الإنسـان والحريّة - د. مصطفى دندشلي
الإنسـان والحريّة
إعداد وتقديم وتعريب بتصرّف
د. مصطفى دندشلي
* التقديـم
يهمّنا بداية أن نوضّح أنّ الصفحات الواردة أدناه ، والتي اخترنا لها عنواناً : " الإنسان والحريّة "، هي مقتطفات معرّبة بتصرّف كليّ ، مع المحافظة طبعاً على مضمونها الأصليّ ، ومستلّة من كتاب صغير الحجم ، صدر باللغة الفرنسيّة عام 1965 ، تحت عنوان " الحرّيّة " ( la liberté )، ناشره اليساريّ الفرنسيّ (J. J. Pauvert) وهو يضمّ نصوصاً مختارة ( choix de textes ) جمعها الكاتب والسياسيّ اليساريّ ( FranÇois Munoz )، من مجمل أعمال " ميخائيل باكونين " الغزيرة .
إنّني وجدت هذه الترجمة مصادفة ـ وهي ترجمة قديمة تعود إلى نحو عقدين من الزمن ـ ضمن أوراقي الخاصة ، مع نصوص أخرى . فرأيت قد يكون من المفيد ، ربما ، نشرها وطرحها للحوار الفكريّ وللمناقشة العامة ، ولا سيّما في ظروفنا الراهنة ، حيث كثيراً من المفاهيم السياسيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة حول : الحريّة ، والاستقلال الفرديّ أو الإنسانيّ ، والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة وتكافء الفرص ، إلخ ... مطروحة على بساط البحث ... لذا ، ينبغي التنويه إلى أنّ الأفكار الواردة تعبّر عن رأي الكاتب ، وكان دورنا التفسير والشرح والتوضيح فقط لا غير ...
* * *
وُلد " ميخائيل باكونين" ( Michel Bakounine ) في روسيا القيصريّة (1814 ـ 1876) من عائلة أرستقراطيّة . التحق بجامعة موسكو، ودَرَس فيها التاريخ والفلسفة ، وبخاصة فلسفة "هيجل" وفلسفة "فيخته". ثوريّ ، اشتراكيّ ، أمميّ ، رومانسيّ ، طوباويّ ، صاحب نظريّة شاملة عُرفت بالاشتراكيّة الأمميّة وكيفيّة تحقيقها ، شرحها في كتابه المشهور "سلطة الدولة والفوضى (1873) وكان يُطلق عليها الفلسفة الفوضويّة (l’amarchisme). وهو مؤسّس حركتها ومنظّرها الأول . أسّس حركة " الأخوّة " و" عصبة السلم والحريّة". خاص " باكونين " شتّى الانتفاضات الثوريّة والتيارات العماليّة في أوروبا (1830 ـ 1848 (صدور البيان الشيوعيّ) ـ 1870 (كمّونة باريس). فصدرت بحقّه أحكام متفرّقة بالسجن والنفي والإعدام …
كان " باكونين " بحماسته وعاطفته الجيّاشة ، أحد أبرز قيادي الأمميّة الأولى . فانتشرت أفكاره الاشتراكيّة الفوضويّة بين الثوريين الشَعْبَويّين ( rérvolutionnaires populistes ) في روسيا القيصريّة في القرن التاسع عشر وكذلك في مختلف الدول الأوروبيّة الأخرى : إيطاليا ، إسبانيا ، سويسرا ... لمّا التحق به المفكّر الاشتراكيّ الفوضويّ الآخر " برودون " (Proudhon) وأضحى أقرب أنصاره إليه ...
* * *
هنا ، ينبغي أن نشير إشارة سريعة ، إلى أنّ "ماركس" و" باكونين "، قد كانا ، حقيقة وبغضّ النَّظر عن تناقضهما بالغ الحدّيّة ، من ألمع وأذكى وأكثر إنتاجاً ، الواحد والآخر ، من بين المنظِّرين القيادتين للحركة العماليّة في زمانهما . كما أنّ أفكار " باكونين " الثوريّة الاشتراكيّة ، الفوضوية ، وموافقه السياسيّة ، لا يمكن توضيحها أو إبراز جوانبها المختلفة ، بلى وحتى تطرّفها ، إلاّ من خلال السّجالات العنيفة والحادة التي دارت رحاها مع "ماركس " وضدّه . فقد كان الإثنان ، "ماركس" و" باكونين "، الوجهين البارزيْن والقيادّيْن الأساسيّيْن في الأمميّة الأولى ، التي أدّى الخلاف والصّراع بينهما ، فلسفياً واشتراكياً وسياسياً ، إلى إضعافها ، وفي نهاية المطاف إلى إنهارها .
* * *
هذا جانب والجانب الآخر ، إذا أردنا أن نلقيَ بعض الضوء على شخصية " باكونين" القلقة والمشدودة ، فكرياً وسياسياً ، يمكننا أن نلاحظ أنّ آراء معاصرية فيه ومن كلّ التيارات والاتجاهات الاشتراكيّة والسياسيّة ، هي في الواقع آراء متضاربة ومتناقضة إلى أبعد الحدود :
* فمنهم مَن كان يعتبره قليل الذكاء ، حادّ الطّبع ، عصبيّ ، عنيف المزاج .
* آخرون ينظرن إليه على أنّه اشتراكيّ ، خياليّ ، طوباويّ ، عدميّ (nihilistd).
* البعض الآخر كان يرى فيه صورة ملاك ثائر ، نقيّ ، طاهر ، مطلق في طروحاته ، رافض للحلول الوسط ، لا يحدّه قيد ولا يوقفه خطر أو شرّ أو حتى موت .
* منهم أيضاً من يؤكد أنّ " باكونين " كفيلسوف ، كان قد فهم فلسفة "هيجل" فهماً صحيحاً وسليماً ، وبخاصة النظريّة الجدليّة لديه (الدياليكيتيك) من جهة ، وأنّه في الوقت نفسه ماركسيّ من جهة أخرى ... وإن كان في الواقع خصماً عنيداً " لماركس " ومناقضاً له كتناقض الليل والنهار .
ولكن ، في هذه الناحية بالذات ، هل يمكننا أن ننظر إلى " باكونين" على أنّه ماركسيّ وضدّ ماركس في آن معاً ، أم بالأحرى ضد الماركسيّة ؟!... بكلام آخر ، كيف يمكن أن يكون الواحد مع وضدّ شيء ما وفي الآن الواحد معاً ؟!...
هذه النقطة تحتاج إلى بعض الإيضاح والتفسير ، ذلك بأنّه في الصّراع السّجاليّ الذي كان يدور بين "ماركسي" و"برودون"، كان يتخذ "باكونين" موقفاً منحازاً إلى جانب "ماركس" ويعتبره كمفكّر وفيلسوف أقرب إلى الحقيقة العلميّة من "برودون ". كما كان لا يرى في كتابه " رأس المال "، إلاّ ما هو جيّد وصائب وصحيح ، مع إبداء ، كما سنرى ، بعض الملاحظات الانتقاديّة والاعتراضيّة. ومن هذه الانتقادات ، على سبيل المثال لا الحصر ، والتي كانت نقطة الخلاف الأساسيّة، هي التالية:
يقول " باكونين ": لا يريد أن يرى الشيوعيّون الألمان (يقصد "ماركس و"إنجلز" وغيرهما) في كلّ التاريخ الإنسانيّ ، إلاّ انعكساتٍ أو ردّاتِ فعلٍ ضروريّة لتطوّر الوقائع الاقتصاديّة ... إنّ هذا العامل الاقتصاديّ في التأثير في سير التاريخ ـ من وجهة نظر "باكونين" ـ صحيح من حيث المبدأ، وذلك عندما ننظر إليه من الوُجهة الصحيحة ، أي أنّنا عندما نعتبر من وجهة نظر نسبيّة . ولكن، في الوقت الذي نطرحه كعامل مطلق ، ذي بعد أُحاديّ أو أنّه المصدر الأول لجميع العوامل الأخرى ، هنا يتبدّى العاملُ الاقتصاديّ خاطئاً كلياً .
