ القوى السياسيّة تزاود على بعضها . هذا في الدول التي مثل دولنا الفتيَّة وفي أعرق الدول الديمقراطيّة ، في فرنسا وفي إنكلترا . أين هي القوى السياسيّة التي لا تتنافس ؟... ولا تزاود إن كان على الإصلاحات الداخليّة أو على الأهداف العامة الكبرى ، داخل الحدود وخارج الحدود ؟...
س : يعني كان هناك بين القوى السياسيّة تنافس وكذلك ضمن الضباط داخل الجيش ...
ج : ... نوع من التنافس ، وهذا طبيعي . وقضية الوحدة هامة جداً . فيمكن أن يكون التنافس السياسيّ قد أخذ طابعاً أنّ هناك قوى أحرص على الوحدة وأحرص على الإسراع بالوحدة من قوى أخرى . لكن كلّ هذه القوى لو لم تكن وحدوية ، لما تمَّت الوحدة . ولو لم تكن الغالبية أو كلّ القوات المسلحة من عسكريين وضباط إلى جانب الوحدة . لما وقعت الوحدة ، وأنا أربأ وأرفض أيّ اتهام لأيّ فئة من الفئات في القوات المسلحة ، ولا أقول تكتلات إطلاقاً ، إطلاقاً . لقد مرّت على سوريا مؤامرات عديدة ، وتبين بأن القوات المسلحة صلبة متماسكة ليس فيها تكتلات . قاومت " حلف بغداد " وقاومت مشروع الشرق الأوسط قبل ذلك ، وقاومت حتى الانقلابات العسكريّة ووصلت لعام 1954 ولعام 1958 عند قيام الوحدة ، وصمدت للتطويق . ولو كان هناك شروخ وتكتلات ، لما استطاعت أن تصمد . لا أدري إذا كنت قد أوضحت هذه الأمور ...
س : طبعاً ، واضح ، واضح !! بس ، إذا سمحت لي ببعض الاستفسارات : هل كنتم ، أنتم ضمن الوفد الذي قابل الرئيس عبد الناصر ؟...
ج : أنا كنت من جملة الضباط الذين حملوا الوثيقة التي تحدثت عنها إلى الرئيس شكري القوتلي، نحن انقسمنا قسمين : قسم ذهب إلى مصر في نفس اليوم ، في صباح اليوم الباكر ، لا من أجل أن يعرض أعضاء الوفد على عبد الناصر الوحدة ، كما أدعى هيكل . ولكن من أجل أن يقولوا للحكومة السوريّة وللحكومة المصريّة. أنّ الجيش إلى جانب الوحدة ، بالشكل الذي يريده البلدين، السلطتين التشريعيتين في البلدين ، ولكي لا يترك المجال لأيّ مغرض أن يقول إنّ القوات المسلحة ، غير موحَّدة في شأن الوحدة ...
س : ماذا كانت ردّة الفعل للمرحوم الرئيس شكري القوتلي ؟... هل كان اللقاء مريحاً ؟...
ج : أظن أنّه فوجيء ، كما فوجيء الرئيس عبد الناصر بموقف القوات المسلحة ، فوجيء بهذا الموقف . يمكن ما كان يتوقع بهذه السرعة أنّ القوات المسلحة تبدي رأيها بهذا الشكل . كما لم يكن يتوقع عبد الناصر أيضاً أنّ الردّ على رسالته الشفوية التي نقلها صلاح الدين البيطار أن يكون هذا الرد الحاسم وبهذا الشكل .
س : ربما عبد الناصر لا يريد ...
ج : لا يريد أن يسرع بالوحدة ، ربما أيضاً القوى السياسيّة في سوريا ، الرئيس شكري القوتلي مثلاً ، لا يريد ... فلماذا نحن نبقى صامتين ، عندما قيل لنا إنّ كلّ الأحزاب في سوريا يريدون الوحدة ، كما قلت سابقاً ، عدا الحزب الشيوعي والرئيس عبد الناصر ، إذاً ، على القوات المسلحة أن تُبدي رأيها ، والعالم كله والكل يعلمون أنّ للقوات المسلحة مواقف وطنيّة ، وكان لها دور في السياسة ، ولا أقول إنّها كانت هامشيّة ، وإنما كان لها دور أظنه هاماً ، إذا لم يكن حاسماً . فنحن برّأنا أنفسنا أمام التاريخ ...
