السفير - خلافـات مهلكـة - ميشيل كيلو
27/09/2010 العدد: 11702
خلافـات مهلكـة!
ميشيل كيلو
عندما تعجز جهات سياسية عن التعايش السلمي وعن إدارة خلافاتها وتناقضاتها بالحوار، وعندما تتبنى لغة تقوم على التخوين والاتهامات المتبادلة ورفض ما يصدر عن الآخر، يكون هناك أزمة سياسية من طبيعة عامة وشاملة تتخطى الأطراف المباشرة للعمل العام: رسمية كانت هذه أم شعبية.
في هذه الحالة، لا يكون هناك ناجون، ويؤدي الشقاق إلى تقويض الشأن العام تقويضاً يزداد مع كل تصريح، وتنحطّ القوى السياسية إلى درك يخرجها عملياً من السياسة بما هي فن تدبير مصالح الناس والدولة، وتنخرط الحياة العامة في تطور تعجز السياسة أكثر فأكثر عن التحكّم بتطوراته. عندئذ، يصير الانهيار عاماً يلمسه المواطن العادي، غير المهتم سياسياً، وتدخل البلاد في نفق مظلم يصعب باضطراد إخراجها منه بالوسائل والأساليب السياسية والإدارية المعتمدة، وتقف أمام أحد احتمالين: إما الفوضى، أو انتفاض أطراف العمل السياسي على ذاتها وإعادة إنتاج الشأن العام بوسائل وأساليب، وقوى، جديدة، مع ما يعنيه هذان الاحتمالان ويضمرانه من عنف تصعب السيطرة عليه.
ليس تردي الحياة العامة إنجازاً فتتباهى قوى السياسة بتفشيه، بل هو دليل دامغ على بؤسها وعجزها عن الإمساك بمفاصل الواقع، وعن التحكم بخلافاتها واختلافاتها، فضلاً عن فشلها في بلورة مشتركات وجوامع عامة تتخطى حقلها الخاص والمباشر، لأنها الساحة التي يتم فيها كل تنظيم إنتاج، رؤيته ومواقفه المعبرة عن نظرته على مسائل الدولة والمجتمع، فهو يشارك في صياغة هذه المشتركات والجوامع وإقرارها، وفي إضفاء طابع عام عليها، يجعل منها إطاراً وطنياً لا يجوز الصراع أو الاختلاف عليه، تتجاوز مصالحه مصالح أي تكوين من تكويناته الجزئية، والمنضوية فيه والتي تنمو داخله، حيث تكتسب طابعاً سلمياً وحوارياً وعاماً يوجّهه، بين أمور أخرى، حرص كل منها على التنظيمات الأخرى العاملة فيه، التي في سلامتها وعقلانية ممارساتها وتقيدها بالمشتركات سلامة وعقلانية الحياة الوطنية، وأمن المجتمع، واحترام المواطن، بينما يشحن ضعفها أو إضعافها مجمل الحقل السياسي بسمات مهلكة، خاصة إن كانت التنظيمات ملتزمة حقاً بالشراكة الوطنية، وكان ضعفها يتم لمصلحة جهات تعمل للانفراد بالمجال العام، وتضرب عرض الحائط بالمشتركات السائدة فيه، في سعيها إلى إعادة إنتاجه انطلاقاً من رؤيتها الضيقة ومصالحها الذاتية .
لا يكون المجال السياسي العام مشتركاً، ويصير محل تنازع، بمجرد أن تسعى أطراف منه إلى إضعاف بعضها بوسائل خارجة على التوافق والمشاركة القانونية والشرعية، الناجمة عنه والمنضبطة بأسسه وبنوده نصاً وروحاً. وليس من السياسة بما هي فن إدارة الشأن العام لمصلحة الجماعات والخواص المنتظمة في حقل دولة، سياسي/وطني، أن تسود لغة التخوين والتشكيك، ويشحن الحيز العام بتوتر يجعل الرأي الآخر كفراً يستحق صاحبه الإقصاء من الحياة بالقتل، المادي والمعنوي، يستوي في ذلك أن يتمّ بلوغ هذا الهدف بالعنف أم بنمط الكلام، الذي كانت العرب تعتبره: أول الحرب، على حد قول شاعرهم:
لأن النار بالعودين تزكى
وإن الحرب أولها كلام.