صحيح، أنّ النظام السياسيّ هو نتاج الظروف والوقائع الاقتصاديّة . وأنّنا حتى نستطيع تغيره ، ينبغي الانطلاق ، بداية ، من تطوير الظروف الاقتصاديّة وعلاقات الإنتاج وتبديلها من حال إلى أخرى أكثر تقدماً . هنا ، بالنسبة إلى " ماركس "، سرّ تطوّر المجتمعات التاريخيّة وقانونها الأول ومحرّكها الأساس .
ولكن ، من وجهة نظر " باكونين "، إنّ " ماركس" لم يأخذ بعين الاعتبار العوامل التاريخيّة الأخرى وهي كثيرة ومؤثّرة ، هي أيضاً ، في سيرورة التاريخ وتطوّره ، والتي يمكن اختصارها في ما يلي :
أولاً وعلى وجه الخصوص : مقاومة المؤسّسات السياسيّة والاجتماعيّة والقانونيّة والدينيّة القائمة ، وممانعتها وكبحها وردّات فعلها المحافظة ، وبالتالي تأثيرها السلبيّ والمعيق في تطوّر الظروف وعلاقات الإنتاج الاقتصاديّة . فإنّ "ماركس "، إنْ كان يرى " أنّ البؤس هو الذي ينتج العبوديّة السياسيّة ، أي الدولة "، فهذا صحيح ، بحسب " باكونين "، وإنّما من جهة واحدة وأُحاديّة ، ذلك أنّ "ماركس " لا يقلب هذه المعادلة ، ويرى ماذا يجري في الجهة الأخرى حتى يقول : إنّ العبوديّة السياسيّة أيضاً أي الدولة القائمة، تعيد هي الأخرى بدورها، إنتاج حالة البؤس الاقتصاديّ وتحافظ عليها وتعمل على استمرارها .
وهذا الشرط ، من وجهة نظر الدولة القائمة ، إنّما هو شرط أساس وضروريّ لوجودها وبقائها وسيطرتها . يضيف " باكونين " في هذا السياق قائلاً : إنّ "ماركس " كان يتجاهل في أحيان كثيرة ، أو أنّه لم يكن ليعير أهميّة كبيرة لعالم بالغ الأثر والتأثير في تطوّر الإنسانيّة التاريخيّ وهو: طبائع الشعوب ، والأجناس البشريّة ، والإثنيّات وخصائصها المتنوّعة والمختلفة ، والتي هي نفسها نتاج عوامل عديدة منها : إثنولوجيّة ، ومُناخيّة ، وجغرافيّة ، اقتصاديّة ، وتاريخيّة على حدّ سواء. وهذه العناصر جميعها أو بعضها تعود بدورها وتمارس تأثيراً كبيراً وقوياً ـ وحتى من خارج الشروط الاقتصاديّة ومستقلاً عنها ـ إلى حدّ لا يمكن إغفاله في الحياة الاجتماعيّة وفي تطور قوى الإنتاج والعلاقات الاقتصاديّة في كلّ بلد .
وسوف يشير " سارتر " إلى نقاط الضعف هذه ، في فكر "ماركس" في كتابه " نقد العقل الجدليّ "، الذي ألمَحَ إلى أنّه كتاب ماركسيّ ، فيقول : إنّ "ماركس" لم يُعر أهميّة للحلقة الدائريّة الجدليّة بين البِنية التحتيّة والبِنية الفوقيّة ـ بحسب التعبير الماركسيّ ـ والعلاقة التفاعليّة بينهما . فإن كانت الدولة وهي نتاج الطبقة المهيمنة اقتصادياً والمدعومة سياسياً من قِبَلها ، إلاّ أنّها تغدو ، هي الأخرى ، عاملاً فاعلاً لتقوية هذه الطبقة المسيطرة وتلاحمها وتماسكها...
* * *
هنا ، في الحقيقة ، لا يضع " باكونين " نفسه ، بهذه الاعتراضات والملاحظات المنهجيّة والتاريخيّة ، خارج إطار الماركسيّة ـ على الأقل كما فهمها ، كما هي الحال أيضاً بالنسبة إلى "سارتر". ذلك بأنّ ماركسيّة " باكونين "، إذا صحّ القول ، وفي هذا الجانب بالذات ، كانت قد تجاوزت "ماركس" كما فُهم حرفيّاً ، بمعنى إنّنا يمكن أن نقبل الماركسيّة في جوهرها وفي منهجها الفكريّ العام ، وكأساس وقاعدة ... وانطلاقاً منها نستطيع ، ومن دون التقيّد بحرفيّة نصوصها ، أن نكتشف من جهة ثغراتها ، ومن جهة أخرى مجالات مجهولة تغنيها وتعارضها كما هي ، وتحتفظ بها وتتجاوزها في آن ... وكان " ماركس " نفسه ، في مراحل معيّنة من حياته ، قد تجاوز الماركسيّة، بمعنى أنّه تجاوز نفسه .
وفي هذا السياق أيضاً ، أشار "سارتر" إلى ذلك بقوله : إنّنا نجد لدى " ماركس " إرهاصات بعض الاعتراضات التي نوجّهها اليوم إلى فكره وإلى الماركسيّة بشكل عام ، إلاّ أنّ ضعف هذه الإرهاصات الاعتراضيّة والتباسها ، لم تستطع أن تُعطي ترجمةً عمليّةً ، فكريّةً وسياسيّةً حقيقيّةً ...
* * *
" ماركس " و" باكونين ".
إلى هنا، يمكننا تلخيص موضوعات الخلاف بين "ماركس " و" باكونين "، وتكثيفها في أبرز النّقاط التالية :
أولاً : الحريّة
إنّ الحريّة كضرورة جوهريّة ومنطلق لدى " باكونين "، نجدها أيضاً كمبدأ أوليّ لدى "ماركس " الشاب ، وبخاصة في كتابيْه " طروحات فيورباخ "، و"الأيديولوجيا الألمانيّة ". وإنّنا نجدها كذلك ، فيما بعد وفي صياغات أخرى ، لدى " روزا لو كسمبورغ " و"ماوتسي تونغ "...
غير أنّ " باكونين " كان أشدّ إيماناً وبإطلاق كليّ ، بالحريّة ، بالحريّة الفرديّة وبالنضال الدائم من أجل الحريّة . فهو لا يرى أيّ شيء إنسانيّ من دون الحريّة وبمعزل عنها . لهذا، كان يقف موقفاً معارضاً ضدّ أيّ نظام يقمع الحريّة الفرديّة ، حريّة الفرد الإنسانيّ ، وضدّ أيّ شكلٍ من أشكال النّظام السياسيّ والاجتماعيّ ، الذي يقيّد الحريّة أو يعيقها أو ينفيها ...