س : يبدو ، كما قيل ، نشرت الصحف بأنه حتى شكري القوتلي كان ممتعضاً من هذا الأسلوب وهذه الطريقة وتدخُّل العسكريين في الأحداث السياسيّة بهذه الصورة ، وقيل أيضاً بأنه حصل شيء من المشادة اللطبفة ، إنما تدل وتظهر على مدى استيائه ... هل هذا الرأي صحيح ؟...
ج : هذا الرجل أصبح الآن في ذمة التاريخ وكذلك الرئيس عبد الناصر أصبح في ذمة التاريخ.
س : ونحن نؤرخ ...
ج : نعم ، نؤرخ ... فأنا وقد حملت مع بعض رفاقي هذه الرسالة للرئيس شكري القوتلي ، أذكر أنه رحّب بنا ولم يفاجأ بأننا نطلب مقابلته ، لأنه اعتاد أن يشترك بعض ضباط القيادة بين فترة عام 1956 إلى عام 1957 في الاجتماعات الحاسمة التي كان يرأسها ، اجتماعات مجلس الوزراء الحاسمة ، فكان يشترك ممثلو القيادة ، أربعة أو خمسة ضباط وكنت من بينهم . فلم يفاجأ بأننا نحن نطلب مقابلته. وقلنا له آنذاك : نحن نريد أن نبرئ ذمتنا لكي لا يقال بأن القوات المسلحة لها موقف معيّن منه . نحن هذا هو رأينا . أنتم الممثلون للسلطة الحقيقية في سوريا مع السلطة الشرعيّة في مصر . أبحثوا السُّبل التي ترونها مناسبة من أجل إقامة هذه الوحدة . فقال : " على بركة الله ". وأنا (أحمد عبد الكريم) ما عالم نفساني حتى أكتشف ما في صدره ، لكن هذا الذي قاله ...
س : كثير عال ، يقال الآن أنتم ...
ج : التعليقات بعد هذا كثيرة جداً ...
س : وهو قد صرح ... الرئيس شكري القوتلي ...
ج : ومن بين التعليقات ، ما ذكره محمد حسنين هيكل وأظن بأنه كان ظالماً للأحزاب السياسيّة ولكثير من القادة السياسيين وأنه ظلم القوات المسلحة ، وظلم الوفد العسكري الذي ذهب إلى مصر وقابل عبد الناصر وظلم الجيش السوري عندما اتهمه بأن " مشرذم "، بالعكس ، في المواجهة مع إسرائيل ، لا أستطيع أن أقول بأن الجيش السوري كان سلوكه من عام 1948 حتى عام 1956 ، سلوك جيش غير منظم ومشرذم وغير موحَّد ...
س : يقال بأن عبد الناصر ، كان لا يريد الوحدة أو تردّد في قبول الوحدة مع سوريا، وقال ذلك للوفد السوري الذي كان ، فيما أعتقد ، برئاسة الفريق عفيف البزري ، يمكن ...
ج : (مقاطعاً) نعم ، نعم ...
س : فتردّد عبد الناصر وقال : إنّ الوحدة صعبة وتحتاج إلى سنوات وإلى كذا وكذا ، إلخ... ثم في النهاية ، وضع شرطين : الشرط الأول ، حتى يقبل الوحدة : عدم تدخل العسكريين في السياسة ، والثاني حلّ الأحزاب ، فما هو رأيكم : هل فعلاً عبد الناصر كان متردّداً ، ثمّ بعد ذلك وضع هذه الشروط للقبول بوحدة اندماجيّة ؟...
