الدولة اللبنانية وسبل بنائها : من أين نبدأ ؟...
المركـز الثـقافي
للبحوث والتوثيـق
صـيــدا
يتشرف المركز الثقافي للبحوث والتوثيق في صيدا بدعوتكم لحضور الندوة الفكرية وموضوعها :
الدولة اللبنانية وكيفية بنائها :
من أين نبدأ ؟؟
التقديم : الدكتور محمد مجذوب (عميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية)
المحاضرون : القاضي حسن القوّاس الدكتور أنطوان مسرّة
(رئيس محكمة الجنايات) (أستاذ في الجامعة اللبنانية)
الأستاذ بشارة منسّى الأستاذ محمد كشلي
(مستشار في مجلس النواب) (كاتب وصحافي)
الزمان : الساعة السادسة من بعد ظهر يوم السبت الواقع فيه 10 آب 1991
المكان : قاعة محاضرات مركز صيدا الثقافي (مؤسسة الحريري) الهلالية ـ صيدا
يتبـع الندوة
مناقشة عامة اللجنة الثقافية
الدولة اللبنانية وسبل بنائها : من أين نبدأ ؟...
السبت 10 آب 1991 ، مركز صيدا الثقافي
كلمـة التقـديـم
د. محمد مجذوب
عميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية
لماذا شدة الاهتمام في هذه الأونة الأخيرة ـ وندوتنا اليوم دليلٌ وشاهد ـ بالدولة اللبنانية كبنية بشرية وسياسية واجتماعية ؟..
ولماذا شدة الانكباب على كيفية بناء الدولة أو إعادة بنائها على أسس جديدة تختلف، في العمق والجوهر، عن الأسس التي قامت عليها في الماضي وكانت من الأسباب التي أدت إلى تعثّرها ؟...
ولماذا شدة التركيز، عند الحديث عن سبل إعادة البناء، على نقطة الانطلاق وتكرار مقولة "من أين نبدأ ؟"، كأن دولة لبنان الكبير التي تكوّنت في العام 1920، برعاية الجنرال غورو، لم يتم تكوينها بعد، أو لم تتوافر لها بعد شروط الحياة الطبيعية في المجتمع الدولي، أو لم تعرف بعد كيف تبدأ وتنطلق وتواكب المسيرة البشرية، أو ـ باختصار ـ لم تتمكن بعد من وضع القواعد والأصول والبرامج والمناهج والسياسات التي تُخوّلها حق إطلاق صفة الدولة على نفسها، وحق التعامل مع المواطنين والآخرين على هذا الأساس ؟...
إن مبعث هذا الاهتمام أو الانكباب أو التركيز يعود إلى فكرتين أساسيتين الأولى مستمدة من مكانة الدولة وأهميتها في المجتمع البشري، والثانية نابعة من شعور الذين عرفوا ويلات الحرب الداخلية ومباذلها.
الفكرة الأولى تتلخص في أن الدولة، بمفهومها أو وضعها أو مركزها القانوني والسياسي والاجتماعي، تُمثّل مرحلة متقدمة ومهمة من مراحل التلاحم أو التماس في المجتمعات البشرية. صحيح أن هناك اليوم، على صعيد العلاقات الدولية، حركاتٍ أو تيارات أو اتجاهات تُنادي بتجاوز معالم الدولة وتسعى إلى صهر الدولة في تجمعات وتكتلات أشمل وأوسع، إلاّ أن الدولة ما زالت، حتى إشعار آخر أو تاريخ لاحق، تُعتبر المركز الرئيسي أو مركز الثقل في عمليات التدبير والتنظيم والتقرير والحسم في المجتمع. فالدولة تتميز من بقية الفئات أو الكتل أو الجماعات الأخرى (داخلية كانت أم خارجية) بظاهرتين :
الظاهرة الأولى هي أن الجماعة البشرية التي تتكون منها الدولة هي اليوم (أو يجب أن تكون) جماعة متضامنة متماسكة تجمعها عقيدة وطنية واحدة. فالروابط الاجتماعية في الدولة أقوى (أو يجب أن تكون اقوى) من الروابط في بقية الكتل أو الجماعات. والتضامن بين رعايا الدولة أقوى (أو يجب أن تكون أقوى) من أي تضامن آخر . وفي حال قيام نزاع أو تعارض بين التضامن الوطني والتضامن في كتلة أخرى تكون الغلبة (أو يجب أن تكون) للتضامن الوطني.