ثانياً : الدولة
ثمة انتقاداتٌ ، نجدها لدى "ماركس "، انتقادات عنيفة ضدّ النّظام البرلمانيّ البرجوازيّ ورفضه ، ومعه فكرة "عبادة الدولة الشعبيّة "، تلك التي كان يُرَوَّجُ لها آنذاك في بعض الأوساط الاشتراكيّة في القرن التاسع عشر . إنّ الثّورة الاشتراكيّة ، بحسب "ماركس "، يجب أن تُهدِّم الدولة البرجوازيّة الرأسماليّة المسيطرة وتزيلها وأن تحلّ محلها " المجمّعات التعاونيّة "، على نمط ما كان قد " اكتشفه " على أثر كموّنة باريس . إلاّ أنّ إزالة الدولة وفنائها وتحقيق النّظام التعاونيّ مكانها ، لا يمكن أن يتمّ ويتحقّق بين ليلة وضحاها ودفعة واحدة ... بل يتطلب ذلك مرحلة زمنيّة انتقاليّة قد تطول كثيراً .( )
هنا يتخذ " باكونين" موقفاً مفارقاً ومناقضاً. يؤكد أنّ فكرته الأساسيّة في نظريّته "الاشتراكيّة الثوريّة الفوضويّة " أنّ الدولة هي المتسلّط الأكبر وقاهر الإنسان الأول . لهذا فقد عارض أيّ شكل من أشكال الدولة ، وبأيّ صيغة كانت ، بمعنى الاستئصال الكامل لمبدإ الدولة وفكرتها وسلطتها ووصايتها ... " ومملكة الحريّة "، كما كان يقول " باكونين "، لا يمكن أن تتحقّق فعلاً إلاّ عن طريق زوال الدولة وإلغاء مبدإ السّلطة السياسيّة الفوقيّة أو أيّ سلطة من حياة الناس : هذه السّلطة المهيمنة القويّة التي كان يلتمس فيها المقهورون والمعذّبون في الأرض ، الخلاصَ والاطمئنان النفسيّ ، الداخليّ ، من أجل نسيان أو تناسي تعاستهم وعذاباتهم اليوميّة . ( جاء ذلك في كتابه "سلطة الدولة والفوضى "،الصادر عام 1873. هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ "باكونين" كان يتحدّث عن الدولة التي كانت سائدة في عصره ، الدولة القمعيّة الاستبداديّة المتوحّشة ، والتي لم يكن يعرف أو يُعايش غيرها في روسيا القيصريّة وأوروبا القرن التاسع عشر ...).
* * *
من هنا نرى، وبوضوح تام، أنّ الخلاف الأشدّ والأقوى والأعنف بين "ماركس" و"باكونين"، قد كان حول نظريّة الدولة وماهيتها وسلطتها، والموقف الذي ينبغي أن يُتّخذ منها من الناحية السياسيّة والفكريّة ، الآن وفي المستقبل القريب أو البعيد .
لقد اتخذ "باكونين "، وبكثير من العاطفة والمثاليّة والتصوّر العقليّ المجرّد ، موقفاً معارضاً ورافضاً بإطلاق لفكرة الدولة من أساسها ، وأياً يكن نوعها أو شكلها . فكان يدعو في ممارساته الفكريّة والسياسيّة والنضاليّة إلى القضاء عليها ، ومنذ اليوم الأوّل من نجاح الثّورة الاشتراكيّة ... لماذا ؟!... لأنّ قيام الدولة ، نظريّة الدولة السياسيّة والفكريّة ، تتعارض من الأساس ، من وُجهة نظره ، مع مبدأ الحريّة ، الحريّة الفرديّة والحريّة الإنسانيّة على السواء . ويؤكد "باكونين "، في هذا الإطار ، أنّ الدولة بطبيعتها ، وطبيعة المصالح الطبقيّة القائمة على أساسها ، سياسياً واقتصادياً ، إنّما تستعبد الفئات الفقيرة من الناس وتضطهدهم وتقضي عليهم بالحرمان ( ).
ولكن ، ما هي الصيغة أو الأسس التي يمكن أن يقوم عليها تنظيم المجتمع ؟!... في هذا الإطار ، إنّ التصور الذي كان " باكونين " يطرحه لهذا التنظيم ويدافع عنه ، هو قيامه على أساس الملكيّة الجماعيّة ، الملكيّة الجمعيّة : من القاعدة إلى القمّة ، عن طريق الاتحاد التعاونيّ الحرّ بين القوى العاملة ، وليس من القمّة إلى أسفل ، بمعنى على قاعدة الدولة وسلطة الدولة والطبقة العليا المهيمنة عليها . لذا ، كان يرى أنّ أفضل أشكال التنظيم ، الذي تصوّره واقترحه ، إنّما هو التنظيم الاختياريّ التعاونيّ الحرّ ، الذي يقوم بين جماعة من الناس ، متجانسة اجتماعياً ، ومصالحهم واحدة، وقضاياهم مشتركة ، غير متناقضة ...
غير أنّ هذه الفكرة قد كانت تُعتبر في زمانها من قِبَل كثير من الأوساط السياسيّة والاشتراكيّة والعلميّة ، أنّها ترتكن إلى تصوّر عقليّ ، مثاليّ ، خياليّ ، طوباويّ ...
* * *
ثالثاً : الاشتراكيّة :
أمّا في موضوع الاشتراكيّة ، كمفهوم نظريّ وكأيديولوجيا ، فكانت تُعتبر منذ ظهورها :
1 ـ إمّا أنّها ضرورة اقتصاديّة وإنسانيّة عامة ، على مستوى المجتمع والتاريخ .
2 ـ إمّا ضرورة بحت فرديّة ، على مستوى حياة الإنسان ـ الفرد .
ولكن ، في واقع الأمر ، فإنّ هاتين الضروريتيْن ، إنّما هما متضافرتان تضافراً وثيقاً لا إنفصام بينهما ، لدرجة أنّهما لا يكوّنان سوى ضرورة واحدة . إلاّ أنّهما ، مع ذلك ، قد تصطدمان ، بما أنّهما ليستا على مستوى واحد ... بل تتجسّد هاتان الضرورتان في لحظتيْن متميِّزتين من الوعي الإنسانيّ ...
وإذا أردنا أن نُجمل في هذا الموضوع الشائك ، فإنّنا نقول بأنّ "ماركس" كان يمتلك وعي الضرورة التاريخيّة . وهو في الأعماق مسكون بهذه الضرورة التاريخيّة ... إنّه يمتلك وعي التاريخ امتلاكاً يسيطر عليه كليّاً . لذا كان يقبل بأن يُضحّى ، إذا جاء القول ، بالأجيال الحاضرة من أجل تحقيق المجتمع الاشتراكيّ الإنسانيّ في المستقبل ...
في حين أنّ "باكونين "، كان يتحدّد موقفُه في الجانب الآخر ، في الجانب العكسيّ ، أي في اللحظة الأنيّة ، الراهنة . فهو يرى أنّ ما نفتقده الآن ، فإنّنا نفتقده وإلى الأبد ومن دون رجعة . ويضيف : نحن لا نعتقد بتعويضات مستقبليّة للأجيال المقبلة ، في مقابل التضحية بالجماهير الشعبيّة المعذّبة الحاليّة . وإذا كنّا نعير اهتماماً لحالة الأجيال اللاحقة ، إلاّ أنّ ما يهمّنا أكثر بكثير ، هو ما يحصل الآن للإنسان ـ الفرد ، لواقع الأجيال الراهنة ومصيرها في الحاضر . فإذا فَنِيَت في البؤس والشقاء والعبوديّة ، فإنّ العدالة ، العدالة الاجتماعيّة والسياسيّة اللاّحقة ، التي سوف تنتصر بعد موت هذه الأجيال وفنائها ، إنّما تأتي متأخرّة ، ومتأخّرة جداً بالنسبة إليها...