ج : أنا لا أعتقد هذا التردّد ... بل بالعكس ، إنني أعتقد بأن الرئيس عبد الناصر ، بعد عدوان السويس وبعد أن لمس الرغبة العارمة للجماهير وللقوى السياسيّة والحزبيّة في سوريا في الوحدة ، بدأ يوجِّه سياسة مصر نحو هذه الوحدة . وهو المسؤول الأول في مصر . وهذا هو الانطباع الذي كان سائداً وشائعاً عند كلّ الناس ، بما في ذلك العسكريين السوريين ، وقيادة الجيش السوري ، بأن الرئيس عبد الناصر يسعى حثيثاً نحو الوحدة ، وحدةٍ ما مع سوريا . أما ما لمسه الوفد العسكري الذي قابل عبد الناصر من تردّد ، فباعتقادي أنّ الغاية منه قد كانت في فرض هذين الشرطيْن الهاميْن : حلّ الأحزاب وعدم تدخل الجيش السوري في السياسة . في الحقيقة ،الوثيقة العسكريّة أكدت بأن الجيش السوري لا يريد ثمن الوحدة ، بمعنى أيّ تدخل في السياسة . إنه يعتبر قيام الوحدة أقصى ما يحلم به أيّ ضابط شريف في الجيش السوري حتى لو أنهى كلّ حياته العسكريّة ... الوحدة هي أمل ، حلم .
أما قضية حلّ الأحزاب ، فهذا لم يكن يعني العسكريين بقدر ما كان يعني القوى السياسيّة والحزبيّة الأخرى والتي هي في معظمها أقرّت الحل وليس العسكريون ، هي التي حلَّت نفسها وهي التي قبلت بهذا الحل ، وقد يكون فاوضها الرئيس عبد الناصر حول هذا الموضوع ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، فأنا لست من قادة الأحزاب . أنا كنت ضابطاً في ذلك الوقت، أنا أستطيع أن أجيب ، كما فهمت في ذلك الوقت ، كضابط في القيادة في الجيش السوري إن القوات المسلحة السوريّة تعتبر الوحدة قناعة ، ولكنها مانعة للعمل السياسيّ بالنسبة إلينا ، إلى العسكريين . أما الشرط التالي ، فهذا يتعلق بشروط الوحدة بين السلطة التشريعية في سورية والسلطة التنفيذيّة . وتبين فيما بعد بأن قامت الأحزاب وحلّت نفسها وأن هناك مفاوضات بين عبد الناصر والأحزاب السياسيّة ، وقبلت كلّها بالحل (عدا الحزب الشيوعي). ولم يقم الجيش السوري أو القيادة العسكريّة السوريّة بالضغط على أيّ حزب من أجل أن يحلّ نفسه .
س : طبعاً ، طبعاً ، بس يقال بأن الوفد العسكري المفاوض مع عبد الناصر قد قبل هذين الشرطين . فعندما نقول بأنه قبل هذين الشرطين ، نفرض ...
ج : لن نفرض هذا ، الوفد العسكري المفاوض قبل به ، ذلك لأننا نحن نريد الوحدة دون قيد أو شرط ، كما تريدها القوى السياسيّة والأحزاب في سوريا وكما يريدها عبد الناصر . وأظن بأن عبد الناصر كان يريد أن يشترط على العسكريين السوريين بأن يوقفوا ، بأن يضعوا حداً نهائياً لتدخلهم في السياسة ، وهذا ما قبله العسكريون . وما أظن بأنه كان يريد أن يشترط حلّ الأحزاب على العسكريين . لأنّهم ، أي العسكريين ، لم يقوموا بهذا وليس في مقدورهم أن يفعلوا ذلك، ولم يبحثوا مع الأحزاب إطلاقاً حلّ نفسها . ولم يحاولوا أن يضغطوا على أيّ حزب من أجل أن يحلّ نفسه .
س : طيب ، هل كان هناك من اتصالات جانبية ببعض القيادات العسكريّة من قبل القيادة المصرية ، الملحقين العسكريين مثلاً ، أو ...