أسوق هذه التدقيقات والملاحظات بمناسبة تصريحين صدراً في يوم واحد عن طرفي الصراع الداخلي الفلسطيني: فتح وحماس. قال متحدث ما باسم فتح: إن حماس خانت الأمانة الوطنية و... و... الخ. وقال متحدث باسم حماس (الأستاذ الزهار): إن فتح عجزت عن تشكيل أية قائمة انتخابية في أية قرية أو مدينة فلسطينية و... الخ. إذا كان صحيحاً ما قاله الطرفان، فهذا يعطي فكرة عن المآل الذي انتهى إليه ليس الطرفان وحدهما، بل كذلك العمل الوطني الفلسطيني كساحة تجمعهما، يفترض أنها يجب أن تبقى بعيدة عن نقل صراعاتهما إليها، في ظل احتلال استيطاني. ليس من المفاخر التي يجب أن تحتفل فتح بها أن تكون حماس قد خانت الأمانة الوطنية، ما دام جمهور فلسطيني واسع جداً قد وضع ثقته فيها. وليس مفخرة لحماس أن تكون الجهة التي أطلقت الكفاح المسلح الفلسطيني، وبعثت عنقاء فلسطين من رمادها، وقادت النضال الوطني طيلة نيف وثلاثين عاماً، وانضوى ملايين الفلسطينيين واستشهدوا تحت راياتها، قد انهارت إلى الحد الذي يجعلها عاجزة عن تشكيل لائحة انتخابية في أية قرية أو مدينة فلسطينية! إذا كان رأي فتح في حماس صحيحاً، وكان رأي حماس في أوضاع فتح صحيحاً، فهذا يعني أن العمل السياسي الفلسطيني وقضية فلسطين في كارثة قاتلة لا مخرج لهما منها، وأن النضال الوطني الفلسطيني انتهى إلى عكس ما كان يؤمل منه: قيام تنظيمات تحظى بشعبية واسعة وتتمسّك بالنهج الوطني والأمانة النضالية. وإذا كان ما يقوله الطرفان صحيحاً، ترى، من سيوقف الاستيطان، ويطرد الاحتلال، وينتزع الدولة، ويحرر الأرض، ويعيد اللاجئين، ويرسم الحدود، ويهدم المستوطنات، ويستعيد المياه، ويصحح التاريخ؟ وما معنى أن تتعهد فتح وحماس باستعادة الوحدة الوطنية، إذا كانت المنظمتان تتبادلان الاتهام بالخيانة والإفلاس الوطني والشعبي؟
في الحركات العاقلة والعقلانية، تنشب الخلافات، فإن لم تتوفر شروط تسويتها، اقترحت قياداتها تجميد أي سجال يؤجج تناقضاتها، والعمل لإقامة شروط تجعل حل خلافاتها أمراً ممكناً. يحدث هذا في بلدان كثيرة تنضبط تنظيماتها السياسية بجوامع مشتركة وأهداف متقاربة أو واحدة، وتنتمي إلى حقل سياسي موحد تتحاشى نقل تناقضاتها إليه، وتحصرها في أضيق الحدود ريثما تجد حلاً لها. أما في حالتنا العربية غير العاقلة وغير العقلانية، فإن الخلافات، التي غالباً ما تكون تافهة، تنقلب دوماً إلى صراعات تنعكس على المجال الوطني: ساحة تجمعها وتوحيد جهودها وثلم تناقضاتها والحد منها؛ صراعات تصير أكثر فأكثر أداة تنافٍ وطني تمكّن العدو من لعب دور متزايد في إدارتها، لأنها تضع ما هو رئيسي تحت أولوية ما هو ثانوي، وتغيّب الهدف الجامع تحت ركام الأهداف الثانوية، فلا يبقى من غاية توجّه أطرافها غير القضاء على الآخر: شريك الحياة والموت المفترض، الذي يعني إضعافه أو القضاء عليه الانخراط في عملية تمزيق ذاتي قاتل، لا مصلحة فيها لوطن أو تنظيم، ولا انتصار على عدو أو محتل، بل انهيار مضطرد وتدهور متفاقم، وتحوّل العمل السياسي والوطني إلى ميدان إقصاء وتنابذ وقتل متبادل.
كتب الكثير عن صراع حماس وفتح، حتى لم يبق جديد يضاف إلى ما قيل. وصدرت عن الجانبين أقوال تؤكد وعيهما بالمضار التي يولدها خلافهما. مع ذلك، لم يخطر ببال أي منهما تجميد الصراع والعمل على خلق الشروط الكفيلة بجعل حلّه ممكناً، بل اندفعا كلاهما إلى تسعيره وإلقاء المزيد من الحطب على ناره المتأججة. واليوم، إذا كان حلّ الخلاف ليس ممكناً، هل يكون ممكناً إعلان الطرفين عزمهما على تجميده والسعي لتغيير الحاضنة السياسية التي أفضت إليه، يعتبر استبدالها بحاضنة مغايرة يتوافق الطرفان عليها شرط الخروج من المأزق الوطني وإيجاد حلول لما ترتّب على تلاشيها من صراعات مهلكة.
إنه سؤال يطرحه الحرص على فلسطين، والرغبة في سماع تصريحات فتحاوية تشيد بوطنية حماس، وتصريحات حمساوية تغبط فتح على شعبيتها، التي هي قوة لها أيضاً، بينما وطنية حماس ضمانة مهمة لوطنية فتح !