ولكن "ماركس "، انطلاقاً من وجهة نظر مختلفة ، يؤكد في هذا السّياق قائلاً : نحن نتوجّه إلى العمال والبرجوازيّين الصّغار ونقول لهم : تألّموا في المجتمع البرجوازيّ الحديث الذي يقيم عن طريق الصناعة ، الوسائلَ الماديّة من أجل بناء مجتمع جديد سوف يحرّركم جميعاً . وهو يعود ويُعلن في عام 1850: نحن نقول للعمال : عليكم أن تخوضوا الحروب الأهليّة والحروب الأمميّة في مراحل زمنيّة طويلة ومتوالية : خمس عشرة ، عشرين ، خمسين سنة ليس فقط من أجل تبديل الظروف ، وإنّما أيضاً وخصوصاً من أجل تبديلكم ، أنتم أنفسكم ، حتى تكونوا بعد ذلك أهلاً للسّلطة السياسيّة ...
وفي عام 1871 ، بعد نهاية "كمّونة " باريس وسقوطها ، يعود "ماركس" مرّة أخرى ليؤكد: إنّ العمال يعلمون جميعاً ـ حتى يشرعوا في التحضير لتحرّرهم الذاتيّ ولتحقيق نهضتهم في آن معاً، وهذا ما يتّجه إليه المجتمع ويسير نحوه حتماً ـ أنّ عليهم أن يخوضوا صراعات طويلة مريرة ، ويجتازوا سلسلة من المراحل التاريخيّة . وهذه المراحل التاريخيّة المتعاقبة ، هي التي سوف تبدّل الظروف الاقتصاديّة والسياسيّة والناس معاً وفي الوقت نفسه .
هذا هو في الأساس موقف "ماركس" المبدئيّ والمنهجيّ : أولاً ، ينبغي أن تنضج ظروف المرحلة التاريخيّة وواقع علاقات الإنتاج حتى نهيّئ لقيام الثّورة الاشتراكيّة ونجاحها ... ثمّة ، إذن ، شروط ضروريّة يجب توافرها لنجاح الثّورة ... ولكي يستطيع العمال تحقيق ثورتهم الاشتراكيّة، يشدّد "ماركس" كثيرة على توافر الشروط ونضج الظروف ... ذلك أنّ الثّورة الاجتماعيّة والسياسيّة إنّما تحتاج إلى جهود مضنية ونضـالات مستمرة صعبة وطويلة . فليست الثّورةٌ وعمليّة تحقيقها يتّميْن بتلك البساطة ... هنا ، في الواقع ، قد كان "ماركس" على حقّ ، ذلك بأنّ الوقائع السياسيّة والانتفاضات الجماهيريّة ، لها أبعادها التاريخيّة ، لا يمكن ولا يجوز تجاهلها أو تجاوزها ...
ومن جهة أخرى ، فقد كان "ماركس "، من هذه الزاوية ، يرى أنّ الاشتراكيّة ـ وهي التي كان يُطلقَ عليها " الاشتراكيّة العلميّة " ـ إنّما هي أسلوب واقعيّ ، تاريخيّ ، علميّ، لا يمكن تحقيقها إلاّ بمراحل ... وبالتالي ، فإنّ الثّورة ، الثورة الاشتراكيّة ، تخضع هي أيضاً لمنهج علميّ ، واقعيّ ، تاريخيّ ...
يبدو واضحاً ، في هذا الإطار ، أنّ هدف "ماركس " الحقيقيّ ، هو وضع أداة عمل فكريّة وإيجاد منهج علميّ ـ الفلسفة الماركسيّة ـ علـى مستوى التاريخ ، وعلى امتداد التاريخ كلّه بصورة عامة . لكن خطأه الأساس هو أنّه وضع نفسه أسير هذا البعد التاريخيّ الآحاديّ ومعه الصراع الطبقيّ ، والذي سوف يُعرف فيما بعد بـ " الماديّة التاريخيّة ".
رابعاً : الثّورة :
أمّا "باكونين "، فقد كان يؤمن ، انطلاقاً من نزعة رومانسيّة واضحة ، بالروح الثّوريّة التلقائيّة، العفويّة، وبالروح الاشتراكيّة. ذلك أنّ الاشتراكيّة ، كما كان يراها، هي نزوعٌ واعٍ وإراديّ لدى البروليتاريا المعدمة وجماهير الفلاّحين الفقيرة ... كذلك وفي المنحى المقابل ، كان يعارض بشدّة مبدأ صراع الطبقات ودكتاتوريّة البروليتاريا . فالدكتاتوريّة ـ كما يدلّ عليها لفظها ـ هي في الواقع استبداد وقمع من أيّ جهة أتت وكيفما نظرنا إليها ...
ومن جهة أخرى ، يعتبر " باكونين " أنّ الوقائع التاريخيّة ـ بالإضافة إلى ما تقدّم ـ إنّما لها أيضاً أبعادٌ وعواملُ إنسانيّة بالغة التأثير ، انطلاقاً من الحالة الراهنة . وكما أنّ الثّورة هي عمل جماهيريّ ، شعبيّ ، تلقائيّ ، فإنّها تخضع كذلك في مسيرتها للخيال المبدع ، الخلاّق ، أكثر بكثير من خضوعها للتنظيم المركزيّ الدقيق . الثّورة انتفاضةٌ جماهيرية ، عارمة ، تلقائيّة . هي عمل شعبيّ عفويّ : يقوم على العنف ، العنف الثوريّ ، رافضاً أيّ تسوية أو مساومة أو أيّ اتّفاق موقّت. وهي مغامرة الفرد المعاصر ، يخوضها بكيانه وعقله وقلبه ووجوده ، ويتّجه في خضمها نحو آفاق غير منظورة .( ) غير أنّ أحداً لا يعرف كيف الوصول إلى هذه الآفاق المستقبليّة .
من هنا ، ولهذه الأسباب ، كان "باكونين" ينكر أو يستبد الإعداد الدقيق والمحكم للانتفاضات الثّوريّة ، ومعارضته أيّ تنظيم ثوريّ ، رسميّ ، ذي قواعد تنظيميّة محدّدة ، تخضع لتوجيهات مركزيّة قاطعة .
هذه النظرة الثّوريّة الخياليّة ذات النزعة الإراديّة ، أو التصوّر الاشتراكيّ الطوباويّ ، هما اللذان أدّيا إلى الخلاف الحادّ والسّجال العنيف بين " ماركس " و" باكونين "...
* * *
إلى هنا ، يبدو لنا ممّا تقدّم أنّ خطأ "باكونين "، خطأه الكبير، أنّه كان يعيش ويفكر ويناضل في اللحظة الآنيّة حصراً. كان سجين الظرف الراهن. إنّه يعيش الحاضر بكلّ قوة وعمق وعاطفة، في كلّ لحظة من حياته ووقته وعمره ، إلى درجة أنّ الزّمن بأبعاده المستقبليّة ، أي التاريخ، قد كان غائباً كلياً عن ذهنه وعن فكره ومن أمام ناظريه .
كتب "باكونين" في ذلك يقول : سوف أموت غداً ، لا شكّ في ذلك أبداً . وسيزول معي كلّ شيء . فلن تبقى من بعديَ الإنسانيّة ، ولا الأرض ، ولا الكون ، ولا الوجود ، لا شيء على الإطلاق : كلّ شي سوف ينتهي ويفنى ويزول بالنسبة لي ، وإلى الأبد . هذا هو الشيء الأكيد والبديهيّ . وهذا ما يولّد في النّفس الإنسانيّة ، ويُحدث فيها القلق والغمّ واليأس .