ج : اتصالات جانبية !!...
س : يعني بشكل أو بآخر ...
ج : بمعناها السلبي ، الحقيقة ، كانت قيادة مشتركة ، مصريّة وسوريّة ، وتمثل البلدين وكان القائد العام لهذه القيادة المشير عبد الحكيم عامر . وكان هناك ضباط سوريون ومكتب عسكري مصري وملحق عسكري وسفير لمصر في سوريا ، وهو محمود رياض ، وعبد المحسن أبو النور ، الملحق العسكري .وأنا كنت ضابطاً من بين الضباط السوريين الذين كانوا في القيادة المشتركة في القاهرة . ثم عدت في عام 1957 بعد العدوان الثلاثي إلى سوريا ، وكنت عضواً في القيادة السوريّة .
هذا النوع من الاتصالات الجانبية : يؤسفني أن أقول لك إنه يثير شوية تأنيب في نفسي ، ذلك لأنه بطبيعة السوريين مفتوحون تجاه أشقائهم . وعندما كانت القوى السياسيّة تنفتح على محمود رياض الذي هو يمثل عبد الناصر وسفير مصر في دمشق ، يعني لا أدري كيف يحق لأيِّ كاتب ، إن كان محمد حسنين هيكل أو محمود رياض أو غيرهما ، أن يقول إنّ القوى السياسيّة في سوريا كانت تتأثر بآرائهم وبتوجُّهاتهم وكيف يعطي نفسه دوراً لا يستحقه ، وهو غير صحيح .
الحقيقة ، لم تكن القوى السياسيّة إطلاقاً ولا الضباط في الجيش السوري ولا واحد منهم ، يمكن أن يقال عنه بأنه كان له اتصالات جانبية ويريد أن يعمل لصالح مصر من أجل أن تقوم وحدة تحت هيمنة مصر . هذه صورة مشوِّهة كثيراً لموقف القوى السياسيّة ولموقف العسكريين . هذا رأي.
س : أنا أعرف وواثق من ذلك ، إنه كان هناك اتصالات حتى مع حزبيين من البعث . النقطة التي أشرتم إليها ، صحيح . أنّها لم تكن العلاقة علاقة تبعبة أو الاتصالات مشبوهة ...
ج : الغاية منها القول إنّ هناك نوعاً من التبعية أو الاستزلام لمصر أو استزلام حتى لعبد الناصر. صدقني .
س : بالضبط ، وحتى من جانب بعثيين ...
ج : ليس هذا صحيحاً ، بالعكس ، كان العسكريون والقادة السياسيون في سوريا ، يضعون أنفسهم في مستوى عبد الناصر . أليس غريباً على السوريين بأن يقدموا سوريا دائماً على صينية القهوة لمن تريد من الدول العربية أن تقيم وحدة معها ؟... يمكن أن يكون هذا " كعب أخيل "، نقطة ضعف عند السوريين ، أن يقدموا دائماً السيادة في سبيل إقامة الوحدة ؟... هذا ليس عيباً وقد يكون نقطة يستغلها الآخرون ... ولكن ، يدخل هذا الموقف الوحدوي في المكانة التاريخية التي يحتلها هذا البلد ، ومسيرة الحركة العربيّة وتطوّرها في سوريا . وهذا سلوك قد يكون بعيداً عن الواقع !!... وأظن أنّ سوريا قد تلقَّت منه الكثير من الدروس والعِبَر باعتقادي ، وأصبح الناس أكثر واقعية . وأن أمور الوحدة العربيّة يجب أن تُبنى على أسس موضوعيّة ، وتأخذ بعين الاعتبار عوامل كثيرة : تاريخيّة وسياسيّة واقتصاديّة وجغرافيّة وإلخ ... كلّ ذلك دون أن نصل إلى حدّ بأن كلّ قطر يحاول أن يتقوقع على نفسه ، بالعكس ، العالم كله يتجه نحو تكتلات أوسع تستطيع أن تواجه مشاكل العصر. ونحن مطلوب منا ذلك ، ولا يمكن إطلاقاً أن ندخل هذا العصر الحديث ، هذا القرن، ومشكلات كبيرة تواجهنا ، إلاّ إذا تكتلنا ، وإلاّ إذا تكاملنا ، وإلاّ إذا اتجهنا نحو الوحدة العربية الاندماجية ... ولكن بثبات ، دون رجعة ، إلى تكامل اقتصادي ، إلى وحدة ثقافيّة ، إلى وحدة دفاع وأمن ، إلى سياسة موحَّدة . أمامنا تحديات والناس يسيرون بسرعة. وإسرائيل أمامنا ومَن وراء إسرائيل .