هناك، ولا شك، كتل أو مؤسسات داخلية أخرى تبلغ درجة التضامن والتلاحم فيها حدّاً قوياً، أو حدّاً أقوى من التضامن الوطني. هناك أناس يُفضلون دينهم، او حزبهم، أو أسرتهم، أو مصالحهم الشخصية، على وطنهم.ولكن هذه الفئة من الناس اقليةٌ ضئيلة لا يُغيّر وجودها أو تصرّفها شيئاً من شمول القاعدة العامة. لقد برهنت الأحداث أو الشواهد التاريخية على أن الغالبية العظمى من المواطنين تندفع في سبيل الدفاع عن وطنها أكثر مما تندفع في سبيل الدفاع عن الكتل والمؤسسات الداخلية التي تنتمي إليها، وتعتبران مصلحة الوطن قبل كل مصلحة وأعظم من كل مصلحة. إن الشعور الوطني ما زال حتى الآن أقوى المشاعر لدى المواطنين، وذلك على الرغم من انتشار حركات أو تيارات معاصرة تهدف إلى إضعاف الشعور الوطني الضيّق والدعوة إلى شعور أشمل وأعمّ لا يصطدم بحدود الأوطان.
والظاهرة الثانية التي تميز الدولة من بقية الكتل أو الجماعات الداخلية هي أن الدولة تملك أحسن تنظيم سياسي. وتنظيمها هذا لا يوازيه أي تنظيم آخر في أية منظمة أخرى من المنظمات البشرية التي تعمل داخل الدولة أو خارجها. ففي الدولة، أولاً، تقسيم عمل وصلاحياتبين المسؤولين لا نجده في المنظمات الأخرى. وفي الدولة، ثانياً، نظام للعقوبات لا تعرفه بقية التنظيمات يسمح للسلطة بقمع كل عصيان أو تمرد أو استهتار بالقوانين. والدولة تملك ثالثاً، أعظم قوة مادية مسلحة (الجيش وقوى الأمن) تستطيع بها أن تنفذ قوانينها وقراراتها، وهذه القوة المنظمة تفتقدها التنظيمات الأخرى.
* * *
والفكرة الثانية التي تحثّ المواطنين على التشبث بأهداب الدولة وتفضيل الدولة على ما عداها من تجمعات تتلخص في معاناة الغالبية الساحقة من اللبنانيين الأمنين خلال الحرب الهمجية العبثية الشيطانية الجهنمية التي فُرضت عليهم وأسفرت عن تغييب الدولة وعربدة السلاح الفاجر وانتشار الفوضى والتسيّب.
وتغييب الدولة كان عملاً مقصوداً ومتعمداً، لأن اختفاء الدولة يٌسفر عن تعطيل مؤسساتها، وهذا التعطيل يُتيح لحملة السلاح الفاجر فرصة السيطرة على مقدرات البلاد، ونهب الثروات والممتلكات العامة والخاصة، وتحويل المجتمع إلى غابة من الجثث المبعثرة والأشجار المحترق والأطلال الخاوية تقف الحيوانات أمامها مشدوهة مذهولة لأنه لم يُؤْثر عن الحيوانات أنها ارتكبت يوماً، ضد فصائلها أو ضد الطبيعة أو ضد الإنسان، مجازر من نوع المجازر التي شهدناها في لبنان.
وهذه الحرب الهمجية الوثنية التي كانت حرباً على الحريات أكثر مما كانت اعتراضاً على نظام الامتيازات اقنعت اللبنانيين، بعد أعوام طويلة من القمع والقهر والتسلط والتجبر، بأن الدولة على علاّتها، ولو كانت من صنع أجنبي ولو كانتحافلة بالتجاوزات والمفاسد، ولو كانت خاضعة لنظام لا يحظى برضى الغالبية، هي أفضل وأرحم من كل المسلحين بالفجور، وهي وحدها في النهاية، القادرة على فرض التنظيم وحفظ النظام وتدبير أمور الناس وتوفير الحد الأدنى من الحقوق والحريات.
صحيح إن اللبنانيين كانوا، قبل اندلاع هذه الحرب الدموية، يشتكون ويتذمرون من أوضاع دولتهم، إلاّ أن هذه الدولة كانت قائمة تمارس صلاحياتها وتؤمّن للمواطنين معظم حاجاتهم. بل كانت، إذا ما قارنّاها بغيرها من دول المنطقة تأتي في الطليعة من حيث الازدهار الاقتصادي وحرية الرأي والتعبير والانفتاح على كل الآفاق الفكرية والثقافية.