إنّنا في العادة نُغفل هذه الحقيقة ، ونتهرّب منها ولا نفكّر فيها : هذه هي حالة الناس عموماً. غير أنّنا نستطيع ، إذا أردنا ، أن ننظر إلى ذلك كلّه وجهاً لوجه ، وذلك :
إمّا لأنّنا اخترنا طريق الصّدام والمواجهة مع الواقع البائس المحتوم ،
وإمّا لأنّ لنا طبعاً ومزاجاً ، يأنف الهروب ويكرهه ، بل يحبّ الصدامات ويميل إليها ،
وإمّا أخيراً وخصوصاً لأنّ الظروف الماديّة والتاريخيّة ، قد تدفع شعباً من الشعوب إلى إزالة الحواجز ، وتحشره في الزّاوية ، وتفرض عليه موقف المواجهة والصّدام ...
* * *
ممّا تقدّم ، ولهذه الاعتبارات جميعها ، فإنّنا نلاحظ أنّه في اليوم الذي توفيَ فيه "باكونين"، فإنّ نظرياته السياسيّة الفكريّة ماتت هي أيضاً معه ودُفنت في كتب عديدة ، ولكنّها ناقصة أو غير مكتملة، ولم يلتفت إليها من بعده أحد .
إنّ هذه الأعمال الفكريّة والسياسيّة والفلسفيّة الضّخمة ، وقد كانت ، في الحقيقة ، بنت لحظتها وظرفها وسجالاتها العنيفة الآنية ، وكأنّها لم تكن موضوعة حتى تبقى وتستمرّ بعد تلك اللحظة بالذات ...
في هذا السّياق ، يمكننا أن نفهم اعتراف " باكونين " نفسه في رسالة إلى أحد أصدقائه، ويقول فيها بأنّه كان يفتقد افتقاداً فظيعاً لامتلاك المنهج ، المنهج العلميّ التاريخيّ . لقد كان ذلك خطأ بشعاً بشاعة شنيعة . ولكن ما حيلتي في ذلك ، إذا كنت أنا نفسي بشعاً إلى هذا الحدّ ...
* * *
ومهما يكن من شيء ، فإنّ السؤال الذي يُطرح في الختام هو معرفة : مَن هم مؤيدو "باكونين" وأنصاره ؟... إنّهم باختصار كلّيّ :
* كلّ الذين كانوا في حالة من الفقر المدقع، البائسون واليائسون: عمّال المناجم والمصانع الكبرى والحديثة آنذاك ...
* الفلاحون الفقراء البائسون ، ضحيّة مجاعات ملاك الأراضي الكبار ، وهم الذين يكوّنون الفروع الأقوى في الأمميّة الأولى ...
* الشبيبة الرافضة الثائرة التي لا تنتمي لأيّ طبقة، والتي ترى مستقبلها مسدود الأفق...( )
* أخيراً ، العمّال الأجانب ، ولا سيّما في جنيف ، وهم الذين يقومون بالأعمال الأشدّ حقارة وقساوة وخطورة ، بالإضافة إلى أنّ أجورهم متدنية وسيّئة للغاية ، وليس لهم من حقوق سياسيّة واجتماعيّة البتّة ...
* * *
الإنسان والحريّة
يكتسب الإنسانُ كاملَ إنسانيّته ،
في الوقت الذي يؤكّد فيه حريّته ويثبّتَها
ويعملُ على تحقيقها في المجتمعِ كلّه
* * *
إنّ كلّ مَن يحيا ويعيش، ينحو دائماً ويسعى إلى تحقيق ذاته بكامل كيانه ووجوده. والإنسان ـ ذلك الكائن الحيّ والعاقل في آن ـ ينبغي عليه، بادئ ذي بَدء أن يعرف نفسَه حتى يحقّق ذاته...
ومن جهة أخرى ، ما هذا الفُضولُ الجامحُ ، الذي يدفع الإنسانَ إلى المعرفةِ، حبّ المعرفة، معرفةِ العالَمِ الذي يحيط به ، وإلى تتَبّعٍ بقوّة وحماس لا يعرفان الكلل ولا التعب ، أسرارَ هذه الطبيعة التي هو ذاته ، على هذه الأرض ، آخرُ مخلوقاتها وأكملِها ؟!...
ولا يتردّد أيُّ واحد منّا في القول بأنّ المعرفة ، ومن جميع هذه الضرورات التي تكوّن طبيعة الإنسان ، هي طبيعته الخاصة الأكثر إنسانيّة . والواقع ، أنّ الإنسانَ لا يفترق عن باقي الحيوانات ومن جميع الأنواع والأجناس ، ولا يمتاز عليها جميعاً إلاّ بهذه الحاجة للمعرفة ، الحاجة العميقة التي لا تنضب . وأنّه لا يصبح حقيقة إنساناً كاملاً ، إلاّ عند استيقاظ في نفسه هذه الحاجة الكبيرة والشاملة للمعرفة وإشباعها تدريجاً .
وحتى يستطيع الإنسان أن يحقّق ذاته بكامل وجوده وملء كيانه ، يجب عليه أن يعرف ذاته بذاته . ولا يمكنه أبداً أن يعرف حقيقته كاملة وفعليّة ، طالما أنّه لم يعرف بعد ، الطبيعةَ ، والطبيعةَ الاجتماعيّةَ التي تحيط به والتي يعيش فيها وهو نتاجها ، اللّهمّ إلاّ إذا أراد أن يستنكف عن إنسانيته وكنه وجوده ...
فالإنسان ، إذن ، بطبيعته ، محتومٌ عليه أن يعرفَ ، وأن يتعلّمَ كيف يعرف . وأن ينفذَ بفكره وعقله وبصيرته إلى أعماق هذا العالَم الاجتماعيّ الواقعيّ ، دون أن يأمل يوماً في أنّه يستطيع أن يصل إلى أعمق أعماقه . غير أنّ عليه دائماً أن يغوص فيه أكثر فأكثر لاكتشاف قوانينه . ذلك أنّ إنسانيّة الإنسان غير قابلة التّحقيق ، إلاّ بهذا الثّمن وبهذه التّضحية، ومن أجل أن يفهم طبيعته الخاصة ورسالته ومعناها على هذه الأرض ، وأن يفهم أيضاً وخصوصاً وطنه وهو مسرحه الوحيد ، وحتى يمكنه بالتالي أن يقيم ، في هذا العالم القَدَريّ الأعمى ، عالمَه الإنسانيّ : عالم الحريّة ... تلك هي مَهمّةُ الإنسان : إنّها لمَهمّةٌ جليلةٌ لا تنضب ، مَهمةٌ لا نهاية لها ، إنّما تكفي إلى الحدّ الذي تُشْبِعُ فيه العقولَ والقلوبَ الفخورة والطموحة في الوقت ذاته .
والإنسان في هذا الوجود ، إنّما هو كائنٌ ظرفيّ ، زائلٌ ، ضائعٌ في وسط هذا العالَم المحيط به، والذي لا شطآن لـه ، وفي خضمّ من التحوّلات الكونيّة ، مع أبديّة مجهولة وراءه وأبديّة فسيحة أمامه. إنّ هذا الإنسان العاقل ، الحيويّ ، المدرِك لقَدَره الإنسانيّ ولظرفه ، يبقى هادئاً وفخوراً بشعوره بحريّته ووعيه لها ، والتي يكتسبها بتحرير نفسه بنفسه عن طريق العمل والعلم معاً . وهو يعمل في الوقت نفسه على دفع مَن هم حوله إلى الثّورة عند الحاجة ، وينافح في سبيل تحرير الناس جميعاً ، أمثاله وإخوته ...