كان هذا هو الإطار العام للفكر السياسي داخل القوات المسلحة في الخمسينات التي وصلت إلى الوحدة بين مصر وسوريا وأعتقد أنه لا يزال هذا التوجه هو نفسه نحو الوحدة حتى الآن ، ولكن بكل واقعيّة ... وكل موقف فيه إنقاص لحق هذا الشعب فيه نوع من الذل ...
س : لمحة من خلال تجربتكم حول دور محسن أبو النور آنذاك ، إذا سمحتم ، واتصالاته كملحق عسكري في السفارة المصريّة في دمشق ؟...
ج : ... قلنا : محسن أبو النور ، يعني ، أعتقد كملحق عسكري ، لعب دور الملحق العسكري وكأنه في دولة أخرى غير سوريا . فكان يفسر اتصالاته وكأنه يقوم بعمل عظيم !!... يعني بفذلكة (مخابراتيّة) أو شطارة أو أنه عمل وبحث مع فلان أو بحث مع علان وكان يفسر ذلك وكأنه ، يعني ، استطاع أن يقنع فلاناً بأن ينضمّ إلى تيار عبد الناصر ، ومن أجل أن يعطي لنفسه أو للقيادة المصريّة مكانة هامة . ولكن قد تبين بأن الأمور تجاوزته .
هنا أذكر مثلاً ، في يوم تقديم المذكرة ، فاجأناه حوالي الساعة الخامسة صباحاً وهو نائم في مكتبه . اتصلنا به وقلنا له تعال إلى القيادة ، قيادة الجيش . قال : إيه ده ، فيه إيه !!... قلنا له : تعال إلى القيادة ، هناك طائرة جاهزة ، وفي وفد بدو يروح لمصر . قال : إزاي يا افندم ، بكتب ، أبعث تلكس ، باتصل . قلنا له لا تتصل بمصر ، وليس لك الحق ، أنت مجبر بأن تذهب مع هذا الوفد ، دون أن تُعلم أحداً . وأخذ يتخوف ، أي أنه كيف يمكن روح ويقولوا له : أوف ، شو جاي أنت ، ما تخبرنا ، ما تعرف ، ما عامل حالك بأنك متغلغل داخل القوات المسلحة ؟!... فذهب إلى هناك والعرق يسيل من جبينه ، أنه فوجيء ... وهناك في مصر ، عندما سئل : إيه دول، ليه جايين ، ما بيعرف ، من اللي بيعرف. ولو كان يعرف ، كما كان يدعي ، لكان أبلغ مصر قبل ذهاب هذا الوفد إلى مصر وبهذه الطريقة .. ففوجئ مفاجأة قاتلة ، أظهرت مدى تغلغله في الجيش السوري وأنه لم يكن أكثر من ملحق عسكري . ولم يكن تعامله معنا نحن إلاّ كملحق عسكري ، ولكن لدولة حليفة وصديقة وعربية وزعيمها عبد الناصر . وإذا كان يلاقي بعض الإكرام هو والسفير المصري ، فهذا تقدير من شعبنا ، تقدير شعبنا لعبد الناصر وليس لأدوار هؤلاء . وأنا أقول بأنه لم يكن لهما ، كلاهما، دور في توجيه سوريا نحو الوحدة . كان الدور هو حركة من جماهير هذا البلد ، سوريا ، أبداً، لم يقبض لها ثمناً ، لم تتأثر لا بدور فلان أو علان ، يعني لا الملحق العسكري أو غيره . لكن تسلسل الأحداث ، كما قلت ، الرغبة ، التصميم ، عند كلّ القوى السياسيّة ، وهذا شيء طبيعيّ ، لقد جاءت ظروف فعلاً مواتية يجب استغلالها من أجل إقامة وحدة وبخاصة مع مصر . كيف يمكن إضاعتها ؟!...