وخلال الحرب شعر اللبنانيون بأهمية الدولة وفداحة الخسارة التي حلت بهم من جراء غياب الدولة. ولم يكد كابوس السلاح الفاجر يتضاءل وينحسر حتى سارعوا إلى إعلان إيمانهم بأمرين متلازمين : أولاً، بوجوب استعادة الدولة لأن ذلك يحمل في طياته آمالاً عريضة في استعادة الأمن والاستقرار. وثانياً بوجوب معالجة الخلل في الدولة، أو في مؤسساتها، أو في سياستها، بالوسائل والطرق الديمقراطية السلمية التي تقوم على الحوار البناء والمنافسة السياسية والتناوب الحر على السلطة.
وإذا كان اتفاق الطائف قد ساعد على عودة الدولة، فكيف تعالج الخلل والنقص والفساد الذي أصاب مؤسساتها ؟... كيف نبدأ، ومن أين نبدأ ؟؟... لعل هذا هو السؤال الذي راود فكر القائمين على المركز الثقافي للبحوث والتوثيق عندما دعوا، شاكرين، إلى هذه الندوة...
كلمة القاضي حسن القوّاس :
إن بناء الدولة يقوم على عناصر مختلفة، أهمها التوافق واستمرار الثقة بين الشعب والدولة.
1 ) التوافق : إن ميثاق سنة 1943 هو الوفاق الوطني الذي اعتُمد منذ الاستقلال في بناء الدولة اللبنانية. ولهذا التوافق تاريخ انحسمت خلاله الخلافات والمتناقضات الماضية، التي كانت قد تسببت بحروب أهلية سياسية وثورات دينية وطائفية مزمنة، فتبلور الحسم بالميثاق الوطني الأول.
وإذا ما عدنا إلى ميثاق الطائف لوجدنا إن هذا الميثاق قد انبثق أيضاً على أثر وقوع نفس الخلافات والمتناقضات، وأهمها الصراع على السلطة، بعد أن أزكت الحرب اللبنانية وصبغتها بالنزاع التقليدي الطائفي والديني. ثم نشأت هذه الدولة الجديدة بسحر ساحر بعد أن حسم النزاع بميثاق جديد هو ميثاق الطائف والجمهورية الثانية.
وكأن الحالة هي عود على بدء.
والتساؤل الذي يتكرر ويعود إلى الأذهان هو التساؤل العفوي الذي ينبع من حقائق الذاكرة أو من الحق بالذاكرة، وهو القائل بأن الدولة لا تبنى على نقيضين،
ne font pas une nation gationséDeux n أصحيح هذا القول المأثور الذي طرحه المرحوم جورج نقاش ؟... وهل إن الوطن قابل للعيش في المستقبل وهل هو صالح للبناء، أم سيتعرض إلى نكسة وإلى هدم وتخريب كلما طمع الطامعون وطمح الطامحون، أو أخطأ المخطئون ؟ وما هي القواعد الصحيحة المتينة للبنيان القوي كي لا تتكرر المأساة وتتزعزع القاعدة وتقع الكارثة من جديد ؟...
نعم، صحيح هذا القول المأثور، ولكن الصحيح أيضاً، أن التوافق لا يكون إلاّ بالصراحة المتناهية، وكشف الحقيقة من الأعماق، وطرح الإشكالات، وعرض المتناقضات ومناقشتها بالجدية والموضوعية والاقتناع، لأجل التوافق على القواسم المشتركة.
والصحيح أيضاً وأيضاً، هو أن من طبيعة البشر أن يسعوا إلى بناء دولة، ومهما بلغت من اللحمة والقوة والتجانس والتقارب والتوافق، فهي تتجاذبها المتناقضات المختلفة، لأن تلك هي سنة الحياة، وهكذا هي طبيعة الإنسان الاجتماعي. فالمجتمع يرتقي من العائلية والقبلية والعشائرية، ويتحرر من العرقية والأثنية والعصبية والتعصبية الحزبية أو الدينية ليرتفع إلى سمو الإنسانية وإلى مستوى الثقافة والحضارة والديمقراطية.
والأصح، هو أن مصير اللبنانيين مرتبط بصورة حتمية لا بديل عنها، هي التعايش والعيش المشترك الذي لا مفر منه، تحت سماء واحدة وعلى أرض واحدة وفي محيط عربي ومنطقة عربية واحدة شاء اللبناني أم أبى.
فالتغريب ثقافة وعلم وطموح وتجارة وانتفاع ومصلحة وانفتاح على العالم. أما التعريب، فقومية وثقافة وحضارة عربية مبنية على وحدة المصير في المنطقة.