ومهما يكن عالمنا الأرضيّ صغيراً نسبياً وبالمقارنة مع الكون الكليّ ، إلاّ أنّه بذاته عالمٌ لانهائيّ . لهذا فإنّنا نستطيع ، من هذه الزاوية ، أن نقول بأنّ عالمنا ، بأضيق معنى لهذه الكلمة ، أي الأرض التي نعيش فيها وعليها ، هي أيضاً من الصعوبة بمكان الآن الوصول إلى إدراك كنهها واكتشاف أسرارها ، ذلك أنّها تبقى بالنّسبة لنا مَعيناً لا ينضب من التساؤلات ... والعلم لن يصل أبداً إلى غايته النهائيّة أو إلى نهاية المطاف، وبالتالي لن يصل إلى إطلاق كلمته الأخيرة في هذا النّطاق.
هل يعني هذا أن يدفعنا إلى اليأس والقنوط ؟!... بالطبع لا!... بل على العكس تماماً : فإنْ كانت المَهمّة محدودة النِّطاق ومحدّدة الأهداف والغايات ، فإنّها لن تلبث أن تُطفئ شعلة فكر الإنسان وروحيّته الجيّاشة ، هذا الفكر الإنسانيّ الذي لا يشعر أبداً بالسّعادة والحبور ـ مهما قيل في ذلك ومهما فعلنا ـ إلاّ عندما يكون بمقدوره أن يكسر دائماً الحدود ويتجاوز العقبات .
والإنسان المسّلح بقوّته الهائلة من العقل التجريديّ ، لا يعترف مطلقاً ولا يمكنه أن يعترف أبداً، بأيّة حدود أو أيّة حواجز مهما كانت ، وذلك لفُضوله الطّاغي والجيّاش والمتعطش دائماً وأبداً لمعرفة كلّ شيء دون استثناء ، واحتواء كلّ معرفة والإحاطة بها . يكفي مثلاً أن نقول له: "لن تذهب بعيداً من هذا الحدّ أو ذاك "، حتى يحاول بكلّ ما أوتيَ من عزم ومن قوّة هذه الفُضوليّة ، العقليّة والعلميّة ، التي استُفزّت وأثارتها تلك العقبات وحرّضتها ، أن يعمل على كسر القيود والإنطلاق إلى أبعد الحدود .
فمن هذا المنظور ، فإنّ ربَّ التوراة قد كان أكثرَ دراية وبعد نظر من "أوغست كونت" ومن الوضعيّين تلامذته . لا ريب في أنّ الإله كان يريد أن يأكل الإنسان من تلك الشجرة المحرّمة ، ومن ثمارها . لهذا فإنّه منعه من أن يأكل منها . إنّ هذا الجموح لدى الإنسان ، منذ البداية ، في عدم الاعتدال ، أو في حبّ المعرفة ، أو في عدم الطاعة ، كما أنّ ثورة العقل الإنسانيّ ضدّ أيّ حدّ من الحدود الموضوعة أو المنصوبة له ، سواءٌ باسم الإله أم باسم العلم، إنّما يكوِّن ذلك كلّه شرفاً له وسرَّ قوّته وحريّته .
إنّ الإنسان ، عندما كان يبحث عن المستحيل ، فإنّه استطاع دائماً أن يعرف ما هو الممكن ويعترف به ويحقّقه . أمّا الذين سجنوا أنفسهم ، بحكمة ورويّة ، بما كان يتراءى لهم أنّه الممكن ، فلم يستطيعوا قطّ أن يتقدّموا ولو خطوة واحدة ...
إنّ إنجاز هذه المَهمّة ، لا يكون إنجازَ عمل ثقافيّ وأخلاقيّ فقط ، وإنّما هو أيضاً ، وفي نسَقَ الزّمن ، عملُ تحرّرٍ ماديّ ، كما أنّه كذلك من وُجهة نظر تطوّرنا العقلانيّ . ولا يغدو الإنسان إنساناً حقيقياً وواقعياً ، ولا يستحوذ على إمكانية تحرّره الداخليّ ، إلاّ بالقدر الذي يتوصّل فيه إلى كسر سلاسل العبوديّة التي تُثقل بها الطبيعةُ الخارجيّةُ ، كاهلَ جميع الكائنات الحيّة .
ولا يأخذ مداه ذلك النشاطُ الذي يقوم به كلُّ عمل ، في تكوين العمل الإنسانيّ الحقيقيّ ، إلاّ عندما يكون موجّهاً بذكاء الإنسان وعقله ، وبإرادته المدرِكة . كما أنّه لا يُستخدم فقط في إشباع الحاجات الثابتة والمحدّدة تحديداً قَدَرياً للحياة الحيوانيّة خاصّة ، وإنّما أيضاً في إشباع حاجات الكائن المفكّر الذي يستحوذ على إنسانيّته ويكتسبها ، عندما يؤكّد حرّيته ويحقّقها في هذا العالَمِ .
فبفضل هذه القدرة على التجريد العقليّ والنظريّ ، يزدوج الإنسان ويصبح ثنائياً ، إن أمكن القول. وبانفصاله عن ذاته ـ بذاته وفي ذاته ـ إنّما يرتفع ، بمعنى ما ، فوق حركاته الداخليّة الخاصّة ، أي أنّه يرتفع فوق أحاسيسه التي يعانيها ، وفوق غرائزه وشهواته ورغباته التي تستيقظ في داخله ، وكذلك فوق ميوله العاطفيّة التي يستشعرها . وهذا ما يُعطي الإنسان إمكانيّةَ مقارنة هذه القوى الداخليّة فيما بينها ، كما مقارنة الأشياء والحركات الخارجيّة، وأن يأخذ موقفاً بجانب بعضها ضدّ البعض الآخر ، وذلك بحسب مُثُل العدالة والخير ، أو بحسب العاطفة الجيّاشة التي نمّاها في داخله وقوّاها وثبّتها ، تأثيرُ المجتمع والظروفُ الخاصة . إنّ هذه القدرة أو القوّة في أن يأخذ موقفاً لصالح واحد أو عدد من العوامل المحرّكة الداخليّة التي تفعل فعلها في ذاته بمنحىً محدّد ، ضدَّ عوامل محرّكة أخرى داخليّة ومحدّدة هي أيضاً، إنّ هذه القوّة هي التي تُسمّى الإرادة .
إنّ عقل الإنسان وإرادته ، كما فُهِما وفُسِّرا ، لا يظهران لنا أبداً ، وكأنّهما قوّتان ذاتيّتان ومستقلَّتان كلّيّاً عن العالمَ الماديّ ، أي لا يبدوان لنا بالتالي أنّهما جديرتان أن يخلقا ويبدعا ، إحداهما الأفكار والأخرى الأفعال التلقائيّة ، وأن يقضيا على السّلسلة السببيّة الحتميّة التي تؤلّف التضامن الكونيّ الشامل للعوالم . فيجب علينا ، إذن ، أن نرفض إمكانيّة ما يُطلِق عليه الميتافيزيقيّون : الأفكار العفويّة التلقائيّة . كذلك ، يجب علينا أيضاً أن نرفض الأفعال العفويّة للإرادة ولحريّة الاختيار ولمسؤوليّة الإنسان الأخلاقيّة ، وذلك في المعنى اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ والحقوقيّ لهذه الكلمة .
إنّ الفرد الإنسانيّ الحقيقيّ والواقعيّ ، إنّما هو بنظرة بسيطة إلى الأشياء ، كائنٌ شموليّ ومجرّد . وكلّ واحد منّا ، في الوقت الذي يتكوّن في أحشاء أمّه ، يجد نفسه قد تحدّد وتعيّنت خصوصيته ، وذلك بفعل حشد كبير من الأسباب والأفعال . والإرادة وكذلك الذّكاء أيضاً ، لم يتكوّنا وكأنّهما انبثقا كنور من أنوار الصوفيّة ، نورٍ خالدٍ ، إلهيّ ، هبط هكذا بمعجزة من السماء على الأرض ، حتى يُعيد الحياة إلى قِطَعٍ من لحم ودمٍ قُطّعت إرباً ، أو إلى جثث هامدة. فالإرادة ، كما الذكاء ، إنّما هما نتاج الطبيعة الحيّة والمنظّمة، نتاج العضويّة الحيوانيّة ...