إنّ مصر لأول مرة تطلب وتقبل أن تقيم وحدة مع سوريا ، من يتحمل هذه المسؤولية ؟... من يتجرأ على تحمل أن يرفض وحدة مع مصر ؟... مَن لا يقف هذا الموقف المشرِّف ؟... وهذا الموقف دلّ على أن الذين ساهموا في قيام الوحدة ، رفضوا في الوقت نفسه أي دور لتخريب هذه الوحدة . عندما شعروا بأن هناك أزمة في الوحدة ، قالوا للرئيس عبد الناصر : هناك أزمة ، نرجو أن تجد طريقة لعلاجها ، وإلاّ ، وإلاّ يمكن أن تتطوّر الأمور يوماً بعد يوم نحو الأسوأ ، دون أن يدروا... ولم يكن لنا علاقة نحن الذين صنعنا الوحدة ، لا في القوات المسلحة ولا في الجيش ولا كأفراد ولم نقم بأي دور من أجل أن نخرِّب الوحدة ...
س : كيف تفسرون هذا الجوّ الحماسي للوحدة مع عبد الناصر ، هذا الجوّ العاطفي ، الرومنطيقي ، هذا الحماس المنقطع النظير ؟!...
ج : أساسه ، فعلاً ، تيار قوي وحدوي قديم في سوريا . أنت تعرف ، يوم استقلت سوريا وحتى في أول اجتماعات الجامعة العربيّة ، وكان رئيس الوفد السوري سعد الله الجابري ، قال في أول اجتماع في الاسكندرية ، فيما أظن ، بأن سوريا مستعدة أن تقدّم سيادتها لأيّة دولة عربية تريد أن تقيم وحدة معها . لو رجعت إلى دساتير كلّ الأحزاب السوريّة والخطب السياسيّة أو البيانات الوزاريّة، حتى وبيانات الانقلابيين العسكريين ، زعماء الانقلابات العسكريّة ، وسألت : لماذا كانوا يستخدمون هذا الشعار : الوحدة العربيّة ؟... لو لم يكن هذا الشعار مطلباً ويجد رضى لدى الجماهير. إن كان هذا بقصد إرضاء الجماهير أو عن قناعة ، فأنا لا أستطيع أن أقول عن قناعة وحسب ، بل قد يكون لهذا الحزب أو ذاك بعض الشروط ، مثلاً ، نأخذ خالد العضم : لم يكن رئيس حزب ، ولكن كان على رأس كتلة مستقلة . كان يقول : أنا مع الوحدة ، ولكن تعالوا نضع شروط هذه الوحدة . في سوريا شيء من الديمقراطيّة ، نحن نذهب إلى الوحدة دون انقلاب عسكري . في مصر قامت ثورة وألغت الأحزاب وأقامت حكماً على رأسه عبد الناصر ، ليس فيه أحزاب . وأُعطيت السلطة للرئيس في الجمهورية ... لكن في سوريا، قوى سياسيّة وحزبيّة هي التي تذهب وتقيم الوحدة مع مصر . فهذه شروط وظروف سياسيّة موضوعيّة يجب أن تؤخذ في الاعتبار في وضع الوحدة الجديد ، ذلك لأنه ليس الموضوع هو عبارة عن حل فَوْجَيْن من القوات المسلحة وتشكيل لواء . نحن أمام بلدين ، ولأول مرة بعد قرون عديدة ، يقيمان دولة موحّدة ، هنا قوى سياسيّة وأحزاب وهناك ثورة دون قوى سياسيّة وأحزاب . لكن عبد الناصر ما قام بثورة في مصر وفي سوريا سواء بسواء. ومن هنا ، بعض السياسيين ، عندما بدأ يظهر نوع من الأزمة ، وصاروا يتساءلون : نحن لسنا كالأحزاب المصريّة ، عندما الغاها عبد الناصر ، الأحزاب الرجعية. فنحن أحزاب قمنا بالوحدة. فلماذا يعاملنا بهذا الشكل...
س : يقول هيكل ، أنا أعود إلى هيكل لأنه ، فعلاً ، يعبّر بشكل رسمي وعام وعالمي ، عن وجهة نظر رسمية لحكم عبد الناصر والسياسة المصرية آنذاك .
ج : يعني ، لا أظن أنه يعبِّر تماماً عن فكر عبد الناصر ، لا أظن هذا ...
س : أنا أعتقد أنه يعبّر حينذاك على الأقل في هذا الموضوع ، ولكن ...
ج : لكنه أعطى انطباعاً بأنه هو الناطق الرسمي بلسان عبد الناصر ...
س : هنا ثمّة ناحية تاريخيّة ، كان لها أهمية في حينه ينبغي إجلاؤها . يقول هيكل : إن الذي حقّق الوحدة ، من الجانب السوري ، هو الشعب السوري ، لا حزب ولا الضباط في القوات المسلحة ... فهنا طبعاً ، هذا صحيح !.. الوحدة العربيّة والوحدة السوريّة المصريّة ، إنما هي مطلب جماهيري سوري شعبي ، ولكن الشعب عادة يعبّر عن رأيه عَبر قنوات القوى السياسيّة الموجودة وعَبر الأحزاب . برأيكم وكما عاصرتم هذه الفترة ، مَن هي القوّة السياسيّة الفاعلة التي سعت حثيثاً إلى تحقيق الوحدة مع مصر ، تجاوباً مع طموحات الشعب السوري ؟...
ج : أولاً ، القول بأن الشعب السوري هو الذي حقّق الوحدة ، ليس هذا القول تجاوزاً للحقيقة : الشعب السوري في غالبيته وحدوي . لكن تعبيره عن إرادته ، كان عن طريق قوى سياسيّة انتخبها ، وهي ممثلة لهذا الشعب ، في البرلمان بأكثريته ، عندما صوّت على الوحدة ، صوّت بإجماع لم يخالف فيه إلاّ نائب واحد هو خالد بكداش . هذا معروف ، هذا حادث تاريخي ، فأيّ تجنّي على القوى السياسيّة يكون نوعاً من مجانبة الحقيقة والواقع التاريخيّ . هذه القوى السياسيّة التي انتخبها الشعب في سوريا عَبر تصويت ديمقراطيّ وبأكثرية مطلقة أو بالأحرى بأكثرية كاسحة عبَّرت عن رغبتها في الوحدة مع الرئيس عبد الناصر . أما محاولة استغلال هذه النقطة باللعب بين الشعب وبين القيادات السياسيّة فهي محاولة مغرضة. يمكن أيضاً أن أذكر أنّ الغاية أيضاً منها أنّ الشعب هو الذي انتخب الرئيس عبد الناصر ، والشعب هو الذي حقّق الوحدة ، فما لكم أنتم يا قوى سياسيّة ويا أحزاب سياسيّة أن تتدخَّلوا في هذا الموضوع وتضعوا أيديكم في أمر كي تأخذوا دوراً لكم . فالذي تبين ، فيما بعد، أن عزل القوى السياسيّة أحدث فراغاً في سوريا. لم يملأ هذا الفراغ الانتخابات المفتعلة والشكلية للاتحاد القومي ، وبالتالي هذا الفراغ شعر به كلّ الناس وسقطت الوحدة دون أن تكون القوى الوحدوية إلى جانب الجيش والأحزاب لديها الإمكانيات لتدافع عن الوحدة . كانت كلها موضوعة على الهامش . فهذا نوع من التجاهل المقصود لحقائق هامة جداً، هامة جداً ، أدّت إلى أزمة سقوط الوحدة، أدّت إلى كارثة ، وهنا أيضاً ليس في صالح الحركة العربيّة في المستقبل ، وكيف تبنى الوحدات أو الوحدة أو الاتحاد في المستقبل ، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن في كلّ البلدان في العالم . هناك قوى تمثل الشعب ، هناك قيادات ، عندما تلغى هذه القيادات ، يحدث فراغ ، قطيع بدون قيادة . ليس هذا فقط في الشرق ، يعني نحن لسنا أفضل ولسنا أسوأ الشعوب الأخرى التي مثلنا . حتى الشعوب الأكثر تطوّراً وحضارة . هناك حالات " تسيُّب " تحدث ، مثلاّ فرنسا : يوم الذي سيّبت فيه ، جاء ديغول قادها وتجاوبت معه القوى السياسيّة ، فيما بعد ، واستطاع أن يقود فرنسا ، ثم عادت فرنسا إلى طريقها .