جذور الفرد وحريّته في المجتمع :
إنّ كلّ إنسان لا يحمل معه عند ولادته ـ بطبيعة الحال ـ أفكاراً وتصوّرات عقليّة وأحاسيس فطريّة ، كما يدّعي المثاليّون ، وإنّما لديه ـ وبنسب متفاوتة ـ المقدرة أو الطاقة الماديّة والمخيال التصوّريّ في الآن معاً ، من أجل أن يحسّ ويفكّر ويتكلم ويريد . إنّه لا يحمل معه سوى الإمكانيّة بالقوّة ، أي إمكانيّة التصوّر العقليّ والتطوّر الفكريّ . وهي طاقة أو قدرة ذاتيّة من النّشاط، صُوَرِيّة كلياً ، دون أيّ محتوى أو مضمون . فمَن الذي يقدّم لهذا النّشاط ويعطيه محتواه الأوّل ؟!... المجتمع ...
إنّ كل جيل جديد يجد منذ المَهد الأول عند ولادته ، عالَماً كاملاً متكاملاً من الأفكار، ومن التصوّرات، ومن العواطف التي يتلقّاها جميعها كأرث من العصور الماضيّة. وهذا العالَم لا يظهر أولاً للإنسان المولود حديثاً على صورته المثاليّة ، كنَسَق من التصوّرات والأفكار، أو كدين أو عقيدة من العقائد . ذلك أن ليس بمقدور الطفل آنذاك أن يتلقّى هذا العالَمَ الناجز الجاهز، ولا أن يدركه على هذه الصّورة . وإنّما هذا العالَمُ ، وكما هو ، يفرض نفسَه عليه كعالَم من الوقائع والظروف والمعتقدات ، متجسِّدٍ ومتحقّقٍ في الأشخاص وفي الأشياء التي تحيط بالطفل، ومتوجّهاً مباشرة إلى أحاسيسه بكلّ ما يسمع وبكلّ ما يرى منذ اليوم الأول من حياته .
ذلك أنّ الأفكار والتصوّرات الإنسانيّة ، التي ليست في بادئ الأمر شيئاً سوى نتاج الوقائع الحقيقيّة ، الطبيعيّة منها والاجتماعيّة على حدّ سواء : بمعنى أنّ هذه الأفكار والتصوّرات إنّما هي انعكاس أو نتيجة في عقل الإنسان وفكره ، وإعادة إنتاج مثاليّة ، إن أمكن القول ، وإلى حدّ ما صائبة وصحيحة ، إنّ هذه الأفكار والتصوّرات ـ أقول ـ تكتسب في ما بعد ، وبعد أن أصبحت قائمة في الضمير الجمعيّ لمجتمع من المجتمعات ، تكتسب القوةَ في أن تصبح بدورها الأسباب والعلل المنتجة للوقائع الجديدة والظّواهر المستحدثة ، لا على نحو طبيعيّ ، وإنّما اجتماعيّ . فهي تأتي في النهاية وتصل إلى أن تغيّرَ بطريقة بطيئة ـ هذا صحيح ـ وتُحوّلَ الوجود والعادات والمؤسّسات الإنسانيّة، وبكلمة واحدة ، جميعَ علاقات الناس في المجتمع .
إنّ هذه الأفكار والتصوّرات بدورها ، وعن طريق تجسّدها في الأشياء والوقائع اليوميّة لحياة كلّ فرد من الناس ، تغدو محسوسةً وملموسةً من الجميع ، حتى بالنّسبة إلى الأطفال، وذلك إلى الحدّ الذي يتشبّع بها كلّ جيل جديد ومنذ نعومة طفولته . وعندما يصل هذا الجيل إلى عهد الرجولة ، حيث يبتدئ على نحوٍ ما عملُ فكره الخاص ، مصحوباً، بالضّرورة ، بنقد جديد ، فإنّه يجد في ذاته، كما في المجتمع الذي يحيط به ، عالَماً كاملاً من الأفكار، ومن التصوّرات الجاهزة، القائمة والسائدة، التي تفيده أيّما إفادة ، وتصبح له بمثابة نقطة انطلاق ، وتقدّم له ، بمعنى ما ، المادةَ الأوليّة أو قماشةَ عمله الخاص ونسيجَه الفكريّ والأخلاقيّ .
إنّ جميع هذه الأفكار والتصوّرات والمعتقدات ، يجدها الإنسانُ سائدةً ومهيمنةً عند ولادته، ومتجسّدةً في الأشياء وفي الناس على حدّ سواء . وهي تنطبع في فكره وفي ذاته ، عن طريق التربية والتعليم الذي يتلقّاه ، حتى قبل أن يتوصل إلى معرفة نفسه . ومن ثمّ ، يجد الإنسان هذه الأفكار والمعتقدات جاهزة فيما بعد ، ومكرّسةً عُرفيّاً ومفسّرةً ومشروحةً بالنّظريات والمفاهيم التي تعبّر عن الوعي الشموليّ العام ، أو عن الشائعات والأقاويل الجمعيّة ، ومشروحةً أيضاً من قِبَل المؤسّسات الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في المجتمع الذي هو جزء لا يتجزأ منه ... فهو إذن مطبوعٌ بها ومدبوغٌ حتى الأعماق ، سواءٌ اهتمّ شخصيّاً أم لا ، بالدفاع عن الأفكار والتصوّرات والمعتقدات، ذلك أنّه شريكُها دون وعي منه ومن غير إرادته ، ومتواطئٌ معها عن طريق عاداته الماديّة والفكريّة والأخلاقيّة .
إنّ ما ينبغي أن يثير دهشة الواحد منّا ، ليس فقط شدّة الفعل وقوّة ضغط ما تمارسه هذه الأفكار والمعتقدات على جماهير الناس ، والتي هي بدورها تعبّر أيضاً عن تلك الجماهير بالذات ، بل على العكس من ذلك تماماً ، هو وجود أفراد ، من ضمن هذه الجماهير ، يمتلكون الفكر والعقل والإرادة والشّجاعة لمحاربة هذه الأفكار وهيمنتها ، ذلك لأنّ ضغط المجتمع على الفرد إنّما يكون في تلك الحالة كبيراً جداً .
* * *
إنّ الإنسان لا يخلق المجتمع ، إنّه يولد فيه . فهو لا يولد حرّاً ، وإنّما مقيّدٌ بأشدّ القيود . وهو نتاج وسط اجتماعيّ خاص، مصنوعٍ بسلسلة طويلة من التّأثيرات الماضية، والتطوّرات والوقائع التاريخيّة. إنّه يحمل بصماتِ وسماتِ المنطقة الطبيعيّة والمُناخَ والشروطَ الاقتصاديّة والسياسيّة للحياة الاجتماعيّة ، وأخيراً وليس آخراً تأثيراتِ المكان والمدينة أو القرية والبيت والعائلة والجيرة حيث وُلد...