س : هنا سؤال أكثر تحديداً ، هل لعب البعث كحزب دوراً في تحقيق الوحدة ؟!...
ج : آه ! هذا جزء من سؤالك ، ما في شكّ بأن حزب البعث العربي الاشتراكي كان على رأس القوى الوحدوية التي سعت إلى الوحدة ، هذه حقيقة ، لا يستطيع أحد أن ينكرها . رُغم أنه كان في ذلك الوقت ، الحزب الأقوى ، والحزب الأكثر جماهيرية ، قدّم حلّ نفسه من أجل أن تقوم الوحدة. فقدم تضحية كبيرة جداً ، جداً . ثم مع الأيام الأولى ، بعدما قامت الوحدة ، كان من ضحاياها . وهذا أيضاً ما مهّد لنشوء تناقضات وتفاقم حدّة الأزمة داخل الوحدة ، واستمر ذلك حتى طال بقية الأحزاب التي أيضاً حلّت نفسها ...
س : الحزب الشيوعي ، هل وصل إلى درجة من القوّة عام 1957 ، موضوعياً نحكي ؟... هل استطاع أن يثبت أنّه قوّة سياسيّة جماهيرية لا يستهان بها ؟... هل حصل تضخيم لقواه ؟... لأنّ هيكل يقول : سوريا كانت تقع تحت خطر انقلاب عسكري وتحت خطر انقلاب شيوعي داهم ...
ج : على قّدْر ما أعلم ، داخل القوات المسلحة ، لم يكن للحزب الشيوعي تأثير يستطيع أن يؤثر في القرارات التي تتخذها قيادة الجيش السوري في ذلك الوقت إطلاقاً ، ولو كان له تأثير ، لبرز هذا التأثير في إجماع القوات المسلحة على الوحدة ، رغم التصريح والعلني في موقف الحزب الشيوعي في البرلمان السوري وحتى موقف الاتحاد السوفياتي الذي كان واضحاً ، في ذلك الوقت ، بأنه عارض فكرة الوحدة . أما خارج القوات المسلحة ، فأعتقد أن الحزب الشيوعي السوري ، ما كان من القوّة التي يستطيع بها أن يكون له تأثير في القوات المسلحة أو في الاتجاهات الأساسيّة لسياسة سوريا الداخلية والخارجية . صحيح أنّ موقف الاتحاد السوفياتي وإعطاءه الأسلحة لمصر وسوريا ، ومواقفه ضدّ العدوان الثلاثي ، وقبل ذلك صفقة الأسلحة في عام 1955 لسوريا ومصر ، ومواقفه الداعمة ( لحركة التحرر العربية )، إلاّ أنّ الحزب الشيوعي السوري بقي في حدود النشاط السياسيّ المحدود إلى حدٍّ ما ، وإن كان إعلامياً أعطاه حجماً أكبر بكثير مما هو في الواقع السياسي ّ ...