إنّ كلّ ذلك يحدّد خصائصَه وطبيعتَه . ويعطيه لغةً معيّنةً ومحدّدةً . ويفرض عليه ، دون أن يكون لديه المقدرة كي يقاوم ، عالَماً جاهزاً من الأفكار والعادات والتقاليد والأحاسيس والعواطف والتصوّرات الذهنيّة والعقليّة، ويضعه ـ قبل أن يستيقظ فيه وعيُه ـ في علاقة وثيقة التحديد والتعيين من القرابة بالوسط الاجتماعيّ المحيط به ... فيصبح الإنسان ، عضويّاً ، فرداً كامل العضويّة في مجتمع معيّن ومقيّداً بهذا المجتمع داخلياً وخارجياً . وهو مشبعٌ حتى النّخاع ومتأثر حتى آخر يوم من حياته ، بمعتقدات هذا المجتمع وبتقاليده وأوهامه وعواطفه وعاداته ... إنّ ضغط المجتمع على الإنسان ـ الفرد لَكبير جداً وواسع ... ولا توجد صفةٌ من الصّفاتِ القويّة أو خاصّةٌ من الخصائص، ولا موهبةٌ من العقل والذكاء قويّةٌ ، يمكنها أن تدّعي أنّها في عزلة أو بمنأى من الوقوع تحت سيطرة هذا التأثير الاستبداديّ ، الذي لا يقاوم ...
لا شيء يبرهن على هذه الخاصيّة الاجتماعيّة والإنسانيّة ، أكثر من هذا التأثير الجامح في الإنسان. ويمكننا القول إنّ الوعي الجمعيّ لأيّ مجتمع كان، هذا الوعي المتجسّد في المؤسّسات العامة الكبرى، كما في جميع تفاصيل حياة المجتمع الخاصّة وجزئياتها ، والتي تُستخدم ، بدورها ، كأساسٍ وقاعدةٍ لجميع نظريات المجتمع ورؤاه وتصوّراته ، إنّ هذا الوعي الجمعيّ إنّما يشكّل نوعاً من البيئة الاجتماعيّة المحيطة ، نوعاً من الجوّ العقليّ والفكريّ والخلقيّ . فإن كان ذلك مسيئاً ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، إلاّ أنّه ضروريّ كلياً لوجود أعضاء المجتمع جميعهم . فهو يسيطر على الأفراد سيطرة كاملة. ولكنّه يدعمهم في الوقت نفسه، ويربطهم فيما بينهم برباط من العلاقات العرقيّة والمحدّدة بالضرورة بهذا الوعي الجمعيّ ذاته ، ممّا يوحي إلى كلّ واحد منهم بالأمان والثّقة، ويُكوِّن لهم جميعاً الشّرط الأساس لوجود العدد الأكبر وكلّ ما هو عاديّ وعام وتواتريّ ، بل ورتيب أيضاً .
ولا يشعر العددُ الأكبرُ من الناس ، ليس فقط جماهير الشعب ، بل أيضاً الطبّقات الميسورة والمتنوّرة أكثر حتى من الجماهير الشعبيّة ، لا يشعرون جميعاً بالاطمئنان والسلام مع ذواتهم ، إلاّ عندما يتّبعون بأمانة ودقّة ودون مناقشة ، في أفكارهم وفي جميع أفعال حياتهم ، الأعرافَ والتقاليدَ والحياةَ اليوميّة المتواترة الرتيبة . إنّ الغالبيّة العظمى من أفراد المجتمع ، لا يريدون ولا يفكّرون إلاّ ما يريده وما يفكّر فيه الناس جميعاً من حولهم . وهم يعتقدون اعتقاداً جازماً وصميماً ، أنّهم يريدون ويفكّرون هم أنفسهم وبأنفسهم ، في حين أنّهم لا يفعلون إلاّ ما يبدون أفكارَ الغير وإراداته ويظهرونها ، بخنوع وبوتيرة يوميّة رتيبة ... مع تغيّرات لا تذكر وغير محسوسة كلياً .
هذه العبوديّة ، وهذا الخنوع ، وهذه الرتابة ـ وجميعها منابع لا تنضب من الأفكار الشائعة ـ وبالتالي هذا الغياب للإرادة الثائرة ، هذا الغياب للمبادهة وأخذ المبادرة في فكر الأفراد ، إنّما يكوّن ذلك كلّه الأسبابَ الرئيسة لهذا البطء المؤسف ، البطء في التطوّر التاريخيّ للإنسانيّة .
أمّا بالنسبة لنا، نحن المادّيّين أو الواقعيّين ، الذين لا يعتقدون بخلود النّفس ولا في القضاء والقَدَر (القَدَريّة)، فإنّ هذا البطء في التطوّر التاريخيّ، مهما كان محزناً، إنّما يبدو لنا كواقع طبيعيّ . فانطلاقاً من حالة الغورلاّ ، لا يصل الإنسان إلاّ بصعوبة فائقة إلى وعي إنسانيّته وإلى تحقيق حرّيته. فهو لم يستطع ، في بادئ الأمر ، أن يمتلك هذا الوعي، ولا هذه الحريّة . لقد وُلد حيواناً مفترساً وعبداً .
ولم يصبح الإنسان إنساناً ويشعر بإنسانيّته ويحقّق تدريجاً تحرّره إلاّ ضمن المجتمع ومن خلاله. وهذا المجتمع بالضرورة ، هو سابقٌ على ولادته وأفكاره ونطقه وإرادته. ولم يستطع الإنسان أن يفعل ذلك كلَّه ، إلاّ عَبْر الجهود الجَمعيّة لجميع أعضاء المجتمع السابقين والحاضرين، ذلك أنّ هذا المجتمع إنّما هو ، بالنتيجة ، القاعدة الأساسيّة ونقطة الانطلاق الطبيعيّة لوجود الإنسان وإنسانيّته. وإنّ ما ينتج عن ذلك ، في النهاية ، هو أنّ الإنسان لا يحقّق حريّته الفرديّة أو حتى شخصيّته وهُويّته الثقافيّة والاجتماعيّة ، إلاّ بتكامله مع جميع الأفراد الذين يحيطون به ، وبفضل العمل والقوّةِ الجَمعيّة للمجتمع على وجه الخصوص ... وبعيداً من أن يضعف تأثيرُ المجتمعِ في الأفراد أو أن يُحدّ ، فإنّه يخلق، على العكس ، حريّتهم وإنسانيّتهم أجمعين ...
* * *
إنّ الثّورة ضدّ هذا التأثير الطبيعيّ للمجتمع ، إنّما هي أشدّ وأقوى وأصعب، من وُجهة نظر الفرد ، من تلك الثّورة ضدّ الدولة ، أي ضدّ المجتمع المنظّم بصورة رسميّة ، مع أنّ الفرد لا يمكنه غالباً تجنّب هذه الثّورة أو تلك على حدّ سواء . وأنْ يكون الطغيان الاجتماعيّ ، في الأغلب الأعمٌ، ساحقاً ماحقاً وذا نتائج خطيرة ، إلاّ أنّه لا يظهر لنا بتلك الخاصيّة من العنف المفروض أو بتلك الصّفة من الاستبداد الشرعيّ ، القطعيّ والصريح ، الذي تتميّز به سلطة الدولة . ذلك أنّ الطغيان الاجتماعيّ ، طغيان المجتمع الطبيعيّ ، لا يفرض نفسه كأنّه قانون ، على كلّ فرد أن يخضع له خضوعاً إلزاميّاً ، تحت طائلة المسؤوليّة وإجراء جزاء حقوقيّ. بل إنّ فِعْلَه أو تأثيره إنّما يكون أكثر نعومة وأكثر مداورة وأكثر خِفْية ودقّة ، ولكنّه أكثر قوّة وضغطاً في الوقت نفسه أيضاً... وحتى يستطيع الإنسان أن يثور ضدّ هذا التأثير الاجتماعيّ الذي يمارسه عليه المجتمع بصورة طبيعيّة ، عليه في أقلّ تقدير ، أن يثور ضد نفسه ، بما أنّه بكامل ميوله و